Sunday, September 08, 2024

كيف أعمل ؟ و كيف أنسجم مع ساسة .. ألفاصل الفكري بيني و بينهم عشرات السنين بل نصف قرن و يزيد!؟

كيف أعمل مع من يفصلني عنهم عشرات السنين بل نصف قرن كيف أعمل ؟ و كيف أنسجم مع ساسة الفاصل الفكري بيني و بينهم عشرات السنين بل نصف قرن و يزيد من الثقافة السياسية و الفكرية و الفلسفية!؟ كتبت سلسلة من عدة حلقات عن سبب تركي للعراق .. قبل سنوات ..و الآن فقط قد بانت للناس ما ذكرته من أسباب لم تكن هامة وقتها!؟ لذلك و ختاماً لما قلته بشأن العمل مع الحكومة و البرلمان و القضاء, أقول : العمل فاشل مع من يفتقد للنظرة الأستراتيجة و بعد النظر و النزاهة و التقوى السياسية التي ترتبط بأموال و معيشة و حقوق الناس!؟

الفلسفة بوصفها جسر عبور بين ثقافات العالم :

الفلسفة بوصفها جسر عبور بين ثقافات العالم الباحثة الفرنسية فرانسواز داستور تسعى إلى تجاوز العوائق الفكرية والثقافية ملخص تحاول المفكرة والباحثة الفرنسية فرانسواز داستور في كتابها "من أجل فكر بلا حدود: بين الشرق والغرب" سلوك مسار جديد بين الخطابين الفلسفيين الشرقي والغربي، محاولة بأسلوب في غاية الجلاء والعمق تجاوز العوائق الفكرية والثقافية التي يضعها بعضهم أو تلك التي تشكل نوعاً من الهوات والتي قد يعني ترسيمها ببساطة إعلان الحرب بين الشعوب. تعيد فرانسواز داستور الباحثة والأكاديمية الفرنسية المولودة في مدينة ليون عام 1942 والمتخصصة بفكر هايدغر، في كتابها "من أجل فكر بلا حدود: بين الشرق والغرب" الصادر حديثاً في باريس عن منشورات "ميمسيس"، طرح مسألة المركزية الغربية الأوروبية وإشكالية الحوار مع الآخر بعيداً من منهج الفلسفة المقارنة ووضع الفكر الغربي إزاء الفكر الشرقي. ولعل "إقامة حوار" بين الشرق والغرب هو ما تتطلع إليه نصوصها التي يؤلف مجموعها متن الكتاب، والتي تؤكد كلها ضرورة إزاحة مقولة أن الفكر الغربي هو فكر كوني متفوق، والطعن في المركزية التي يدعيها و"إضفاء الطابع المحلي عليه". ذلك أن الأفكار الأوروبية على عالميتها تنبع أيضاً من تقاليد تاريخية محددة. هذه الفكرة البديهية هي الرابط المخفي الذي يجب بحسب داستور استعادتها من أجل مقاربة عقلية صحيحة لفكر الآخر وكتاباته. وهي تلاقي فكرة وردت في نصوص هايدغر أكد فيها تنوع طرق الوجود في العالم وعلى ضرورة عدم اختزال بعضها ببعض. تعالج فرانسواز داستور هذه الموضوعات في كتابها الواقع في خمسة فصول فضلاً عن المدخل والخاتمة. كتاب "من أجل فكر بلا حدود" (دار ميميزيس) يبدأ الفصل الأول من الكتاب بمعالجة موضوع تفكيك الفكر الغربي من موقعه كفكر كوني متفوق ومساءلة المركزية التي يدعيها بغية "تقليم أظافرها"، على حد تعبير أستاذ التاريخ واللغات والحضارات في شرق آسيا في جامعة شيكاغو الأميركية الهندي ديبيش شاكرابارتي، الذي تستعين داستور بكتاباته الداعية إلى فهم جديد للحداثة بوصفها حداثات تتموقع في سياقات مختلفة، مما يعيد النظر في المقولات السائدة ويفكك التمركز الأوروبي، فاتحاً الحداثة على إعادة التشكل الكوني خارج مقولة المركزية الأوروبية. تاريخ جديد من هنا كان اهتمام الفصل الأول بموضوع كتابة جديدة لتاريخ العلاقات بين الشرق والغرب ومقولات المركزية الأوروبية وما بعد الكولونيالية. أما الفصل الثاني فقد خصـته الكاتبة بموضوع الشرط الإنساني ومسألة اللاعنف في الهندوسية والجينية والبوذية ومفاهيم الخجل والحياء وضبط النفس والمعاناة والألم والحداد، على النحو الذي تتسم به في نصوص الغرب والشرق. وشكلت مسألة العلاقة مع الآخر محور الفصل الثالث من خلال المكانة التي تموضعه الفلسفة فيها، من حيث كونه غير الذات، أي الآخر المختلف أو الغريب أو العدو، أو ضرورة إخضاعه لمماثلة الذات، ومن خلال تفحص النظام الطبقي الهندي وغيره من النظم التي تطرح هذه المسألة. DASTUR-Françoise.jpg المفكرة الفرنسية فرانسواز داستور (دار ميميزيس) أما الفصل الرابع فقد عالجت فيه سؤال اللغة والشعر والحب والمنطق كما تتبدى في نصوص مختارة من التراث الفكري اليوناني القديم والصيني والياباني والهندي والأوروبي الحديث والنظرات التي تتقاطع فيها الفينومينولوجيا والهرمنيوطيقا. وأخيراً تتناول داستور مفهوم الألوهة والملائكة والوساطة في كتابات هذه الحضارات المختلفة معرجة على زرادشت ونيتشه وفكر سيمون ڤايل في علاقتها مع نصوص الهندوسية المقدسة، من دون أن تنسى في تحليلاتها العميقة إبراز تأثير الفكر الهايدغري على عدد كبير من المفكرين غير الغربيين، بدءاً بالفيلسوف الهندي جرافا لال ميهتا (1912-1988). على تتالي صفحات هذا الكتاب ومواضيعه المختلفة التي تطرح أسئلة التاريخ والإنسان والإله يتواصل "الحوار الثقافي" بين نصوص الشرق والغرب، وتتداخل المراجع والأسانيد القديمة والحديثة، من هنا وهناك، لتؤلف نسيجاً جديداً جديراً بالاهتمام. ديكارت رائد الفلسفة الكلاسيكية استهل الأزمنة الحديثة الكتاب إذاً عبارة عن رحلة فلسفية تقوم بها فرانسواز داستور على خطى سيمون ڤايل، التي وجدت عند اندلاع الحرب العالمية الثانية في الحوار الذي دار بين الإله كريشنا والبطل أرجونا كما تبدى في كتاب الهندوسية المقدس "البهاغافاد غيتا"، صدى ملتهباً لتساؤلاتها المتعلقة بالعنف والقتل والالتزام العسكري. وهو أيضاً عبارة عن تجسيد لدعوة موريس ميرلو-بونتي إلى تعلم النظر إلى "ما هو لنا كغريب عنا، والنظر إلى ما هو غريب عنا كما هو لنا". فيه تحاول الكاتبة من داخل الفكر الأوروبي نفسه تفكيك الخطوط الفاصلة بين الشرق والغرب التي تضع الشرقيين والغربيين على جانبي حدود، يحاول كل منهما انطلاقاً من حدوده رؤية الآخر من خلال قيمه ومقولاته، كمحاولة أوروبا جعل عقلانيتها النموذج الوحيد والمقياس الصحيح لكل فكر إنساني. هذا ما أضفى على كتاب فرانسواز داستور هالة من الأهمية. فمن خلال تحليلاتها العميقة للنصوص الشرقية والغربية على حد سواء لا تقدم لنا الكاتبة حواراً بين الثقافات وحسب، بل تقدم لنا أيضاً تاريخاً حقيقياً للفكر البشري. ومما لا شك فيه أن هذا الحوار بين الشرق والغرب، الذي أرادته المؤلفة قائماً في نصوص نشأت من لحم الحياة ونجحت في التعامل النقدي معها من منطلق منهجي رصين، لا يعني التقييم الإيجابي أو السلبي وإظهار المحاسن والمساوئ والنقائص في كل من الفكرين، بقدر ما يعني الحفر داخل المتون لإيضاح المعاني والتصورات التي عرفت الكاتبة كيفية استثمار تراكمها المعرفي في حقول الفلسفة والعلوم الإنسانية في الشرق والغرب لفهمها من داخل علاقة جدلية حركت التاريخ المشترك والمختلف للذات والآخر خارج المشروع الكولونيالي والنظرة الدونية لما هو مختلف. وقد عملت هذه المقاربة على تحرير الفكر من أي نزعة مركزية أو نرجسية حضارية تؤدي إلى تقسيم الإنسانية إلى منازل ومراتب، بغرض التأسيس لكيانية إنسانية تفتح فيها الحدود أمام التفاعلات الخلاقة بين الثقافات الشرقية والغربية والقيم الإنسانية المتبادلة في مشترك إنساني جامع. إن قراءة كتاب فرانسواز داستور "من أجل فكر بلا حدود بين الشرق والغرب" قراءة ممتعة، ستفتح حتماً آفاقاً رحبة تساعد القارئ على فهم واستيعاب التفاعلات بين شرق الأرض وغربها.

ما سبب حيوية الفلسفة في عصر المنافسة الشرسة بين العلوم

ما سبب حيوية الفلسفة في عصر المنافسة الشرسة بين العلوم؟ كتب على أم الحكمة أن تكون حباً من طرف واحد والفيلسوف بين الصداقة والمواجهة جمال نعيم أكاديمي لبناني الأربعاء 24 يوليو 2024 12:46 أي مصير للفلسفة في عصر الذكاء الاصطناعي؟ (لوحة أعدها الذكاء الاصطناعي) ملخص يدعي الحكيم امتلاك الحكمة ويدعي امتلاك الحقيقة كما لو كان يضعها في جيبه الصغير فلديه إجابات نهائية عن كل سؤال حول الكون والحياة والإنسان والموت، حتى الحياة بعد الموت، في حين يسعى صديق الحكمة أو عاشقها أو طالب القرب منها أو الفيلسوف إلى الحكمة جاهداً لكن من دون أن يدعي امتلاكها يلاحظ قارئ الفلسفة والمفكر وحتى المثقف والأكاديمي أن الفلسفة تشهد اليوم في العالم الحديث حالاً من الصراع أو المنافسة بينها والعلوم. لكن الفلسفة تعيد بناء نفسها وتتجدد على رغم هيمنة العلوم الحديثة والتطور التكنولوجي السريع الذي يعيشه العالم. ما برح العقل الفلسفي يبني بل ولا يمل من البناء وإعادة البناء. يقول لايبنيتس "كلما اعتقدت أني وصلت إلى الشاطئ وجدت نفسي مرمياً في عرض البحر". ومن ثم فإن مصير العمارات والأنظومات الفلسفية أن تنهار وتتقوض بسبب غزوات الريبيين والشكاكين بقدرة العقل على البناء أولاً، وبسبب من الروح الفلسفي نفسه الذي يمارس النقد الفلسفي بحرية تامة ثانياً، وبسبب تغير المشكلات الفلسفية والأحداث المجتمعية والفكرية ثالثاً. المثال على ذلك جائحة كورونا إذ إننا لا نفكر بعد كورونا كما كنا نفكر قبلها. وكذلك اليوم مثال الذكاء الاصطناعي وتبعاته التي تصيب الوجود الإنساني برمته. ونستنتج مما سبق أن لا نهاية للتفكير الفلسفي ما دامت طبيعة العقل البشري لم تتغير. لذلك لم تستطع أية فلسفة أن تنهي النشاط الفلسفي وأن تطفئ جذوة التفلسف وأن تضع حداً للتساؤل الفلسفي، وأن تضع نهاية للفلسفة. وتنهار العمارات الفلسفية فتتحول إلى أنقاض. لكن يا لحسن الحظ تبقى هذه الأنقاض مضيئة وصالحة للاستعمال والتوظيف والاستثمار في أي قول فلسفي جديد يناسب العصر ويجيب عن أسئلته. وهذا ما يجعلنا نعود إلى الفلاسفة السابقين الذين لا يمكن تجاهل فتوحاتهم الفكرية أو تجاهل طرق تفكيرهم التي ما برحت خالدة تحمل توقيعهم وبصمتهم. editorial-deleuze.jpeg جيل دولوز (الموسوعة البريطانية) الفيلسوف يسعى إلى نيل الحظوة في عيني صوفيا (الحكمة) يدعي الحكيم امتلاك الحكمة ويدعي امتلاك الحقيقة كما لو كان يضعها في جيبه الصغير (رجل الدين مثالاً). فلديه إجابات نهائية عن كل سؤال حول الكون والحياة والإنسان والموت، حتى الحياة بعد الموت، في حين يسعى صديق الحكمة أو عاشقها أو طالب القرب منها أو الفيلسوف إلى الحكمة جاهداً لكن من دون أن يدعي امتلاكها، ومن دون أن يدعي الظفر بها. ويقول دولوز في كتابه ما الفلسفة؟ "قد يكون الإغريق هم الذين صادقوا على موت الحكيم واستبدلوا به الفلاسفة أصدقاء الحكمة، هؤلاء الذين يبحثون عن الحكمة لكنهم لا يملكونها بصورة قاطعة" (ما الفلسفة؟ ص 8). وعليه يبحث الفيلسوف عن الحقيقة ولا يكف عن البحث عنها لكنه لا يدعي القبض عليها أو في الأقل لا يدعي القبض عليها بتمامها، إذا جاز لنا أن نقول إن الحقيقة شيء يمكن القبض عليه. فالحقيقة كما هو شائع اليوم مسألة إنتاج لا مسألة كشف وإماطة لثام، مسألة إنتاج لأنه لا حقيقة خارج القول الفلسفي ولأن لكل أنظومة فلسفية حقيقة خاصة بها. وعلينا أن ننتبه هنا إلى أنا لا نعني بالحقيقة هنا حقائق التعرف (هذه طاولة أو هذا قلم مثلاً)، بل نعني الحقيقة الفلسفية بكليتها. حتى حقائق التعرف عليها أن تحجز مكاناً لها في السستام الفلسفي. هل يمكن أن نثق بالحواس؟ أفلا تخدعنا الحواس؟ هل هناك شيطان ماكر يخدعنا؟ كما ذهب إلى ذلك ديكارت الذي حسب أنه لا يمكن الركون إلى الحواس. لذلك لا يمكن في نظر ديكارت القول إن هذه طاولة وإثبات كونها طاولة إلا بعد إثبات وجود الله بوصفه ضمانة لهذا القول. ومن ثم لا يمل الفيلسوف ولا يكل من السعي جاهداً إلى صوفيا (الحكمة) وإن كان مقتنعاً بأنه لن يظفر بها. ويأمل ذلك دائماً. لكن يكفيه أن ينال الحظوة في عينيها، في عيني الحكمة. وفي المقابل، فإن الحكمة ويا لحسن الحظ تتمنع دائماً. كأن عشق الفيلسوف يظل دائماً عشقاً أو حباً من طرف واحد! وهذا ما يساعده على إبقاء شعلة التفلسف متقدة ومشتعلة ومضيئة لديه. Frans_Hals_-_Portret_van_René_Descartes.jpg رينيه ديكارت (الموسوعة البريطانية) الأهم الحفاظ على حركة الأفهوم لكن عندما تنطفئ شعلة التفلسف لا يعود الفيلسوف فيلسوفاً. وعندما تتوقف حركة الأفهوم تتحول الفلسفة إلى مجرد أيديولوجيا لا تلبث أن تجد نفسها خارج الزمن الذي تعيش فيه، فالمتغيرات تفاجئها دائماً في حين أنها تقف عاجزة عن التفسير. عندما يزعم الفيلسوف أنه قبض على الحكمة وأجاب عن كل الأسئلة تتحول فلسفته إلى عمارة فلسفية جامدة لا تلبث أن تتقوض وتنهار تحت ضربات مطرقة النقد الفلسفي التي تحفز فلاسفة آخرين ليشرعوا في البناء مجدداً. فالفلسفة لا تنفصل عن الشك والريبة. والفيلسوف يسعى إلى إعادة البناء لحسابه الخاص. يقول دلوز "جدد نيتشه مهمة الفلسفة عندما كتب "على الفلاسفة ألا يعودوا يكتفون بتقبل الأفاهيم التي تعطى لهم لتنظيفها وتلميعها وحسب، بل إن يبدأوا بصنعها وإبداعها وطرحها وإقناع البشر باللجوء إليها. فكل واحد حتى الآن وبالإجمال يثق بأفاهيمه كما لو تعلق الأمر بأعطية إعجازية آتية من عالم ما إعجازي بالدرجة ذاتها"، لكن يجب أن نستبدل بالثقة الشك. على الفيلسوف أن يرتاب أيما ريبة من الأفاهيم ما دام لم يبدعها بنفسه (كان أفلاطون يعلم ذلك جيداً مع أنه علم عكس ذلك). وكان يقول إنه كان يجب تأمل الأماثيل، لكن يجب أولاً إبداع "أفهوم الأمثول". ما قيمة فيلسوف يمكن أن يقال عنه إنه لم يبدع أفهوماً، لم يبدع أفاهيمه؟"(ما الفلسفة؟ ص 11). 1200px-Plato_Silanion_Musei_Capitolini_MC1377.jpg أفلاطون (الموسوعة البريطانية) الصديق أم المنافس؟ إذا كان الفيلسوف صديق الحكمة أو عاشقها فماذا يمكن أن يعنيه الصديق بما هو فيلسوف؟ يقول دولوز في كتابه "ما الفلسفة؟"، "الأفاهيم [...] في حاجة إلى شخصيات أفهومية تسهم في تعريفها. والصديق هو تلك الشخصية الأفهومية التي يقال عنها إنها تشهد على أصل يوناني للفلسفة، فقد كان لدى بقية الحضارات حكماؤها في حين يقدم الإغريق هؤلاء ’الأصدقاء‘ الذين ليسوا مجرد حكماء أكثر تواضعاً" (ما الفلسفة؟ ص 8). لكن ماذا يمكن أن يعنيه الصديق في الفلسفة عندما يصبح شرطاً لإمكان التفلسف ذاته؟ فالصديق لم يعد عند الإغريق مثلاً أمبيرياً عينياً، بل صار شرطاً جوانياً لممارسة الفكر نفسه وشرطاً مجاوزاً (transcendantal) لإمكان الفلسفة نفسها. لنقرأ ما يقوله دلوز "وبالمثل أصبح من الصعب بمكان معرفة ما يعنيه "الصديق" حتى لدى الإغريق وخصوصاً لديهم. هل كان الصديق يعني نوعاً من الحميمية القديرة نوعاً من الذوق المادي وإمكاناً ما كما هو حال النجار مع الخشب، فالنجار الماهر [بوصفه نجاراً] للخشب بالقوة إنه صديق الخشب؟ السؤال مهم، لأن الصديق كما ظهر في الفلسفة لم يعد يعني شخصية برانية مثلاً أو ظرفاً أمبيرياً بل حضوراً جوانياً في الفكر، شرطاً لإمكان الفكر نفسه، مقولة حية، ومعيشاً مجاوزاً. ينزل الإغريق مع الفلسفة ضربة قوية بالصديق الذي لم يعد على صلة بآخر، بل بكيان، بأوضوعة، بماهية. [يقال] صديق أفلاطون وأكثر من ذلك صديق الحكمة، صديق الحق أو الأفهوم، صديق الحقيقة وصديق الله... فالفيلسوف خبير بالأفاهيم يعرف أيها غير قابل الحياة، اعتباطي أو قلق، لا يصمد لحظة واحدة، وأيها على العكس جيد الصنع ويشهد على إبداع وإن كان مقلقاً أو خطراً" (ما الفلسفة؟ ص 8-9). وعليه فالفيلسوف بما هو صديق الحكمة وبما هو عاشق صوفيا لم يعد مجرد مثل عيني حياتي، بل أضحى شرطاً من شروط إمكان الفكر بما هو كذلك. لقد صار شرطاً جوانياً أو مجاوزاً لإمكان الفلسفة نفسها. صار شخصية أفهومية. مع الإغريق توقف الصديق عن أن يكون صديقاً للآخر ليصير صديقاً للأفهوم وصديقاً للماهية وصديقاً للحكمة. ومن يتنافس معه على نيل الحظوة في عينيها ونيل رضاها يصبح هو الآخر المنافس. ويقول دلوز "ماذا يعني الصديق عندما يصبح شخصية أفهومية أو شرطاً لممارسة الفكر؟ أو عاشقاً أو ليس هو بالأحرى عاشقاً؟ أو لن يدخل الصديق من جديد حتى في الفكر، صلة حيوية بالآخر الذي كنا ظننا أننا استبعدناه من الفكر المحض؟ أوليس المقصود أيضاً شخصاً آخر غير الصديق أو العاشق؟ لأنه إن كان الفيلسوف صديق الحكمة أو عاشقها، أفليس هذا لأنه يسعى جاهداً إلى التقرب منها بالقوة بدلاً من امتلاكها بالفعل؟ إذاً قد يكون الصديق أيضاً الطامح [الخاطب] وما يقال عنه إنه صديقه هو الشيء الذي يقع عليه الطلب، وليس الشخص الثالث الذي قد يصبح على العكس منافساً. فقد تحوي الصداقة على ريبة تنافسية تجاه المنافس بقدر ما تحوي نزوعاً عشقياً تجاه موضوع الرغبة. وعندما تستدير الصداقة نحو الماهية يصبح الصديقان مثل الخاطب والمنافس (لكن من يميزهما؟)" (ما الفلسفة؟ ص 9). هكذا لا يمكن استبعاد المنافس من دائرة الفكر بما هو كذلك. وجميعنا يتذكر المنافسة الشديدة بين الفيلسوف والسوفسطائي عند الإغريق. أما في العصور الحديثة فقد نافست الفلسفة اختصاصات أخرى كعلم الاجتماع أو التحليل النفسي أو فنون التواصل المعاصرة (الدعاية والتصميم والتسويق). لذلك علينا أن ننظر إلى الفيلسوف بوصفه صديقاً للحكمة يسعى إلى التقرب منها، وبوصفه منافساً للآخر الذي يسعى هو أيضاً إلى امتلاكها والتقرب منها. لائحة الشخصيات الأفهومية ليست مغلقة مع كل فلسفة كبيرة هناك شخصية أو شخصيات أفهومية ترسم. والشخصية الفلسفية القلقة هذه تكتشف الحقل وتبدع الأفاهيم المناسبة وتبتكرها. لذلك علينا ألا نتجاهل وجود هذه الشخصيات المضمر أو الصريح في كل فلسفة. وعليه، فإن لائحة الشخصيات الأفهومية غير مغلقة وميزات الصديق تتغير. ويقول دولوز "الصديق والعاشق والطامح والمنافس تعينات مجاوزة لا تفقد لهذا وجودها الشديد والمتحرك، في شخصية بعينها أو في عدة شخصيات. والآن، عندما يستعيد موريس بلانشو، الذي ينتسب إلى المفكرين القلائل الذين يهتمون بإعادة الاعتبار لمعنى كلمة "صديق" في الفلسفة، هذه المسألة الداخلية لشروط الفكر بما هو كذلك، أفلا يدخل هو أيضاً شخصيات أفهومية جديدة في داخل المفكر فيه الأشد نقاء، شخصيات قليلة الانتماء إلى الإغريق هذه المرة وآتية من مكان آخر كما لو كانت مرت بكارثة تجرها إلى علاقات حية مرفوعة إلى مستوى الميزات القبلية، تغيير مسار ونوع من التعب ونوع من الضيق بين الأصدقاء يبدل الصداقة نفسها إلى فكر الأفهوم بما هو ريبة وصبر لامتناهيان؟ إن لائحة الشخصيات الأفهومية غير مغلقة أبداً، ولهذا تلعب دوراً مهما في تطور الفلسفة أو تحولاتها، وعلينا أن نفهم تنوعها من دون اختزالها إلى وحدة الفيلسوف اليوناني المعقدة سلفاً" (ما الفلسفة؟ ص 10). مع كورونا تبدل الأمر إذ صار الصديق ينظر إلى صديقه بوصفه خطراً على حياته بل أكثر من ذلك، بوصفه قاتلاً. لكن هل ستتغير طبيعة الصديق بما هو شرط جواني لممارسة الفكر؟ اقرأ المزيد الفلسفة بوصفها جسر عبور بين ثقافات العالم ديكارت رائد الفلسفة الكلاسيكية استهل الأزمنة الحديثة ماذا يمكن أن تقول الفلسفة عن معاناة كوكب الأرض؟ ​في أي معنى نقول إن الفلسفة ولدت عند الإغريق؟ الحاجة الدائمة إلى الفلسفة لكن لماذا لا تزال الفلسفة حية اليوم مع تقدم العلوم الهائل وازدهار الفنون؟ لماذا لا يكون النشاط الفلسفي نشاطاً تابعاً للنشاط العلمي أو نشاطاً خادماً للاهوت؟ يأبى شرف الفلسفة أن تكون خادمة للاهوت أو تابعة للعلم، إذ إنها تمتلك مرجعيتها في ذاتها. إنها نشاط له خصوصيته واستقلاله وحقوله ومشكلاته وأدواته. أدوات الفلسفة الأفاهيم. وكما أن المدينة البشرية لا تعيش من دون علوم إذ إنها بأمس الحاجة إليها في العمران وتدبير شؤون العيش ولا تعيش من دون فنون، إذ إن الحياة مع الفن تصبح أجمل وأرقى، كذلك فإن المدينة البشرية لا يمكنها أن تعيش من دون أفكار، والفلسفة هي المصنع الدائم لإنتاج الأفكار، وفي الأقل للأفكار التي نعبر عنها بواسطة الأفاهيم. مثالاً، لا يمكن العيش في مجتمع ما من دون أن نتساءل عن معنى العدالة والمساواة والتفاوت والتعدد والتمثيل الشعبي والإرادة العامة وحدود استعمال العنف، إلى ما هنالك من اصطلاحات وأفاهيم على الفيلسوف أن يبتكرها ويخترعها. لكن علينا أن نتذكر دائماً أن هذه المصطلحات أو الأفاهيم الفلسفية ليست بقضايا علمية أو منطقية، يمكن أن توصف بالصدق والكذب أو الصح والغلط لأن الفلسفة ليست خبراً عن العالم، إنها تسوق جملاً إنشائية لا جملاً خبرية. تجيب الفلسفة عن أسئلة العقل التي يطرحها بطبيعته. ومن خلال طرحه هذه الأسئلة يسعى إلى تحقيق راحته، وإن بصورة موقتة. لذلك فإن مقولات من أمثال موت الفلسفة أو نهاية الفلسفة أو نهاية المتافيزيقيا ما هي إلا ثرثرات عديمة النفع ومتعبة في نظر دولوز. خلاصة القول أن الفلسفة باقية بحيث لن يستطيع العلم أو النشاطات الأخرى الحلول محلها. لكن الفيلسوف بما هو صديق الحكمة وعاشقها سيبقى يجد حتى داخل الدائرة الجوانية القبلية المجاوزة للفلسفة، منافسين كثراً يدعون عشق صوفيا والتقرب منها. لكن علينا دائماً أن نعمل على تمييز الفيلسوف الحق من الفيلسوف الزائف. وما أكثر الفلاسفة الذين يدعون حب الحكمة، وهم لا يجرؤون على الاستهداء بإرشاداتها المربكة!

الفلسفة عندما تكون إسلوب عيش في العالم :

الفلسفة عندما تكون أسلوب عيش في العالم الفلاسفة دعوا إلى الاعتناء بالنفس والعمل على ارتقاء الكائن الإنساني الفلسفة طريقة عيش (موقع فلسفة) ملخص ليست الفلسفة طريقة تفكير تتمثل في إبداع المفاهيم وصوغ المسائل ونظم الأنظومات فحسب، بل أسلوب عيش أيضاً. كانت كذلك في بدايتها، قبل أن تصير تفسيراً للعالم وفهماً له أو تغييراً، وعادت اليوم كذلك. كانت حكمة عملية وتدبيراً حصيفاً لأمور الحياة، بما فيها الموت، قبل أن تصير بحثاً عن العلل الأولى والمبادئ الأوائل. ما نود معالجته هنا هو الفلسفة بما هي إطيقا فن الوجود، بما هي أنماط حياة وأساليب عيش، بما هي سيرورات تذويت وتقنيات ذات، بحسب ميشال فوكو الأخير. فالفلسفة نمط حياة وأسلوب عيش ونحت ذات وانهمام بالنفس وعناية بها، قبل أن تكون بناء عمارات فلسفية شاهقة أو نظم أنظومات فلسفية متماسكة أو بحثاً عن العلة الأولى. وعليه فالفلسفة لم تكن طوال تاريخها مجرد نشاط نظري فحسب، بل كانت دائماً بمنزلة طريق ملكي إلى الحكمة والحقيقة. إذاً بدأت الفلسفة تاريخها طريقة في فن الحياة، وأسلوباً في تدبير السلوك والملذات، ونهجاً في اختيار أسلوب الحياة ونمط العيش، تبعد الإنسان بقدر الإمكان من الأوهام وتجعله يتدبر حياته وموته، فتدخل في نفسه نوعاً من السلام والطمأنينة. بين الأخلاق والإطيقا علينا أن نميز الإطيقا بما هي اشتغال على أنماط الحياة وأساليب العيش وفن الوجود، من الأخلاق بما هي قواعد عامة ملزمة للجميع، فالحديث هنا ليس عما يتوافق مع الأخلاق وعما لا يتوافق معها، ولا عما ينسجم مع قواعد المجتمع وقوانينه وعما لا ينسجم، بل عن أمر مختلف. فسواء أآمن الناس بالأخلاق أم لم يؤمنوا، وسواء أكانت هناك دولة تطبق القوانين أم لا، يبقى المطلوب من الإنسان أن يشتغل على ذاته ويهتم بنفسه ويجترح نمط الحياة الخاص به. 0945511001188742019.jpg الفيلسوف والكتب (موقع فلسفة) لسنا هنا في حقل الأخلاق، بل في حقل الإطيقا بما هي فن وجود، بما هي أساليب عيش وبما هي أنماط حياة يبتدعها الشخص ويرتضيها لنفسه ويعيشها انطلاقاً من علياء شعوره السامي الراقي النبيل. نحن هنا لا نتفلسف في ميدان الأخلاق، بل في ميدان الإطيقا. فما يمنع الإنسان من بعض التصرفات ليس توافقها أو عدم توافقها مع قواعد الأخلاق ومبادئها، بل تعارضها مع نمط الحياة النبيل الذي رسمه لنفسه، وتعارضها مع ما يقتضيه ذلك الشعور السامي الرفيع الذي يشعر به. مثلاً لو كنت موظفاً في مصرف لبناني لما قبلت أن أسكت عن سرقة أموال الشعب من دون أن أقدم استقالتي وأخرج إلى الإعلام لأفضح ما يحصل. فأنا لا أقبل أن أسرق وأقتل وأغش وأخدع، لا لأن هذا يتعارض مع الأخلاق العامة، ولا لأن هذا يغضب الله، بل لأن هذا كله يتعارض مع نمط الحياة النبيل الذي اخترته، ومع فنية وجمالية اللوحة التي أرسمها لنفسي أولاً ولأولادي وأحفادي ولكل الأجيال من بعدي ثانياً، هؤلاء الذين سيفتخرون يوماً ما، كما آمل، بما فعلته وما رسمته وما نحته. أعمل كثيراً حتى لو لم أحظ إلا بقليل من النجاح، ليس مهماً أن أصل، فهذا أمر متروك للأقدار، بل المهم أني فعلت كل ما كان بوسعي أن أفعله. بذلك أكون رسمت لوحة أراها أروع وأجمل لوحة رسمتها يد فنان قدير موهوب، لذلك أنا راض عما فعلت. فلا مكان في قلبي للندم، ولو عشت ألف مرة لكنت مشيت في الطريق ذاتها، ولكنت رسمت اللوحة ذاتها. ولو عدت للحياة ألف مرة لكانت لوحة حياتي هي ما يجسد عودي الأبدي في كل عودة، فأنا فخور بحياتي وأرحل عن هذه الدنيا وقد أديت قسطي من العلا. الحياة بما هي تحفة فنية هذا ما يمكن أن نسميه بالتفلسف الحياتي العملي، فكما يرسم الرسام لوحة بديعة، وكما يكتب الأديب رواية رائعة، وكما ينحت النحات منحوتة جميلة، فإن بإمكان كل واحد منا أن يصنع من حياته تحفة فنية نادرة، لوحة فنية فريدة يفتخر بها أمام نفسه وأمام الجميع. بعمله هذا يكون سعيداً وراضياً، لذلك فإن نحت الجسد لأمر ذو أبعاد كثيرة، صحية وجمالية وفلسفية، وذلك عندما يندرج في إطار فلسفي أوسع يتعلق بفن الوجود ونمط الحياة. هكذا يكون نحت الذات، جسداً وروحاً، نشاطاً فلسفياً بامتياز! وهكذا يتحول كل إنسان إلى فيلسوف. أوما زال الاهتمام بالذات ممكناً اليوم؟ 4173457_100_0600.jpg الفلسفة بريشة باتريسيا دويوسون (صفحة الرسامة - فيسبوك) يأتي الإنسان إلى الحياة من دون إذنه، فيبدأ مسيرته الطويلة والشاقة. لكن أي نمط حياة نريد؟ أي حياة نود أن نحياها؟ أي ذات نروم نحتها؟ الانهمام بالذات كان هماً من هموم الفيلسوف، وسيبقى. لكن هل ما زلنا اليوم قادرين على الاهتمام بذواتنا والعناية بها في ظل ما نعيشه من أزمات مالية وسياسية؟ هل ما زلنا قادرين على نحت ذواتنا اليوم في عصر الذكاء الاصطناعي وعصر الإنسان - الآلة أو الإنسال؟ هل ما زلنا قادرين على رسم لوحة حياتنا الفنية في ظل رأسمالية تأبى إلا أن تسيطر بجشع ومن دون رحمة على ثروات المعمورة؟ أفلم تفسد الرأسمالية المتوحشة كل ما هو جميل وحسن في حياة الإنسان؟ أفلا يجدر بنا التنبه إلى ما يمكن أن يؤدي إليه الذكاء الاصطناعي من تهميش للإنسان وربما من القضاء عليه؟ أفلا يستدعي الاهتمام بالجسد اهتماماً آخر أكبر وأهم بالذات؟ أوليس من الفلسفة أن يرسم كل إنسان لوحته الأجمل وأن ينحت منحوته الأفضل، فيجعل حياته نفسها تحفة فنية رائعة، كما نبهنا إلى ذلك فوكو في كتاباته الأخيرة؟ أانماط الوجود تكلم فوكو عن أنماط الوجود وسيرورات التذويت وتقنيات الذات ضمن إطار ما سماه إطيقا فن الوجود، إذ سعى إلى أن يجعل المرء نفسه تحفة فنية رائعة لا تختلف عن لوحة رائعة أو منحوتة عظيمة. بذلك نقول إن بإمكان الفرد أو الذات، في المجتمعات المعاصرة، أن يتكون وينتصب ويقاوم في ظل الحصار المضروب عليه من أصناف المعرفة وأنواع السلطات القائمة. رجع فوكو إلى الإغريق فوجد عندهم هذا الشعار: إذا أردت أن تكون مواطناً فاعلاً في المدينة، فعليك أولاً أن تتمكن من السيطرة على نفسك. thumb_30752_paysage_big.jpg الفلسفة والتأمل (موقع فلسفة) ومن ثم، عندما لا تتوجه القوة إلى قوى الخارج، بل إلى ذاتها، أي عندما تتخذ القوة نفسها موضوعاً لفعلها، ينشأ ما يسميه فوكو سيرورات التذويت أو أنماط الوجود أو أساليب الحياة، وهي ما كان يسميها نيتشه إمكانات الحياة. بذلك يمكن المرء أن يقاوم أشكال المعرفة ومراكز السلطة من حوله، فالقوة تتعرض لعملية طي من الذات عندما تتخذ موضوعاً لها السيطرة على الذات نفسها وتقديمها بوصفها تحفة فنية رائعة. هذا ما نجده في سيرورات التذويت عند الإغريق وسيرورات التذويت في العهود المسيحية الأوائل، إذ يشدد فوكو على أن أنماط الوجود تلك إطيقية وجمالية في آن واحد. فإنها لا تبتغي تقديم قواعد عامة إلزامية لكل البشر، بل تعرض نماذج لسيرورات تذويت تتضمن قواعد اختيارية ومتغيرة عبر التاريخ. واليوناني لم يكن يريد أن يرضي الآلهة أو يتنعم بالنعيم في الآخرة، فهذه الأمور لم يكن ليهتم بها، بل كان يريد أن يقدم نموذجاً صالحاً، جمالياً وأخلاقياً في آن واحد، يتركه للأجيال المقبلة. لكن فوكو، بعودته للإغريق أو العصور المسيحية الأوائل، لم يكن يبتغي أن نتخذ منها نماذج صالحة لزماننا الحاضر. فهو يفكر الماضي من أجل الحاضر، ويحاول أن يتتبع أنماط الوجود الراهنة التي تحصل في مجتمعاتنا المعاصرة. الفلسفة بوصفها جسر عبور بين ثقافات العالم وعليه لا يحبذ الإنسان أن يرحل عن هذه الدنيا من دون أن يترك أثراً، من دون أن يترك لمسة خاصة به، من دون أن يترك بصمة يعرف بها، بل من دون أن يخلد اسمه بطريقة ما. فهناك من يكتب كتباً، وهناك من ينحت منحوتات، وهناك من يرسم لوحات، وهناك من يغني أغاني عاطفية مؤثرة أو أغاني وطنية، وهناك من يبني دولاً، وهناك من يخترع اختراعات إلخ. والفيلسوف هو من يحول حياته نفسها إلى أثر فني، إلى منحوتة رائعة، إلى لوحة فنية، يفتخر بها ويتركها أثراً فنياً جميلاً لمن يجيء بعده، حتى إذا دنا أجله، كان راضياً عن نفسه وعما فعله في حياته. هكذا ينشغل الإنسان بنفسه فيرسم حياته بريشته كأجمل لوحة فنية ممكنة، ربما لا يرسم الأجمل والأفضل، لكنه يحاول أن يرسم أفضل الممكن نسبة إلى القدرات والإمكانات التي يمتلكها ونسبة إلى الظروف التي تهيأت له. بذلك يترك لأحبائه وأصدقائه والأجيال أمثولة رائعة يفتخر بها، فيها كثير من النجاحات والانتصارات، كما فيها أيضاً كثير من الهزائم والانكسارات. على المرء إذاً أن يرسم لوحته الفنية الرائعة، وأن ينحت تحفته الأجمل في علاقته بنفسه أولاً، وفي علاقته بزوجته وأولاده ثانياً، وفي علاقته بمواطنيه في المدينة ثالثاً، وحتى في علاقته بالله أو المطلق رابعاً، من دون أن يعتقد وجود نموذج أو مثال عليه تقليده واتباعه. وعليه فإن الفلسفة بما هي فن إطيقي، بما هي فن الإطيقا، بما هي أسلوب عيش، بما هي نحت لتحفة فنية حياتية رائعة، من مهمتها أن تجعل الحياة ممكنة وجميلة، بل وأن تجعلها ممتعة أيضاً، فنتقبل مآسيها ونتقبل فكرة الموت ونتعامل معها بما يناسب اللوحة الفنية هذه، فالفلسفة نوع من الفرح الدائم.

جان فيولاك و سؤآل المصير الكارثي للبشرية !

جان فيولاك يطرح سؤال المصير الكارثي للبشرية تنامي أزمات العالم المعاصر وإشكالياته المرتبطة بمسائل التكنولوجيا والرأسمالية المتوحشة والذكاء الاصطناعي ملخص في كتابه "ميتافيزيقا الأنتروبوسين: العقل والتدمير" يواصل الفيلسوف الفرنسي جان فيولاك (1971) الذي تندرج أعماله في سياق الفكر الماركسي والفينومينولوجيا الألمانية، والحائز الجائزة الكبرى للفلسفة من الأكاديمية الفرنسية وجائزة سيوران لعام 2023، التفكير في أزمات العالم المعاصر، متأملاً في المصير الكارثي الذي ينتظر البشر، انطلاقاً من مقولات ومفاهيم نيتشوية وعدمية. في كتابه الصادر حديثاً عن المنشورات الجامعية الفرنسية في باريس "ميتافيزيقا الأنتروبوسين: العقل والتدمير" (2024)، والذي يعد الجزء الثاني لكتاب صدر العام الماضي وحمل العنوان نفسه، يستمر فيولاك في تطوير أنثروبولوجيته السلبية، معيداً تعريف الفلسفة بوصفها "أناركيولوجيا" أي أركيولوجيا متحررة من مبدئها الميتافيزيقي (الأرخيا). هذا التعريف الجديد للفلسفة دفعه باتجاه البحث في الكامن والماضي، إذ مبدأ العماء والفوضى الذي أرست فوقه المؤسسات عبر التاريخ صروحها الفكرية. وها هو ذا يأخذ على عاتقه مهمة تفكيك هذه المؤسسات بغية الكشف عن الهاوية السحيقة التي تتربع فوقها، والتي عملت من دون كلل على إنكارها. يحلل فيولاك فلسفياً إذاً كيف أن الإنسان، مع اكتشافه العقل وظهور اللوغوس، بدأ في إنكار الجزء الحيواني من طبيعته، لكن المغالاة في هذا الإنكار قاده شيئاً فشيئاً نحو السير على دروب تدمير الأنواع وإمكانية الحياة على الأرض، صائراً بمعنى ما قاتل نفسه، متحولاً من "أنثروبوس" بحسب المصطلح اليوناني الذي يعني الإنسان، إلى "نيغانثروبوس"، أي إلى كائن نافٍ لإنسانيته. ففي هذا الكتاب الواقع في 472 صفحة يسلط الفيلسوف الضوء على الأزمات المتلاحقة التي تهدد شروط الحياة الإنسانية واستمراريتها، من خلال رسمه للوحة فلسفية قاتمة، تدفعنا للتبصر في الأحوال التي آل إليها الاجتماع البشري. 31VUG5qD0EL._SR600,315_PIWhiteStrip,BottomLeft,0,35_SCLZZZZZZZ_FMpng_BG255,255,255.png الكتاب الفلسفي عن العقل والتدمير (دار المنشورات الجامعية) يبدأ فيولاك تحليلاته بالتأكيد أن المصطلح اليوناني "الأنثروبوسين" بات يشير إلى حقيقة أساسية قوامها أن قوة الإنسان قد أصبحت اليوم تدميرية، وأنه صار قادراً على التسبب بانقراض الحياة النباتية والحيوانية والإنسانية على الأرض. فالتلوث مثلاً جعل الهواء والماء والأرض مملوءين بالسموم، وتسبب بقتل بعض الكائنات الحية وبانقراض بعضها الآخر. أما التكنولوجيا فقد أثرت في صحة الإنسان وعقله، على رغم إعطائها له قدرات هائلة من خلال تطور الذكاء الاصطناعي وصناعة الأسلحة المدمرة التي ستؤدي حتماً لتدمير البشرية، بحيث أمكن الحديث عن "اللوغوسين"، أو موت اللوغوس و"الكابيتالوسين" أو موت الرأسمالية. دوامة التدمير الذاتي ليست هذه "اللوحة" السوداء التي يرسمها فيولاك نبوءة أخروية، بل هي حصيلة حقائق ودراسات علمية نشرتها مراكز أبحاث وأكدتها الأمم المتحدة في تقاريرها السنوية، وقد شددت كلها على أن البشرية دخلت في دوامة التدمير الذاتي. ولئن كانت ولادة الفلسفة قد ارتبطت منذ ظهورها بالأزمات والأسئلة أكثر من ارتباطها بالأجوبة، كان التفكر في "الوضع الحرج الذي آلت إليه الإنسانية"، برأي هذا الفيلسوف أكثر من ضروري. gc-jean-vioulac.jpg الفيلسوف الفرنسي جان فيولاك (دار المنشورات الجامعية) ينطلق جان فيولاك من مقولة تؤكد أن المرحلة التي نمر بها اليوم تشكل "أعظم تحدٍ واجهته البشرية في تاريخها على الإطلاق"، ذلك أن هذا التحدي مزدوج: فمن ناحية هناك الأزمة البيئية ومن ناحية أخرى هناك الأزمة المرتبطة بظهور الذكاء الاصطناعي وأخطاره العديدة. بعبارة أوضح، يشدد فيولاك على أن الإنسانية تواجه اليوم أزمة مزدوجة تتناول ليس فقط شروط بقاء الحياة على الأرض، بل شروط بقاء قدرة الإنسان على إعمال عقله وفكره. وهذا بالضبط ما يجعل كتابه لافتاً، لا سيما حين يدرس العلاقة بين هاتين الأزمتين. تقول أطروحة فيولاك إن الإنسان الذي حدده أرسطو بعقله كائن قادر على التعالي عن غرائزه وعواطفه وعلى تجاوز سائر الكائنات، ولو تعثر في مسراه أحياناً، قد أصبح الآن كائناً مجرداً من إنسانيته. فليس هو هذا "الحيوان المنفصل عن حيوانيته" والمعرض عن طبيعته البيولوجية على حد تعبير نيتشه فحسب، بل هو الآن هذا الكائن الذي جعل من مبدأ العقل مبدأ موته. بعبارة أخرى، هذا "الحيوان العاقل" الذي أعلى من رتبة الوعي أو العقل واعتبره مناط التكليف وأساس المسؤولية والجزاء وأهم محدد للإنسان، الذي بوسعه، عكس الكائنات الحية الأخرى، التفكير المنظم والتعبير عن فكره باللغة والمنطق، قد فوض اليوم أجهزة الكمبيوتر التفكير بدلاً منه، وسلم زمام أمره وثقافته ولغته وذاكرته للآلة، مختزلاً "اللوغوس"، وهو جوهره وكينونته، ببرامج معلوماتية تقطع صلته بجوهره، ولعلها ستقوده حتماً إلى الانقراض، ذلك أنه كلما أمعن الإنسان في الاتكال على الآلة وإضاءة شاشاتها الذكية، انطفأ عقله وتآكلت إنسانيته وزادت مشكلاته البيئية. هذا الارتباط الأساس بين الأزمة البيئية وأزمة العقل الذي يشدد عليه فيولاك في إطار نقده للنظام العالمي الرأسمالي الذي سلب الإنسان علاقته السليمة بالموارد الطبيعية، ينبهنا إلى أن الصراع لم يعد اليوم صراعاً طبقياً وعلاقات اجتماعية غير متكافئة، بل اتخذ صورة من صور "اللوغوس الآلي"، منتجاً قيمة طيفية منفصلة عن الحياة، أصبح البشر فيها أشبه بكائنات آلية انقلبت على جوهرها ليس فقط على مستوى إعادة الاعتبار للأبعاد اللاعقلية والرغبات والعواطف والغرائز، بل على مستوى إنزال العقل من مقامه وتحويله إلى مجرد كينونة هامشية. الأزمة المزدوجة في مقاربة أشبه بالحفر أو التنقيب الأثري يعود جان فيولاك إلى جذور الأزمة المزدوجة التي تعانيها البشرية اليوم، فيتوقف عند فيثاغورس، وهو أول فيلسوف اعتبر العدد مقياساً لكل شيء، ولايبنتز، المنظر الأول للعقل المنظم mens ordinatrix، و"للميكانيكية" و"العصر السيبراني"، الذي تجسد أعماله القدرة على التجريد كما تتبين في الميتافيزيقا الغربية منذ بداياتها الأفلاطونية، والروبوت "شات جي بي تي" وقدراته على التحدث مع البشر وفهمه للأسئلة التي يطرحونها والإجابة عنها، فضلاً عن البرمجة ومعالجة البيانات وتطوير استراتيجيات الأعمال، وعلوم الذرة التي لا تنفصل في تطبيقاتها عن "الحرب ضد العالم" التي تحدث عنها ميشيل سير، مشيراً إلى الكارثة الحتمية التي بدأت ملامحها تلوح في الأفق، داقاً ناقوس الخطر، معلناً بدء زمن موت الإنسان الذي تحدث عنه فرويد بسبب انتصار نوازع الموت على نوازع الحياة في انقلاب جذري ترتسم ملامحه في اللحظة المعاصرة. وبغية فهم أفضل لأطروحة الكتاب، يقول فيولاك إن القدرة على الحفظ والتحليل والتأمل والتفكير والمراقبة والرصد والحساب واتخاذ القرارات والاستشراف والتخطيط والتخيل والتأليف والكتابة والتحدث وغيرها من السمات الخاصة بالبشر تنقل اليوم إلى الآلة.

كيف نكتب تأريخ الأفكار التي شكّلت العالم؟

كيف نكتب تاريخ الأفكار التي شكّلت العالم؟ البريطاني فيليب ارميستو يرصد سعي الانسان لاكتشاف الذات والعالم واليوتوبيا المفقودة سلمان زين الدين البريطاني فيليب ارميستو يرصد سعي الانسان لاكتشاف الذات والعالم واليوتوبيا المفقودة لعل الخلاصة المركّبة التي ينتهي إليها قارئ كتاب "الأفكار التي شكّلت العالم" للمؤرخ البريطاني فيليب فرناندز أرميستو، الصادر عن دار الفرقد، بتعريب علي عيسى داود، هي أن العالم منتَج فكري، وأن الأفكار هي التي تشكّله، وأن توليد الأفكار خصيصة إنسانية بامتياز. ذلك "أن التاريخ يحدث أوّلاً في العقل، وأن الأفكار هي الدافع إلى التغيير الاجتماعي"، على حدّ تعبير المؤلف (ص 11). هذه الخلاصة يصل إليها القارئ باقتفاء أثر الكاتب في رحلته الورقية، منذ فجر التاريخ حتى أواخر القرن العشرين، وهي رحلة محفوفة بالكثير من الأفكار، القديمة والجديدة، وهي موضع درس وتساؤل وتشكيك. فقد يتفق مع الكاتب كلّياًّ أو جزئياًّ وقد لا يفعل، غير أنه بالتأكيد يخرج من القراءة وفي رأسه الكثير من علامات الاستفهام، وهذا ما يمنح الكتاب أهميّته. على أن الأفكار المطروحة فيه تخوض في حقول الدين والعلم والزراعة والفن والسياسة وسواها من الحقول المعرفية. وهي تدخل في صلب اهتمام تاريخ الأفكار الذي يُعنى بدراسة تاريخ الإنسان في سعيه لاكتشاف الذات والعالم والحصول على مفاتيح "اليوتوبيا" المفقودة. محورية الإنسان في كتابه، يركّز أرميستو على محورية دور الإنسان في توليد الأفكار وتشكيل العالم، فهو، إذ يقارن بين الإنسان والحيوانات الاجتماعية الأخرى، يستنتج أن ما يميّزه عنها هو العقل، والتفكير، والتخيّل، واللغة، والتغيّر الدراماتيكي. لذلك، يسعى في دراسة هذه الميزات بالتحقيق في الفترة الأقدم في تاريخ البشرية، استناداً إلى الأنثروبولوجيا المقارنة وعلم الآثار القديمة، فيقتفي تمظهراتها في اللوحات المحفورة على الجدران ورسوم الكهوف ومظانّ أخرى. وهو بذلك يخرج عن التفكير التقليدي الذي اعتاد البدء بالدراسة من الحضارة الإغريقية القديمة، باعتبار أن الإنسان موجود قبل الحضارات بـ 150000 سنة، ويقترح البدء من نحو 40000 أو 50000 سنة. وهو ما يقوم به في دراسة كيفية تشكّل فكرة الخالق، انطلاقاً من اكتشاف رموز استخدمها الناس في العصر الجليدي تشكّل أول دليل على الدين، معتبراً أن "الأرواحية" هي النوع الأقدم للدين في العالم، وقد لجأ إليها الإنسان القديم تعويضاً عن قصور الحواس في إدراك العالم، فهذا الأخير ليس مجرّد مادة بل هو مسكون بقوى حية تتحكم بعناصر الطبيعة وحركاتها، ولعل هذا الإيمان بالأرواح، منذ القدم، هو الذي قاد، في سلسلة من الأفكار المتعاقبة، على مرّ الزمان، إلى نشوء فكرة الخالق. thumbnail_IMG-20231130-WA0012.jpg الكتاب بالترجمة العربية (دار الفرقد) على أن فكرة الدين في تعبيراته المختلفة تشغل بضعة فصول في الكتاب؛ فيتناولها في الألفية الأولى قبل الميلاد، بدءاً من فكرة وهم الحواس وقيود المادة التي تقول بها الأوبنشادا السنسكريتية في القرن السابع قبل الميلاد، مروراً بالزرادشتية التي تقول بثنائية الكون، واليانية التي تقول بتحرير الروح من الشر، والبوذية التي تسعى إلى تحقيق السعادة، واللاوية القائلة بقوة العقل وضرورة الطقوس، وانتهاءً باليهودية التي تؤمن بإله واحد يخلق الأشياء من العدم. وفي هذا السياق، يعرض الكاتب نظريات الخلق المختلفة من: العدم، الانفجار الكبير، الفوضى، الذات، والفكر. ولكل من هذه النظريات أتباعها. على أن أكثر من ثلث سكان العالم، حسب رأيه، يؤمنون بنظرية إله واحد يخلق الكون من العدم، وهو ما ذهبت إليه اليهودية، وأخذت به المسيحية والإسلام. ولا يقتصر الخلاف بين الناس على فكرة الخلق بل يتناول أيضاً فكرة الإله بحد ذاتها، بين قائل بتعدّد الآلهة، وقائل بالثنائية، ومؤمن بالإله الواحد. وهو ما تقول به الأديان التوحيدية الثلاثة، اليهودية والمسيحية والإسلام. هنا، لا بد من الإشارة إلى أن المؤرخ يرصد حركة الأفكار الدينية، خلال الـ 1500 سنة، بعد ما يسمّيه عصر الحكماء وحياة السيد المسيح، فيشير إلى: صعود المسيحية والإسلام وتأثرهما بالعقيدة اليهودية، توسّع المسيحية بفعل مرونتها، انحسار البوذية بفعل الكونفوشيوسية في الصين والهندوسية في الهند، نشوء التصوّف المسيحي في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس الميلاديين، ازدهار التصوّف الإسلامي بين القرنين الثامن والثاني عشر الميلاديين. وخلال هذه المدة، لا سيّما في العصور الوسطى منها، برزت محاولات كثيرة للتوفيق بين الدين والعقل، الدين والعلم، الدين والحياة، الدين والثورة، وغيرها. الثورة العلمية الفكرة الثانية التي تشغل حيّزاً ملحوظاً في الكتاب فكرة أرضية وليست سماوية، تتعلّق بالنهضة والتنوير والثورة العلمية، وما تمخّضت عنه من أفكار أسهمت في تشكيل العالم، على هذا النحو أو ذاك. فيشير الكاتب، في هذا السياق، إلى تعدّد اتجاهات الاختراع العالمي، وارتباط النهضة بالثورة العلمية، وتحدّر الأخيرة من أصول هرمسية سحرية، وتوخّي الاستكشاف والتجربة والفلسفة أدوات لتحقيق الإنجازات العلمية. ويلاحظ، بنتيجة الدرس، تجاذب الصين وأوروبا اتجاهات الاختراع العالمي، تشكّل العلوم الإنسانية في العصور الوسطى في أوروبا، تمهيد الهرمسية السحرية للثورة العلمية، تعدّد أدوات المعرفة العلمية، ونشوء أفكار سياسية جديدة مؤثرة في مجرى التاريخ العالمي، من قبيل غائيّة الدولة، وعالمية البشرية، والأممية، ممّا يمكن أن ندرجه تحت عنوان التنوير. اقرأ المزيد فهمي جدعان يراجع الفكر العربي المعاصر برؤية نقدية هل يستطيع الفكر النظري أن يغير المجتمعات الإنسانية؟ على أن هذا العنوان سيتمظهر في أفكار أخرى في القرن الثامن عشر، من قبيل التقدم، الحرية الاقتصادية والسياسية، وضمان الحقوق بالدساتير، حتى إذا ما أزف القرن التاسع عشر، وتمخّض التنوير عن فشل مطبق في تحقيق النهضة، لا سيّما بعد زلزال لشبونة في خمسينيات القرن الثامن عشر الذي شكل نقطة تحوّل في تاريخ الأفكار الأوروبية، وبعد النتائج العنيفة التي ترتّبت على اندلاع الثورة الفرنسية، بحيث اهتزّت الثقة بالتقدّم، أخذت تطفو على السطح أفكار جديدة / قديمة، مثل الإحياء الديني، والحكمة الشعبية، والاكتشافات الإثنوغرافية، والرومانسية، والمثالية، والقومية، والاشتراكية، والنفعية. ولكلٍّ من هذه الأفكار أوصابها وأعطابها. وليس لأيٍّ منها أن تدّعي امتلاك مفاتيح "اليوتوبيا" الأرضية. وكان من شأن هذه الأفكار أن تترك تأثيرات قاتلة على القرن العشرين، جعلت الكاتب يطلق عليه تسمية "قرن الأهوال"، ومنها: القومية، العسكرة، العنف المدمّر، التفوّق العرقي، قصور العلم، عبادة الدولة وغيرها، مما أدى إلى بروز أفكار جديدة خطيرة، مثل الشمولية، العنف الثوري، التفكير العلمي الجديد، وقد لعبت أفكار نيتشه ونظرية تشارلز داروِن دوراً كبيراً في التمهيد للعنصرية والعنف والإرهاب. إلى هاتين الفكرتين المحوريتين، الدين والعلم، يتطرّق أرميستو إلى أفكار أخرى، تتعلّق بالحياة على الأرض؛ فيتناول انتقال الإنسان من الزراعة إلى الحضارة، عبر سلسلة من الحلقات المترابطة في مجرى التطوّر. تبدأ بالزراعة، وتمر بالتنظيم الاجتماعي وإنشاء المدن وتوليد الأفكار وهشاشة الحضارات البيئية، وصولاً إلى اضمحلالها أواخر الألفية الثانية قبل الميلاد. هذه الأفكار لعبت دوراً كبيراً في تشكيل العالم، عبر التاريخ، مما يجعل منه مُنتَجاً فكرياًّ، أوّلاً وقبل كلّ شيء، ويستدعي إعادة تشكيل مستمرّة له، خاصة في هذه اللحظة التاريخية الحرجة التي نشهد فيها انحراف العالم عن مساره الطبيعي، ونواجه جميعاً خطر المصير المشؤوم.