Saturday, April 26, 2025

أسس و مبادئ المنتدى الفكري - الجزء الثالث :

السّلسلة الكونيّة أسـس و مبادئ المُنتدى الفكريّ الجزء الثالث تأليف العارف الحكيم : عزيز الخزرجي بسم الله الرحمن الرحيم أيّها النّاس : حذاراً أنْ تكونوا مِمَّن سيقول لَهُمُ الله تعالى يَومَ القيامـَـــــــة : [أدْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ فِي النَّارِ ۖ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ۖ حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ ۖ , قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ](38) الأعراف. و سوء العاقبة تلك بسبب الجهل(عدم العِلم و الوعي) ؛ ألذي هو أصـل كلّ شرّ, كنتيجة لترك السعي و التعاون لفهم حقيقة الدنيا و أسرار الوجود! و الجهل المقصود ليس الأميّة الأبجدية ولا الجهل بقوانين الكهرباء أو الميكانيك أو الطب او الفيزياء, فتلك مهن للأرتزاق ألمعيشي؛ إنّما الجّهل بآلوجود و بحقيقة الأنسان و معرفة الله تعالى عبر جواب (الأربعون سؤآل) المذكورة في الجزء الثاني. ألأهداء ألأهداء : مهداة لقادة ألجّهاد الأكبر و(ألأعظم) .. إنّهُ جهاد النّفس؛ تلك العقبة الكأداء التي تعيقنا من عبور الأمتحان الذي يحتاج للكثير من السعي و الجهاد .. ذلك الجهاد المرير المفروض علينا, و الذي يفوق جهاد آلسيف والدّم بمراتب و درجات لا يعلمها إلّا الله .. و إنّ آلعباد و البلاد لا تتطور ولا تُبنى بالحروب والقتل و الأسلحة النووية و المكر التي شغلت الحكومات .. إنما تُبنى و تتطور و تسعد بآلفكر و العلم, فأسأل الله تعالى أن يوفّق مدراء التربية و التعليم في المؤسسات و المنتديات الفكريّة لأداء دورهم, الذي لا يعرف أحد سوى الله تعالى فقط قدرهم و عطائهم لدورهم في هداية الناس و بناء المجتمعات و إسعادها و تحصينها بآلمحبة و الصّدق و التعاون بدل آلتآمر و الخصام و الغيبة و النّميمة و الجّدل و النفاق و الأنتصار و التسلط و كما هو حال الحكومات و الناس الساعية لبناء أجسادها و قصورها و ظواهرها بسبب الجهل و كما قال (أبو الفتح البستيّ)! يا بانِيَ الجّسم كمْ تشقى لـخدمته .. أَ تَطلب الرّبح من ما فيه خسـران؟ أَقبل على النفس وإستكمل فضائلها .. فأنت بآلنفس لا بآلجسم إنسان. ألفهرست الفهرست ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الموضوع رقم الصفحة 1- المقدمة 13 2- المدخل 21 3- 4- 5- 6- 7- 8- 9- 10- 11- 12- 13- 14- 15- 16- 17- 18- 19- 20- 21- 22- 23- 24- 25- 26- 27- 28- 29- 30- 31- 32- 33- 34- 35- 36- 37- 38- 39- 40- 41- 42- 43- 44- 45- 46- 47- ألمقدمة ألمقدمة : في ظل هذه الظروف المأزومة, خرجت كوادر أقلام حُرّة أبيّة لا تخضع؛ مزلزلة أعظم من كُل الأسلحة النووية و الذرية! أقلامٌ كونيّةٌ تُسبح لله حين تكتب، و تذكر الله ذكرًا كثيرًا حين تُدافع عن المظلومين؛ و تنطق في زمن الصمت؛ و تُدافع عن المظلومين المستضعفين؛ تكتب ليس بحبراً على ورق بل بنوراً على الواح القلوب. إنها اقلام علويّة؛ بروح فاطميّة؛ بصولة و جولة حُسينية؛ بقوّة حيدريّة؛ بعلومٍ محمديّةٍ؛ بصبرٍ زينبيِةٍ؛ أقلامٌ رافعة أبصارها نحو العلا تستمد عِلمها من سحاب السماء؛ تسكب مُزن على الأرض الطيّبة، تكتب علماً عن ما كان و ما يكون. أقلامٌ تنصر الحقّ؛ و تهزم الباطل؛ أقلامٌ تشعّ نوراً؛ و تكتب زبوراً؛ و تنطق علماً نورانياً؛ روحانياً؛ عرفانياً فلسفياً؛ أقلام كونيّة تخط بمداد المدد؛ تغترف علمها من بحر زاخر تكتب على قلوب سليمة؛ تنبت أشجاراً طيبة أصلها في القلوب، و فرعها بسدرةٍ مُنتهى الفضاآت الربانيّة. في هذا الجزء(الثالث) من الكتاب, سنركز الكتابة على مأساة عظيمة ما زلنا نكتوي بنارها و شررها, وقعت بسبب الجّهل و التعصب أيضاً, لأنّ (كل شّر نتيجة الجهل) كما قلنا, و المشكلة أن بعض الشّر يستمر و له إمتدادات و لقرون و قرون! تلك المأساة العظيمة التي ما زلنا نكتوي بنارها, هي؛ حَرق الكتب و إعدامها, و آلله تعالى وصف الكِتاب كرمز و علم حدّ القسم, بقوله : [ذلك الكتاب] و إسم الأشارة [ذلك] جاءت للتعبير عن عظمة ما يليه, و لم يستخدم (هذا) الكتاب, لكننا نرى البعض يستهزء به, كأناس بمستوى (خلفاء) و (أمراء) المسلمين, و ما زال البعض ممّن يعاصرنا يُقدسون أؤلئك الذين إستهزؤا بآلكتاب بحرقه للأسف .. و ذلك أيضا بسبب الجهل و التيه! فكيف يسمح لنفسه إنسان؛ أنْ يُعظم شأن من حرق الكتب و المجلدات العلمية و الثقافيّة و التأريخيّة بتبريرات واهية واهمة, و كما حدث لمكتبات عظيمة لا يُمكن أن تُعوّض, و منها: (مكتبة بلاد فارس) بعد الفتح الأسلامي, والذي سيأتي ذكر تفاصيله على يد (سعد بن أبي وقاص) في صدر الأسلام, و هكذا عندما فتح (صلاح الدين) مصر, و أحرق المكتبة الفاطميّة و غيرها كثير سيأتي بيانها, لأن حرق الكُتب وإعدام الفكر و المفكرين أعظم رزية و محنة ما زلنا نعاني منها, و لها علاقة مباشرة بالثقافة. و بذلك فأن الأزمة التي تسببت بعد إحراق الكتب و تضليل الفكر و المعتقدات و فوقها (الولاية)؛ هي أزمة ثقافية و فكريّة و عقائدية بإمتياز, و تُمثّل حقاً أزمة العالم بأجمعه و ترتبط بشكل مباشر بأزمة الأنتربولوجيا و بدورها ترتبط بآلسياسة و التأريخ الذي هو الأصل, و التأريخ يبدء حين تنتهي السياسة! إذن أزمة العالم ثقافيّة و تنطلق من أزمة الأنتربولوجيا في الواقع الثقافي, أيّ بناء و معرفة الأنسان و كيفية التعامل معه خصوصاً من جانب الحقوق و التعامل المجتمعي: بعبارة أدق : أزمة الواقع الثقافيّ, هي أزمة الأنتربولوجيا في الواقع الأجتماعيّ الثقافيّ. وهي قصة حزينة و مؤلمة لها علاقة بمسألة القضاء و القدر من جانب و بآلتأريخ و بمحنة الأنسان و مستقبله على الأرض من جانب آخر, و لا بد من عرضها و لو إجمالاً بعد المُقدمة ألتالية, علّنا نتمكن من علاجها بآلمسائل ألممكنة ضمن النظريّة الفلسفية الكونيّة العزيزيّة, لكونها (ختام الفلسفة) : في القرن الثامن عشر، قال الفيلسوف الفرنسي ( فولتير)؛ [بمقدورنا إحداث ثورة في العقول بظرف سنتين الى ثلاثة لو وجدتُ بجانبي 5 أو 6 من الفلاسفة ومطبعة]. في إشارة منه الى أهميّة ثنائيّة؛ وجود (الفكر) و (النّشر), لإحداث تغيّير إيجابيّ في المجتمع. نحن اليوم في القرن الحادي والعشرين حيث مخرجات الثورة الصناعية المتطورة و الذكاء الصناعي و النانوي التكنولوجي، وما نتج عنها من تقنيات و برامجيات عالية الدّقة والسرعة؛ قد هيّأت مساحة كبيرة للنشر و لحرية التعبير و سرعة وصول المعلومة، بالإضافة الى ما يتوافر عليه العالم العربيّ و الإسلامي من مفكرين و كتاب و أدباء و شعراء ومثقفين. مع كل هذا لا تبدو مجتمعاتنا معافاة، بسبب ظروف و تحولات خطيرة مرّت على البلاد في العقدين الأولين لبداية القرن الحالي(الألفية الثالثة) بحيث تسببت بحالة المسخ و الأنحراف الأخلاقيّ, نتيجة إنتشار لقمة الحرام و معايير جديد للعدالة، لذلك نعتقد ظرورة دراسة الثقافة دراسة جديدة تأخذ بعين الإعتبار طبيعة المجتمع، و الطريقة التي يعيش بها المجتمع، من أجل الحفاظ على المنظومة الإجتماعية من الأذى الذي يراد لها بسبب سوء استخدام التقنية الرقمية ، والحرية الشخصية، وكثرة و سرعة النشر, و دور التفكير الحوسبيّ، و ظهور محتويات هابطة و تصريحات غير مسؤولة و قيم مؤدلجة، تمسّ المنظومة القيمية و الأخلاقية و الإنسانيّة والثقافيّة والدّينيّة بصورة عامّة. لقد شهد مثقفي و فكري العالم الحقيقيين .. (ألبيان الكونيّ لفلاسفة ألعالم لهذا العام 2025م): الذي ورد فيه مسائل مصيريّة طُرحت من قبل أسياد الفكر و أساطين العلم و الفلسفة من النّخبة المُميّزة, كما كلّ عام لهداية الطليعة المثقفة و الأعلاميين لنجاة الناس بنشر الفكر والوعي و آفاق المستقبل لتقليل الضرر و العنف والحروب والصراعات على الأقل بعد إختلاط الحقّ مع الباطل – و هي حالة مقززة ليس من السهل علاجه - و تمرّد الحكومات على حقوق الناس بلا خوف أو حياء, لأنّ فلسفة الحكم باتت للإغتناء و لضرب ألأموال و الرواتب والحصص حيث ما أمكن من قوت و دماء الفقراء للأسف, و كما شهدنا في ردود الفعل في الأنتفاضات الأخيرة و الثورات الدموية في بلادنا و التي راحت ضحيتها عشرات الآلاف من القتلة والجرحى و المعوقين, و فوقها تعلن الحكومة المسيطرة بقوة النار و السلاح على الشعب .. تعلن بأنّ ما حدث من مواجهات و ضحايا كانت بسبب طرف ثالث آخر غير معروف للكومة .. أرأيتم منطقاً إستكبارياً و مجرماً أخسّ و أقسى و أمرّ من هذا المنطق آلجبان!؟ فكيف لا تعرف حكومة تملك عدة ملايين من الجنود و الأستخبارت و الموظفين جهات تقتل بآلسلاح الحار شعباً أعزل خرج يتظاهر لردّ حقوقه و حرمة وطنه المسلوبة و حقوقه المنهوبة و في وسط عاصمته!؟ لذا سعينا و سهرنا و جاهدنا كثيراً للتمهيد إلى نشر مفاهيم آلعدالة آلتي تتطلب أوّل ما تتطلب: إتحاد المثقفيّن و الأعلاميين مع آلمفكرين وهكذا مع الفلاسفة العرفاء الذين يمثلون ألقيادة ألفكرية و آلرّوحية؛ لكونهم صمام الأمان لتحديد خارطة الطريق لمسار السلام و السعادة للعالم عبر (الهيئة العليا لفلاسفة ألأمم المتحدة) التي طرحناها في البيان الفلسفي الكوني .. و التي نأمل بتأسيسها عاجلاً, لترشيد أسس النظام العالميّ المنهار, و تحديد القوانين العادلة لإتمام المهمة الكونيّة - الأنسانية بأفضل وجه - لتلافي وقوع الظلم و الفوارق الطبقية لأنقاذ الناس من وطأة الحكومات و الأحزاب القائمة بجميع مسمّياتها لحصد الأموال و سرقة الأوطان! المشكلة هي أنه ليس بمقدور من يمتلك مُجرّد (شهادة جامعيّة) أو إنتماءاً حزبياً أو سياسيّاً أو حكومة مركزية؛ ليصبح رئيسا أو مسؤولاً أو حتى عضو برلمان أو وزير أو رئيس ناجح, حسب قناعاته و عقله الصغير طبقا لمصالحه الشخصية و الحزبية أو العشائرية بآلدرجة الأولى .. بل لا بُدّ و أنْ يكون الرئيس أو الوزير أو عضو البرلمان على قدر عال من الثقافة و صاحب ضمير و مثقف أكاديمياً و دينيّاً بإعتباره عرق دساس في وجود الأنسان و يتدخل في تقرير تفاصيل الحياة من حيث نشعر أو لا نشعر, و يا ليته – الرئيس والمسؤول والوزير - يكن مُفكرأً أو فيلسوفاً صاحب نظريّة كما أكّد أفلاطون و أرسطو في جمهورياتهم و غيرهم من الفلاسفة, و إلاّ فهو الفساد والجّهل بعينه و الذي سيبقى ينخر في بلادنا و يستمر لتدمير العالم لأنّ: [ألجّهل أصل كلّ شرّ و فساد] و كفى! فما يجري في بلادنا و العالم سببه الجّهل و قلّة الوعي إلى جانب فقدان التقوى, و الطامة الكبرى إلى جانب ما ذكرنا : هي أنّ الناس و في مقدمتهم أنصاف المثقفين يعتبرون كلّ مَنْ تخرّج من معهد أو جامعة أو حوزة : هو النزيه و الأمين و الكفوء القادر على تسنم المسؤوليات لإدارة المؤسسات و الحكومات! و في الحقيقة؛ من هنا .. من هذا المنطلق بآلذات يبدأ الفساد الأكبر , لأنّ الشهادة الأكاديمية في أدق تعريفها؛ هي لأجل معرفة إختصاص معين أو مهنة لأداء عمل مهني لأدامة الحياة و المعيشة من ورائها! أما سبب هذا التفكير الساذج و الشائع, و الذي أطّروه بمصطلح (التكنوقراطية) كحل وحيد للفساد؛ هو فقدان الفكر و الثراء المعرفي وحلول البساطة و الثراء الأبجدي بدل ذلك!! أما جذور هذه الثقافة السطحية و سببها هو؛ (عزوف الناس عن القراءة و الوعي, خصوصاً (بعد ما رأى "الناس" المُدّعين للعلم قد تركوا العمل بما علموا). و إن إنتشار الجّهل و الطبقيّة و الفوارق الحقوقيّة و الأمتيازات المغرضة يتزايد مع إستمرار تسلط الأشرار و الطواغيب على مقدّرات البلاد و آلعباد وتوسيع دائرة سلطانهم بآلمحاصصة و المشاركة و الوحدة, لأجل تقسيم المناصب و الأموال طبعا .. لا لأجل العدالة التي لم يعد الناس تعرف حقيقتها لأنهم تبرؤوا من عليّ و من نهجه,و أصبحوا يعملون لدفن ذلك الثراث العظيم و قد فعلو .. لتتفاقم الأحداث و الظلامات و تتعقد الحياة و تنتشر الفوضى و الحروب و العنف و الشقاء و التظاهرات و المواجهات الدامية .. ليواجه العالم أزمات حقيقيّة كما هو الحال اليوم, حيث تشير الأحصاآت إلى إنّ 200 مليون هربوا من 135 دولة بحثاً عن الدواء و الغذاء و العيش الآمن, مع وجود مليار من البشر يعيشون في خط الفقر نصفهم تحته! بينما خيرات الدّنيا الحالية تكفي لإشباع ثلاثة أضعاف نفوس العالم. ألحلّ الجذري لهذه المعضلة القائمة و المأزومة لها مخرج واحد هو: [نشر ألفكر و المعايير الفلسفيّة الكونيّة إلى جانب (الأصول ألإبراهيميّة العشرة) التي وردت في الكتب السماويّة الرئيسيّة الثلاث؛ القرآن و الإنجيل و التواراة كأساس لتحديد المناهج و القوانين العادلة المطلوبة عبر المنتديات الفكرية لتحقيق العدالة و المساواة بين الجميع, و لتلافي الحروب الطائفية و الطبقيّة و الأقتصادية]. و بغير ذلك؛ فإنّ الشّعوب ليس فقط لا تُحقّق ألحدّ الأدنى من فلسفة وجودها و سعادتها؛ بل ستُواجه المردودات السّلبية - العكسيّة و ألوان الشقاء و البلاء, و ممّا يزيد الطين بلّة هي المنابر التقليديّة و الأعلامية و المواقع الأهلية و الحكوميّة المحدودة و المأجورة من قبل المتسلطين, لخدمة أهدافها الشخصيّة و العائليّة و الحزبيّة و المذهبيّة الخاصة التي أدّت إلى تشويه قيم و وعيّ الناس, لينتقل العالم من وضع سيئ إلى أسوء, رغم تقدم الزمن و التطور التكنولوجي و النانوي والذكاء الصّناعي! فآلبيان الكونيّ لهذه السنة الميلاديّة2025م حثَّ على إيجاد المشتركات الدينيّة(الثلاث) التي يحلّ بطبيعتها الكثير من المشاكل الخلافيّة و يُغني العمل المشترك لمواجهات تيارات الإلحاد و الفساد و الطبقية, لأنّ آلدّين عِرقٌ حساس و عميق لا يتحرّر منه الانسان مهما تكالبت الظروف, و إن إلتقاء الدّيانات الإبراهيمية الثلاث و تمسكها لتطبيق(آلأصول العشرة) المشتركة سيغيير الحال نحو الأفضل. هذا .. و كما قلنا في حكمة كونية سابقة : [لا يمكن القضاء على الأرهاب و الأنتفاضات و المؤآمرات حتى لو إجتمعت كل جيوش العالم؛ ألعدالة وحدها تستطيع ذلك] .. لكن أين هي العدالة !؟ و قضيّة ألعدالة الكونية تكتمل جميع مراحلها و أشواطها؛ بإلتقاء (العقل) عبر الفلسفة الكونيّة العزيزية؛ مع (النقل) عبر الوصايا الإبراهيمية العشرة, فهي السبيل الوحيد لخلاص العالم من الظلم و الفساد و الطبقيّة .. للأطلاع على تفاصيل(البيان) الكوني عبر الرابط التالي: https://foulabook.com/ar/read/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%A8%D9%8A%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%A7%D8%B3%D9%81%D8%A9-%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%85-2025-%D8%A5%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%A1-%D9%84%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B6%D9%8A-%D9%88%D8%A2%D9%81%D8%A7%D9%82-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%A8%D9%84-pdf تحميل كتاب بيان الفلاسفة لعام 2025 - , وهو إستقراء للماضي وأفق المستقبل pdf تأليف عزيز حميد الخزرجي - فولة بوك تحميل البيان الكوني لسنة2025م مكتبة نور ألمدخل : ألمدخل : تأريخ محاربة ألفكر و حرق الكُتب في الأسلام: حكمة كونيّة : [إن أمّة كأمة الإسلام تُخرّب بلادها و مُدنها و تحرق مكتباتها لتصنع من جلود كُتبها النّعال و الأحذية و أغمدة السيوف, و كُتّابها ينشرحون و يُهلهلون و هم يكتبون و يقرّرون ما يرضي الحاكم؛[إجتمع الحاكم؛ تناول السلطان مأدبة تكريم؛ إجتمع الحاكم مع فلان الفلاني وصرح الرئيس فلان, و إلتقى فلان بفلان وو)] مثل هذا النمط التهريجي؛ حرّي أن تُذلّ و تُموّه الناس و تبقى الأوضاع للنهاية تحت وطأة الإستعمار]؟ وكان العرب قبل و بعد الرسالة الإسلاميّة و لقرون؛ يعتمدون على الحفظ و النقل الشفهيّ دون التدوين و القيد .. فمعظمهم كانوا عاطلين عن العمل و الأنتاج الحقيقيّ, يحصلون قوتهم بآلإغارة و القنص و أحفادهم إلى يومنا هذا يعتمدون على الرّواتب النفطية المجّانية في معظم مدننا و بلداننا!!؟ غير أنه ما إن إنصرم قرن و نصف على بعثة النبي محمد(ص) .. و ما إن آل الحكم إلى العباسيين حتى بدأت أولى بوادر الأهتمام بآلفكر و التدوين, لكن بشروط سلطانيّة و حزبيّة تتمّ تعينها من قبل الحكام و الأحزاب الحاكمة الرائجة و المتحاصصة, و في هذه الفترة تمّ تأسيس بيت الحِكم و خزانة المنصور فضلا عن المكتبات التي أنشأها المسلمون في الأندلس و غيرها, غير أنّ ذلك لم يأت إلّا متأخراً, أيّ بعد نضج المسلمين في التعامل مع ثقافة الآخر, أيّ ثقافة البلدان التي فتحوها, و أن مرحلة ما قبل حصول هذا الوعي للمسلمين, تميّزت بجرائم في حق ثقافة و ذاكرة باقي الشعوب التي دخلوا عليها فاتحين قاهرين. كانت بلاد فارس تزخر بحركة ثقافية و فكرية عظيمة جداً, كما إنبعثت فيها حضارات عريقة, إذ كانت تلك البلاد تتوفّر على مكتبات تظم من الكتب النفيس و الناذر في مصنفات الفلسفة و الطب و الفلك و غيرها , غير أن المسلمين ما إن إستوثق لهم الأمر و تحققت لهم الغلبة على أهل الدار حتى إصطدموا بتلك المكتبات العظيمة, فأشكل عليهم الأمر , إلّا أن يعرضوه على الخليفة عمر بن الخطاب , فبعث له قائد جيش المسلمين "سعد إبن أبي وقاص" مستفتياً الخليفة عمر ؛ [ماذا نفعل بهذه الكتب يا أمير المؤمنين؟]: فجاء جواب الخليفة عمر بن الخطاب كآلتالي : [إن يكن فيها من هدي , فقد هدانا الله إلى ما هو أهدى منه و إن يكن ضلال ؟ فقد كفانا الله تعالى شره , فإطرحوها في النهر أو إحرقوها]! و هكذا طرحوها في الماء .. فذهبت علوم الفرس التي كانت تمثل القمة وقتها! تلك العلوم التي لو كان العرب يستغلّونها, لكانوا آلآن يحكمون كل قارات الأرض! للمزيد: راجع مقدمة إبن خلدون, ص373. و يرجى إعتماد الطبعات القديمة للأطلاع على التفاصيل بدقة, لأنّ الطبعات الجديدة تم التلاعب بها من قبل المتعصبين حيث حذفوا تلك الفصول المتعلقة برسالة الخليفة عمر, ظناً منهم أنهم يُدافعون عن منهج و عقول خلفائهم من التسفيه و التخلف العقليّ . و هكذا أتلف المسلمون في دقائق أثمن مصدر للعِلم و الفن و الفلسفة, و أفسدوا أرقى المكتبات التي كانت موجودة و قتئذ في بلاد فارس فأضاعوا عن أنفسهم و عن غيرهم من الناس فرصة التعلم و الدّراسة و الحكمة و التقدم و الرّقي و جلّ علوم الأولائل, بلا أسف و بكل راحة بال!! أما في مصر, فهي الأخرى أصابت من الحضارات ما هو أعرق و أفخم من غيرها في بعض الوجوه, كما كانت فيها أعظم مدينة علميّة عرفها العصر الوسيط و هي مدينة الأسكندرية التي كانت تحتوي بين أسوارها علماء من طينة (إيراثوستينوس) و هو أوّل من حسب محيط كوكب الأرض في تأريخ البشرية, و من أوائل ممّن أقاموا دلائل عقليّة على كروية الأرض. ثم (أفلاطون) و (أفلوطين) الفيلسوفين الكبيرين, و (إقليدس) من أشهر علماء الرياضيات و المنطق في التاريخ و (باطليموس) صاحب كتاب الماجسطي و (هيباتيا) عالمة الرياضيات و الفلك و غيرهم من لَالئ الفكر و العلم في التأريخ , حيث كانت تجمع كتبهم و مصنفاتهم في مكتبة الإستكندرية التي كانت أنذاك أعظم مركز علميّ فوق كوكب الأرض, و كغيرها من البلاد القريبة من غزية العرب تعرّضت مصر و الأسكندرية للغزو العربيّ فدخلها المسلمون فاتحين .. لكن أي فتح!!؟ فما كان منهم كذلك .. إلّا أن يستفتوا الخليفة (عمر) في شأن المكتبة العظيمة التي وجدوها في الأسكندرية؛ (أَ يَبقون عليها أم يعدموها كغيرها؟)؟ إذ يذكر المؤرخ العربي المسلم المقريزي في كتابه (المواعظ و الأعتبار) في ذكر الخطط و الآثار, ج1 ص 195, و أكد الخبر من بعده كذلك؛ المؤرخ (جورجي زيدان) في الجزء الثالث من كتابه؛ [تأريخ التمدن الإسلامي]؛ ذكر أنّ (عمر بن الخطاب) أجاب عمرو بن العاص؛ بأنّ يتقدّم إلى المكتبة و يُحرقها و يتلف ما فيها من كتب و مخطوطات و ذلك ما حصل فعلاً و للأسف الشديد و بلا هوادة, حيث كانت تظم هذه المكتبة أكثر من 700,000 ألف مجلّد من مختلف أنواع المعرفة البشريّة ساعتئذ, و بذلك أقدم المسلمون على واحدة من أبشع و أكبر الجرائم الثقافيّة و الفكريّة التدميريّة في التأريخ الأسلاميّ بحقّ البشرية أجمع! إذْ إرتدّتْ الإسكندريّة إلى مدينة طقوس و أساطير و أطلال .. بعد أن كانت أعظم منارة للعلم و المعرفة قبل دخول العراقين ألمسلمين الغزاة إليها. و هكذا بداخل مصر, فقد كانت في القاهرة أحد أهمّ المكتبات المودودة أنذاك و هي مكتبة (القصر الكبير) التي أسسها (الحاكم بأمر الله الفاطميّ), حيث كانت تظم أكثر من 1,600.000 مليون و ستمئائة ألف كتاب مجلد, أي بمقدار أكثر من ضعفي مكتبة الأسكندية, و كان الدخول إليها و ألأستنساخ و الترجمة منها مجاناً, غير أنها تعرّضت هي الأخرى إلى النهب و التلف أيضاً, إثر الخلاف الذي نشب بين المسلمين من الجنود السّودانيين و الأتراك, إذ أُحرق الكثير من محتوياتها و هناك مَنْ يذكر أن بعضهم قد جعل من جلودها نعالاً له, و ما تبقى منها أجهز عليها حرقاً (صلاح الدين الأيوبيّ) الذي كان يقود جيش المسلمين, يوم دخل القاهرة ثمّ و بسبب إنتشار القحط و المجاعة في مصر في عامي 1348 – 1349م نتيجة إنشغال الناس بمثل تلك الحروب المعادية للفكر و الثقافة و العلماء؛ رَاحَ بعضهم يعرض (مجلداً) كاملاً للمقايضة على رغيف خبز ..! هكذا إنضافت (مكتبة القصر الكبير) إلى الكتب في التأريخ الإسلامي و كما تذكر ذلك؛ (زهراء حسن) ؛ [حرق الكتب في التأريخ الإسلاميّ ص 286م]. و في المغرب العربي أيضاً , تمّ حرق (مكتبة الغزالي) سنة 500 هـ, من طرف (يوسف إبن تاشفين) نظراً لأحتوائها على مصنّفات علم الكلام, الذي يُعادل الفلسفة في عصرنا هذا, و آلفلسفة لم تكن محبذة لدى المسلمين للأسف و للآن ينظر لها بنظرة الشك و الريبة و الزندقة! و لنفس السبب أحرق السلطان (محمود بن سبكتكين) مكتبة مدينة الرّي في بلاد فارس سنة 384هـ في هجوم غادر, و تَمّ إحراق مكتبة دار العلم للفقيه الشيعي (أبا عبد الله محمد بن نعمان), نظراً لاحتوائها على نسخة من قرآن (عبد الله بن مسعود) الذي ذكر فيها أسباب النزول و بعض الأحداث المتزامنة مع القضايا التأريخية و العقائدية التي وقعت كأسباب للنزول, أثناء خلافة الرسول(ص) و بخصوص الوصية الخاصة بوصيّه الأمام عليّ(ع), لأنها كانت تعارض نهج (الخلافة) الذي تمّ إبتداعه في سقيفة بني ساعدة من قبل المجموعة التي أرادت حكم الإسلام لأجل المال و السلطان و كما ثبت فيما بعد, و المؤلم أن قرآن بن مسعود كان يختلف عن نسخ قرآن عثمان بن عفان! ثمّ حرق المسلمون مرتين مكتبة ألعلامة (الطوسي) في بغداد التي أسسها (سابور إبن أردشير), نظراً لاحتوائها على قضايا تتعلق بآلامامة و الوصاية من بعد الرسول(ص), فهرب إثرها إلى مدينة النجف ليؤسس مكتبته و مدرسته الجديدة هناك! كما تمّ حرق مكتبة (قرطبة( في الأندلس التي أسسها المستنصر بآلله الأموي, إذ تم عزل كتب الطب و الفقه و ما تبقى من علوم المنطق و الفلسفة و الفكر بعد ما حصل إحراق جزء منه و رمي الجزء الآخر في آبار القصر , للتفاصيل راجع : (زهراء حسن؛ ص 284). من جانب الكُتّاب و المؤلفين فإنهم أيضا ذاقوا عذابات الإضطهاد و المحاصرة و الأعدام, إذ شهد (عبد السلام) الحفيد الأكبر للشيخ (أحمد إبن حنبل) حرق مكتبته الخاصّة بأمر قضائيّ من الفقهاء بعد أن وجدوا في مكتبته مؤلفاً لـ (أرسطو) و رسائل (أخوان الصفا), إلى جانب أهانته أمام عوام الناس, للتفاصيل, راجع؛ (أمير علي بيود, ص 235)! لقد تسبب عثور الخليفة على مجموعة من الكتب في الفلك و التنجيم عنده جرماً كبيراً , ما جعل الفقهاء يحكمون عليه بآلزندقة .. و لإذلاله نزعوا عمامته عن رأسه فداست عليها العامة تحقيراً لهُ, راجع ؛ (أمير علي بيود , الإسلام و العلم , ص 219)! ثمّ من بعده حرّض الفقهاء الخليفة على الفيلسوف و المؤرخ "الكندي" أوّل فيلسوف عربيّ ترجم الكثير من الكتب الرّومية , فأمر بحرق مكتبته, ثمّ ألاتيان به إلى أحد ساحات بغداد و كان رجلاً طاعن في السن بلغ عمره أنذاك 60 سنة, فتمّ جَلدهُ 50 جلدة أمام عوام الناس لأهتمامه بكتابة التأريخ و تدوين الأحاديث, للمزيد من التفاصيل, راجع؛ (أمير علي بيود, الأسلام و العلم ص210). أما في قرطبة فقد تمّ إذلال العالم ألشّارح (أبو الوليد إبن رشد), حيث تم صدّه عن الصلاة في المسجد, نظراً لتكفيره من طرف الفقهاء و وصفه بآلزنديق أيضاً! كما أمر الخليفة المنصور بحرق كتبه في باحة المسجد الأعظم بقرطبة و نفي (إبن رشد) خارج المدينة, راجع؛ (عابد الجابري, المثقفون في الحضارة العربية, ص145 فما فوق). هكذا إذن فإنّ المسلمين تأريخياً؛ إنتزعتهم نزعة تدمير المعرفة و الحقد على المفكرين و الفلاسفة و محاصرتهم و التضيق عليهم, خصوصا إذا ما برز أو ظهر منهم ما يخالف الدّين التقليدي المؤدلج الذي آمنوا به لعدم تطابقه مع وجهات نظرهم طبعأً, و لا نقول أن هذه النزعة قد خفّت أوارها الآن, بل لا زال حامياً إلى يومنا هذا, و كما نشهده كل يوم من خلال إغتيال المثقفين و المفكرين و الفلاسفة الذين يريدون تقويم مسيرةالناس عبر بيان الحقّ و كشف الخفايا و الأحداث التي تمّ تزويرها لصالح الحكام و بقائهم في الحكم! فإلى متى هذا الجنون و الحرب ضد الفكر و الثقافة و أهلها!؟ و إلى متى يبقى المتسلطون يحكمون و عملاء للدولار, يشحذون و بذلة أمام المستكبرين, بسبب الجهل و فقدان التقوى و الأيمان بآلله .. و أنتم أيضاً .. يا مَنْ تُسمّون أنفسكم بآلعلماء الفقهاء و الدّعاة وو!؟ فآلحرب و الاعدام ما زال قائماً بحق المثقفين و المفكرين والفلاسفة و لم تضع أوزارها ضدّ الفكر الثقافة و ما زال خصوصاً المفكريين الحقيقيين و الفلاسفة العرفاء متغربون و محاصرين حتى في اوطانهم, فهذا (محمد باقر الصدر) تمّ القصاص منه بآلأمس القريب بعد الأعلان على محاربته و تخوينه داخلياً و خارجياً و معه ثلة من المفكرين كقبضة الهدى و غيرهم كثير, حيث ثمّ محاصرتهم على كل صعيد من قبل مقربيهم و أجهزة السلطة البعثية وقتها و حتى الناس للأسف بسبب الخوف و الجهل المنتشر في العراق إلى يومنا هذا! إن محمد باقر الصدر كنموذج قيادي فذّ؛ قد برهن للعالم و لأقرانه آلفقهاء؛ بأنّ الأسلام ليس هذا المشاع بين الناس, و لا ينحصر على مجموعة أحكام عبادية و طقوس دينية شخصية و كفى ؛ بل الأسلام يُمثل ختام الرّسالات السماوية و كل جوانب الحياة الأخلاقية و الأقتصادية و الصناعية و الزراعية و السياسية إلى جانب الأحكام العبادية! فعندما أصدر كتبه في الأقتصاد و الفلسفة و السياسة و الأجتماعيات ؛ فقامت قيامة المُدّعين و المراجع الآخرين حتى كفّروه, بل و وشوا به للسلطان و شاركوا في قتله و إغتياله .. بدعوى أنه يريد تغيير دين و مذهب الشيعة و يخرجه من طوره و ما هو عليه!؟ و قد رفض مساومة الظالم الذي ركع أمام بيته صاغراً بكلّ معنى آلكلمة؛ عندما طلب منه الرئيس الصنم صدام من خلال وفد خاص برئاسة أحد أعضاء قيادته البعثية زيد حيدر؛ الذي طلب فقط كلمة تأئييد واحدة للنظام .. مقابل صك مفتوح و أمكانات هائلة و مدارس على مستوى العراق كله! لكنه قال لهم بكل شموخ و تحدٍّ و وضوح : طريقي غير طريقكم .. بينما غيره و لأجل دُنيا ذليلة ركعوا والهين أمام ذلك الطاغية الأجهل معلنين تأئيدهم .. بل و وقوفهم مع السلطان بآلروح و آلدم و بكل ذلة .. و هكذا فعل الصدر الثاني محمد صادق الصدر, و أدى موقفه الصلب إلى إغتياله و شهادته مع أبنائه البررة! و مضت الأيام و أخذ العراق و العراقيين نصيبهم من الذل و الحرب و الحصار بسبب خنوعهم و تركهم للجهاد, خصوصاً قادة الأحزاب الأسلاميّة و غيرهم من الذين إدّعوا بأنّهم يُوالون آل الصدر و يعملون تحت قيادتهم .. بينما ليس فقط لم يُناصره عضو واحد منهم أيام المحنة, بل لم يُقلدوه حتى في العبادات التقليديّة بل كان جميع الدعاة الذين إستشهدوا يقلدون السيد الخؤئي و مراجع تقليديون آخرين, بل لا أجانب الحقيقة أن الجميع تبرؤوا من آلدفاع عنه, ففي مظاهرة صفر لم يقف بجانبه سوى أنا و مجموعة لم تتجاوز الخمسين أو السّتين مجاهد معظمهم كانوا من العشائر و من بغداد ردّدوا هتافات مختصرة لساعة أو أكثر أمام داره ثم رحلوا, أما معظم دعاة اليوم فقد كانوا مرتزقة, حيث هرب بعضهم من قادسية صدام .. من الموت و ليس لنصرة نهجه أو نصرة الأسلام و آلحركة الأسلامية, لأنهم أساسا لم ينتموا له, و طلب اللجوء في بلاد أخرى ليعيش بأمان خارج العراق, أو تم تسفيرهم كأجانب لتبعيتهم الخارجية, و بآلتالي ليصبح اليوم مجرد مرتزق تحت يافطة الأنتماء للحركة الأسلامية و الحركة و الأسلام منهم براء ! و ما زال الأمر قائماً ؛ و إن اهل الدكاكين من الأحزاب التجارية و التيارات و المراجع المخلتفة: ترى أن أيّ تطور فكريّ مبدع أو نظريّة جديدة ؛ تؤثر على كسبهم و رواتبهم و إرتزاقهم و ربما تتسبب في إغلاق دكاكينهم ؛ لهذا و لمجرد سماع كلمة أو همسة معاديّة من فيلسوف أو مفكر ينتقد تصرفاتهم و نفاقهم و نهبهم و دجلهم ؛ سرعان ما يهبون و يحملون عليه لتطويقه و بآلتالي لتكفير ذلك المبدع أو المفكر و كما فعل أجدادهم عبر التأريخ حيث أشرنا لجوانب و أمثلة كثيرة و واضحة على ذلك في مقالات سابقة مشابهة. و ها نحن اليوم نواجه نفس المصير حين أشرنا بأن حزب مثل حزب الله أو حزب الدعوة أو منظمة أمل أو منظمة رمع أو لحد أو غيرهم من أمثالهم و هم كثر؛ إنما إتخذوا الأنتماء للدّين و الأسلام غطاءاً لجيوبهم ورواتبهم و وسيلة لأرتزاقهم لتأمين مصالحهم الآنية الدنيوية مُدّعين بغرور كاذب؛ (الدفاع و الجهاد لنصرة آلأسلام), بينما شهدنا علناً فسادهم الواضح,و تكاد لا تجد صفة واحدة من أخلاق و قيم الأسلام و التعامل الأيماني العملي في وجودهم, و من بعد يمكنك كشف دنائتهم و تكبرهم و لهوثهم وراء الرب الحقيقيّ الذي يوسوس في أعماقهم و هو (الدولار) الذي آمنوا به بكل ذلة كأتباع للفاسدين المتحاصصين, ليسرقوا معاً حتى الفقير الأعمى! لهذا ترى شعوبنا و منهم – المسلمون خاصة – و رغم أنهم يملكون المنابع و الخيرات الاقتصادية و الصناعية و الزراعية و المواد الخام المختلفة كآلنفط و المعادن و الزئبق و الأراضي الصالحة و الأنهار و المياة و المواقع المخلتفة : إلّا أنّ معظمهم تنابل و عاطلين عن العمل , يعيشون على الراتب النفطيّ هم و عوائلهم, و يستجدون و يشحذون على أعتاب بلاد "الكفر" حال ما وجدوا منفذاً و مخرجاً لإدامة و توسيع الإستجداء و الفساد و الظلم و السرقة. و السبب كما أشرنا لأنهم لا يكرهون ولا يعادون سوى الفكر و الفلسفة و الثقافة و العلم و الأدب الذي يوقظ الوعي و يبيّن الحقوق و الواجبات بلا فوارق و أفضليّة و طبقات و بآلتالي يحث الجميع على العمل و ألأبداع و آلأنتاج لأن الأيمان بآلله لا يظهر من خلال العمل و الأنتاج, لا التحايل و التبرير لكل عمل مشين, بعيدا عن الأعتراف بآلخطأ و الفساد الذي هو فضيلة بحد ذاته .. لهذا و لأنهم تنابل و أمّيون و تعلموا على الكذب و الدّجل؛ لا بد و ان يكونوا تابعين أذلاء على الدوام لسلطة الدولار و أهله .. دوماً على حساب التضحية بآلمقدسات و حقوق الفقراء, و لا يتغيير حالهم هذا حتى لو إستبدلت الف وجه و وجه و حكومة و حكومة عن طريق إقامة الانتخابات التي هي الأخرى مستهدفة و ليست نزيهه ..! نعم لا يتغيير شيئ أبداً .. ما لم يغييروا ما بأنفسهم من نفاق و مؤآمرات و دجل - يعني كل ثقافتهم و دينهم المؤدلج, لأن تكرار ذلك يعتبر أنتحار, بل هو الجنون بعينه. و تعريف الجنون: هو, [أن تفعل الشيئ مرّة بعد مرّة و تنتظر نتيجة مختلفة]. دور الفـكر الجديد لتغـيير العالم : دور الفـكر الجديد لتغـيير العالم : عبر نشر ثقافةُ الأدب و الأخلاق و ألفنون و الفلسفة لإنقاذ البشر من نير الأنظمة الدكتاتورية و الكبتوقراطية(حكومة اللصوص), و قد عرضنا تفاصيل الفكر الجديد عبر البيان الكوني لفلاسفة العالم لهذا العام 2025م. بعد إختلاط الأمور نتيجة السياسات الحكومية و الحزبية المؤدلجة, و تفاقم أوضاع الناس المعيشية و الأخلاقيّة و التربويّة و إنتشار الفساد و الفقر و العوز؛ لم يعد من السهل أحلال التغيير بإتجاه العدالة نتيجة ذلك, لكن العلوم خصوصاً الأنتربولجية و الأجتماعية و الدّينية و السياسية لها دور كبير في تشكيل ثقافة المجتمعات الحديثة التي تحتاج لفكر جديد يمتاز بأساس فلسفي مبرهن! تُشكّل العلوم و ألفنون و المهن : كفنّ الكتابة و الشِّعر و آلمُوسيقى؛ ألفنّ آلتشكيلي؛ ألنّحت؛ ألتّمثيل؛ ألزّخرفة آلمعماريّة؛ البناء؛ هندسة ألسّيارات و آلأجهزة و آلأثاث؛ تصميم ألملابس؛ ألدّيكورات و آلنّقوش؛ ألأبواب و آلشّبابيك؛ مداخل و واجهات ألعمارات و المدن؛ بناء آلبيوت و المدن؛ الكهرباء؛ تعمير السيارات؛ بحوث الفضاء؛ الذرة؛ تصميم الشوارع و الجسور؛ ألمكياج, و غيرها من آلفنون و العلوم إلى جانب الإلاهيات و آلعرفان الجسور الأمينة لبناء الفرد و المجتمع, و هذا يقودنا إلى مسألة تعيين إصالة الفرد و المجتمع؛ مظاهر أساسية من مظاهر الرقي و ألأبداع و ألجّمال و اللطافة لراحة و رفاهية و سعادة ألأنسان و المجتمع و لعلاج الكثير من الأمراض الرّوحيّة و آلنفسية و البدنيّة التي إنتشرت في عالم اليوم .. هذا لما لتلك آلفنون و الألوان و آلموسيقى و الفلسفة و العلوم و الألوان و الفنون من شحنات إيجابيّة و طاقة فعّالة و مُؤثّرة بشكلٍ مباشرٍ على سلامة الرّوح و النفس و ثقافة و فكر الأنسان, و آلتّنمية على صعيد زيادة الأنتاج الصناعي و الحيواني و الزّراعي .. و بآلتالي إضفاء ألصّفاء و السّعادة على الحياة. و يتناسب قوّة التأثير و تناغم تلك الطاقة المنبعة من الفنون و العلوم مع وجودنا المجتمعي بمقدار ألوعي و آلتفاعل و الأندماج مع روح و حقيقة و جماليات تلك الألوان و الأشكال و المواد لشفاء الأمراض و إضفاء أجواء السعادة لشفاء الروح و معاييرها التي تتبنّاها المنتديات الفكرية و الثقافية المنتشرة حول العالم منذ عقود! كما إن المنتديات خير مكان طبيعي للبحث و مناقشة السؤآل التأريخي الذي طالما كان أستاذي (عبد الخالق الركابي) و غيره يطرحه علينا أيام الدراسة الأعدادية بعد مُقدّمة مختصرة حول الفن و الجمال و النحت و الأدب و الصدق من دون جواب .. مفاد السؤآل هو: [هل الفنّ للفنّ .. أم الفنّ للناس] ؟ و بآلتالي : [هل الفكر لأهل آلفكر أم لعامة آلناس]؟ في الحقيقة هذه الجدلية حساسة و دقيقة و مؤثرة ترتبط بعمق الفكر الأنساني و ثقافته, فلو فرضنا بأن الفن لعامة الناس, فهنا يظهر إشكالاً يؤثر في نتائجه على قتل الأبداع و البقاء بمستوى العامة من دون إطراء أي تغيير نحو الأفضل, و هذا يؤذي بل لا يناسب أهل الفكر والطراز الفلسفيّ, لانه يبقى مقيداً بمراعاة مستوى الناس, مقابل التضحية بآلأبداع و التجديد, و هذا من شأنه قتل الأبداع أو شلّه على الأقل, لهذا قال سقراط الحكيم : [ويلٌ لمن سبق عقله زمانه], لأنه يسبق تفكير الناس و بآلتالي يتعرّض للأتهام و القتل على يد السلطان! و كذلك: .[[هل علاقة التكنولوجيا بآلفن و روح الأنسان؛ إيجابيّة أم سـلبيّة ؟ و السؤآل الأخير: هل يمكن دمج التفكير البشري مع تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي]؟ و ما هي العلاقة و التأثيرات المباشرة بعضها مع البعض!؟ و هل الذكاء الأصطناعي يؤثر و يتأثر بآلمجالات الفكرية و الأدبية؟ وغيرها من القضايا الكونيّة و الروائع الفكريّة الأنسانيّة الجديدة التي تُنوّر البصيرة لتكشف ليس قضايا الغيب فقط .. بل مدى أبعد من ذلك لمعرفة نهاية الكون و حقيقة الله آلخالق ؟ و في الحقيقية؛ تُعدّ (المنتديات و المقاهي الفكرية و الثقافية) من أفضل و أرقى الأماكن التي تطرح فيها الأسئلة(1) لمناقشـتها و الحصول على أجوبتها و نتائجها, لبيان دور الفكر و الفلسفة و ثقافة الفنون و الوعي في تحقيق سعادة المجتمع البشري الذي يعاني الأزمات و الحروب و الويلات بسبب الحكومات و الأحزاب الحاكمة التي تنشر الجهل بدل العلم والثقافة والفن للتسلط على الناس و هضم حقوقهم. و لا نخفيكم بأن فاعلية و تأثير المنتديات على الوعي(2) في أيّ مدينة أو دولة أو قارة حول العالم ؛ إنّما يتعلّق بمدى وعي المدراء و الجماعات المثقفة و العالمة التي تشارك في مدنها و دولها و قاراتها لقيمة و دور الثقافة ؟!؟ فهل أيها القارئ العزيز يوجد في مدينتكم أو جامعاتكم أو وزاراتكم منتدى للفكر يا أهل الفكر!؟ أم تنتظرون المزيد من تراكم آلآفات و المصائب و الفساد و التآمر بسبب الجهل و الظلم و الأسى عليكم و كما كان للآن و آلذي سيؤدي إلى إبتعاد الناس عن المطالعة للأسفّ, خصوصا حين يشهدون عزوف من علم عن العمل؟ ملاحظة: بدأ مختصون في وزارة التربية و التعليم الكندية مع بدء العطلة الصيفية - طبعاً لا يوجد عندهم (التربية) .. إنما فقط وزارة (التعليم) ؛ المهم بدأ مختصون في وزارة التعليم برنامجا لهذا الصيف تحت عنوان: [دورة تثقيفية لتحبيب القراءة لجذب طلاب المرحلة الأبتدائية و تشويقهم للقراءة و المطالعة] ؛ و نحن غير مقبول لدينا مثل هذا العنوان ليس لدى طلاب الأبتدائية و المتوسطة و الأعدادية فقط ؛ بل حتى لدى طلاب الجامعات ولا أجانب الحقيقة لو قلت؛ لدى أساتذة جامعاتنا في بلادنا العربيّة والإسلاميّة للأسف؟ .(1)لنتخلص من الأمية الفكرية أعتقد بأنّ [الأربعون سؤآل], هي أهم أسئلة الوجود التي علينا جوابها, ألمنتدى الفكري أو الثقافي أو... : يعني تجمّع ثقافيّ ؛ علميّ ؛ فكريّ, لمجموعة واعية من المحبين(2) للحياة و الجمال و الفن و التقدم و الأنسنة لهداية الناس و ترقيتهم فكرياً و روحياً و معرفياً عبر مناقشة و تبادل الخبرات على كل صعيد, كون الفكر هو الممثل الحقيقيّ الوحيد للأنسان السّوي الهادف, و ليس البدن(الجسد) المكوّن من الدّم و اللحم و الشَعر و العروق و الغدد و التي ستموت و تتفسخ و تستحيل .. بينما الفكر هو الناجي و الذي يبقى و يحمل الروح للتحليق في عالم الخلود للأب ألحكمة الفلسفيّة ذات ألرّمزية العالية ألّتي تختزل فلسفة نهجنا هي: ألأوّلى : [حوار ساعة مع فيلسوف(أو جماعة مُثقفة) يُغنيك عن دراسة 10 سنوات في آلجّامعة]. ألثّانية : [ رَحِمَ الله مَنْ تعلَّم و عَلَّم], و لا تتحقّق آلغاية إلّا من خلال إقامة المنتديات الفكريــّـــــة]. فقد ثبت بإنّ (المنتديات الفكريّة و الثقافية و الفلسفية) هي آلمكان الأمثل و ألأنسب و آلأكفل و الأفضل حتى من الجامعات و المعاهد, و لا يُمكن الإستغناء عنها و لجميع المراحل العمرية, لتسهيل نشر وبثّ الوعي المفقود و الفراغات المعرفية الضرورية للخلاص من الأميّة الفكريّة التي عمّت العالم و العراق بشكل خاص بسبب الحكومات و الأحزاب الجاهليّة التي توزّرت ثوب المعرفة و الفلاسفة والطهارة و الدعوة للخير و لخدمة الشعب والدّين و الوطن و العدالة, و الحمد لله قد سرّني خبر تبني الكثير من الجامعات المصرية لفكرة المنتديات حتى داخل جامعاتها و معاهدها, نتمنى أن يتحقق ذلك في العراق و باقي الدول العربية و العالمية! فتداول الموضوعات و إجراء الحوارات و لو ساعة في الأسبوع لا تحتاج لجهود و تكاليف و إمكانات كبيرة أو وسائل متعددة ولا حتى قابليات فكريّة واسعة؛ إلاّ أنّها بآلتأكيد و بكل بساطة تُحقق المطلوب عاجلاً أو آجلا بمرور الوقت و تلاقح الآراء الأيجابية لا الحزبية .. و هي ألخطوة ألأساسيّة الأولى الممكنة جدّاً لبناء ألقاعدة أو آلقواعد الثقافية و ألمعرفيّة و الفلسفية لبناء مجتمع سليم معافى و مسالم و مُحبّ لا تنطوي عليه مدّعيات الحاكمين و المتحزبين لسرقتهم! مجتمع خال من الفساد و آلغيبة و النفاق و آلتظاهر الكاذب بالأدب و الحياء ألمبني على الجهل .. مجتمع يرفض ألقاب و شهادات ورقيّة و ما أكثرها من جامعات أثبتت معظمها بأنّها مُجرّد واجهات شكليّة للحصول على الدرجات الوظيفية و آلتظاهر بعيداً عن الحق و آلقيم! إن تحقق برنامج ألمنتدى الفكري سيؤدي أيضا آلقضاء على آلظلم بعد محو الجّهل (ألأميّة الفكريّة لا ألأميّة الأبجديّة) أللذان أيّ (الجّهل و الظلم) وجهان لعملة واحدة, و أنا معكم بكون الأميّة الفكريّة التي ضربت أطنابها في العراق و الأمّة و حتى العالم و حوّلتهم لقطعان من البشر الماشية, يتحكم الطغاة بمصيرهم و لقمتهم؛ سواءاً كانوا بزي مناضل سياسيّ أو بزيّ دينيّ مُقدّس أو أي زيّ آخر, لأن النتيجة واحدة. ألمؤلم أنك تشهد حتى "المثقفين و الأدباء و الكثير من الكتاب" و لأسباب تتعلق بآلثقافة السائدة و بطبيعة المجتمع و العادات و بمناهج التربية و التعليم و سياسة (الطغاة) ألذين بيدهم منابع المال و آلقدرة؛ تشهدهم يُبلّغون و يُعمّقون و يقدسون الجّهل و تلكَ آلأميّة الفكريّة جهلاً و تجاهلاً خوفاً على مصدر رزقهم و معيشتهم أو طمعاً في المنصب و الجاه و الرّواتب الحرام من السلطان أو كسب تجارة للإثراء, لهذا لن تجد في ثقافتهم رغم تراكم الألوان و العبارات الرنانة و التزويقات أللفظية و آلأوزان المختلفة و آلتلميعات ألشهوانيّة و الشعريّة قصيدة معبرة بآلعمق عن الأنسان و الحياة و الوجود, كما قصائد الجواهري و بحر العلوم أو (الحلاج) الحسين بن منصور, أو (كوتة) الألماني, سوى النوادر من نتاجهم, فمعظمها تبهر العقول البسيطة و آلحواس الظاهرية نتيجة إكتساح التكنولوجيا لحياتهم, ممّا يسبب تعميق الجّهل و دفع الناس للتمسك بآلمظاهر و آلسطحيّة الرائجة بعيدا عن تبني الأسس الحضارية و قضايا الحبّ و العرفان الذي لم أرى شاعراً أو أديباً عربياً عرفَ حتى معناه الحقيقي الأكبر و الأشمل على نطاق الوجود! هذه الظاهرة التي بدأت تطفوا بمرور الزمن أمام الملأ؛ يُبيّن بوضوح ألفرق بين (العقل المنهجيّ الهادف و العقل المأجور الخامل) أو (العقل الفاعل و العقل المنفعل), لبيان آلحقائق بالقلب(ألضمير) و بالعقل(الباطن) بشكل خاص .. و الذي يحتم علينا معرفة الفرق بين الجانبين, أي بين العقل الباطن و بين العقل الظاهر, و يُبيّن أيضاً صفات ألمُثقف الكبير الهادف الذي يفهم جذور القضايا و فلسفة الحياة من خلال نهج الفلسفة الكونية العزيزية, إلى جانب الأولويات و الخطط الخمسية و دراسات الجدوى؛ يبيّن معنى و حقيقة الصّادق, و فلسفته, و كيف يتحقّق في وجود آلأنسان ليصل درجة الآدمية في مسعاه. يُبيّن معنى و خصوصية و فلسفة الصفة (ألبشرية) و فرقها عن (آلأنسانية) و هكذا عن ( الآدمية) و فرق و معيار و مميزات كل واحدة عن الأخرى. يُبين بعد تلك المعارف؛ كيفية نيل درجة الآدمية, و هل حقا يكون الآدمي بعدها مؤهلاً للخلافة الألهية !؟ يُبيّن كيف يمكن أن نتخطى و نُمحي الـ 33 صفة السّيئة التي حذرنا منها الباري بآلقرآن, و تبديلها بـ 33 صفة حسنة يكون الصدق أوّلها كمقدمات للأسفار إلى عالم الكمال و الصفاء و السلام. يبيّن كيف السبيل لقطع المسافات بين (المدن السبعة) بعد عبور محطاتها التي تبدأ بـ (الطلب) و تنتهي بـ (الفقر و الفناء), حسب تقريرات الشيخ العطار النيشابوري. يُبيّن لك كيف تصبح كـ (الحسين) مظلوماً وحيداً بلا صاحب و معين لتكون شهيدأً و تخلد للأبد بجوار المعشوق الذي لا يعرفه الناس و حتى الكثير من عباد الله .. إلا بآلظنون, أو كوهم في عقولهم! إتّباع منهجنا الكوني يُؤمّن لك قراءة واعية و فهم دقيق لحقيقة و أسرار الوجود, و لا ينالها إلّا ذو حظ عظيم. بإختصار بليغ: ألمنتدى ؛ مدرسة لتعليم آلحكمة, و لمعرفة الحقّ الذي به تعرف الرِّجال و ليس العكس, لئلا يتكرر الفساد, بل العكس ليتحقق الخير و السعادة, بإسلوب سلس و بسيط و مختصر و بأقل جهد. ذلك لأننا نؤمن بالفكر ألذي يبني الضمير(الوجدان) و هو الأصل في بصيرة الأنسان, و ليس البدن أو الشكل أو المنصب أو الحمايات بل العكس؛ لهذا جعلنا و الفلاسفة (ألفكر ألمُطعّم بالحبّ؛ هو المعيار في التّقيم للفوز بآلخلود, و باقي مكونات البدن(ألجسد) مجرد كتلة من آلدم و اللحم و العظم و العروق والشعر و الغدد, لذا يجب العناية و الحفاظ عليهما(العقل و القلب), مثلما نحافظ على صحة البدن و أكثر, و يتوجب حفظ و ليس قراءة فقط هذا الكتاب المنهجي الذي يُحدّد مستقبل البشرية التي تتّجه نحو الفناء بسبب المنهج الإستكباري الفاسد الذي يوجّه الناس نحو الضلال بواسطة الحكومات التي لا يهمّهما حتى فناء البشر سوى مصلحة مجموعة أحزاب و قبائل خاصة معروفة بخبثها عبر التأريخ, لذا أرجو ممن يريدون البقاء و الخلود للأبد إقامة ألمنتدى الفكري و تطبيق هذا المنهج و الله الموفق. في الحقيقة مع بداية الألفية الثالثة و التي عبرنا الربع الأول منها, و إصدار القواعد الأولية للمنتديات الفكرية و أهميتها لبعض الحدود بدأنا نلمس التقدم الملحوظ و إن كان خجولاً، والانفتاح الذي صار نحو الاتساع والوعي أكثر، فيما يتعلق بنشر الثقافة و أهميّة الفكر و بوادر لبيان الفرق بين (الدراسة الجامعيّة) و بين (قواعد الفكر و أصول الوعي) التي تفيدنا في إدارة الحياة و المجتمع و العائلة، لأن دورها يتحدد بتقويم المجتمعات و الأنسان و يبحث في أهمية إصالة المجتمع و إصالة الفرد و يحدد أيهما يتقدم على الأخر، إضافة إلى مشاركة الأفكار وتنوعها، و مخاطبة الناس بأطروحات تواكب النهضة الفكريّة والثقافيّة الحالية. وهذا فيما يختص بتولية المراكز والمختصين والاستشاريين في المنتديات الثقافية، والدورات التدريبية، وما يتخللها من طرح لمواد ثرية تُساهم في بناء الفكر المجتمعي المتقدّم، هذا الاتحاد التنموي هو ما تُقام له الجهود، وتُذلل له الصِعاب، لأننا بحاجة دائمة ومستمرة للنهضة الفكرية ومواكبة التطور الفكري والعالمي، الذي لابد آتٍ، والتماشي معه هو السبيل إلى الابتكار والتجديد والاتساع، وأخيرًا إلى الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أكثر تطورًا ونضجًا ومعرفة. ولمثل هذه المنتديات البنوية - الثقافيّة دور في تعزيز العلاقة بين أهل (الفكر المثقف و الواعي) و (الفئات الأخرى باختلافها)، هذه العلاقة هي التي تضع على عاتق المنتديات دور كبير و مهم في توجيه الوعي الإجتماعيّ و استنهاض القدرات الإنسانيّة نحو الانفتاح الفعّال والعمل المثمر الهادف. و ما يتم العمل عليه داخل هذه المنتديات من انتقاء الأكاديمي أو المثقف أو صاحب وعي وخبرة ليست بالخطوة الهينة إذ عليه ينطوي ما يتم تقديمه من مواد وفائدة يكرّس لها الجهود، وهذا هو الهدف الذي تتبلور عليه قيمة المنتديات والمؤتمرات الثقافية والفكرية التنموية. فتهيئة المناخ المُناسب و المكان الهادئ ألآمن و الثقافة و الفكر الرصين لهذه المؤتمرات من شأنه التركيز على الأهم و الأثمر و هو نشر الوعي وفتح مجال للحوارات العلميّة و الفكريّة التي تضم الخبرات والعقول باختلاف الأعمار و الأجناس و المناطق. فهي بيئة تحفّز على التسامح والتعاطي الثري والمرونة وتقبّل الآراء باختلافها، و هذا ما يدعو إلى بقاء هذه المنتديات بتحقيق أهدافها المقدسة. وما يحدث بعض حين من عرقلة لقيام المنتديات لا تتصل بالمعنى بل تأتي على ظاهرة تضع حداً للتقدّم المنشود، هذا العائق الذي قد لا يرى القيمة الكبرى بالتركيز على القشور، والتي صدقاً قد لا يُكترث لها في السياق العام للمعنى الثقافي والقيمة الفكرية الكبرى. فالنهوض الفكري المجتمعيّ في استمرار مثل هذه المنتديات يعطي حيوية و قوة و نشاطاً، لأنه يبث الطاقة والإستمرارية نحو التقدّم والدافعيّة للبذل و التجدد والمقدرة على حلّ المشكلات و توسيع الآفاق ومدّ جسور التواصل المعرفيّ والثقافيّ, لأجل التزاوج الحضاريّ البنّاء لجميع القارات و المجتمعات و الشعوب, بعيداً عن أساليب العنف و الحرب و حتى استخدام المال و التجارة لأجل ذلك, فآلخير الذي يعمّ سيشمل الجميع و لو في زمن آخر آت! هذا المدخل بآلاضافة إلى المقدمة الأصلية التي قدّمناها؛ عرضت إجمالاً العناوين الأساسيّة و الموضوعات التي وردت في الجزء الأول و الثاني من هذا البحث المنهجي الضروري لكل مثقف و مفكر, مع عرض الآفاق الكونيّة لدور التجمعات و المنتديات و المقاهي الفكريّة بشكل عام .. و في هذا الجزء(الثالث) و الأخير, سنركز بآلأضافة لتلك المقدمات على التحذير من حرق المكتبات و محاصرة الأفكار و التعصب الأعمى لفكر معيّن أو أعلان العداء للأفكار الأخرى التي يؤمن بها الآخرون لكونها لا تعجبك أو لا توافق هواك, فآلناس أحرار في آرائهم .. بل يجب أن يكون خطابك مع الأطراف الأخرى المخالفة كآلتالي: [أنا يا غريمي رغم خلافي معكَ(مَعهم), لكني على إستعداد أنْ أضحي لأجل عقيدتك, لكني لا أؤمن بها]. هذا التعامل الأيجابي من شأنه كسب المقابل حتى لو كان شديد التعصب و لا يودّك أو يحترم آرائك !!؟ فآلأساس الذي أكدنا عليه هو ؛ طرحنا لأصل المشكلة الأجتماعية المعاصرة و العناوين و كيفية إحلال الوعي و الهدف من وجودنا المشترك في هذه الحياة و قضايا أخرى بخصوص الزمكاني و المبادئ الأساسية. و عرضنا الغاية من هذا آلمنهج الكوني بإختصار شديد, بكونه لتسهيل نقل المعارف للقضاء على الأميّة الفكريّة. ليكون العضو مؤهلاً إلى درك (قانون) واحد هامّ يأمرك (آلعقل و آلغيب) إتّباعه بإتّفاق ألعقول الفاعلة لا المنفعلة و هو: و [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُـونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ][ألزُمر/9] و الحكمة الكونيّة ألّتي تؤطّر ما ورد أعلاه .. تقول بوضوح و بلاغة: .[حوار ساعة مع فيلسوف يُغنيك عن دراسة 10 سنوات في آلجّامعة] و كذلك: [رحم الله من تعلَّمَ و علَّم]. و حديث أجمل و أكفأ و أشمل هو ما ورد عن أئمة اهل البيت عن الرسول(ص): . [[إذا أردت الدّنيا فعليكم بآلعلم و إذا أردت الآخرة فعليكم بآلعلم و إذا أردتم الدّنيا و الآخرة فعليكم بآلعلم إن إقامة المنتديات الفكرية يساعد و يسهل الحوارات و بآلتالي عمليّة نقل المعارف و تبادل ألمعلومات؛ دون الحاجة لعناء و جهود و تكاليف كبيرة و كثيرة و إمكانات فكريّة واسعة, فإنها ببساطة ألخطوة ألأساسيّة الأولى الممكنة لتكون مفكراً و فيلسوفاً لبناء قاعدة بل قواعد معرفيّة لبناء الطبقة المثقفة و بآلتالي آلمجتمع السليم المعافى ألمُسالم و آلخالي من الفساد و التعصب عن طريق الفكر الكونيّ للقضاء: أوّلاً : - على الأميّة الفكريّة التي ضربت باطنابها العراق و الأمّة و حتى العالم و حوّلتهم لقطعان من البشر يتحكم بهم الطغاة .. حتى تعقد الأمر و بات "المثقفون و الأدباء" و خريجي الجامعات خصوصاً؛ هم مَنْ ينقلون و يشيعون آلأميّة الفكريّة خوفاً أو غباءاً أو طمعاً أو تجارة بعد إضافة تزويقات لفظية و عبارات شكليّة و أوزان جاهليّة و تلميعات شهوانيّة جاذبة للحواس لتعميق الجهل وآلفساد و دفع الناس إلى المزيد من الضياع و التيه, المشكلة أن الناس بل خريجي الجامعات يعتبرون أنفسهم مثقفين و الحال أنهم ليسوا كذلك, إنما إمتهنوا بعد تخرجهم عملاً معيناً لا أكثر. ثانياً: بناء الثلة المؤمنة المثقفة حقّاً بآلثقافة الأصيلة الشاملة المسندة للقواعد الفلسفية و الفقهية لأمرين: - لنشر المبادئ الكونيّة و الأسس العلمية و المبادئ الأخلاقية التي فقدها المجتمع بشكل رهيب, بحيث المدعي و المثقف و العالم فيه يتعامل معك على أساس الشك و الريبة و إنتهاز الفرصة كي يسخّرك لمآربه الشخصية و علوّ شأنه بعيداً عن الهدف المركزي المجهول أساساً! لتكون بمثابة الواسطة الأمينة بين المفكريين و الفلاسفة و عموم الناس لإيصال المعارف والأنتاج الفكري بين الطرفين, بل بين كل الأطراف . لذلك يجب و بقوة إقامة و تفعيل (المنتديات الفكرية) كلما أمكن حسب الخطوات التي أوردناها في الجزء الأول عبر الرابط الموجود نهاية الكتاب, و النتيجة المثلى تتحقق, حين يضم المنتدى- أي منتدى- أعضاء مختلفين في رؤآهم و عقائدهم. ليتم بحث القضايا المختلفة و المتخالفة أحياناً و التي تخصّ جوانب هامة من وجودنا و حياتنا المعنوية و الماديّة و الفكريّة و الروحية, لأن الحضور الفيزيكي مع آلميتافيزكي, أيّ (البايلوجي و السايكلوجي)؛ من شأنه تحقيق الأهداف بشكل كامل و فاعل و سريع نتيجة تبادل الأحساسات وآلأشارات والموجات الأيجابية مباشرة عن طريق النظر و الصوت و الصورة و الموجة فيما بين المُخاطب و آلمُخاطَب و كل الحضور في جو مفعم بآلمحبة و الأيجابية و تلقي البيانات اللطيفة و الحكمية بشكل أفضل يصل مفعولها لـ 90 % و أكثر و بآلتالي لتكون جزءاً فاعلاً من حركة الوجود الأيجابية, بينما عبر المقالات والمنشورات المكتوبة و الأجهزة الكومبيوترية لا تحقق في وجود القارئ سوى 5-10% من التأثير في أفضل الحالات لأنك في الحالة الأولى تتفاعل مباشرة مع الروح عبر الحواس, بينما في الحالة الثانية تتعامل مع المعلومات عبر الحديد الصلب و الذي ليس فقط قد لا يصدر لك طاقة إيجابية, بل طاقة سلبية, لأن الجهاز الخالي من الروح و الأحساس .. قد يضرّ بنا سايكلوجيا و بايلوجياً و كما دلت على ذلك البحوث العديدة التي أثبتت بتأثير الموجات الكهرومغناطيسية على الدماغ بشكل واضح من هنا فإن الواعيين من أهل القلوب الفاعلين ضمن حركة الوجود لا أهل العقول المنفعليين داخل أطر محدودة؛ هم وحدهم يدركون دور وأهمية المنتديات وسط الحضور الحي للجماعة الفاعلة من ذوي البصيرة .. للتخلص من الأميّة الفكريّة و حالة التسطح الفكري و آلتيه و الملل الروحي و النفسي و الكآبة ألتي سبّبتها الدواووين و الروايات و القصص و الوحدة التي إنتشرت في المجتمعات الغير المتجانسة, و التي تعمّقت مظاهرها الأنّية و بانت نتائجها حتى في جامعاتنا و حوزاتنا و عقول "مثقّفينا". إننا اليوم بأمسّ الحاجة و لو ساعة في الأسبوع يجمعنا مع الأهل و الأخوة والأصدقاء كجماعة متحدة و كعائلة متماسكة مُتحابيّن في الله الذي هو مظهر الجّمال و لولب العشق و آلحب الذي نجهله إو إختصرناه بعملية جنسية تنتهي في لحظات, و نسينا الله تعالى الذي حسبه الناس – معظم الناس إن لم نقل كلهم – مُجرد وهم مغمور لا حضور له في أوساطنا من خلال تعاليم دينه – خصوصا عند التعامل وتفاعل بعضنا مع البعض على المستوى المادي و المعنوي نتيجة تحجّر قلوبنا و تكورنا حول ذواتنا! إن الحضور الحيّ يفيد في تلاقح الأفكار و بناء الرؤية الكاملة و إنضاجها عبر المستويين .. ثمّ نشرها بين الأهل و الأقرباء و الأصدقاء على الأقل, هذا إنْ لم يكن ممكناً الأتصال مع الجميع عبر المنابر الأعلامية الفضائيّة و الأقمار الصناعية بهذا الوقت, لسيطرة اللوبيات و الحزبيات على مقاليدها و التي يديرها أناس فاقدين للنظرة الكونية الشاملة للأمور, إلى جانب عزوف الناس عن آلبحث و المطالعة و التفكير, و سترون كم يُؤثر هذا العمل ألأوجب من كلّ الواجبات على سعادة وأُلفة الناس و رقيّهم على كل صعيد, لذا و بكل تواضع أقدّم لكم يا عشاق الجّمال مبادئ المنتدى الفكريّ؛ آلثقافي؛ الوسطي؛ الكوني, سمّها ما شئت و كما تُحب .. لتسهيل إقامتها و العمل بمبادئها, و هي حصيلة تجربة عملية و روحية مريرة و حيّة خضناها على مدى عقود و عقود يوم لم يكن في أوساط شعوبنا سوى الثلة القليلة جدّاً ممّن يطمح في ذلك, إلى جانب التجارب التأريخية التي إطلعنا عليها بدقة كحركة اخوان الصفا أو الدعوة الأسلامية خلال الستينات, بل منذ أن [قرّر آلأنسان و لأوّل مرّة إلقاء كلمة بدلاً من حجر, كما يقول الفيلسوف (سيجموند فرويد) , لتبدء الحضارة الأنسانيّة بآلظهور و آلنّمو]. ألناس و بعد إنتشار النفاق و الكذب و الفساد الأخلاقي و الفكري و الرّوحي و السياسيّ و الأدبيّ و الأقتصاديّ و الفوارق الطبقيّة التي عمّت بلادنا و العالم خصوصاً العراق لسوء الوضع التعليمي و الطبي و التكنولوجي و العقائدي و الأقتصادي و الأداري و إزدياد جهل المتسلطين الذين همّهم الأول و الأخير هو؛ نشر الجهل ليسهل سرقة أموال الفقراء! لهذا لم يعد الناس يهمّهم العقائد و الوجدان و آلمصير .. حتى باتوا لا يقرؤون ولا يهتمون بآلفكر و العلم لضيق آفاقهم الفكرية و لجهلهم بعواقبها, همّهم الحصول على راتب "نفطي" كرتزق و عاطل عن العمل ولا شيئ آخر .. و هذا أخطر مصير يواجهه شعب أو أمّة .. و سيلحق آلجميع تبعاته و في المقدمة شعبنا العراقي ألمغبون الذي بات يشرف على الجنون بسبب السياسات الجاهلية و الفروق الطبقية و الأجتماعية, لهذا بدأ العدّ التنازلي واضحاً في كل شيئ بسبب آلهبوط الروحي و الضعف الفكري و الثقافي و الأدبي و الأخلاقي و الأيمان بآلغيب, و تفاقم الأمر أكثر فأكثر بعد تضيق الخناق على الفلاسفة و المفكريين رغم ندرتهم في هذا الورى و المشتكى لله و ذلك بفصلهم عن المجتمع, فتفرّق الشمل و أصبح الفاسد يحسب نفسه بمستوى المُثقف بل تابعا له, و أنصاف المثقفين بمستوى الفلاسفة و السياسي بمستوى العقائدي و هكذا إختلط الحابل بآلنابل. لكن رغم كل ذلك التخريب و المآسي؛ فأن هناك عظماء صرفوا حياتهم لخدمة الفكر رغم إنهم لاقوا الكثير الكثير من الأذى و الغربة و الضيم و الجوع, لأنّ نهجهم يخالف طبيقة الحكام و الأحزاب التي تمتهن العمل السياسي ليربح حياة مؤقتة و محدودة مع قليل من المال الذي سيُضيّعه في الحرام لأن منبعه الحرام, أو سيتركه إن بقي منه شيئا بعد وفاته مأسوفاً عليه,! لذلك سنقدم لكم حكمة مشتركة بين الفيلسوف الكوني و بين الأديب الفيلسوف شكسبير: [حكمة مشتركة بين : [(شكسبير) و (الفيلسوف الكونيّ)] حكمة مشتركة بين : [(شكسبير) و (الفيلسوف الكونيّ)] : أشرنا سابقاً بآلقول :[حشد العُقلاء أمرٌ معقد و شبه مستحيل كما عرضنا في الجزء الثاني, إلّا مع أهل القلوب لأنّهم وحدهم أهل الله, و لهم أهداف كونيّة عابرة لهذه الحياة المحدودة .. أما حشد القطيع فأمر سهل لا يحتاج إلا لِراعٍ و كلب]. لقد قمنا في الجزء الأول : بآلأضافة لما ذكرنا و بفضل الله السّعي لتجميع و صياغة مُقرّرات و مبادئ (المنتدى الفكري) و أبعاده و زمانه و مكانه و مناهجه العامة و توقيتاته و كيفيته, كي تكون نظاماً داخلياً أساسياً لتكوين و بناء الثلة المؤمنة المثقفة لهداية عامة الناس و تعريفهم بآلله و تعليمهم الأدب و آلحُب و التواضع و دور الثقافة لتغيير المجتمع رأسا على عقب, و هذا لا يكون إلّا بشرط زرع البذرة و القاعدة بتأسيس (المنتدى) قبل كلّ شيئ. و في الجزء الثاني كما إطّلعتم و شهدتم: عرضنا تأريخ التجمعات و المدارس الحديثة في بلادنا و العالم مع عرض الأسباب التي أدّت إلى تخلفنا و تقطيع أوصالنا و إستعمارنا بشكل مُقتضب. أمّا في هذا الجزء الثالث: فسنعرض شكل أفضل تأريخ محاربة الفكر و التجديد و حرق الكتب كأخطر ظاهرة مرّت على البشرية, لنكون مهيئين لفتح و إدارة المنتديات الفكريّة لقطع دابر الجهل و التخلف و الظلم و الأمراض و سيطرة الجهلاء من أتباع الشيطان على مقاليد حياتنا و الحكم إن شاء الله. وفي هذا الجزء (الثالث) أيضاً سنضع النقاط على الحروف لبيان كامل أهداف المنتدى الفكري التي لا تتحقق إلا بعد إيقاف نزيف الحرب ضد الفكر و حرق الكتب الممتدة عبر تأريخ هذا البشر الملعون, ليكون منهجاً كاملاً بإذن الله في كل المجتمع الأنساني في مجال بث الوعي و التصور الفلسفي للوجود و كشف الفساد الفكري و الأخلاقي و الحضاري و الديني أيضاً, و بآلتالي الوقوف بوجه محاربة المفكرين و المثقفين الذين ما زالوا يُحاصرون و يقتلون, كنهج لأستمرار محو من يكتب الكتب التي تحرق و المكتبات لإعدام الفكر و بآلتالي سهولة قيادة القطيع, و بذلك يتحقق برنامجنا الكوني في هداية الناس .. كل الناس بإذن الله للتمهيد إلى الظهور الكبير المرتقب! و بتحقق برنامج ألمنتدى الفكري سيؤدي حتماً إلى آلقضاء على آلظلم و الفوارق الطبقية التي كرستها الأحزاب الأمية بمختلف العناوين بعد محو الجّهل (ألأميّة الفكريّة لا ألأميّة الأبجديّة) أللذان أيّ (الجّهل و الظلم) وجهان لعملة واحدة, و أنا معكم بكون الأميّة الفكريّة التي ضربت اطنابها العراق و الأمّة العربية و الأسلامية و حتى العالم و حوّلتهم لقطعان من البشر الخانعين يتحكم الطغاة بمصيرهم و لقمتهم و كرامتهم سواءاً كانوا بزي مناضل سياسيّ أو بزيّ دينيّ مُقدّس لأن النتيجة واحدة. ألمؤلم أنك تشهد حتى "المثقفين و الأدباء و الكثير من الكُتاب و مدّعي الفكر" و لأسباب تتعلق بجذور آلثقافة السائدة في المجتمع و بمناهج التربية و التعليم و الوضع الأقتصادي و سياسة (الطغاة) ألذين بيدهم منابع المال و آلقدرة .. تشهدهم يُبلّغون و يُعمّقون الجهل و تلكَ آلأميّة الفكريّة جهلاً أو تجاهلاً خوفاً على مصدر معيشتهم أو طمعاً في المنصب و الجاه و الرواتب من السلطان أو كسب تجارة للإثراء, لهذا لن تجد في ثقافتهم رغم تراكم الألوان و العبارات الرنانة و التزويقات أللفظية و آلأوزان المختلفة و آلتلميعات ألشهوانيّة و الشعرية قصيدة معبرة بآلعمق عن الأنسان و الحياة و الوجود, كما قصائد الجواهري و بحر العلوم أو الحلاج أو كوتة الألماني, سوى النوادر من نتاجهم, فمعظمها تبهر العقول البسيطة و آلحواس الظاهرية, مما يسبب تعميق الجّهل و دفع الناس للتمسك بآلمظاهر و آلسطحيّة بعيدا عن تبني الأسس الحضارية و قضايا الحبّ الذي لم أرى شاعراً أو أديبا عربياً عرف معناه الحقيقي الأكبر و الأشمل! هذه الظاهرة التي بدأت تطفوا مع مرور الزمن أمام الأنظار؛ يُبيّن بوضوح ألفرق بين (العقل المنهجيّ الهادف و العقل المأجور الخامل) أو (العقل الفاعل و العقل المنفعل), لبيان آلحقائق بالقلب(ألضمير) و بالعقل(الباطن) بشكل خاص .. و الذي يحتم علينا معرفة الفرق بين الجانبين, أي بين العقل الباطن و بين العقل الظاهر, و يُبيّن أيضاً صفات ألمُثقف الكبير الهادف الذي يفهم جذور القضايا و فلسفة الحياة من خلال نهج الفلسفة الكونية العزيزية, إلى جانب دراسات الجدوى. يبيّن معنى و حقيقة الصّادق, و فلسفته, و كيف يتحقّق في وجود آلأنسان ليصل درجة الآدمية في مسعاه. يُبيّن معنى و خصوصية و فلسفة الصفة (ألبشرية) و فرقها عن (آلأنسانية) و هكذا عن ( الآدمية) و فرق و معيار و مميزات كل واحدة عن الأخرى. يُبين بعد تلك المعارف؛ كيفية نيل درجة الآدمية, و هل حقا يكون الآدمي بعدها مؤهلاً للخلافة الألهية ! ؟ يُبيّن كيف يمكن أن نتخطى و نُمحي الـ 33 صفة السّيئة التي حذرنا منها الباري بآلقرآن, و تبديلها بـ 33 صفة حسنة يكون الصدق أوّلها كمقدمات للأسفار إلى عالم الكمال و الصفاء و السلام! و عندها يكون المسؤول المُتّصف بآلكفاءة و النزاهة؛ قادراً على تحمل المسؤوليات, حتى و إن كان مسؤولاً على كلّ بلاد و أنظمة الأرض .. لا فقط مسؤولاً عن عائلةٍ أو مدرسةٍ أو دولةٍ أو مجموعة دول فقط, أما مع هذا الوضع المتشرذم؛ فأن كل قادة الأحزاب و رؤوساء حكومات العالم لو إجتمعوا و أصبح كل منهم ظهيراً للآخر؛ فأنه لا يزيد الوضع و حياة الناس و المجتمعات سوى التخلف و التناحر و الظلم و القتل والحرب. و في هذا الجزء كذلك و هو الأخير؛ سنعرض بإذن الله موضوعات متنوعة و شيقة لكنها مُتّحدة الأصل تهدف إلى التنمية الفكرية و الأعداد الروحيّ و العلميّ الجامع, و سيكون لذلك تأثير و أبعاد إيجابيّة عبر المنتديات و الجلسات الفكرية و الثقافية لأجل مستقبل البشر الذي لا بد و أن يتخلص مما هو فيه من أزمات و شقاء و جوع و فوارق طبقية, مع عرض خمسين أصلاً من مبادئ التعامل و الحكم لترشيد قيادة القائمين على هذا الأمر الاهم .. لتكون حافزاً و نهجاً للعشاق الطالبين الساعين لمعرفة حقائق و أسرار الوجود و كيفية تحقيق دورنا في رحلة الحياة هذه التي تزداد تعقيداً و غلظة و التي نحياها مرّة واحدة لتحقيق رسالتنا و غاية وجودنا بإذن الله. فتابعوا معنا هذا الأمر الأهم و الأكبر في حياتكم و وجودكم لأنّها تُحدّد مصيركم و آخرتكم, و عليكم أن تعلموا أنكم مهما حصلتم على المال و الجاه و القصور و آلشهادة المهنية و آلتخصصيّة الأكاديمية و حتى الحوزوية إلى جانب أنواع المهن و الأختصاصات الفنية و الهندسية و الطبية؛ فأنها لا يمكن أن تحقق الغاية المثلى التي أرادها الله لتتويج مسيرتكم و عاقبتكم دون ما أشرنا له آنفاً .. فإنتبهوا و واضبوا لتحقيق ذلك عبر تأسيس و إدارة المنتديات الفكرية حول العالم, و سنعرض لكم تأريخ و دور المنتديات الفكرية في العالم بإذن الله. تأريخ و دور المنتديات الفكريّة في العالم : تأريخ و دور المنتديات الفكريّة في العالم : يوجد حالياً أكثر من 500 منتدى و مركز و نادي ثقافي و مقهي لتداول أمور الفكر و الثقافة و الفن في العالم, و تختلف مستوياتها في الأداء و العمل, فمنها ما يحضره الأساتذة و الأدباء و المختصون, و يقدموا عروضا هامة لا يمكن الأستغناء عنها يفوق مستواها مستوى أكثر جامعات العالم مادة و معنى, فمعظمها تكون مدعمة بآلتجارب إضافة إلى النظرية, فيكون تأثيرها قوياً و سريعاً و مفيداً للغاية. لقد خلقَ الله الإنسان َ ، وبثَّ فيه الروح ، و زرع في فؤادهِ نزعة التسامي والكمال ، وفي نفسه رغبةً لتحقيقِ الذات ، وفي وجدانه حاجةَ اللقاء و الألفة, فالأشجار تنمو و تثمر بآلأتكاء على الأرض و الأنسان ينمو و يثمر بآلمحبة. ومنحهُ الله العقل ليربط بين هذه المزروعات ويجمعها مفيداً منها في شؤون حياته ومتطلبات معاشه، و كذا عاش على التوازن بينها سوياً و حيوياً و خلاّقاً. والإنسان السوي مُذْ وُجدَ في هذا الكون يسعى لإثبات وجوده مبدعاً وحيّاً جديراً بالحياة وهو يوجه الطبيعة بنواميسها, بآلخوض فيها ، والانتصار عليها و تسخيرها لبناء الحضارة التي هي معيار ترقيها. و ذلك الأنسان الذي عَلِمَ أنه خليفة الله على الأرض ، سعى الحصول على الأشياء، و تطويعها لصالحه ـ فأيقن بضرورة تعاونه مع نظرائه، و أدرك أنه بحاجةٍ ماسّةٍ إليه، و هكذا نما فيه حُب الإجتماع و الألفة, بل معنى الأنسان أصلاً جاء من الأنسنة و المؤآنسة، و قد اعترف بنقصه بآلمقابل فراحَ يكمله من تزاوج الأفكار و الرؤى ذات المعنى, و من الإعتراف وُلدت المعرفة, و لا ننسى بأن هناك الكثير للأسف من هذا البشر ممّن قفل على نفسه باب الرحمة التي هي المعرفة, فتراه لا يتواضع لكي يتعلم, لأن المتكبر لا يمكن أن يتعلم شيئاً, مثل الأرض العالية مهما أمطرت السماء عليه فأنّ الماء لا يستقر على سطحها, إنّما ينحدر من جوانبها لتستقر في المناطق الواطئة, و هكذا حال الأنسان المتكبر المتعالى على الفكر و المعرفة. فالحقائق ليست ملكاً لفردٍ واحدٍ في زمن واحد,بل يكون منقسماً بين الجميع، والتجمّع يُولّد التفكير عبر الحوار الهادئ، و يُنتج المعارف التي يُجمع عليها المجتمعون مُغمّسةً بالتجربةِ الجماعية، والممارسات الفردية، بعد الغوص في أعماق معانيها، والخلوص منها إلى فوائد، واستنتاج العبر والحكم فيها، فتتشكّل المعرفةُ الإنسانيّة بشكل مفيد و متكامل, و عندها يبدأ الناس بإحترام العلم و العلماء و الفلاسفة, و يتحذرون من أذيتهم و محاصرتهم و حرق كتبهم و عدم مدارسة مقالاتهم و أفكارهم, بل على العكس يقومون برعايتهم و تطبيق كلامهم و تقديمهم لقيادة المجتمع بدل سجنهم و قطع أرزاقهم و أرزاق عوائلهم و حتى إعدامهم و كما فعلوا مع كل الفلاسفة الهادفين عبر التأريخ و إلى الآن للأسف! و سنقدم لكم تأريخ حرق الفكر و المكتبات و محاصرة و قهر المفكرين و الفلاسفة, نتيجة الغباء البشري الذي ليس له حدود كما يقول آينشتاين؛[ شيئآن لا حدود لهما الكون وغباء الأنسان! ]. Albert Einstein: "Only two things are infinite, the universe and human stupidity, and I'm not sure about the former." لذا علينا أن نحاول ألإستزادة من المعارف كلما إستطعنا لملء وجودنا و فكرنا بآلنور و المحبة و التفكير, و تدريب العقل على التفكير لأنها هي عين الثقافة .. لأن قيمة التعليم الجامعي ليست في معرفة أكبر قدر من المعلومات و الحقائق, بل في تدريب العقل على التفكير. تخريب الآثار وإحراق المكتبات عبر آلتاريخ تخريب الآثار وإحراق المكتبات عبر آلتاريخ ظلت ظاهرة تخريب المآثر التاريخية وإحراق الكتب ترافق الأمم القديمة لأسباب مختلفة ومتنوعة، قبل أن يتم إنكار ذلك بعد إدراك أهمية ما تحمله الكتب والمآثر من تفاصيل وتاريخ عن الأمم الغابرة، حيث تبقى شاهدة على هذه الحضارة أو تلك. في هذا المقال، يُطرح سؤآلاً محدّدا، تهمّ ليس فقط مستقبل بلادنا بل العالم أجمع عن سبب الظلم ؛ محاولين الحصول على جواب جامع و غني عبر سرد معطيات تاريخيّة، و آلسؤآل هو : لماذا آلظلم الذي هو سبب الإبتلاآت و الفوضى و المشاكل و الفساد منتشر في بلادنا و يزداد مع مرور الزمن, رغم تبديل الوجوه و الأنظمة و المناهج كل مرة بعد آلأنتخابات!؟ برأينا : ألجواب بشكل عام هو نتيجة الفوارق الطبقيّة و لقمة الحرام التي من طبيعتها الكونية مسخ النفوس و إماتة القلوب, و هذا ما حدث في العراق بآلضبط .. كما في أكثر إن لم نقل كل بلدان العالم, لأن الحُكم و السياسة؛ تجرف معها الطغيان و التسلط و التكبر الذي يدفع صاحبه بأمر من الشيطان للأستحواذ على حقوق الفقراء و الناس, فينتج عن ذلك المسخ و أبناء الحرام بشكل طبيعيّ كسنن كونيّة, لذلك تنهال المصائب و المظالم و الفساد و الفرقة .. ليس بين أبناء الوطن الواحد ؛ بل حتى بين أبناء العائلة الواحدة, و هذا ما يحدث في بلادنا و العالم بشكل جليّ . تدمير الحضارات و محاربة الفكر باسم الإسلام ما زال قائماً: تدمير الحضارات و محاربة الفكر باسم الإسلام ما زال قائماً: ظاهرة تخريب الآثار و محاربة الفكر و قتل المفكرين و إحراق المكتبات في تاريخ المسلمين لم تنتهي, بل لا أجانب الحقيقية لو قلت بأنّ تلك الأعمال و المواجهة و الحرب ضد الفكر و المفكرين ما زالت قائمة و تزداد مع تطور الحياة و الفكر و التكنولوجيا و العقل الحسابي, فهل ذلك نتائج لها أسباب؛ و ما هي تلك الأسباب!؟ دواعي كتابة هذا المقال؛ لا تنحصر بتدمير الآثار و المخطوطات و الفنون المعمارية فقط, رغم كونها سلوك نابع من ذهنية وتقاليد ممتدة لها جذور في ثقافتنا التي تقترب من ثقافة الغاب, حين تَعتبر الآثار القديمة السابقة على الفترة الإسلامية غير ذات أهمية، ما يفسر اللامبالاة العامة بأعمال التخريب. وحتى يتم وضع حدّ لهذا السلوك الخطير وكذا لعقلية الاستهانة بالآثار القديمة و محاربة الفكر و الفلاسفة؛ لا بدّ من القيام بحفريات في جذور هذه الذهنية الخطيرة وبواعثها. رغم أن العديد من البلدان قد عرفت في تاريخها هذه الظواهر السلبية نفسها، إلا أنها في الوقت الراهن تعتبر ذلك من أخطاء ماضيها، كما تُصنف اليوم ضمن أكبر الدول الراعية لمآثرها التاريخية ومكتباتها العظمى، ومثال ذلك الصين، فمن أكبر جرائم إحراق المكتبات في التاريخ القديم ما قام به الإمبراطور الصيني "شي هوانغ تي" في عام 212 قبل الميلاد، أيّ قبل 2200 سنة من اليوم، حين أعلن حرباً شعواء على الكتب القديمة فأتلف وأحرق مكتبات بكاملها كانت تضم مؤلفات في مختلف العلوم والفنون، ولم يكتف بذلك بل أقدم على مطاردة العلماء والأدباء في صحاري الصين وجبالها وغاباتها وتقتيلهم بشكل شنيع. بعد 2000 سنة من هذه الواقعة، تذكر المصادر التاريخية أن إمبراطورا آخر، وهو “كيان لونغ”، قام بجمع 79337 كتابا ومخطوطة نادرة بحجة تأليف موسوعة شاملة لكنه أضرم فيها النار في 11 يونيو 1778م. ورغم أن إحراق المكتبات في الصين استمر إلى حدود الثورة الثقافية الأخيرة مع ماوتسي تونغ؛ إلا أنّ الصين اليوم وهي على ما هي عليه من مجد وقوة وازدهار، تفخر بمكتباتها العظمى في مختلف مدنها. الشيء نفسه يقال عن ألمانيا و روسيا وإسبانيا وإنجلترا وغيرها، التي عرفت في تاريخها الكثير من جرائم إتلاف الآثار و إحراق الكتب، لكنها اليوم من أعظم من يرعى الكتب والآثار بدقة وعناية فائقة، ولا أحد يتصور أن تعود هذه البلدان إلى اقتراف أخطاء الماضي. و يحكي المؤرخون الغربيون عن العديد من الأعمال التخريبية الوحشية التي أقدم عليها الأوروبيون قبل 500 سنة خلال اكتشافهم للقارة الأمريكية، عندما قاموا بتحريض من رجل الدين (دييكو دي لاندا) (Diego de landa) بإحراق الكثير من وثائق ومخطوطات حضارة “المايا” باعتبارها آثارا وثنية، وقد كتب هذا الأسقف مذكراته شارحاً ما أقدم عليه بقوله: "لقد وجدنا العديد من الكتب مع هذه الرسائل، وبسبب احتوائها على أمور من الخرافات وخداع الشيطان، فقد عمدنا إلى إحراقها". أما في بلاد المسلمين فثمة منطق مغاير تماما، خاصيته الأولى أنه لا يعترف بالزمن و التاريخ، بل يعلو عليهما كما سنرى، حيث ظل المسلمون في بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط يعانون إلى اليوم من استمرار هذه الآفات بمنطقها القديم نفسه. وحتى عندما تتنبه الدول والحكومات في هذه المنطقة إلى أهمية الآثار والمكتبات وتضع سياسات لرعايتها، فإن الكثير من مكونات مجتمعاتها ما زال يسيطر عليها الجهل وتحكمها بنيات التخلف الكبير والمتجذر. لكن المشكلة لا تنتهي بمعرفة تأريخ تلك المحنة الكبيرة .. و الكبيرة جداً ؛ بل ما يؤلمنا أكثر من ذلك .. هو إن محاربة الفكر و الكتاب ؛ ما زال قائماً , لكنها تتخذ أشكالاً أخر و سياسات شيطانية غير معلنة, الهدف منها إبقاء الناس في الجهل, و السعي لتجديد و إدامة تلك المحنة, بدوافع عشائرية و قومية و مصالح مادية, فقد عشت هذه الأرهاصات في عدة حقب زمنية و بظل حكومات جاهلية خلال النصف الأخير من القرن الماضي العشرين و حتى بدء الألفة الثالثة التي نعيش فيها و عبرنا ربع قرن منها بنفس تلك السياسات, بل جادلت الكثيرين ممن حكم من وزراء و نواب و حكام, و قلت لهم : [لا فرق بين الأنظمة و الحكومات التي مرت حاربت الفكر و الكتاب .. و بينكم] لأنكم يسعون لهدف واحد هو الأغتناء و حصر الحكم في دوائركم و أحزابهم التي لا تقل خطورة عن أحزاب الجاهلية التي كانت تهدف لنفس أهدافكم مع إختلاف الصيغ و السياسات بهذا الشأن! بينما الأسلام الذي تدعونه و تتعبدون بقوانيه يخالف ذلك بشدة و يعتبره بمثابة الكفر و النفاق , و يكفي أن نعرف بأن الرسول (ص), صرح بحديث عظيم حول مكانة المعرفة بقوله : [قيّدوا العلم بآلكتابة], يعني ليس فقط التأكيد على معرفة القرآن و الحديث و العلوم .. بل و كتابته كي تكون وثيقة و مصدر للأجيال من أجل بناء حضارة و دولة أنسانية يحكمها العدل لا الفوارق الطبقية و القومية و الحزبية و كما هو السائد اليوم في بلادنا بشكل مقرف و ظالم ! تلك كانت هي الثقافة السائدة بشأن التعامل مع القرآن و الحديث و العلم و التجديد بعد الأجتهاد و المعارف و المكتبات عموماً و للأسف, فما هي حقيقة و دواعي تلك المحنة و مضارها و تأثيراتها السلبية و المدمرة الممتدة لليوم و على المستقبل!؟ بداية محنة الكتابة والتدوين عند المسلمين: بداية محنة الكتابة والتدوين لدى المسلمين: عرف المسلمون في تاريخهم الكثير من الأحداث التي تم فيها تخريب آثار تاريخية عريقة، أو إحراق مكتبات كبيرة وشهيرة، وذلك لبواعث قبلية أو دينية بالدرجة الأولى و سياسية أحيانا، حيث استندوا في تلك الأعمال إلى رأي بعض خلفائهم من أتباع و طلاب الدّنيا، ثم بعض فقهائهم الذين اعتبروا دعوة الإسلام إلى هدم التماثيل دعوة (بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)، أيّ إنها دعوة مفتوحة دائما و ليست خاصة بمحاربة الوثنية في عهد الدعوة الأولى، كما اعتبروا ضرورة اتباع النموذج النبوي الذي تمّ فيه هدم التماثيل في مكة و كل أرجاء جزيرة العرب لمحاربة الديانات الوثنية القديمة، و من المعتمد في هذا التوجه ما ورد في "صحيحي" البخاري و مسلم من أحاديث تحثّ على معاداة التماثيل و الصور و كتابة الحديث, و هي تخالف نصوص القرآ، الكريم بكل وضوح و برهان، فقد روى مسلم عن عمرو بن عبسة أنه قال للنبي: [بأي شيء ‏أرسلك الله؟]. فأجاب: [أرسلني بصلة الأرحام، و كسر الأوثان، و أن يوحّد الله لا يشرَك ‏به شيئا]. وفي الكتاب نفسه أيضا [روى مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال : قال لي علي بن أبي طالب: ( أَ لَا أبعثكَ على ما بعثني به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟): أن لا تدع وثنًا إ لّا كسرته و لا صورة إلّا طمستها ولا قبراً إلا سوّيته]. هذا إضافة إلى مجموعة واسعة من أحاديث شبيهة تحرّم التصوير، و منها ما نُسب حتى إلى الرسول(ص) في صحيح البخاري من أنه قال: [أشد الناس عذابا يوم القيامة المصوّرون يُقال لهم أحيوا ما صنعتم)]. كما اعتبروا القرآن جامعاً مانعاً يغني عما سواه من الكتب، و هو ما أورده عليه ابن خلدون في مقدمته قائلا: [وقد نهى الشرعُ عن النظر في الكتب السّماوية غير القرآن]. و هو ما كان عليه اليهود و النصارى كذلك في سابق عهدهم، حيث كانوا يعتقدون بدورهم أنّ كلّ شيء موجود في الكتاب المقدس (التوراة والإنجيل)، و قد اعتمد المسيحيون النصيحة الموجهة للحواريين المكتوبة في النصف الأول من القرن الثالث الميلادي: [إذا كنت تريد أن تقرأ التاريخ فلديك (سفر الملوك) في العهد القديم، و إذا كنت تريد الاطلاع على الفلسفة فلديك (سفر الأنبياء)، و إذا كنت تريد قراءة الشعر فلديك (مزامير داوود)]. في الحقيقة لا أريد البحث في تفاصيل و مصادر ما ورد في تلك الأحاديث التي لا تتوافق ليس مع الشرع فقط, بل حتى مع العقل و المنطق السليم, ناهيك عن مصادرها التي لا يُمكن الأعتماد عليها 100% بسبب تدخل السلاطين في تقرير و جعل الكثير من الأحاديث و الروايات المفتعلة و منهم سمرة بن جندب الذي قلب الكثير من معاني الآيات و سبب نزولها بغير ما أنزل الله! لكن هناك إيراد و مأخذ كبير و من الأصل على خطأ معاداة الدِّين و القرآن للأعمار و الزخرفة و التصوير و البناء و فوقها الكتابة و تقرير النصوص, بل بآلعكس تماماً, حيث أكد القرآن الكريم على وجوب إعمار الأرض, بنص القرآن الذي قال: (هو الذي إستعمركم فيها), بل مجرّد حثّ آلقرآن على التفكير و التذكر ورد فيها آلآيات عشرات المرات إلى جانب إستخدام العقل و كتابة العِلم, بل جعل الله تعالى ألرِّجس على الذين لا يعقلون ؛ لا يتفكرون ؛ لا ينظرون ؛ لا يتأمّلون, إلى جانب قول الرسول في حديث متواتر و متفق عليه بشأن كتابة العِلم و الحديث, حين قال : [قيّدوا العِلم بآلكتابة]. و فوق ذلك إنّ أوّل آية نزلت هي (إقرأ), و مرادفاته الكثير. إضافة لذلك ؛ فأنّ الكتابة و الخرائط و التقارير في عصرنا هذا بات آلمعيار لوصف المثقف و المؤمن بآلحضارة و التقدم و التكنولوجيا و بدونها لا يمكن أن تستقيم الحياة و يتقدم الأنسان نحو الرقي و الحضارة! فكيف أورد البخاري و مسلم و غيرهما تلك الأحاديث المشينة و المخالفة لمنطق الحياة و لأهم أصل و أساس في الأسلام!؟ لذلك لا إعتبار لها و لا يُمكن قبولها أو أن تكون أصلاً قد صدرت من الرسول(ص) أو الوصيّ(ع) أو أي صحابي صالح منصف و شريف!؟ و ممّا رواه المؤرخون المسلمون بهذا الصّدد من مغالطات ما حدث في بداية عهد الخلفاء الثلاثة من أنّ هاجسهم و العرب المسلمين آنذاك كان (حماية القرآن) من المعتقدات والحضارات القديمة و الأحاديث النبوية التي قد تتداخل مع الآيات، ومن ثمّ كانت لديهم حساسية شديدة من "كتب القدماء" كما كانوا يسمونها, و الحال أن الله تعالى هو الذي أكدّ على حفظ القرآن من التلاعب و التغيير بقوله تعالى : [إنّا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون](الحجر/9), و يستحيل أن يأتي البشر آية مشابهة لآيات القرآن الكريم ولو أصبح بعضهم لبعض ظهيراً! وذكر مصطفى بن عبد الله، المعروف بـ"الحاجي خليفة"، في كتابه (كشف الظنون في أسامى الكتب والفنون)، أنّ [العرب في صدر الإسلام لخوفهم من تسلط العلوم الأجنبية على عقولهم كانوا يحرقون الكتب التي يعثرون عليها في البلاد التي يفتحونها], و هذا أيضا لو صحّ ؛ فأنه يدلل على مدى ضعف إيمان العرب و هشاشة دينهم. ولم يكن المسلمون الأوائل يشعرون بحساسية تجاه الكتب القديمة فقط بل و تجاه الكتابة والتدوين في حدّ ذاتهما, لهذا منع الخلفاء الأوائل كتابة الحديث و حتى القرآن منعاً باتاً كان مصير الفاعل هو القصاص! بحيث نسب الخلفاء الثلاثة و مَنْ كان يدور بفلكهم حديثاً يرفضه أبسط عقل و قلب مؤمن, مُدّعين بأنّهم نقلوا عنه (ص)؛ [إنّا أمّة أمّية لا نكتب و لا نحسب الشّهر], بينما القرآن أشار بكون الله تعالى قد جعل عدة الشهور إثنا عشر شهراً!!؟ وعجبي كبير جداً .. ذلك لو كنا لا نحسب و لا نكتب؛ فكيف يمكن أن نتقدم و نزدهر!؟ وهو ما فسره ابن تيمية هو الآخر ليزيد الطين بلّة - بقوله: [بُعث بلسانهم فكانوا أمّيين عامّة, ليست فيهم مزيّة عِلم و لا كتاب ولا غيره (…), فلم يكن لهم كتاب يقرؤونه منزَّل من عند الله كما لأهل الكتاب، و لا علوم قياسيّة مستنبطة كما للصابئة و نحوهم، و كان الخط فيهم قليلاً جدّاً]. فقد يجوز القول إنّ العرب الأوائل في صدر الإسلام كانوا يعتبرون التدوين و الكتابة فعلاً منافياً لثقافتهم، و لهذا نُسب إلى ابن عباس قوله: [إنّا لا نكتب العِلم ولا نُكتِّبَه]. وتبعاً لهذا نفهم ما ذكره (ابن سعد) في (الطبقات الكبرى): أنّ عمر بن الخطاب نفسه أحرق صُحُفا جُمعت فيها أحاديث الرّسول الصحيحة و بشكل مباشر، كما بعث إلى وُلاته في كلّ الأمصار يدعوهم إلى عدم جمع الأحاديث و تدوينها قائلا: [من كان عنده شيء فليمحُه], و هذا بإعتقادي كانت محاولات لمحو الأحاديث الصريحة التي وردت بشأن الإمامة و الخلافة و الولاية من بعده, كونه (ص) كان يوصي دائماً بتولي الأمام عليّ(ع) الخلافة من بعده, و حين لم تنتهي الأمور لتولي الأمام(ع), فبدأت المحاولات لسدّ هذا الباب بكل الطرق الممكنة فصدرت فتاوى تحريم الكتابة و نقل الحديث. و بسبب ذلك الخوف المفتعل على القرآن و الذي ما أنزل الله بها من سلطان؛ قام الخليفة الثالث (عثمان بن عفان) بإحراق عدّة نسخ مختلفة من القرآن، كما أوردت ذلك العديد من المصادر التاريخية، حتى يُوفّر للدولة الناشئة أساسا عقائديّاً مُوحداً، و يعود ذلك إلى اختلاف الناس في القراءآت بسبب إختلاف الروايات و في المعجم اللغوي، قال السيوطي: [اختلف الناس في قراءة القرآن، قال أنس بن مالك (رض): اجتمع القرّاء في زمن عثمان(رض) عنه من أذربيجان و أرمينية و الشام و العراق، و اختلفوا حتى كاد أن يكون بينهم فتنة، و سبب الخلاف حفظ كل منهم من مصاحف انتشرت في خلال ذلك في الآفاق كُتِبت عن الصحابة؛ كمصحف (ابن مسعود)، و مصحف (أُبي بن كعب)، و مصحف (عائشة) و غيره]. و جاء في (صحيح البخاري) بهذا الصدد: [...حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحفِ ردَّ عثمانُ الصحف إلى حفصة, و أرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا و أمر بما سواه من القرآن في كلّ صحيفة أو مصحف أن يُحرق]. غير أنه يبدو أنّ ما خشيه أبو بكر و عمر و عثمان وقع فعلا بعد ثمانين سنة فقط من وفاتهم، عندما قال (الضحاك) المفسر التابعيّ: [يأتي على الناس زمانٌ تكثرُ فيه الأحاديث حتى يبقى المصحف بغباره لا يُنظر فيه]. ويبدو أن هذا الخوف على القرآن من الكُتب قد إستمر عند جيل كامل من التابعين؛ فقد نسب إلى (عبد الله بن ذكوان)، المعروف بـ (أبي الزناد)، أنهُ قال: [كنا نقول لا نتّخذ كتاباً مع كتاب الله فمحوتُ كتبي]. غير أنّ إحراق النسخ المتعددة للمصاحف في عهد (عثمان) لم يمنع من استمرار وجودها إلى اليوم، كما تثبت ذلك الدراسات العلميّة المختبريّة لمخطوطات القرآن القديمة. [أنظر كتاب (مخطوطات القرآن) لمحمد ألمسيح]. إلّا أنّ المحنة الأكبر من كل ذلك التدمير و التزوير و الخلط و منع أقدس شيئ أمرنا به الله تعالى و في أول كلمة نزلت من السماء, هي محنة إعدام و حرق المكتبات بآلجملة بأمر من الخلفاء, فما هي أصل القصة!؟ حرق المكتبات والآثار القديمة مع الغزوات الإسلامية : حرق المكتبات والآثار القديمة مع الغزوات الإسلامية: إنّ مما رواه المؤرخون المسلمون أيضا – إضافة لما ذكرنا - هو ما أقدمت عليه جيوش المسلمين الغازيّة لبلدان فارس و شمال إفريقيا من تخريب للتماثيل و المعابد القديمة وحرق و أعدام للمكتبات، وخاصة منها؛ (مكتبات فارس) و (الهند)، و (مكتبة الإسكندرية) الشهيرة. يقول ابن خلدون في (المقدمة) متحدثاً عن إحراق خزائن الكتب ببلاد (فارس) بعد غزو مدينة (المدائن) العاصمة القديمة للساسانيين و مدينة (جنديسابور)، مُورداً جواب الخليفة (عمر بن الخطاب) على رسالة قائد جيوش العرب آنذاك (سعد بن أبي وقاص)، الذي سأله عمّا ينبغي عمله بـ(خزائن عظيمة من الكتب)؟ و كان جواب الخليفة حسب (ابن خلدون): [فكتب إليه عمر (أن اطرحوها في الماء، فإن يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله بأهدى منه، و إن يكن ضلالا فقد كفانا الله) فطرحوها في الماء أو في النار, و ذهبت علوم الفرس فيها عن أن تصل إلينا]. وقد أكد الخبر نفسه (حاجي خليفة) في كتابه المشار إليه آنفا، أثناء حديثه عن مؤلفات و كتب الحضارة الإسلامية، قائلا؛ [إن المسلمين أحرقوا ما وجدوا من كتب في فتوحات البلاد فطرحوها في الماء و في النار]. و مما ذكره المؤرخون المسلمون وغيرهم واقعة إحراق مكتبة الإسكندرية، عند غزو جيش العرب لمصر بقيادة عمرو بن العاص سنة 642 م، و إذا كانت هذه الواقعة قد تعرضت لتشكيك بعض المؤرخين في عصرنا إلا أنّ مؤرخين قدماء أوردوا خبرها بدون تحيّز أو مشاعر ذاتية. تجدر الإشارة قبل الحديث عن رواية المؤرخين المسلمين لهذه الواقعة, أنّ هذه المكتبة قد تعرّضت للإحراق مرّتين قبل الغزو العربي بقرون، حيث يروي المؤرخون إحراقها من طرف يوليوس قيصر، الإمبراطور الرّوماني الشهير، في عام 48 قبل الميلاد. و يبدو أن المكتبة ازدهرت من جديد ليدمرها إمبراطور متعصب للديانة المسيحيّة, هو الإمبراطور (تيودوزيوس الأول) عام 391 م، و كان التدمير و الإحراق فظيعاً لكل الآثار والمعابد القديمة بحيث قال عنه (كوستاف لوبون) : [و تعدُّ تلك الأعمال من أفظع ما عرفه التاريخ من أثر, يعبر عن عدم التسامح والهمجية]. وهذا ما جعل بعض المؤرخين اليوم .. يقولون ؛ (إن مكتبة الإسكندرية العظيمة لم تعد موجودة لحظة دخول العرب إلى مصر، و هو ما يصعب تصديقه إذا علمنا بأنّ الرهبان المسيحيين والأحبار اليهود و كذا مختلف الملل والنحل التي استوطنت مصر و تعايشت فيها منذ القديم، و خاصة السكان الأصليين الذين هم (القبط)، لم ينقطع إهتمامهم بالعلوم و الفلسفة و اللاهوت، و ورثوا الكثير عن أجدادهم الذين سبقوهم، و من ثمّ يصعب القول إن مكتبة الإسكندرية لم يعد لها أثر مطلقاً عند دخول العرب، و ذلك لتبرئة (عمرو بن العاص) والخليفة (عمر بن الخطاب) من تلك الحادثة، و إن كان من المنطقي القبول بفكرة أنّها لم تعُد في نفس ازدهارها الكبير في عصرها الذهبي السابق. و من بين المؤرخين الذين ذكروا واقعة (إحراق تلك المكتبة القديمة), نجد (عبد اللطيف البغدادي) من القرن السادس الهجري في رحلته إلى مصر التي دونها في كتابه؛ (الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر)، حيث كتب يقول واصفا أطلال المكتبة: [دار العلم التي بناها الإسكندر حين بنى مدينته، وفيها كانت خزانة الكتب التي أحرقها عمرو بن العاص بإذن عمر رضي الله عنه]. و قد تكرر الخبر نفسه عند مؤرخ آخر هو المؤرخ المصري (جمال الدين أبو الحسن القفطي)، حيث أورد قصّة أحد الحكماء الذي عاصر (عمرو بن العاص) و (غزو الإسكندرية)، والذي طلب من عمرو إعطاءه محتويات مكتبة الإسكندريّة من كتب و مخطوطات, لأنها حسب رأيه (لا نفع فيها للعرب), و كان جواب عمرو: [لا يمكنني أن آمر فيها بأمر إلا بعد استئذان أمير المؤمنين (عمر بن الخطاب)، و كتب إلى (عمر) و استأذنه ما الذي يصنع فيها، فورد عليه كتاب عمر يقول فيه: [و أمّا الكتب التي ذكرتها فإن كان فيها ما يُوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنه غنى، و إن كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة إليها، فتقدم بإعدامها]. و ورد الخبر نفسه عند (ابن العبري أبو الفرج بن هارون) في كتابه؛ (مختصر الدول) : [أن (عمرو بن العاص) أحرق مكتبة الإسكندريّة بعد أن إستأذن الخليفة عمر بن الخطاب. وقد ذكر (تقي الدّين المقريزى) الموضوع ذاته في كتابه: (المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار) بالصيغة نفسها، و ورد أيضا في كتاب؛ (الفهرست) لـ (ابن النديم)، دون أن ننسى ما ذكره (جورجي زيدان) بهذا الصدد في كتابه (تاريخ التمدن الإسلامي)! من خلال الاطلاع على مجمل النصوص التي وردت في هذه الوقائع المبكرة في تاريخ الإسلام، يتضح أن ثمّة عوامل عدّة ساعدت في انتشار ظاهرة تدمير الآثار وإحراق المكتبات و المصاحف، سواء من طرف جيوش الغزاة أو الحكام و الخلفاء أو الأفراد من فقهاء و عامة، و هذه الأسباب يمكن إجمالها في ما يلي: 1- أن العرب الأوائل كانوا (أعراباً) ليسوا بذوي ثقافة كتابية، كما لم تكن لهم في هذه الفترة تقاليد تداول الكتب وقراءتها أو كتابتها، بل إنهم اعتبروا أنّ كل الكتب باطلة لأنها منافسة للقرآن و مشوشة عليه. ومن ذلك الكتب السماوية نفسها كما ذكر (ابن خلدون) في قولته أعلاه. 2- أن غالبية العرب الذين كوّنوا جيوش غزو شمال إفريقيا أو بلاد فارس و الروم, لم يكونوا من الفئات المتحضرة بل من عامّة البدو والأعراب من أبناء الصحراء، الذين وصفهم ابن خلدون بقوله : [إذا تغلّبوا على أوطان أسرع إليها الخراب, و السبب في ذلك أنهم أمّة وحشية باستكمال عوائد التوحش و أسبابه فيهم, فصار لهم خلقاً و جبلةً]. 3- كما أشرنا؛ لعل السبب الأكبر و الأهم في منع كتابة الحديث و حتى القرآن و حرق المكتبات كان بسبب (السقيفة) التي تشكلت بدل نهج الولاية التي أقرّها الرسول(ص) ليتولى الأمام عليّ(ع) أمور المسلمين حسب الخطة التي رسمها الباري, لكن هذا البشر كعادته تدخل لتخريب ما أمر به الباري تعالى , فكان ما كان, و حدث ما حدث! و قد أضاف (إبن خلدون) في وصف جنود (عمرو بن العاص) الذين غزوا بلاد فارس و مصر بأنهم من (البدو القحّ) الذين لم تُهذّبهم الحضارة و المدنيّة و الأخلاق الإسلامية. ما يُفسّر أنّ إحراق المكتبات لا يبدو لهم عملا خطيراً أو جريمة نكراء، ما داموا لا يعرفون قيمتها و ما فيها. 4- أن ما حدث من تسلط على الكنائس والمآثر والمكتبات وإحراقها في الإسكندرية كان في الحملة الثانية لعمرو بن العاص على مصر، بعد أن نجح الروم في استرداد هذه المدينة من يد المسلمين، وإذا كان دخول المدينة في الحملة الأولى سلميا عن طريق الصلح فقد كان عكس ذلك في الحملة الثانية التي عرفت حرباً طاحنة و اقتحاما عنيفاً وانتقاماً نتجَ عنه قتل معظم أهل المدينة و القيام بإحراق المآثر و المعابد كما كان متداولاً آنذاك في الحروب و الغزوات. فقد ذكر (ابن عبد الحكم القرشي) في كتاب (فتوح مصر وأخبارها)؛ أن الخيانة هي سبب الاستيلاء على الإسكندرية خلال الغزوة الثانيّة لها من طرف جيش (عمرو بن العاص)، ما يُفسّر التقتيل و الإحراق اللذين تعرض لهما أهلها، وهو ما ذكره أهم و أقدم مؤرخ عاصر غزو العرب لمصر وهو (يوحنا النقيوسي) في كتابه (تاريخ مصر والعالم القديم) بقوله: [لم يدّخر (عمرو بن العاص) وسعاً لتحقيق هدفه و استخدام كل وسائل الحرب في عصره، كما يقتضي منطق الغزو لإخضاع البلد المطلوب، و ربما كان الحرق أو التهديد بالحرق أكثر وسائل عمرو بن العاص]. كما ذكر (ألفريد بتلر) في كتابه (فتح مصر) دخول العرب إلى الإسكندرية قائلا: [استولى عليها العرب بعد ‏قتال عنيف، فهدموا الحصون و أحرقوا السفن و خربوا الكنائس الباقية بها]. 4- وجود نزوع واضح لدى الغزاة إلى إبادة آثار من سبقهم إن كان يدلّ على عظمته وعلو مرتبته في الحضارة، و ذلك حتى لا يبقى قدوة للأجيال المقبلة. قال شعبان خليفة في كتابه؛ (مكتبة الإسكندرية الحريق والإحياء): [إن سلوك المنتصر في كل العصور بعد الانتصار العسكري أن يأخذ في تدمير فكر المهزوم حتى لا تقوم له قائمة بعد ذلك أبداً و يكون ذلك إمّا بإحراق و سحق الكتب و المكتبات أو نقل تلك الكتب إلى بلد المنتصر]. 5- من العوامل التي ساهمت في تخريب العرب المسلمين وإحراقهم للمكتبات القديمة أن جميع تلك المكتبات لم تكن تضم الكتب والمخطوطات فقط، بل كانت أيضا تضم معابد وثنية و أضرحة و أماكن للتأمل و العبادة، و هذا يُرجح واقعة الإحراق من طرف العرب الذين تعوّدوا خلال العقود الأولى للدّعوة الإسلاميّة و ما تلاها على هدم المعابد و الرموز الوثنية إلى جانب إعدام و حرق الكتب. 6- محاولة نفي إحراق مكتبة الإسكندرية وحدها و السكوت عن إحراق مكتبات أخرى؛ يجعل موقف بعض المؤرخين ضعيفاً, إذ لا مُبرّر لقيام العرب بإحراق مكتبات و ترك أخرى، حيث إن القاعدة التي نُسبت لـ (عمر بن الخطاب) تسري على كلّ المكتبات، و هذه القاعدة التي ذكرها (ابن خلدون) و كل المؤرخين الآخرين؛ هي إعتبار أنّ تلك الكتب (إن كان فيها ما يُوافق القرآن فهو يغني عنها، و إن كان فيها العكس فهي ضرر و خطر على الدِّين). لقد أكّد صاحب كتاب (كتب تُحترق)، تاريخ تدمير المكتبات (Livres en feu, Histoire de la( )destruction sans fin des bibliothèques) ، وهو لوسيان بولاسترون (Lucien )Polastron)، على قاعدة أساسية بعد دراسته الوافية لتاريخ إحراق المكتبات عبر التاريخ وهي قوله: [كان سقوط مدينة يعني تدمير مكتبتها أولاً]، وهنا يقصد جميع الغزاة من مختلف الأقوام والشعوب في التاريخ القديم. إحراق الكتب في عهد الأمويين: إحراق الكتب في عهد الأمويين: عرفت مرحلة الحكم الأموي اشتداد السلطة على معارضيها السياسيين من المفكرين الذين شرّعوا في طرح قضايا الحرية والقضاء والقدر، أمثال (معبد الجهني) و (غيلان الدمشقي) و(عمرو المقصوص) و (الحسن البصري) وآخرين، فعمدوا إلى اضطهادهم وإحراق ما بدأ يخلفه بعضهم من وثائق وأخبار و نظريات و رؤى مكتوبة، مع العلم أن تلك المرحلة لم تعرف بعد تدوينا مكثفا للنظريات والأفكار والمواقف المخالفة التي كانت تصورات جنينية ولم تكتمل بعد. و قد ذكر الزبير بن بكار القرشي في كتابه (الموفقيات) أن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان استحسن سنة 82 هجرية إحراق ابنه (سليمان بن عبد الملك) لكتاب يمدح أهل المدينة. وخشي الخليفة أن يطلع أهل الشام على الكتاب، الذي ألفه (أبان بن عثمان بن عفان)، حول (فضائل أهل المدينة)، و قال بوضوح ؛ (إنه لا حاجة له بكتاب “يُعَرِّف أهل الشام أمورا لا نريد أن يعرفوها). إحراق كتب الفقه و الرأي و الأدب والتاريخ و الفلسفة: بعد أن اطمأن المسلمون إلى حفظ القرآن من (كتب القدماء)، شرعوا في تدوين الأحاديث في وقت متأخر بقرن ونصف، أي في العصر العباسي، فصار ضحاياهم الجدد كتب الفقه وعلم الكلام والرأي، فظهر الفقهاء المتشدّدون في ضرورة استعمال “الحديث” والأخبار المُسندة والبعد عن الرأي والعقل. فكلما ظهر فقيه منفتح على اعتماد الرأي والعقل حاصروه وضيقوا عليه وأحرقوا كتبه حماية للأحاديث، باستثناء مرحلة المأمون التي انعكست فيها الآية بعد تأسيس “بيت الحكمة” وتبني السلطة لرأي المعتزلة فصار المضطهدون هم فقهاء الحديث، وشرعت السلطة العباسية في ملاحقتهم واضطهاد الفقهاء المقلدين وإحراق ما يُكتب عنهم من مخطوطات، ثم سرعان ما انقلبت الآية مرة أخرى بتبني الخليفة المتوكل لرأي الحنابلة فشرع في إحراق كتب المعتزلة والمتكلمين، وهكذا لم تنقطع ظاهرة إحراق الكتب بسبب الخلاف المذهبي. يقول (ناصر الخزيمي) في كتابه (حرق الكتب في التراث العربي): [في الفترات المبكرة من الإسلام استثني القرآن الكريم من هذا العداء، فدُوّن مصحف عثمان وأتلف ما عداه من المصاحف. ثم تطور الموقف، فاستثني تدوين السنة مع القرآن وكره ما عداه مثل كتب الرأي (الفقه) التي استثنيت فيما بعد… حتى شمل ذلك كتب الأدب والتاريخ واللغة]. ومن الخلفاء العباسيين المشهورين في مجال إعدام الكتب الخليفة العباسي المهدي. يقول ناصر الخزيمي: [اشتهر عن المهدي شدته على الزنادقة، حتى استحدث ما يسمى بـ (صاحب الزنادقة) فكان يمتحنهم و يحرق كتبهم]. حرائق المغرب و الأندلس : إذا كان المشرق قد عرف إحراق المكتبات وتدمير الآثار خلال الغزوات الدينية أو لعوامل سياسية، فإن المغرب والأندلس قد عرفا عمليات إحراق شهيرة لمؤلفات كبار الفلاسفة والأدباء والفقهاء بسبب التشدد الديني والمذهبي، وسعيا من الحكام إلى إرضاء العامة والفقهاء، ومن مشاهير ضحايا إحراق الكتب نجد ابن حزم وابن مَسرّة والغزالي وابن رشد ولسان الدين بن الخطيب وغيرهم. وتروي الكاتبة جانينا سافران في مقالها (سياسة إحراق الكتب في الأندلس) أن هذه البقعة الجغرافية شهدت ست مناسبات تجسد هذه الظاهرة؛ ففي القرون الثلاثة الرابع والخامس والسادس للهجرة عرف المغرب والأندلس ظاهرة إحراق الكتب والمكتبات بقرار من الحكام أنفسهم. وقد ذكر صاعد الأندلسي في كتابه “طبقات الأمم” إقدام الحاجب العامري (المنصور بن أبى عامر 938 – 1002م) على حرق الكتب استجابة لرغبة الفقهاء وضغوط الشارع، الذي كان الفقهاء قد عملوا على تهييجه ضد الفلاسفة والعلماء. وفي عهد “ملوك الطوائف” أمر المعتضد بن عبّاد حاكم إشبيلية (1042م 1069م) بإحراق كتب الإمام ابن حزم الظاهري. وفي عهد أمير دولة المرابطين علي بن يوسف بن تاشفين تم حرق كتب الإمام الغزالي، وخاصة كتابه (إحياء علوم الدين). وكذلك فعل ابنه تاشفين بن يوسف، وفي عهد يعقوب المنصور الموحّدي أحرقت كتب الفيلسوف ابن رشد. وقد اعتبروا جميعا عملهم ذاك داخلا في إطار (محاربة البدع) و(إحياء السنة). وهكذا عرفت الكتب محنة حقيقية في تلك المرحلة من تاريخ المغرب والأندلس. و قد تحول إحراق الكتب في بعض الفترات إلى ما يشبه الظاهرة التي تتكرر، وخاصة في عهد الموحدين، حيث كثر التشديد على ملاحقة المذاهب المخالفة، مما أشاع كراهية الفلسفة والمنطق وحتى بعض المذاهب الدينية الأخرى المغايرة لمذهب القوم، فنتج عن ذلك إحراق الكتب واضطهاد أهلها. يقول خالد السعيد في كتابه (الفقهاء والدهماء والنساء، في نقد التشدّد): [ومما يدعو للعجب أن العداء للفلسفة كان منبعه العوام لا الملوك والحكام، فملوك الأندلس وأمراؤها لم يلاحقوا الفلاسفة ولم يحرقوا كتبهم بغضا فيهم وإرهابا لهم، وإنما لجؤوا إلى ذلك توددا للعوام و تزلفا]. ومن المفارقات العجيبة أن افتخار المسلمين اليوم بالتراث الأندلسي يرجع بالدرجة الأولى إلى فضل المستشار الخاص للملك (ألفونسو) - الذي طرد العرب من الأندلس-و الذي أشار على ملكه بعدم حرق كتب المسلمين، باعتبارها تراثًا يحق للإسبان الاحتفاظ به، وقد توارث ملوك إسبانيا هذا الشعور بالواجب تجاه التراث الأندلسي، فحافظوا عليه إلى اليوم، وما زالوا يكتشفون المزيد منه بين الفينة والأخرى. إحراق صلاح الدِّين للمكتبات في مصر: رغم الصورة اللامعة التي رسمها المؤرخون والفقهاء لصلاح الدين الأيوبي بفضل انتصاراته العسكرية، إلا أن الكثير من المصادر التاريخية تروي عنه أمورا في غاية السلبية، منها ما أورده الباحثون حلمي النمنم وجابر عصفور ويوسف زيدان من قيامه بتدمير المكتبات الفاطمية في مصر سواء (دار العلم) الباهرة أو مكتبة القصر الكبير ومكتبة جامعة الأزهر، وذلك بهدف القضاء على الفكر الشيعي. وأورد العماد الأصفهانى، وهو من أقرب الناس إلى صلاح الدين، أنه أسند أمر تصفية هذه المكتبة إلى “بهاء الدين قراقوش”، وهو تركى ذو طبع غليظ عرف عنه احتقاره للكتب. وروى البعض أن جنود صلاح الدين كانوا ينزعون جلود الكتب ليصنعوا منها نعالا وأحذية لهم، وقد انبهر الكثير من المؤرخين بعظمة تلك المكتبة وكثرة نفائس الكتب التي ضمتها، ومنهم القلقشندي في كتابه (بح الأعشى) الذي ذكر مكتبة الفاطميين بمصر بقوله: [وكانت من أعظم الخزائن، وأكثرها جمعاً للكتب النفيسة من جميع العلوم، ولم تزل على ذلك إلى أن انقرضت دولتهم (أي الفاطميين)]. وقدّر شوشتري في كتابه “مختصر الثقافة الإسلامية” عدد مقتنيات المكتبة بثلاثة ملايين مجـلد، وأنـها كانـت أضـخم مكتـبة عرفهـا التـاريخ فـي ذلك العـصر. كما عبر البابا سلفستروس الثاني بروما سنة 999م عن انبهاره بمكتبة الفاطميين بمصر، وقال عنها متحسراً: “إنه لمن المعلوم تماماً أنه ليس ثمة أحد في روما له من المعرفة ما يؤهله لأن يعمل بواباً لتلك المكتبة. وأنّى لنا أن نُـعلم الناس ونحن فـي حاجة لمـن يُعلمنا، إن فاقـد الشيء لا يعطيه]. وفي الفترة الموالية لهذه الحقبة من التاريخ، يذكر المؤرخون قيام محمود الغزنوي في إطار حملاته على الهند التي استغرقت 25 عاما بهدم الكثير من المعابد وتماثيل الديانة الهندوسية والبوذية، كما أحرق السلطان مسعود الأول بن ملكشاه السلجوقي مكتبة ابن سينا بأصفهان بعد غزوه للمدينة سنة 1034م. وفي الفترة نفسها تعرضت مكتبة بني عمار، المسماة “دار العلم” بطرابلس الشام، للتخريب والإحراق من طرف الصليبيين سنة 1109، كما تعرضت مكتبة غزنة للتدمير من طرف علاء الدين حسين سنة 1151م.. وفي سنة 1256م اقتحم المغول قلعة “ألموت” وأحرقوا مكتبتها وقتلوا من بها من “الحشاشين”، كما دمر المغول (بيت الحكمة) مكتبة ببغداد العظيمة سنة 1258م. (نالاندا) مأساة أعظم جامعة في التاريخ القديم : لعل من أكبر المآسي التي عرفها تاريخ إحراق المكتبات وتدمير الآثار ما حدث لأقدم جامعة وأعظم المكتبات في التاريخ القديم، ألا وهي مكتبات جامعة “نالاندا” (Nalanda) بالهند، التي يعود إنشاؤها إلى القرن السابع قبل الميلاد، واستمرت كواحد من أكبر المراكز العلمية إلى حدود سنة 1193م حين قام بتدميرها وإحراقها جيش المسلمين بقيادة اختيار الدين محمد بن بختيار الخلجي، عند غزوه لولاية بيهار بالهند، و كانت عبارة عن 9 طوابق تضم أزيد من ستة ملايين كتاب و مخطوطة، إضافة إلى عدة معابد و قاعات للتأمل، وتستقبل عشرة آلاف طالب يأتون من الصين واليابان وإندونيسيا وكوريا و بلاد فارس وتركيا وغيرها، وكان يعمل بها ألفان من المدرسين، وقد ذكر أحد طلبتها الصينيين، وهو (سانغ تانغ)، في مذكراته، صعوبة التسجيل بها بسبب امتحاناتها العسيرة والصارمة. و يقول المؤرخون إن هذه الجامعة بمكتباتها المتعددة لم تقم لها قائمة بعد تحريقها و هدمها من طرف المسلمين، و وفق المؤرخ الهندي (دي سي أهير)، كان دمار هذا المركز العلمي والحضاري سببا رئيسيا في اندثار الفكر الهندي العلمي القديم في مجالات الرياضيات والفلك والكيمياء والتشريح. وقد انطمس ذكر هذه الجامعة وصارت أطلالا إلى أن اكتشف علماء الحفريات آثارها سنة 1860م. الإعدام (الشخصي) للكتب: ثمة ظاهرة أخرى عرفتها الثقافة الإسلامية وهي قيام بعض المؤلفين بإعدام كتبهم بأنفسهم في نهاية حياتهم، وذلك لسبب ديني بالأساس، أو لسبب نفسي، أو سياسي عند تضييق السلطات عليهم. والذين أحرقوا كتبهم أو أعدموها بطريقة من الطرق لسبب ديني عقائدي كانوا كثرا، حيث شعروا بالذنب من تلك المؤلفات التي وضعوها، وبالخوف من أن تضادّ الدين أو تخالفه في شيء ما. وممن روي عنهم ذلك سفيان الثوري، جاء في كتاب “الثقات” لمحمد بن حبان عن سفيان الثوري أنه “كان قد أوصى إلى عمار بن سيف-وكان ابن أخته-بكتبه ليمحوها ويدفنها”، وأنه قال: “ليت يدي قطعت من ها هنا بل من ها هنا ولم أكتب حرفاً”، وذلك خوفا من أن تكون الأحاديث التي نسبها للنبي غير صحيحة. وذكر البعض أيضا أنّ أبا سعيد السيرافي “أوصى ابنه أن يُطعم كتبه النار”. ومن هؤلاء أبو عمرو بن العلاء الذي قال عنه أبو عُبَيدة: (كانت كتبه التي كتب عن العرب الفصحاء قد ملأت بيتًا له إلى قريب من السقف، ثم إنه تنسَّك فأحرقها كلها). كما أنّ (داوود الطائي) ألقى بمكتبته كلها إلى البحر. ومما روي كذلك أن (أبا عمرو الكوفي) دعا بكتبه عند الموت فمحاها فسُئل عن ذلك، فقال: [أخشى أن يليها قوم يضعونها غير موضعها]. وهذا (أبو سليمان الداراني)، جمع كتبه في تنور و أشعل فيها النار ثم قال: [والله ما أحرقتك حتى كدت أحترق بك]. كانت السلطات أيضا تمارس العنف على الكتاب والمؤلفين بحسب مصالحها السياسية، لهذا كان منهم من أحرقوا كتبهم بأيديهم. و يحدثنا الكاتب (ناصر الخزيمي) في كتابه : (حرق الكتب في التراث العربي) : [عن سبعة و ثلاثين كاتباً أحرقوا كتبهم بأنفسهم، من بينهم الماوردي و الحافي و (سعيد بن جبير) و (أبو عمرو الكوفي) و (أبو حيان التوحيدي) و (القرطبي)، كما ذكر طرق إتلاف الكتب وحدّدها في أربع قائلا: [تعددت طرق إتلاف الكتب في تراثنا، إلا أنها لم تخرج عن أربع طرق معروفة ومعهودة وهي: (إتلاف الكتب بالحرق)، (إتلاف الكتب بالدفن)، (إتلاف الكتب بالغسل بالماء والإغراق)، (إتلاف الكتب بالتقطيع والتخريق)؟ وقد زاد من هذه الظاهرة حث العديد من الفقهاء على حرق الكتب المخالفة كما ورد في كتاب “الطرق الحكمية في السياسة الشرعية” لابن القيم الجوزية، حيث قال: [لا ضمان في تحريق الكتب المضلة وإحراقها]. وقد كان أبو حيان التوحيدي قبل ذلك قد أشار في رسالة إلى صديق عاتبه على إحراق كتبه مبرراً ما فعله بأنه [اقتدى في ذلك بأئمة أخذ بهديهم]. جرائم العثمانيين: لم يؤد اكتساح الأتراك العثمانيين لرقعة واسعة من أوروبا ثمّ الشرق الأوسط إلى شمال إفريقيا، (لم يؤد) فقط إلى اضطهاد شعوب كثيرة و جعلها تعيش في إذلال تام مع الإرهاب العسكري لـ(الانكشارية)، بل كانت الكتب و الآثار من بين ضحاياهم أيضاً، و من ذلك تدمير و نهب مكتبة القسطنطينية الكبرى بعد غزو المدينة من طرف (محمد الثاني بن مراد العثماني) سنة 1453م، كما قام العثمانيون أيضا بتخريب وحرق أكبر مكتبة بأوروبا بعد مكتبة الفاتيكان و هي مكتبة (كورفينوس) بهنغاريا التي تدعى أيضا (كورفينيا)، والتي تعدّ واحدة من عجائب عصر النهضة، حيث تعرضت للحرق و النهب من طرف جيوش الخلافة العثمانية - التركية سنة 1526م. كتأريخ .. لا كتوهين, يعتبر الاتراك بنظر الفرس قومية متعصبة و غبيّة و حاقدة و حاسدة, لهذا إعتبر الفرص بأن كل تركي يعادل حماراً واحداً, لكن ناصر الدين شاه, إنزعج من هذه المعادلة, و قال : [كل ألف تركي بحمار واحد]. و العهدة على الراوي و التأريخ و فعال الأقوام. . محاولات يائسة لهدم الأهرامات ! من أطرف ما ورد في المصادر التاريخية الإسلامية محاولة بعض الحكام هدم أهرامات مصر و”أبو الهول”، وهذا يناقض تماما ما ذهب إليه بعض الفقهاء المعاصرين عندما كتبوا في بياناتهم الموجهة ضد تنظيم “داعش” أو “الطالبان” بعد هدمهما للآثار قائلين إن هذه الآثار العظيمة ظلت قائمة رغم أن الصحابة الأوائل والخلفاء الذين تعاقبوا على الحكم لم يمسوها بسوء، وهو أمر غير صحيح، ليس فقط بالنظر إلى ما ورد في كتب المؤرخين المسلمين من وصف لتخريب المعابد القديمة والأوثان، بل وما ذكرته كذلك من محاولة بعض الحكام والخلفاء هدم الأهرامات الفرعونية بمصر، محاولات باءت جميعها بالفشل الذريع، بسبب عظمة تلك البنايات وصلابتها وقوة صمودها في وجه الزمن. يقول العلامة ابن خلدون في مقدمته ذاكرا محاولة الخليفة المأمون العباسي تخريب الهرم الأصغر: “وكذلك اتفق المأمون على هدم الأهرام التي بمصر، وجمع الفعلة لهدمها، فلم يحل بطائل، وشرعوا في نقبه فانتهوا إلى جو بين الحائط الظل وما بعده من الحيطان، وهنالك كان منتهى هدمهم. وهو إلى اليوم فيما يقال منفذ ظاهر، ويزعم الزاعمون أنه وجد ركازاً بين تلك الحيطان". ومن بين الذين ذكرهم التاريخ ضمن لائحة مَنْ حاولوا تخريب الأهرام (بهاء الدين قراقوش) الذي عينه صلاح الدين نائباً عنه على مصر، و تقول بعض الروايات إن قراقوش هذا قد نجح في هدم العديد من الأهرامات الصغيرة التي كانت في متناوله، و استعمل حجارتها في بناء قلعة القاهرة. يقول (عبد اللطيف البغدادي) في كتابه (الإفادة والاعتبار في الأمور و المشاهدات والحوادث المعاينة بأرض مصر)، واصفا هذه الأحداث: [في (بوصير) منها شيء كثير (أي الأهرامات)، و بعضها كبار و بعضها صغار و بعضها طين و لبن و أكثرها حجر و بعضها مدرّج و أكثرها مخروط أملس، قد كان منها بالجيزة عدد كثير لكنها صغار فهدمت في زمن (صلاح الدين يوسف بن أيوب)، على يدي قراقوش، و هو الذي بنى السور من الحجارة محيطاً بالفسطاط و القاهرة و ما بينهما و بالقلعة التي على المقطّم، و أخذ حجارة هذه الأهرام الصغار و بنى بها القناطر الموجودة اليوم بالجيزة]. بعد وفاة (صلاح الدِّين) حاول ابنه العزيز (عثمان بن يوسف) هدم الأهرامات، و لكنه رغم الإمكانيات التي وفرها و أعداد العمال الذين عبأهم لهذا العمل المشين، إلا أنه بعد ثمانية أشهر فشل في مهمته وأقلع عن الفكرة يائساً. يقول المؤرخ البغدادي واصفا ذلك في كتابه (الإفادة والاعتبار): [و كان الملك العزيز (عثمان بن يوسف) لمااستقل بعد أبيه، سوّل له جهلة أصحابه أن يهدم هذه الأهرام فبدأ بالصغير الأحمر وهو ثالثة الأثافي، فأخرج إليه الحلبية والنقابين والحجارين وجماعة من عظماء دولته وأمراء مملكته وأمرهم بهدمه و وكّلهم بخرابه فخيّموا عندها و حشروا عليها الرّجال و الصنَّاع و وفروا عليهم النفقات، و أقاموا نحو 8 أشهر بخيلهم و رجالهم يهدمون كل يوم بعد بذل الجهد و استفراغ الوسع الحجر و الحجرين، فلما طال ثواؤهم ونفدت نفقاتهم وتضاعف نصبهم و وهنت عظامهم و خارت قواهم، كفّوا محسورين مذمومين لم ينالوا بغية ولا بلغوا غاية، بل كانت غايتهم أن شوّهوا الهرم و أبانوا عن عجز و فشل]. و من الحكام الذين حاولوا كذلك هدم الأهرام محمد علي باشا حاكم مصر ما بين 1805 و 1848م، حيث أعطى أوامره إلى مهندس فرنسي يدعى لينان دي بلفون (Linant de Bellefonds) بهدم الهرم الأكبر، واستخدام أحجاره الضخمة لبناء قناطر جديدة. غير أن المهندس الفرنسي كان من الذكاء بحيث تحايل على الحاكم الغاشم بمساعدة من القنصل العام لفرنسا بمصر، واقترح عليه بدائل أخرى، وهكذا أنقذ الهرم الأكبر من التشويه. وما أن توفي محمد علي باشا سنة 1848م حتى عاد ابنه (الخديوي عباس حلمي الأول) إلى وهْم والده بهدم الأهرامات، فنادى على مهندس فرنسي آخر اسمه (موجيل) وخاطبه قائلا: [لا أدري ما الفائدة من وجود تلك الجبال من الصخور المرصوصة فوق بعضها، فاذهب واهدمها و استخدم حجارتها في إتمام بناء القناطر]، حسب ما أكده المؤرخ (شعيب عبد الفتاح). غير أن المهندس الفرنسي هذه المرة كان صريحاً مع الخديوي حيث أخبره بأنه لن يقبل أبداً أن يرتبط اسمه بهدم مآثر عظيمة كالأهرامات. هدم الآثار و إحراق المكتبات في الشرق الأوسط المعاصر: عرفت العربية السعودية الكثير من أعمال هدم الآثار عند بداية تأسيسها، فسواء تعلق الأمر بالحروب الدّينية الأولى التي أعلنها (آل سعود) خلال القرنين الثامن والتاسع عشر على سكان جزيرة العرب الذين اعتبروهم (كفارا)، أو ما حدث بعد ذلك من تدمير تدريجي للآثار القديمة بعد استتباب الحكم لهم خلال القرن العشرين، فيبدو أن ثقافة الأعراب ظلت متشبعة بنمط تدين بدوي يرفض الآثار القديمة ويعتبرها أوثانا تعبد. و هكذا لم يراع حكام السعودية خلال وضعهم لسياسة التعمير الجديدة لمكة معايير صيانة الآثار القديمة، ممّا أدى إلى هدم أقدم الآثار الإسلاميّة بمكة لبناء العمارات الشاهقة و توسيع الحرم، و هكذا تمّ هدم بيت أبي بكر، الخليفة الأول، و بناء فندق (هيلتون) مكانه، وتم هدم بيت خديجة بنت خويلد، زوجة النبي، وبناء مراحيض مكانه، وتوالت انتهاكات هدم الآثار الإسلامية القديمة دون أي اعتبار للانتقادات التي رافقت ذلك، سواء من داخل السعودية أو من خارجها، خاصة بعد أن أظهر ملوك السعودية اهتماما كبيرا بترميم آثار أجدادهم الأوائل بمنطقة “الدرعية” التي انطلقت منها الدعوة الوهابية قبل قرنين فقط. وفي العراق مهد الحضارات العريقة شهدت الآثار و المكتبات مجازر حقيقية و رهيبة، فبعد سقوط نظام صدام حسين إندلع الصراع الطائفي و ظهرت الفرق الدينية المسلحة و المليشيات التي أبانت عن حنكة كبيرة في تخريب مآثر الحضارات القديمة التي يعود بعضها إلى سبعة آلاف سنة، و قد عرف عام 2003م نهباً فظيعاً لمتاحف بغداد والموصل و اقتحام أكثر من 10 آلاف موقع أثري، إضافة إلى تخريب المعابد القديمة و قبور الأنبياء. الطالبان و(غزوة تماثيل بوذا): كان لاستيلاء ميليشيات (الطالبان) على الحكم في أفغانستان آثار في غاية السلبية ليس على بلد أفغانستان و شعبه فقط بل على الإسلام والمسلمين عموما، ومن أبرز مظاهر الغلو المذهبي والجنون السلفي ما فعله الطالبان في 1996م عندما قاموا بتدمير مكتبة كابول العامة التي كانت تحتوي على 55 ألف مؤلَّف، ثم ما فعلوه سنة 2001م بتماثيل (بوذا) الضخمة المتواجدة في عدد من مناطق البلاد، التي تعدّ تراثا عالميا زاخرا نتج عن آلاف السنين من التفاعل الحضاري الذي تحقق بفضل موقع أفغانستان على تقاطع طرق الحرير التاريخية، ما جعل تراثها يحمل بصمات الحضارات الفارسية والهندوسية والبوذية. و رغم ردود الفعل العالمية القوية التي خلفها إعلان (المُلا محمد عمر)، زعيم هذا التنظيم الإرهابي، عن قرار هدم الآثار البوذية، إلّا أن ذلك لم يثنه عن مباشرة عمليات التخريب سنة 2001م، مستعملا المتفجرات و المدافع، مؤكدا أن حركته لن تتراجع عن تدمير جميع الآثار التاريخية في البلاد رغم المناشدات الدولية والاحتجاجات التي تواجهها، و قال في كلمة بثتها (إذاعة الشريعة) بمناسبة عيد الأضحى: [نحن ندمر الأصنام، و العالم جعل من هذا العمل مأساة، معتبرا أن الغرب قد أعلن الحرب على القرآن]. وقال: [دعونا نثبت للعالم أن المسلمين متحدون في العقيدة وأنهم لن يرضخوا لأي ضغط مهما كان الثمن]. عودة الرغبة المجنونة في "هدم الأهرامات" : بعد ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق و الشام، المعروف بـ(داعش، و انطلاقه في هدم الآثار القديمة بالعراق مع تصوير جرائمه بفخر واعتزاز، وبثه مقطعاً مصوراً لأمير التنظيم الإرهابي أبو بكر البغدادي يُهدد فيه و يتوعد بنسف أهرامات مصر، تشجع العديد من مشايخ السلفية في أرض الكنانة ليطالبوا من جديد بهدم الأهرامات و تمثال (أبي الهول) لأنها شاهدة على (حضارة وثنية مذمومة)، فقال أحد هؤلاء الدعاة، وهو (مرجان سالم الجوهري) الذي شارك في تحطيم تمثال بوذا بأفغانستان: [المسلمون مكلفون بتطبيق الشرع الحكيم، و منه إزالة تلك الأصنام كما فعلنا بأفغانستان و حطمنا تمثال بوذا]. وقد ردّ بعض المصريين على هذا النداء الإرهابي الشنيع بالقول: [ستبقى الأهرامات و ستزول داعش]. انتقال عدوى "الداعشية" إلى اليابان! من أطرف ما تناقلته الصحف سنة 2014، قيام طالب سعودي يتابع دراسته باليابان، بتخريب تماثيل لبوذا في العاصمة اليابانية طوكيو استجابة لنداء "الدولة الإسلامية". وقد نشر موقع "إسلام ويب" في فتوى رقمها 7458 ردّاً على سؤال يتعلق بالحكم الشرعي في تحطيم التماثيل؟ أجاب الموقع بدون لف ولا دوران أنه : [دلّت الأدلة الشرعية على وجوب هدم الأوثان والأصنام متى تمكّن المسلمون من ‏ذلك، سواء وُجد مَن يعبدها أو لم يوجد]،‏ مضيفا: [إن ما قامت به حكومة الطالبان من تحطيم صنم بوذا الذي يُعبد من دون الله عمل ‏مشروع يؤجرون عليه، بل واجب يُؤثم تاركه مع القدرة]. والمضحك أن أحدهم سأل هذا الموقع الإرهابي عن السبب الذي جعل الصحابة الأوائل و تابعيهم لا يحطمون التماثيل والآثار التي ظلت قائمة إلى عصرنا هذا؟ فكان جواب الموقع بأنّ تلك الآثار كانت في أماكن نائية و غير مرئية حيث كانت (مطمورة في التراب)، ما يدل على غاية الجهل لدى محرّري هذا النوع من الآراء. ومما نشره إعلام “داعش” آنذاك بعد تدميره لآثار “نينوى” التي تعود إلى 5000 سنة، أن ذلك التخريب “أغضب الكفار، وهذا بحد ذاته أمر مُحبّب إلى الله”. وفي سنة 2014 بعد غزو الموصل من قبل تنظيم “داعش”، تم إحراق المكتبة الكبرى بالمدينة ومكتبات الجامعات وأصدر التنظيم الإرهابي بيانا برر فيه أفعاله تلك بأنّ “الكتب تفسد العقل” و(تتعارض مع ما يُقره الدِّين). حراك الغوغاء ومحرقة الكتب : رغم أن حراك 2011م بمصر كان بشعارات الدّيمقراطيّة و دولة القانون و الحرية و العدالة الاجتماعية، إلّا أنّ جمهور الحراك على ما يبدو لم يكن على شاكلة واحدة و لم تكن له الأهداف نفسها، ولعل استحكام عقلية إحراق الكتب وتدمير الآثار لدى شريحة من عامة الشعب قد جعل الجمهور من الغوغاء يقتحم مكتبة المجمع العلمي بالقاهرة في يوم 18 دجنبر من سنة 2011م، بعد اندلاع حراك الشارع بميدان التحرير، و أودت الأعمال التخريبية بآلاف المخطوطات النفيسة والنادرة. ومن بين 200.000 كتاب لم يتم إنقاذ سوى 30.000 كتاب. (تومبوكتو لم تسلم) : في سنة 2013م هجمت عصابات تنظيم (أنصار الشريعة) الإرهابيّ على مكتبة المعهد العالي للدراسات و الأبحاث الإسلاميّة (أحمد بابا) بتومبوكتو، و أضرمت النار في تلك المكتبة التاريخية التي تضمّ أكثر من 20.000 مخطوط و مجلّد. و لعل سنتي 2013 و2014م كانتا مأساويتين بالنسبة للكتب و المآثر التاريخية بمنطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط، فإضافة إلى ما ذكرناه آنفاً؛ قامت جهات مجهولة بلبنان سنة 2014م بإحراق مكتبة طرابلس المسيحيّة، التي كانت تضمّ 80.000 من المخطوطات و الكتب النادرة. خلاصة تدمير الآثار و المعالم و حرق الكتب: يعكس تاريخ محارق الكتب والآثار و المعالم التأريخية مفارقة في طبيعة الجنس البشري، الذي يجدّ في البناء والتأليف .. مُصرا على أن يترك أثرا في التاريخ قبل رحيله عن هذا العالم، و في الوقت نفسه يهدم ما بناه و يتعقب خطوات التشييد العظيمة بأعمال التخريب متجاهلاً كليّاً قيمتها . و لعل الدرس الذي نخرج به من هذا التاريخ الطويل من العنف و الجهل المربع تجاه أشرف ما يُبدعه العقل البشري من منشآت حضارية و تآليف لا تُكرر؛ هو التقابل الموجود بين الحرية والتعصّب، فإذا كانت الأولى بأفقها الرحب أساس الإبداع الجميل و البناء الأصيل، فإنّ الثاني بحكم ضيق أفقه هو منطلق العنف و مبعث آلفساد و الخراب, بتعبير أدق و أشمل ؛ مشكلة العالم هي ثقافية – فكرية, و ليست علميّة و أبجدية حصراً! إذن أزمة العالم ثقافيّة - فكريّة : إذن أزمة العالم ثقافيّة - فكرّيـة : ألنتيجة التي توصلنا لها أعلاه بعد عرضنا لجملة المآسي التي مرّت بها عالمنا من هدم و تخريب و حرق للكتب ؛ نتيجة هامة و جديرة بآلملاحظة و الدراسة بعمق و بصيرة ؛ أنها أزمة تنطلق من أشكالات في طبيعة الأنتربولوجيا في الواقع الثقافيّ و أزمة الفكر القائمة: أزمة الواقع الثقافي: هي أزمة الأنتربولوجيا في الواقع الأجتماعي الثقافي, فكيف هو الحل الأمثل لذلك !؟ قصّتنا في هذا الوجود و قضية هبوطنا إلى الأرض؛ هي قصة حزينة و مُؤلمة لمن له عقل حصيف و ذكاء عالٍ, لأنها تتعلق و ترتبط بمسألة القضاء و القدر و بآلتأريخ و بمحنة الأنسان و قراره و إختياره و مستقبله على الأرض و في هذا الوجود الذي لا يُعرف له نهاية, قصة لا بد من عرضها, ليمكننا من – عرض الحلّ - و لو إجمالاً. و نحتاج إلى المقدمة ألتي سنوردها للتمهيد إلى الحل المنظور, علّنا نتمكن من علاجها برسم المناهج ألممكنة وعرضنا لـ (ثلاثة أجزاء) لتفعيل (المنتدى الفكريّ) ضمن النظرية الفلسفيّة الكونية العزيزيّة : ألمُقدمة : في القرن الثامن عشر ، قال الفيلسوف الفرنسيّ (فولتير) : [بمقدورنا إحداث ثورة في العقول في ظرف سنتين الى ثلاثة إذا وجدت الى جانبي 5 أو 6 من الفلاسفة ومطبعة]. في إشارة منه الى أهمية ثنائيّة الفكر و النشر لإحداث تغيير إيجابيّ في المجتمع. نحن اليوم في القرن الحادي والعشرين حيث مخرجات الثورة الصناعية المتطورة ، وما نتج عنها من تقنية و برامجيات عالية الدقة والسرعة .. هيأت مساحة كبيرة للنشر و لحرية التعبير و سرعة وصول المعلومة، بالإضافة الى ما يتوافر عليه العالم العربيّ الإسلاميّ من مفكرين و كتاب و أدباء و مثقفين . مع كل هذا لا تبدو مجتمعاتنا سليمة و معافاة ، بسبب ظروف و تحولات خطيرة مرّت عليها و على البلاد في العقدين الأولين لبداية القرن الحالي إلى جانب ما سبقه من تحولات و حروب خلال القرن الماضي و هكذا كل القرون، لذلك نعتقد ظرورة دراسة الثقافة دراسة جديدة تأخذ بعين الإعتبار طبيعة المجتمع ، والطريقة التي يعيش بها المجتمع ، من أجل الحفاظ على المنظومة الإجتماعية من الأذى الذي يراد لها بسبب سوء استخدام التقنية الرقمية ، والحرية الشخصية ، وكثرة وسرعة النشر, و دور التفكير الحوسبي ، و ظهور محتويات هابطة و تصريحات غير مسؤولة ، تمسّ المنظومة القيميّة و الأخلاقية و الإنسانيّة والثقافيّة والدينيّة بصورة عامّة. ألبيان الكونيّ لفلاسفة ألعالم 2025م: مسائل مصيرية طُرحت من قبل أسياد الفكر و أساطين العلم و الفلسفة من النّخبة المُميّزة؛ كما كلّ عام لهداية الطليعة و نجاة الناس بنشر الفكر و الوعي و آفاق المستقبل لتقليل العنف والحروب والصراعات على الأقل بعد إختلاط الحقّ مع الباطل وتمرّد الحكومات على حقوق الناس, لأن فلسفة الحكم باتت عند آلجميع هي للإغتناء و قنص ألأموال و الرواتب والحصص كلّما و كيفما أمكن من قوت و دماء الفقراء! لذا سعينا و سهرنا و جاهدنا كثيراً للتمهيد إلى آلعدالة آلتي تتطلب أوّل ما تتطلب؛ إتحاد المثقفيّن و الأعلاميين مع آلمفكرين و هكذا مع الفلاسفة الذين هم صمام الأمان لتحديد خارطة الطريق لمسار السلام و السعادة للعالم عبر (الهيئة العليا لفلاسفة ألأمم المتحدة) و التي نأمل بتأسيسها عاجلاً من قبل هيئة الأمم المتحدة , لترشيد أسس النظام العالميّ العادل, و تحديد القوانين العادلة لإتمام المهمة الكونيّة – الأنسانية بأفضل وجه – لتلافي وقوع الظلم لأنقاذ الناس من وطأة الحكومات و الأحزاب القائمة بجميع مسمّياتها. من جانب آخر؛ نعتقد أنه ليس بمقدور من يمتلك مجرّد شهادة جامعيّة أو حزباً سياسيّاً أو حكومة مركزيّة أن يصبح رئيسا أو مسؤولاً أو عضو برلمان أو وزير أو رئيس ناجح بنظر أي كان حسب عقله الصغير طبقا لمصالحه و مصالح اللوبيات و (المنظمة الأقتصادية العالمية) التي تسيطر على منابع الطاقة و الدول في العالم بآلدرجة الأولى! فلا بُدّ للمسؤول ؛ وزير ؛ رئيس ؛ عضو برلمان ؛ مدير عام ؛ ووغيرهم؛ أنْ يكون صاحب ضمير و مثقف أكاديمياً و دينياً و يعرف مواصفات الأنسان الهادف و الأفضل, خصوصا الدين بإعتباره عرق دساس يتدخل في تفاصيل الحياة و تقرير القوانين, و يا ليته – المسؤول - يكون مُفكرأً أو فيلسوفاً صاحب نظريّة كما أكّد ذلك أفلاطون و أرسطو في جمهورياتهم أو الفلاسفة الآخرون في نظرياتهم و إلاّ فهو الفساد و الجّهل الذي سيبقى و يستمر و ينتشر لتعميق الفوارق الطبقية و لتدمير العالم لأنّ: [ألجّهل أصل كلّ شرّ]! فما يجري في بلادنا و العالم سببه الجّهل و قلّة الوعي و الطامة الكبرى أنّ الناس أو ربما أنصاف المثقفين يعتبرون كل من تخرج من معهد أو جامعة أو حصل على شهادات عليا؛ هو الأقدر على إدارة المؤسسات و الحكومات و الوزارات, و من هنا يبدأ الفساد الأكبر بسبب خطأ هذا المنهج و الأساس , لأن الشهادة الجامعية هي لمعرفة إختصاص أو تعلم مهنة طبية أو هندسية أو إدارية لأداء عمل مُعيّن لأدامة الحياة و بناء المجتمع! و أما سبب ذلك التفكير الساذج و البسيط بكون خريج الجامعة هو المؤهل و يكفي لتسنم المسؤوليات كقانون عام لدى أكثرية الناس فهو بسبب تدني المستوى الفكري نتيجة ؛ عزوف الناس عن القراءة و فقدان الوعي, خصوصاً (بعد ما رآى "الناس" أنّ المُدّعين للعِلم قد تركوا العمل بما علموا) خصوصا في الدول النفطية و الغنية بمواردها و طاقاتها كآلعراق و دول الخليج التي ستواجه مستقبلاً الكثير من الكوارث و المصائب. إن إنتشار الجّهل و الطبقية يتزايد مع إستمرار تسلط الأشرار و الطواغيب على مقدّرات البلاد و آلعباد فتتفاقم الأحداث و الظلامات و تتعقد الحياة و تنتشر الفوارق الطبقية و الفوضى و الحروب و العنف و الشقاء و الجرائم ليواجه الناس أزمات حقيقيّة كما هو المشهود اليوم, حيث تشير الأحصاآت إلى إنّ 200 مليون هربوا من 135 دولة بحثاً عن الدواء و الغذاء و العيش الأمن, مع وجود مليار من البشر يعيشون في خط الفقر و تحته, بينما خيرات الدّنيا الحالية تكفي لإشباع ثلاثة أضعاف نفوس العالم. ألحلّ الجذري لهذه المعضلة القائمة و المستعصيّة ليست بآلمحاصصة و نهب أموال و رواتب الفقراء و إجراء انتخابات دورية تديرها المال الحرام و الدعايات الفاسدة و الأئتلافات المشبوهة؛ إنما لها مخرج واحد, هو : نشر ألفكر و تثقيف الشعب و تى المسؤول على مواصفات الأنسان الهادف والصالحو عبر بيان المعايير الفلسفيّة الكونيّة إلى جانب بيان (الأصول ألإبراهيميّة العشرة) التي وردت في الكتب السّماويّة الرّئيسيّة الثلاث؛ (القرآن و الإنجيل و التواراة) كأساس لتحديد القوانين العادلة المطلوبة التي يرضي رب الكون لتحقيق المساواة بين الجميع لتلافي نشوء الطبقيّة (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم). و بغير ذلك؛ فإنّ الشّعوب ليس فقط لا تُحقّق ألحدّ الأدنى من فلسفة وجودها و سعادتها و حسن عاقبتها؛ بل ستُواجه المحن و المردودات السّلبية - العكسيّة و كل ألوان الشقاء و البلاء, و كما نشهدها في بلادنا! و ممّا يزيد الطين بلّة؛ هي المنابر التقليديّة و الأعلامية الأهلية و الحكوميّة المحدودة التي تعمل بتأثير آلأموال و الدولار, لخدمة أهدافها الشخصية و العائلية و الحزبية و المذهبية الخاصة التي أدّت إلى تشويه ألقيم و الوعي لعموم الناس لينتقل العالم من سيئ إلى أسوء, رغم التطور التكنولوجي و النانوي والذكاء الصناعي, فآلبيان الكوني لهذه السنة المباركة2025م يحثنا على إيجاد المشتركات الدّينية و العمل بها لأنها ستحل الكثير من المشاكل الخلافيّة و يغني العمل المشترك في مواجهات تيارات الإلحاد و الفساد و الظلم. و فلسفتنا تؤكد بأن إلتقاء (العقل) عبر الفلسفة الكونيّة العزيزية؛ مع (النقل) عبر الوصايا الإبراهيمية العشرة؛ هو السبيل الوحيد لخلاص العالم من الظلم و الفساد و الطبقية .. للأطلاع على تفاصيل البيان الكوني عبر الرابط أدناه : https://foulabook.com/ar/read/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%A8%D9%8A%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%A7%D8%B3%D9%81%D8%A9-%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%85-2025-%D8%A5%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%A1-%D9%84%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B6%D9%8A-%D9%88%D8%A2%D9%81%D8%A7%D9%82-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%A8%D9%84-pdf تحميل كتاب بيان الفلاسفة لعام 2025 - , وهو إستقراء للماضي وأفق المستقبل pdf تأليف عزيز حميد الخزرجي - فولة بوك تحميل البيان الكوني لسنة2025م مكتبة نور. علم الأنتربولوجيا : علم الأنتربولوجيا : تجدر الإشارة إلى مسألة هامة, قبل دراسة طبيعة الأنسان و حقيقة الثقافة و دورها في عملية البناء و الرقي الحضاري و النجاح في الأمتحان الدّنيوي النهائي: و هي ؛ لا بُد من دراسة طبيعة الأنسان و التطورات الإنثربولوجية التي مرّ بها , كي يتسنى لنا الأتّكاء على قاعدة رصينة تؤمّن لنا نتائج بحثنا لمعرفة الطبيعة الأساسيّة لدور الثقافة في معرفة الأنسان و الحياة و الكون و نتائجها, و هي في الحقيقة إطاعة لأمر آلله الذي أوجب علينا معرفة النفس بكونها الميدان الأول لعملية التغيير و البناء و التي إن عرفناه عرفنا كل شيئ. الأنثروبولوجيا في العصر القديم : يجمع معظم علماء الاجتماع والأنثربولوجيا، على أنّ الرحلة التي قام بها المصريون القدماء في عام 493 قبل الميلاد إلى بلاد بونت (الصومال حالياً) بهدف التبادل التجاري، تعدّ من أقدم الرّحلات التاريخيّة في التعارف بين الشعوب. وقد كانت الرحلة كما تنقل التواريخ مؤلّفة من خمسة مراكب، على متن كلّ منها /31/ راكباً، وذلك بهدف تسويق بضائعهم النفيسة التي شملت البخور والعطور. و نتج عن هذه الرحلة اتصال المصريين القدماء بأقزام أفريقيا. وتأكيداً لإقامة علاقات معهم فيما بعد، فقد صوّرت النقوش في معبد الدِّير البحري، إستقبال ملك و ملكة بلاد / بونت / لمبعوث مصري . 1-عند الإغريق (اليونانيين القدماء ): يعدّ المؤرخ الإغريقي (اليوناني) هيرودوتس ، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، و كان رحّالة محبّاً للأسفار، أول من صوّر أحلام الشعوب وعاداتهم, و طرح فكرة وجود تنوّع و فوارق فيما بينها، من حيث النواحي السلالية والثقافية واللغوية والدينية. ولذلك، يعتبره معظم مؤرّخي الأنثربولوجيا؛ الباحث الأنثروبولوجي الأوّل في التاريخ . فهو أوّل من قام بجمع معلومات وصفيّة دقيقة عن عدد كبير من الشعوب غير الأوروبية (حوالي خمسين شعباً )، حيث تناول بالتفصيل تقاليدهم وعاداتهم، و ملامحهم الجسميّة و أصولهم السلالية إضافة إلى أنّه قدّم وصفاً دقيقاً لمصر و أحوالها و شعبها، و هو قائل العبارة الشهيرة : [مصر هبة النيل]. و قد سبق العراق مصر و بلدان العالم في الكثير من الأمور التأريخية كآلزراعة و التجارة و التمدن و الحضارة و القانون و الكتابة و ضم الأنبياء و الرسالات السماوية منذ سيدنا آدم و لحد اليوم حيث بات المركز الذي يحدد مصير العالم, نتيجة الطاقة المخزونة في أرضها و أراضي الدول المحيطة بها, و مازال العالم منشغلاً بحل أساسي لتلك المعظلة, و تبقى الدول العربية كمصر و السعودية و بلاد المغرب و أفريقيا, هي الأخرى مناطق لا تنفصل عن حضارة وادي الرافدين أو حضارة النيل و تأريخ مصر! وممّا يقوله في عادات المصريين القدماء : [إنّه في غير المصريين، يطلق كهنة الآلهة شعورهم، أمّا في مصر فيحلقونها]. و يقضي العرف عند سائر الشعوب، بأن يحلق أقارب المصاب رؤوسهم في أثناء الحداد، و لكن المصريين إذا نزلت بساحتهم محنة الموت، فإنّهم يطلقون شعر الرأس و اللحية]. وأمّا عن المقارنة بين بعض العادات الإغريقية والليبية، فيقول المؤرخ الإغريقي (اليوناني) هيرودوتس: [يبدو أنّ ثوب أثينا و درعها و تماثيلها، نقلها الإغريق عن النساء العربيات]. غير أنّ لباس الليبيات جلدي، وأنّ عذبات دروعهن المصنوعة من جلد الماعز ليست ثعابين، بل هي مصنوعة من سيور جلد الحيوان. و أما ما عدا ذلك؛ فإنّ الثوب و الدرع في الحاليتين سواء .. و من الليبيين تعلّم الإغريق كيف يقودون العربات ذات الخيول الأربعة . واستناداً إلى هذه الإسهامات المبكرة والجادة، يعتقد الكثيرون من علماء الأنثروبولوجيا، أنّ منهج هيرودوتس في وصف ثقافات الشعوب وحياتهم وبعض نظمهم الاجتماعية، ينطوي على بعض أساسيات المنهج (الأثنوجرافي) المتعارف عليه في العصر الحاضر باسم (علم الشعوب). و هناك جملة عوامل تشكل و تحدّد و تُميّز مواصفات حضارة من الحضارات و هي : 1- العلم. 2- الاقتصاد. 3- الزراعة. 4- التراث و ألتأريخ. 5- شكل اللباس و الأزياء. 6- الصناعة و الكهرباء. 7- اللغة و الآداب و الأخلاق. 8- الدّين و العادات و التقاليد. 9- الموقع الجغرافي والأنهار المياه المحيطة. 10- طبيعة النظام الحاكم في البلاد. 11- الفن و البناء و النحت 12- نوع الغذاء و الفواكه و إسلوب تناولها و أوقاتها. وكذلك نجد أنّ أرسطو (348- 322 ق.م) كان من أوائل الذين وضعوا بعض أوليات الفكر التطوّري للكائنات الحيّة، و ذلك من خلال ملاحظاته و تأمّلاته في التركيبات البيولوجيّة و تطوّرها في الحيوان .. كما ينسب إليه أيضاً، توجيه الفكر نحو وصف نشأة الحكومات و تحليل أشكالها و أفضلها، الأمر الذي يعتبر مساهمة مبدئية و هامة في دراسة مواصفات النظم الاجتماعية و الإنسانية و العوامل التي تشكلها و تبنيها. إنّ الدارس لأعمال الفلاسفة اليونانيين يصل إلى معلومة طريفة و ذات صلة بالفكر الأنثروبولوجي، وهي: 2- اليونانيين أخذوا الكثير من الحضارات التي سبقتهم، حيث امتزجت فلسفتهم بالحضارة المصرية القديمة، وتمخّض عنها ما يعرف باسم ” الحضارة الهيليلنية ” تلك الحضارة التي سادت وازدهرت في القرون الثلاثة السابقة للميلاد و قبل الهيلينية؛ الحضارة البابلية, و قبل الأثنان الحضارة الفارسيّة إلى جانب الحضارة الصينية و الهندية, كسلسلة إمتدت لباقي شعوب و قارات العالم, لتكون الحضارة الأنسانية الحالية بمجموعها نتيجة لتلاقح تلك الحضارات, و بآلتالي لا يمكن فصلها عن بعض كما يحاول البعض. وعلى الرغم من هذا الطابع الفلسفي الذي يناقض – إلى حدّ ما – ما تتّجه إليه الدراسات الأنثروبولوجية و السوسيولوجية (علم الاجتماع) من دراسة ما هو قائم - لا ما يجب أن تكون عليه الأحوال الاجتماعية والثقافية - فإنّ فضل الفكر الفلسفي اليوناني، و لا سيّما عند كبار فلاسفتهم، لا يمكن التقليل من شأنه أبداً, بل الكثير من نظريّاتهم الفلسفية و المنطقية تدرس لحد الآن في جامعاتنا و حوزاتنا العلمية. 3- عند الرومان : امتدّ عصر الإمبراطورية الرومانية حوالي ستة قرون، تابع خلالها الرومان ما طرحه اليونانيون من مسائل وأفكار حول بناء المجتمعات الإنسانية وطبيعتها، وتفسير التباين والاختلاف فيما بينها.. ولكنّهم لم يأخذوا بالنماذج المثالية/ المجرّدة للحياة الإنسانية، بل وجّهوا دراساتهم نحو الواقع الملموس والمحسوس. ومع ذلك، لا يجد الأنثروبولوجيون في الفكر الروماني ما يمكن اعتباره كإسهامات أصيلة في نشأة علم مستقلّ لدراسة طبيعة و حالة الشعوب و ثقافاتهم، أو تقاليد راسخة لمثل هذه الدراسات. و لكن، يمكن أن يستثنى من ذلك، أشعار و كتابات / كاروس لوكرتيوس / التي احتوت على بعض الأفكار الاجتماعية الهامة. فقد تناول موضوعات عدّة عرضها في ستة أبواب رئيسة، ضمنّها أفكاره ونظرياته عن المادة وحركة الأجرام السماوية وشكلها، وتكوين العالم .. وخصّص الباب السادس لعرض فكرتيّ : التطوّر والتقدّم، حيث تحدّث عن الإنسان الأوّل والعقد الاجتماعي، و نظاميّ الملكية و الحكومة، و نشأة اللغة، إضافة إلى مناقشة العادات والتقاليد والفنون والأزياء و الموسيقى . وقد رأى بعض الأنثروبولوجيين، أنّ /لوكرتيوس / استطاع أن يتصوّر مسار البشرية في عصور حجرية ثمّ برونزية، ثمّ حديدية .. بينما رأى بعضهم الآخر في فكر لوكرتيوس، تطابقاً مع فكر لويس مورجان ,أحد أعلام الأنثروبولوجيا في القرن التاسع عشر. وذلك من حيث رؤية التقدّم والانتقال من مرحلة إلى أخرى، في إطار حدوث طفرات مادية، وإن كان مردّها في النهاية إلى عمليات وابتكارات عقلية . وإذا استثنينا أشعار / لوكرتيوس / هذه وما احتوتها من أفكار تتعلّق بطبيعة الكون ونشأة الإنسان وتطوّره، فإنّه من الصعوبة بمكان أن تنسب نشأة علم الأنثروبولوجيا إلى الفكر الروماني القديم كما هي الحال عند الإغريقيين. وعلى الرغم من أنّ الرومان اهتموا بالواقع، من حيث ربط السلالات البشرية بإمكانية التقدّم الاجتماعي والحركة الحضارية، فقد وجدوا في أنفسهم امتيازاً وأفضلية على الشعوب الأخرى, فكان الروماني فوق غيره بحكم القانون، حتى أنّ الرومان إذا أرادوا أن يرفعوا من قدر إنسان أو شأن سلالة، أصدرت الدولة قراراً بمنح الجنسية الرومانية لأي منهما ويبدو أنّ هذا الاتجاه العنصري، وجد في معظم الحضارات القديمة، ولا سيّما الحضارات الشرقية؛ الإغريقية؛ الرومانية و الصينية . 4-عند الصينيين القدماء: يعتقد بعض المؤرّخين، ولا سيّما الأنثروبولوجيون منهم، أنّه على الرغم من اهتمام الصينيين القدماء بالحضارة الرومانية وتقديرها، فلم يجدوا فيها ما ينافس حضارتهم. كان الصينيون القدماء يشعرون بالأمن والهدوء داخل حدود بلادهم، وكانوا مكتفين ذاتياً من الناحية الاقتصادية المعاشية، حتى أن تجارتهم الخارجية انحصرت فقط في تبادل السلع والمنافع، من دون أن يكون لها تأثيرات ثقافية عميقة. فلم يعبأ الصينيون في القديم بالثقافات الأخرى خارج حدودهم، ومع ذلك، لم يخلُ تاريخهم من بعض الكتابات الوصفية لعادات الجماعات البربرية، والتي كانت تتّسم بالازدراء والاحتقار. وهذا الاتّجاه نابع من نظرة الصينيين القدماء العنصرية، إذ كانوا يعتقدون – كالرومان – أنّهم أفضل الخلق، وأنّه لا وجود لأيّة حضارة أو فضيلة خارج جنسهم، بل كانوا يرون أنّهم لا يحتاجون إلى غيرهم في شيء .. ولكي يؤكّد ملوكهم هذا الواقع، أقاموا (سور الصين العظيم], ثم التقدم التكنولوجي و الفضائي الذي أبهر العالم حتى لا تدنّس أرضهم بأقدام الآخرين. و لذلك، اهتمّ فلاسفة الصين القدماء، بالأخلاق وشؤون المجتمعات البشرية، من خلال الاتجاهات الواقعية العملية في دراسة أمور الحياة الإنسانية ومعالجتها، لأنّ معرفة الأنماط السلوكية التي ترتبط بالبناء الاجتماعي، في أي مجتمع، تسهم في تقديم الدليل الواضح على التراث الثقافي لهذا المجتمع، والذي يكشف بالتالي عن طرائق التعامل فيما بينهم من جهة، و يحدّد أفضل الطرائق للتعامل معهم من جهة أخرى. وهذا ما يفيد الباحثين في العلوم الأخرى، ولا سيّما تلك التي تعنى بالإنسان. التصنيف (اتتياراتالوسوم أنثروبولوجيا), تاريخ : تيارات حوار مع (أرنست غيلنر) : (الخروج من الهامش)؛ للباحث في الأنثروبولوجيا الأستاذ (سليم درنوني) لـ "كراس الثقافة": أولاً- (الأنثروبولوجيا تبحث عن المعنى وليس عن بناء الحقيقة) رأي واحد حول : (الأنثروبولوجيا في العصر القديم). العصور الوسطى في أوربا : يذكر المؤرّخون أنّه في هذه العصور الوسطى (المظلمة) تدهور التفكير العقلاني، وأُدينت أيّة أفكار تخالف التعاليم المسيحيّة، أو ما تقدّمه الكنيسة من تفسيرات للكون والحياة الإنسانية، سواء في منشئها أو في مآلها. ولكن إلى جانب ذلك، كانت مراكز أخرى وجّهت منطلقات المعرفة، وحدّدت طبيعة الحضارة الغربية في تلك العصور، كبلاط الملوك مثلاً، الذي كان يضمّ في العادة، فئات من المثقفين كرجال الإدارة والسياسة والشعراء. (فهيم، 1986، ص 50). يضاف إلى ذلك التوسّع في دراسة القانون (جامعة بولونيا) و دراسة الفلسفة و اللاهوت (جامعة باريس) ممّا كانت لـه آثار واضحة في الحياة الأوربية العامة (السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة والدينيّة), و مهّد بالتالي للنهضة التي شهدتها أوروبا بعد تلك العصور. لقد ظهرت في هذه المرحلة محاولات عدّة للكتابة عن بعض الشعوب، إلاّ أنّها اتّسمت – غالباً - بالوصف التخيّلي، بعيدة عن المشاهدة المباشرة على أرض الواقع. مثال ذلك، ما قام به الأسقف / إسيدور Isidore الذي عاش ما بين (560- 636) حيث أعدّ في القرن السابع الميلادي موسوعة عن المعرفة، و أشار فيها إلى بعض تقاليد الشعوب المجاورة وعاداتهم، ولكن بطريقة وصفية عفوية، تتّسم بالسطحية والتحيّز. وممّا ذكره، أنّ قرب الشعوب من أوربا أو بعدها عنها، يحدّد درجة تقدّمها، فكلّما كانت المسافة بعيدة، كان الانحطاط و التهور الحضاري مؤكّدا لتلك الشعوب. و وصف الناس الذين يعيشون في أماكن نائية، بأنّهم من سلالات غريبة الخَلق، حيث تبدو وجوههم بلا أنوف . وقد ظلّت تلك المعلومات سائدة وشائعة حتى القرن الثالث عشر، حيث ظهرت موسوعة أخرى أعدّها الفرنسي / باتولو ماكوس Batholo Macus/، والتي حظيت بشعبية كبيرة، على الرغم من أنّها لم تختلف كثيراً عن سابقتها في الاعتماد على الخيال ( المرجع السابق، ص 52). ثانياً - العصور الوسطى عند العرب : وتمتدّ من منتصف القرن السابع الميلادي، وحتى نهاية القرن الرابع عشر تقريباّ. حيث بدأ الإسلام في الانتشار، و بدأت معه بوادر الحضارة العربية الإسلامية آنذاك بالتكوين والازدهار. وقد تضمّنت هذه الحضارة : الآداب و الأخلاق و الفلسفة و المنطق، كما كانت ذات تأثيرات خاصة في الحياة السياسية والاجتماعية والعلاقات الدوليّة وقد اقتضت الأوضاع الجديدة التي أحدثتها الفتوحات العربية الإسلامية، الاهتمام بدراسة أحوال الناس في البلاد المفتوحة و سبل إدارتها , حيث أصبح ذلك من ضرورات التنظيم و آلحكم. ).Darnell,1978, p.25( ولذلك، برز العرب في وضع المعاجم الجغرافية، كمعجم (البلدان) لياقوت الحموي. وكذلك إعداد الموسوعات الكبيرة التي بلغت ذروتها في القرن الثامن الهجري (الرابع عشر ميلادي) مثل ” مسالك الأمصار (لإبن فضل الله العمري)، و (نهاية الأرب في فنون العرب) للنويري . وإلى جانب اهتمّام هذه الكتب الموسوعية بشؤون العمران ، فقد تميّزت مادتها بالاعتماد على المشاهدة والخبرة الشخصيّة، وهذا ما جعلها مادة خصبة من ناحية المنهج الأنثروبولوجي في دراسة الشعوب والثقافات الإنسانية. وهناك مَن تخصّص في وصف إقليم واحد مثل/ البيروني/ الذي عاش ما بين (362 – 440 هجرية) و وضع كتاباً عن الهند بعنوان : [تحرير ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة]. وصف فيه المجتمع الهندي بما فيه من نظم دينية واجتماعية وأنماط ثقافية وصلت لخمسة آلاف نوع, واهتمّ أيضاً بمقارنة تلك النظم والسلوكيات الثقافية، بمثيلاتها عند اليونان والعرب والفرس. و أبرز (البيرونيّ) في هذا الكتاب، حقيقة أنّ الدين يؤدّي الدور الرئيس في تكبيل الحياة الهندية، و توجيه سلوك الأفراد و الجماعات، و صياغة القيم والمعتقدات . ( فهيم، 1986، ص54). كما كانت لرحلات ابن بطوطة وكتاباته خصائص ذات طابع أنثروبولوجي، برزت في اهتمامه بالناس و وصف حياتهم اليومية، وطابع شخصياتهم وأنماط سلوكاتهم وقيمهم وتقاليدهم. فمّما كتبه في استحسان أفعال أهل السودان : فمن أفعالهم قلّة الظلم، فهم أبعد الناس عنه وسلطانهم لا يسامح أحداً في شيء منه. ومنها شمول الأمن في بلادهم، فلا يخاف المسافر فيها ولا المقيم من سارق ولا غاضب. ومنها عدم تعرّضهم لمال من يموت في بلادهم من البيضان (البيض والأجانب) ولو كان القناطير المقنطرة. وإنّما يتركونه بيد ثقة من البيضان، حتى يأخذه مستحقّه. (ابن بطوطة، 1968، ص 672). أمّا كتاب (ابن خلدون) [العبر و ديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر] فقد نال شهرة كبيرة وواسعة بسبب مقدّمته الرئيسة وعنوانها : (في العمران وذكر ما يعرض فيه من العوارض الذاتية من الملك والسلطان، والكسب والمعاش والمصانع والعلوم، وما لذلك من العلل والأسباب). وتعتبر هذه المقدّمة عملاّ أصيلاً في تسجيل الحياة الاجتماعية لشعوب شمال أفريقيا، ولا سيّما العادات والتقاليد والعلاقات الاجتماعية، إلى جانب بعض المحاولات النظرية لتفسير كلّ ما رآه من أنظمة اجتماعية مختلفة. وقد شكّلت موضوعات هذه المقدّمة – فيما بعد – اهتماماً رئيسياً في الدراسات الأنثروبولوجية. ومن أهمّ الموضوعات التي تناولها ابن خلدون في مقدّمته والتي لها صلة باهتمامات الأنثروبولوجيا، هي تلك العلاقة بين البيئة الجغرافية والظواهر الاجتماعية. فقد ردّ ابن خلدون – استناداً إلى تلك الدعامة – اختلاف البشر في ألوانهم و أمزجتهم النفسيّة و صفاتهم الجسمية و الخلَقية، إلى البيئة الجغرافية التي اعتبرها أيضاً عاملاً هاماً في تحديد المستوى الحضاري للمجتمعات الإنسانية. (ابن خلدون، ج1، 1966، ص 291). كما تناول ابن خلدون في مقدّمته أيضاً، مسألة قيام الدول وتطوّرها وأحوالها، وبلور نظرية (دورة العمران) بين البداوة والحضارة على أساس المماثلة بين حياة الجماعة البشرية وحياة الكائن الحي. وقد سيطرت هذه الفكرة على أذهان علماء الاجتماع في الشرق والغرب – على حدّ سواء – في العصور الوسطى .. حيث اعتبر ابن خلدون أن التطوّر هو سنّة الحياة الاجتماعية، وهو الأساس الذي تستند إليه دراسة الظواهر الاجتماعية. يقول في ذلك : ” إنّ أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم، لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقرّ، وإنّما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال. وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول. (المرجع السابق، ص 252) فعمر الدول عند ابن خلدون كعمر الكائن البشري، تبدأ بالولادة و تنمو إلى الشباب والنضج والكمال، ثمّ تكبر وتهرم وتتلاشى إلى الزوال . لقد أرسى ابن خلدون الأسس المنهجية لدراسة المجتمعات البشرية، ودورة الحضارات التي تمرّ بها، فكان بذلك، أسبق من علماء الاجتماع في أوروبا. ولذلك، يرى بعض الكتّاب والمؤرّخين، أن ابن خلدون يعتبر المؤسّس الحقيقي لعلم الاجتماع، بينما يرى بعضهم الآخر، ولا سيّما علماء الأنثروبولوجيا البريطانيون، في مقدّمة ابن خلدون بعضاً من موضوعات الأنثروبولوجيا الاجتماعية ومناهجها .وفي أمريكا، أشار /جون هونجيمان / أيضاً في كتابه ” تاريخ الفكر الأنثروبولوجي ” إلى أنّ ابن خلدون تناول بعض الأفكار ذات الصلة بنظرية / مارفين هاريس / عـن المادية الثقافية. "Cultural Materialis" ونجد أنّ / هاريس / ذاته، يذكر أنّ ابن خلدون ومن قبله الإدريسي، قدّما أفكاراً ومواد ساعدت في بلورة نظرية الحتمية الجغرافية, التي سادت إبان القرن الثامن عشر. .)Anderson , 1984 , p.112( واستناداّ إلى ما تقدّم, يمكن القول : إنّ الفلاسفة والمفكّرين العرب أسهموا بفاعلية خلال العصور الوسطى - في معالجة كثير من الظواهر الاجتماعية التي يمكن أن تدخل في الاهتمامات الأنثروبولوجية، و لا سيّما التنوّع الثقافي (الحضاري) بين الشعوب، سواء بدراسة خصائص ثقافة أو حضارة بذاتها، أو بمقارنتها مع ثقافة أخرى. ولكن على الرغم من اعتبارها مصادر للمادة الأثنوجرافية التي درست (أسلوب الحياة في مجتمع معيّن وخلال فترة زمنية محدّدة) ولا سيّما العادات والقيم وأنماط الحياة، فإنّ الأنثروبولوجيا التي تبلورت في أواخر القرن التاسع عشر كعلم جديد معترف به، لم تكن ذات صلة تذكر بهذه الدراسات، ولا بغيرها من الدراسات (اليونانية والرومانية) القديمة . ثالثاً -الأنثروبولوجيا في عصر النهضة الأوروبية .. يتّفق المؤرّخون على أنّ عصر النهضة في أوربا، بدأ في نهاية القرن الرابع عشر الميلادي، حيث شرع الأوروبيون بعملية دراسة انتقائية للعلوم والمعارف الإغريقية والعربية ، مترافقة بحركة ريادية نشطة للاستكشافات الجغرافية. وتبع ذلك الانتقال من المنهج الفلسفي إلى المنهج العلمي التجريبي، في دراسة الظواهر الطبيعية والاجتماعية، والذي تبلور وتكامل في القرن السابع عشر . إنّ هذه التغيّرات مجتمعة أدّت إلى ترسيخ عصر النهضة أو ما سمّي (عصر التنوير) وأسهمت بالتالي في بلورة الانثربولوجيا في نهاية القرن التاسع عشر، كعلم يدرس تطوّر الحضارة البشرية في إطارها العام وعبر التاريخ الإنساني. الأمر الذي استلزم توافر الموضوعات الوصفية عن ثقافات الشعوب وحضاراتها، في أوروبا و خارجها، من أجل المقارنات، والتعرّف إلى أساليب حياة هذه الشعوب وترتيبها بحسب مراحل تطوريّة معيّنة، بحيث يضع ذلك أساساً لنشأة علم الأنثروبولوجيا . لعلّ أهمّ رحلة أو( رحلات) استكشافيّة مشهورة أثّرت في علم الأنثروبولوجيا، ما قام بها / كريستوف كولومبوس /إلى القارة الأمريكيـة ما بين (1492- 1502) حيث زخرت مذكّراته عن مشاهداته واحتكاكاته بسكان العالم الجديد، بالكثير من المعلومات والمعارف عن أساليب حياة تلك الشعوب وعاداتها وتقاليدها، اتّسمت بالموضوعية نتيجة للمشاهدة المباشرة . وممّا قاله في وصف سكان جزر الكاريبيان في المحيط الأطلسي : [إنّ أهل تلك الجزر كلّهم عراة تماماً، الرجال منهم والنساء، كما ولدتهم أمَّهاتهم. ومع ذلك، فثمّة بعض النساء اللواتي يغطين عورتهنّ بورق الشجر، أو قطعة من نسيج الألياف تصنع لهذا الغرض. ليست لديهم أسلحة ومواد من الحديد أو الصلب وهم لا يصلحون لاستخدامها, ولا يرجع السبب في ذلك إلى ضعف أجسادهم، وإنّما إلى كونهم خجلون ومسالمون بشكل يثير الإعجاب, على أيّة حال. ” Oswalt ,و كتب في وصفه لسكان أمريكا الأصليين : [إنّهم يتمتّعون بحسن الخَلق والخُلُق، وقوّة البنية الجسدية. كما أنّهم يشعرون بحرية التصرّف فيما يمتلكون، إلى حدّ أنّهم لا يتردّدون في إعطاء من يقصدهم أيّاً من ممتلكاتهم، علاوة على أنّهم يتقاسمون ما عندهم برضى و سرور].1972,p. 10) وهكذا كان لرحلات كولومبس واكتشافه العالم الجديد (أمريكا) عام 1492أثرها الكبير في إدخال أوروبا حقبة جديدة، وفي تغيير النظرة إلى الإنسان عامة، والإنسان الأوروبي خاصة، ممّا أثّر بالتالي في الفكر الأنثروبولوجي. وذلك، لأنّ هذه الاكتشافات الجغرافية / الاجتماعية وما تبعها من معرفة سكان هذه الأرض بميزاتهم وأنماط حياتهم، أظهرت بوضوح تنوّع الجنس البشري، وأثارت كثيراً من المسائل والدراسات حول قضايا النشوء والتطوّر عند الكائنات البشرية. (Boorstin,1983, p.628) لقد تميّز عصر النهضة الأوربية، بظاهرة كان لها تأثير في توليد نظريات جديدة عن العالم والإنسان، وهي أنّ المفكّرين اتفقوا، على الرغم من تباين وجهات نظرهم، على مناهضة فلسفة العصور الوسطى اللاهوتية، التي أعاقت فضول العقل الإنساني إلى معرفة أصول الأشياء ومصادرها، وتكوين الطبيعة وقوانينها، وصفات الإنسان الجسدية والعقلية والأخلاقية. (فهيم، 1986، ص86) وظهر نتيجة لهذا الموقف الجديد اتّجاه لدراسة الإنسان، عرف بالمذهب الإنساني (العلمي) اقتضى دراسة الماضي من أجل فهم الحاضر، حيث اتّجهت دراسة الطبيعة الإنسانية و فهم ماهيتها وأبعادها وفق المراحل التاريخية التطوّرية للإنسان. وقد تبلور هذا الاتّجاه (المذهب) العلمي في الدراسات التجريبية والرياضية التي ظهرت في أعمال بعض علماء القرن 17، من أمثال: فرانسيس بيكون F.Becon (1561-1626) ورينيه ديكارت R.Decartes (1596-1650) واسحق نيوتن Newton (1642-1727)، وغيرهم. حيث أصبحت النظرة الجديدة للإنسان عل أنّه ظاهرة طبيعية، ويمكن دراسته من خلال البحث العلمي والمنهج التجريبي، ومعرفة القوانين التي تحكم مسيرة التطوّر الإنساني والتقدّم الاجتماعي .وهذا ما أسهم في تشكيل المنطلقات النظرية للفكر الاجتماعي، وأدّى بصورة تدريجية إلى بلورة البدايات النظرية للأنثروبولوجيا، خلال عصر التنوير . أمّا بالنسبة للدراسات الأثنوجرافية (دراسة أسلوب الحياة والعادات والتقاليد) والدراسات الأثنولوجية (دراسة مقارنة لأساليب الحياة للوصول إلى نظرية النظم الاجتماعية )، والدراسات الأنثروبولوجية الاجتماعية، فثمةّ أعمال كثيرة قام بها العديد من العلماء . وقد تكون محاولة الرحالة الإسباني (جوزيه آكوستا J. Acosta) في القرن السادس عشر، لربط ملاحظاته الشخصيّة عن السكان الأصليين في العالم الجديد ببعض الأفكار النظرية، المحاولة الأولى لتدوين المادة الأثنوجرافية والتنظير بشأنها. فقد افترض آكوستا أنّ الهنود الحمر كانوا قد نزحوا أصلاً من آسيا إلى أمريكا، وبذلك فسّر اختلاف حضاراتهم عن تلك التي كانت سائدة في أوروبا حينذاك. وقدّم آكوستا أيضاً افتراضاً آخر حول تطوّر الحضارة الإنسانية عبر مراحل معيّنة، معتمداً في تصنيفه على أساس معرفة الشعوب القراءة والكتابة. وقد وقفت أوروبا في أعلى الترتيب، وأتت بعدها الصين في المرتبة الثانية لمعرفتها الكتابة، بينما جاءت المكسيك في مرتبة أدنى من ).Darnell,1978,p.81ذلك .. وصنّفت المجتمعات الأخرى بدرجات متباينة في المواقع الأدنى من هذا الترتيب. و ربّما شكّل هذا التصنيف أساساً استند إليه الأنثروبولوجيون – فيما بعد- للتمييز بين المجتمعات. وظهر إلى جانب آكوستا / الإسباني في الدراسة الأثنوجرافية عن الشعوب البدائية، عالم الاجتماع الفرنسي، ميشيل دي مونتاني M.De. Montaigne الذي عاش ما بين (1532-1592) وأجرى مقابلات مع مجموعات من السكان الأصليين في أمريكا المكتشفة، والذين أحضرهم بعض المكتشفين لأوربا. وبعد إن جمع منهم المعلومات عن العادات والتقاليد السائدة في موطنهم الأصلي، خرج بالمقولة التالية : [إنّه لكي يفهم العالم فهماً جيّداً، لا بدّ من دراسة التنوّع الحضاري للمجتمعات البشرية و استقصاء أسباب هذا التنوّع ويكون بذلك قد طرح فكرة (النسبية الأخلاقية)]. و ممّا قاله في هذا الإطار ما كتبه في مقاله الشهير عن ( أكلة لحوم البشر ) و جاء فيه : ” يبدو أنّ ليس لدينا أي معيار للحقيقة والصواب، إلاّ في إطار ما نجده سائداً من آراء وعادات على الأرض التي نعيش عليها (أوروبا)، حيث نعتقد بوجود أكمل الديانات، وأكثر الطرائق فاعلية في الحصول على الأشياء . إنّ هؤلاء الناس (أكلة لحوم البشر) فطريون / طبيعيون، مثل الفاكهة البريّة. فقد بقوا على حالهم كما شكّلتهم الطبيعة بطريقتها الخاصة، وتحكّمت فيهم قوانينها وسيّرتهم, و من هذه الرؤية البسيطة، لاقى كتابه الشهير "المقالات" الصادر عام 1579 اهتماماً كبيراً لدى مؤرخي الفكر الأوروبي عامة، والفكر الفرنسي خاصة, J.J. Rossowو يأتي القرن الثامن عشر، ليحمل معه كتابات (جان جاك روسو) و التي احتلّت أهميّة كبيرة لدى مؤرّخي علم الأنثروبولوجيا،وذلك بالنظر لما تضمنته في دراستها الأثنوجرافية للشعوب المكتشفة (المجتمعات البدائية) مقارنة مع المجتمعات الغربية / الأوروبية . . ). .Leach,1982,p.67) لقد تميّزت وجهة النظر الأنثروبولوجية عند روسّو بالتجرّد والموضوعية، حيث تجلّى ذلك في نقد بعض القيم والجوانب الثقافية في مجتمعه الفرنسي، مقابل استحسان بعض الطرائق الحياتية في المجتمعات الأخرى. وفي هذا الإطار، يعدّ كتابه ” العقد الاجتماعي” من البواكير الأولى للفكر الأنثروبولوجي. وكان إلى جانب روسّو، البارون دي مونتسكييه، الذي وضع كتاب (روح القوانين) وأوضح فيه فكرة الترابط الوظيفي بين القوانين والعادات والتقاليد والبيئة. و سادت هذه الفكرة الترابطية في أعمال الأنثروبولوجين في أوائل القرن العشرين، ولا سيّما عند الأنثروبولوجيين الإنجليز، حيث انتقل اهتمام مونتسكييه بدراسة النظم السياسية، وتأثير المناخ على نوعيّة الحضارة أو الثقافة – فيما بعد – إلى ).Darnell,1978, p.87)الكتابات الأنثروبولوجية، وشكّل مجالاً واسعاً للدراسات الأنثروبولوجية. . أمّا في ألمانيا، فقد تبلور الفكر في عصر التنوير، عن التفوّق العنصري والنزعة القوميّة الشوفينيّة (التعصبيّة ). وظهر ذلك واضحاً في كتابات كلّ من / جورج هيجل (1770-1831) وجوهان فخته (1762-1814)، حيث جعلا الشعب الألماني، الشعب الأمثل والأنقى بين شعوب العالم . أمّا كتابات جوهان هيردر (1744-1803) فجاءت لتعزّز فكرة التمايز بين السلالات البشرية من ناحية التركيب الجسمي، والتفاوت فيما بينها بمدى التأثّر بمظاهر المدنية، وفي تمثّلها لمقوّمات الحضارة. وعلى هذا الأساس، يذهب هيردر إلى أنّ ثمّة سلالات بشرية خلقت للرقي، وسلالات أخرى قضي عليها بالتأخّر والانحطاط .( الخشاب، 1970، ص375 ). لكن هذا الاتجاه العنصري في الدراسات الأنثربولوجية، واجه انتقادات كبيرة في بداية القرن العشرين ، حيث برزت فكرة أنّه لا يجوز أن تتّخذ اللغة كأساس أو دليل على الانتماء إلى أصل سلالي واحد، وأنّ العلاقة بين الجنس البشري واللغة، لا يجوز أن تكون أساساً لتقسيم الشعوب الإنسانية إلى سلالات متمايزة. وقد نقض ذلك ودحضه، فيما بعد، الفكر الأنثروبولوجي القائم على المشاهدة الواقعية، والدراسة الميدانية المقارنة لمجتمعات الشعوب الأخرى . وهنا يمكن القول : إنّ الأنثروبولوجيا المتحرّرة التي ظهرت اتّجاهاتها وقضاياها الانسانية، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، تجد – ولا شكّ – في الكتابات الفرنسية في عصر التنوير، جذوراً أو أصولاً نظرية لمنطلقاتها الفكرية .( فهيم، 1986، ص101). وتأسيساً على ما تقدّم، يمكن القول : إنّ الفكر الأنثروبولوجي الذي ساد أوروبا في عصر التنوير، وتجلّى في كتابات العديد من الفلاسفة والباحثين والمؤرّخين، شكّل الملامح النظرية الأولى لعلم الأنثروبولوجيا، الذي بدأ يستقل بذاته مع بدايات القرن العشرين، ويتبلور بمنطلقاته وأهدافه في النصف الثاني من القرن ذاته. الكتاب كائن حي .. في الجاهلية وقبل مجيء الإسلام . كانت البضائع الصينية متوفرة في أسواق مكة ، وكان أبو سفيان يرعى الأدب والأدباء ويكرم الشعراء ويحضر وغيره من سادات مكة مهرجانات الشعر . كانت الصناعة رائجة ، وقوافل التجار تحمل من بلاد الأرض مختلف السلع . وكان عدد الآلهة يزداد كلما إزدادت مواردهم ، حتى صار حول الكعبة اكثر من ثلاثمائة صنم . كانت الطبقية هي السائدة ، والمال هو الحاكم ، والعصبية هي دين القوم . لقد إعتاد الناس آنذاك على قبول الواقع الإجتماعي والإقتصادي حيث السادة والعبيد ، الأغنياء و الفقراء . ومن يدخل مكة لا يكاد يكتشف ان هناك ظلماً وظلاماً ، وما كان لغير الراسخين في العلم ان يتنبأوا بأن الأرض تنتظر منقذاً بات ظهوره ضرورة حتمية اقتضتها إرادة الخالق ، فكان محمد بن عبد الله رسول الدعوة الى الإنسانية عن طريق التوحيد . كانت الأعراف الإجتماعية تملي على الأبناء طاعة آبائهم ، فما كان (للصادق الأمين) أن يجمع الناس حوله في ذلك الوقت لولا فسحة الوعي التي كان عليها بعضهم . أما أغلبية أبناء المجتمع فكانوا مستسلمين لإرادة العرف الإجتماعي السائد ، إذ هم تبع آبائهم وأسيادهم الذين وجدوا في عبادة رب واحد ما يتقاطع مع توسع التجارة وإزدهار الصناعة ودوام النفوذ والسيادة . لذلك عرض سادة مكة ، المال والجاه على النبي الجديد من أجل ان يترك لهم حياتهم تسير على ما هي عليه. كانت الكلمة هي المادة الخام التي استخدمها النبي الخاتم في مشروعه الرسالي المتضمن صناعة وعي ذاتي في الفرد والمجتمع يحمله على تغيير واقعه الى ما ينبغي أن يكون عليه كوجود إنساني لا كتواجد بشري ، ففي عبارة ( أفلا ينظرون ) التي جاءت في سياق آيات قرآنية ، دعوة إلهية للناس لكي يستخدموا التفكير الموضوعي في تعاطيهم مع الطرح الجديد في ضوء الواقع الذي كانوا يظنونه آمناً بوجود تلك الأصنام في الكعبة وفي بيوتهم . الوعي هو الذي حث الذات الإنسانية في ( سميّة ) و ( ياسر) بعدما أظهرا قلقهما وخوفهما حال سقوط الصنم الى الأرض في حركة غير مقصودة من ولدهما عمار وهو يحاول ان يطمئنهما على حاله بعد علمهما بأنه يلتقي بالنبي الجديد . سرعان ما تحول ذلك القلق والخوف الى باعث للتامل ودعوة الى إسترجاع الأحداث حين اخبرهما (عمار) ان هذا الصنم لا يضر ولا ينفع ، والكلمات التي جاء بها النبي محمد فيها من الطاقة الروحية ما يشجع على قبول الفكرة . هكذا تهيأت للذاكرة أجواء العودة بـ ( سميّة) الى الوراء لتقف عند مشهد وأد أبيها لأختها ، وما خلفه ذلك الفعل اللاإنساني من الم مزمن في نفسها لم يغادرها برغم السنين ، ولم تتمكن وهي بقرب الألهة من ان تشعر بالأمان ، فأستمدت من إستقرار نفس ولدها ( عمار ) وهو يذكر كلمات الله ، طاقة حركتها وزوجها لإستنهاض وعيهما الذاتي . وعندما اصبح ( عمار ) في مواجهة مع سادة مكة ، دعوه الى التعقل والى استخدام المنطق الذي يظنونه في جانب تخلي عمار عن اتّباعه الدين الجديد ، واتسعت دائرة الوعي الإنساني حين أمر ( أمية بن خلف ) عبده ( بلال ) بجلد ( عمار) بالسوط ، فكان إمتناع ( بلال ) عن تنفيذ الأمر إيذاناً ببدء مرحلة التعذيب الجسدي البشع ، تلك المرحلة التي كان اهون خطواتها هي هلاك جسم ذلك العبد، لكن رحمة الله شاءت ان ينجو بعرض قدمه (ابو بكر) الى (أمية) فكانت حياة بلال مقابل 100 دينار. مات ( ياسر ) وماتت زوجته ( سمية ) ميتة بشعة أُرغم (عمار) على حضورها في مشهد تعذيب علني أدّاه سادة مكة. ترك ذلك المشهد أثره العميق في نفس ( عمار ). فمثلما كانت قوة العضلة غالبة في ذلك الوقت الذي لم تصل فيه قوة الكلمة الى ما يكفيها من قدرة على المواجهة ، كانت معادلة التوازن تدّخر شخص ( حمزة ) ليوظف قوته البدنية المشهود له بها ، في الدفاع عن كلمة العدل والحق ، ودعم حرية الكلام والتعبير . ( كيف نقاتل رجلاً لا ندرك سر قوته ) هذا ما قاله أبو سفيان حين قاس بعين رؤيته المادية إمكانات محمد التي تفتقر الى المال والسلاح والرجال الأشداء ، فالذين يتبعون الدين الجديد هم من العبيد والفقراء ، ومع كل صنوف التعذيب والتنكيل والقتل والقمع كانوا يصمدون ويزدادون . لا يفرطون بالكلمة التي خاطبهم بها نبيهم بوحي الله ، حتى عندما حمل روع المشهد الأليم ( عمار) الى ذكر ( هبل ) بخير ، كانت كلمة النبي الخاتم أكبر من مجرد تهدأة للنفس وتطييب للخاطر ومواساة على الفاجعة لقد كانت تكريماً و وعداً إلهياً بأعلى مرتبة في الجنة. (محمد إنسان ، ونحن لا نركع إلا لله). هكذا وجد جعفر بن أبي طالب طريقه الجديد في الحياة ، فوظف رؤيته الجديدة في حضرة ملك الحبشة حين أمر بالسلاسل لتقييده ومن جاء معه من مكة . فأنبرى مخاطباً الملك بثنائية الدين والعدالة ، حين قال له ان نبينا ارسلنا اليك لأنك ملك عادل ، ولأنك من أهل الكتاب . وجد الملك في قول جعفر ما يحمله على الإصغاء اليه ، فوجد كلامه مقنعاً ملزماً له ، فمنحهم حق اللجوء والإقامة في المدينة . هكذا مثلت الكلمة شرارة الثورة العظيمة التي زلزلت المجتمع في ذلك الوقت . وكأي تغيير لم تخل أحداث تلك المرحلة من وقوع ضحايا وخسائر بالأرواح والممتلكات . فكان الصبر رافد النبي في دعوته التي كلفته وفاة زوجته وعمه في عام الأحزان ، وكلف أتباعه إغترابهم عن عوائلهم وفقدانهم أموالهم وأعمالهم . لكن تنمية الذات والعمل من أجل لحظة وعي ذاتي في كل شخص كان مشروعاً إستحق كل ذلك العطاء وكل تلك القرابين التي أفصح عنها قوله صلى الله عليه واله ؛ ( ما أوذي نبي مثلما اوذيت ) . وبينما كانت الحروب الأهلية متوقعة في تلك الظروف وكان متوقعاً توسعها كلما اتسعت دائرة الدعوة الى الدين الجديد ، كان الإسلام يرى نواة دولة انسانية جديدة في طريق انشطارها محدثة بركاناً وجدانياً ، إيمانياً ، إنسانياً ، أدهش سادة مكة لما اقتحم رجالهم بيت النبي ليلاً ، فإذا بـ ( علي بن ابي طالب ) ينام مكان رسول الإنسانية ليفتديه بنفسه حين دبر العقل التسلطي القرشي مكيدة قتل النبي بيد جماعية يضيع معها دمه بين القبائل . كان الصدق رفيق خطوات الدعوة الإيمانية الجديدة في تدابيرها وهو يكفي علياً خطر الموت المحتمل على أيدي القوم وهم يتعجلون الإنتقام ، لقد كان الله معه يسمع ويرى لأنه يحب الصادقين ، هذا هو سرّ قوة الدين الجديد التي حيرت أبا سفيان ومن معه . كانت الدفوف التي استقبل بها المسلمون نبيهم في المدينة إيذاناً بدخول المجتمع لأول مرّة مرحلة التصويت الحر لحكومة جديدة دستورها الكتاب المبين ، يتحركون بهديه الى ما يرتقي بهم ويحفظ لهم كرامتهم وامنهم وحريتهم وحقهم في العيش في مجتمع عادل ، هو اليوم وبعد أكثر من الف عام ينادي بكتاب الله دستوراً . لكن الكتاب لم يعد كائناً حياً حين اكتفت أنظمة الحكم المعاصرة بوجوده للتبرك والعمل به في حدود لا تشمل كل مفاصل حياة الناس اليومية ، الأمر الذي دفع بالناس في ظل ظروف الدولة الجديدة الى هجر القرآن ، ثم العزوف عن القراءة ، ثم دخل فارق التطور الكبير بين المجتمع العربي والمجتمع الغربي أو الأوربي على خط جذب الناس الى الكلمة العلمية، المادية البحتة الخالية أحياناً من الروح التي حركت مجتمع الأمس قبل أكثر من الف عام . شيئاً فشيئاً تحولت آلهة الأمس الحجرية الى آلهة بشرية في زمن الرياء والنفاق والمصالح المادية والصراعات والنزاعات التي كادت تفتك بالبلاد وترجع بها الى زمن السبي والظلم والظلام ، ليس باسم اللات و هبل ، ولكن باسم الله هذه المرة . انه الإستغراق في المادة بعيداً عن الروح ، الامر الذي من شأنه ان يقود المجتمع المعاصر الى جاهلية وثنية بشرية بتقينة رقمية وبأدوات معاصرة غير التي كان يستخدمها مجتمع الأمس . ان تفعيل المشروع المحمدي الإنساني يقتضي منا اليوم ان نتفاعل مع الكتاب ككائن حي ، لا مجرد كلمات في صفحات كتاب على رفوف مكتبة لا نقصدها إلا في أوقات معدودة ولحاجات محدودة بسبب عزوف كثير من الناس عن القراءة ، حتى ممن يتخرجون من الجامعات . الذين إذا قرأوا فإنهم لا يقرأون إلا كتباً في مجالات تخصصاتهم التطبيقية فقط . أما عوام الناس فقد استسلموا لروتين الحياة وتعقيداتها وانغمسوا في طلب العيش فأقصروا وجودهم على تأمين احتياجاتهم من مأكل وملبس ومسكن وتكاثر. الثقافة المحلية وعصر التقنية .. يرى بعض المثقفين المعجبين والمتأثرين بعصر التقنية والثقافات الغربية، ان ثقافاتهم المحلية ليس بمقدورها مواكبة المشاريع الثقافية العالمية التي تمولها مشاريع الإقتصاد الصناعي والسياسي للدول الكبرى في العالم عبر شركات عابرة للقوميات، وعبر مواقع التواصل الإجتماعي، من خلال محركات البحث الالكتروني .لذا وجدوا في المرونة حاجة ضرورية تفرضها ظروف مرحلية محلية واقليمية وعالمية متعلقة بمستقبل الحياة على الارض وبمصير الإنسانية، لذلك دعا نفر من المثقفين الى تكوين عقل ثقافي محلي بمواصفات عالمية عابرة للخصوصية، وفي بعض الأحيان عابرة للقيم والمبادىء والمثل العليا للمجتمع . لقد منحت أدوات التقنية للمثقف العربي الواناً من الحرية كان ولا يزال يفتقر إليها في مجتمعه ، فقد صار بمقدوره إنتاج ثقافته الخاصة بعد أن كان إنتاجها جماعياً . الفردية الثقافية .. اختلف المثقفون حول الفردية الثقافية ،. منهم من يراها تهدد وحدة المجتمع ، خصوصاً عندما تكون متأثرة بالتغريب الثقافي . و منهم من يراها تعزز مركزية الذات, و تزيد في حرية التعبير , و حرية الأبداع التي يحتاجها العقل العربي المقيّد بآلمصادر و الآراء القديمة و الموروث الثقافي عموماً . لا يرى بعض المثقفين ، في التغريب الثقافي خطراً على حاضر بلدانهم العربية بموروثها الثقافي في ظل النظام العالمي الجديد الذي لا معنى فيه لحياة أي مجتمع بعيداً عن التأثر بثقافات المجتمعات الأخرى حول العالم والتأثير فيها . بينما يعتقد المثقف المحافظ إنّ الأمر يحتمل كل الخطورة ما دامت معادلة الأقوى في أجندات النظام العالمي لم تغادر بعدها المادي عددياً وعسكرياً وإقتصادياً فهي المعادلة التي لا تزال غالبة على طبيعة المشهد العالمي في كل المجالات تقريباً ، وان الدول الكبرى التي استعمرت بلداننا في السابق ، هي نفسها من يقود العالم اليوم بعد أن أجرت تحديثاً على بعض المفاهيم كالإستعمار والإحتلال . فصار الحديث عن الغزو الثقافي ، وعن إحتلال العقول ، و الهيمنة الرقميّة العالميّة ، والتغريب الثقافي وأمركة العالم و ثقافة القطب الواحد؛ حديث الساحة التي لا يمكن التحدث بغيرها. المثقف والتطور .. لا تزال لكلمة "تطور" و "تقدم" جاذبيتها الشديدة التي تشدّ اليها كل باحث عن واقع أفضل وحال أحسن وحياة أجمل. بإسم التطور خرجنا من عباءة الماضي وانفتحنا على العالم. وبإسم التطور وسّعنا علاقاتنا التجارية والثقافية والدبلوماسية مع بلدان العالم . وبإسم التطور خرجنا الى صناديق الإقتراع نحمل السلام بدل السلاح بحثاً عن ممثلين صادقين عنا في السلطة. وبإسم التطور ارتضينا الاختراق الالكتروني لخصوصياتنا عندما وفرت لنا بعض شركات الإنتاج الرقمي امكانية الكسب المالي بالترويج لصفحاتنا الشخصية بمنشوراتها ومعروضاتها ومن بينها شؤوننا الشخصية وحياتنا العائلية. يُعتقد ان المساحة الكبيرة للحرية التي وفرتها التقنية الرقمية المتطورة في مجال النشر وإبداء الرأي ، تعدّ من إيجابيات عصر التقنية . لكنهم قد لا يعلمون ان القائمين على مشاريع التطور التقني يستثمرون في الثقافة لصالح اجنداتهم الخاصة ، فهم يوفرون للكاتب والمفكر سبل التواصل ونشر المقالات والكتب والأراء ويقدمون له عروضاً للشهرة ، وفي الوقت نفسه ، يستخدمون ظهوره الإعلامي وصوره الشخصية ومقاطع الفديو التي يتحدث فيها ، كسلاح خطير يوجهونه اليه متى ما اراد ان يواجه بأخلاق ثقافته ووعي حريته ومبادىء مهنته، عروضاً وأفكاراً ومخططات يتم الترويج لها هنا وهناك ، يراها تهدد أو تضرب البنية التحتية لمنظومة القيم والأخلاق والدين والإنسانية . فيعمدون عبر تقنيات برمجية متطورة الى إنتاج مقاطع فديو يظهر فيها ذلك المثقف وهو يتحدث بالضد من طروحاته ومنهجيته العلمية والأخلاقية والدينية ، وقد يظهرونه في أوضاع مخلة بالأدب أو يجرون على لسانه آراء تضر بالسلامة الفكرية أو تطعن في الدين والقيم والموروث الأخلاقي . الثقافة وعصر التقنية: عصر التقنية المتطورة ، بما يوفره من حق شخصي في إمتلاك أجهزة الموبايل والحاسوب والإنترنت, وبما يوفره من حرية و سهولة في إستخدام وسائل التواصل الإجتماعي، و المواقع الألكترونية. يوفر في رأي بعض المثقفين فرصة ركوب أمواج ثقافات الدول المتطورة بما يحقق أو يدفع بإتجاه اللحاق بركب العالم ثقافياً وإجتماعياً وإقتصادياً ، من خلال التدفق الهائل للبيانات والمعلومات وسرعة الحصول عليها ودقة نتائج البحث الألكتروني التي يراها بعض المثقفين تغني رصيدهم الثقافي وتجربتهم الإبداعية . منذ بدايات القرن الواحد والعشرين ، كثر في العالم العربي حملة الشهادات العليا وحملة الألقاب الرسمية و الإجتماعية ، وهيمنت الثقافة الشعبية على مشاهد الحياة اليومية للناس قياساً بثقافة النخبة. ربما لقلة العطاء الفكري و الثقافي للنخب الثقافية، و ربما لغزارته في الجانب النظري البعيد عن واقع حال المجتمع الذي يُراد ان يتأثر بفكر المثقفين بما يدفعه الى تغيير واقعه الى ما ينبغي ان يكون عليه . وربما لافتقاره الى علاقة تواصل مؤثرة بالمتلقي ، تجعل من ذلك العطاء الفكري العملي موضع تفاعل الناس ، فقد نجد كثيراً من البحوث الأكاديمية المهمة التي تصب في معالجة الواقع ، لكنها حبيسة رفوف المكتبات ومكاتب المسؤولين الذين لا يجدون في تنفيذها ما يخدم توجهاتهم في إدارة البلاد. التثقيف الإفتراضيّ: كما أتاح العالم الافتراضي (المجازيّ) إمكانية تأسيس أكاديميات افتراضيّة و مراكز أبحاث و كليات و معاهد للدراسة عن بعد ، وسّعت مساحة اللقاء الثقافي و المعرفي وأعطت للكتاب الألكتروني حضوراً أثّرَ في حركة الكتاب الورقيّ فقلّ الإقبال عليه أمام وفرة المكتبات الألكترونية المجانية التي تعرض عنوانات متنوعة وكثيرة يمكن قراءتها عبر الشاشة أو نقل نسخة منها إلى الحاسوب الشخصي ، فضلاً عن مكتبات بيع الكتب الكترونياً بأسعار هي الأقل مقارنة بكلفة شرائها مطبوعة بصيغة كتاب ورقي . انشطة ثقافية الكترونية .. التغطية المستمرة و البث المتواصل للإنترنت على مدار الساعة حفز كثيرين على الظهور في مواقع التواصل الإجتماعيّ و غرف الدردشة و الملتقيات و الصالونات و المجموعات الثقافيّة و الإخباريّة و التجاريّة . ثم جاء وباء كورونا ليدعم هذا الحافز ويوسعه ، فلم يتوقف النشاط الثقافي والتواصل الإجتماعي بسبب العزلة التي فرضتها شروط السلامة من الوباء ، فقد ظهرت منتديات ومجالس ثقافية الكترونية تلقى فيها المحاضرات بالصوت والصورة الحية تارة ، والمسجلة تارة أخرى ، وكان لرابطة مجالس بغداد الثقافية دور مميز في تحريك الوسط الثقافي في أجواء الحظر حيث التنسيق بين الأعضاء عبر المجموعة الالكترونية للرابطة وتحديد وقت ويوم لشخصية ثقافية تختارها الإدارة لتلقي محاضرة يختارها المحاضر و يرسلها على شكل بصمات صوتية الى المجموعة، تعقبها مداخلات واسئلة. تمخض عن هذا الدور ، كتاب “ ثقافتنا في زمن الكورونا “ الذي جمع فيه رئيس الرابطة الاستاذ صادق الربيعي كل المحاضرات الثقافية التي القيت افتراضياً وطبع على شكل كتاب ورقي ضخم . عمد بعض القائمين على الأنشطة الثقافية الإلكترونية الى تقديم ” شهادة مشاركة ” باسم كل من يسجل حضوره الالكتروني في المنصة التي تلقى من عليها المحاضرة الثقافية . فضلاً عن ” شهادة شكر ” و” درع الإبداع والتميز ” . بعض الآراء ثمنت تلك المبادرات وعدتها تشجيعية ومحفزة ، وبعضها رأت فيها أنشطة قائمة على أساس مشترك بين المظهر الإجتماعي والجوهر الثقافي ، فتقديم شهادة مشاركة لمجرد دخول الشخص وتسجيله في المنصة يحفز كثيرين على تلك الخطوة من أجل الحصول على تلك الشهادة التي ترسل اليه الكترونياً فيقوم المشترك بنشرها على حسابه الخاص كي يحصل على الإجايات وكلمات الثناء على نشاطه الثقافي هذا. الثقافة والتزييف العميق .. هكذا نصبح أمام تعريفات جديدة للحريّة والأخلاق والثقافة في عصر التقنيّة . تعريفات تسمح لكل من يلتزم بثقافة المشاريع الإستثمارية العالمية أن يصبح شخصية إجتماعية ، أو شخصية مؤثرة ، أو شخصية عالمية , ما دام يتمدد بتفكيره ضمن حدود المنتج العالمي لمفهوم الحرية التقنية الرقمية المؤرشفة و المؤدلجة . من ذلك ما نسمعه ونشاهده هنا وهناك من ظهور اشخاص بلا محتوى ثقافي رصين وهم يملأون الشاشات و يشغلون اوقات البث، يحتفى بهم في محافل ثقافية تم الإعداد لها في إطار سياسي اقتصاديّ . وقتذاك سيشعر المثقف الحقيقي ان الثقافة من حيث هي رسالة وعي إنسانيّ أخلاقيّ إيجابيّ، تشكل عبئاً يثقل كاهله حد كسر الظهر ان هو أصرّ على حملها في عصر الشاشات الملونة والنفوس الملوثة. أدرك أصحاب الوعي هذا الخطر المحدق بمستقبل الثقافة الإنسانية . كما أدركوا ان الأعمال العظيمة التي خدمت الانسانية عبر التاريخ لن تكون بعيدة عن متناول يد مشاريع الإستثمار وبرامج التقنية المتطورة والذكاء الإصطناعي غداً، فبعد ان يمر وقت على ظهور جيل أو جيلين من الشباب الذين لا يعرفون غير الإنترنت مصدراً لمعلوماتهم و معارفهم و ثقافاتهم، ستأخذ مخططات و مشاريع الثقافة العالمية من تلك الأعمال العظيمة واولئك الأبطال والمفكرين والمثقفين ما تستفيده في برامج الكترونية عالية الدقة كـ “ تقنية التزييف العميق “ مثلاً، حيث يعاد إنتاج حديث نبوي أو رأي شرعي جاء على لسان عالم جليل القدر عظيم الأثر عند أتباعه ومريديه ومقلديه. أو إعادة صياغة حكمة أو وجهة نظر لفيلسوف أو مُفكر أو كاتب مشهود له بالكتابة الجادة و الأمانة العلمية و بقوة الشخصية و سلامتها, أو إعادة كتابة حدث أو مجموعة من أحداث التاريخ, بحيث تقدم هذه الأعمال و الأقوال والأحداث الى الأجيال الشابة المثقفة الكترونياً بعد أن يضاف اليها او يحذف منها أو يغير كامل محتواها بما يتوافق مع ما تقتضيه أجندات أصحاب المشاريع العابرة للقيم والإنسانية, فيتوهم اولئك الشباب انهم على إتصال بتاريخهم ، فيبنون على هذا الإتصال الموهوم ثقافاتهم الجديدة. غالباً ما تأتي مشاريع تزييف الحقائق من أجل صناعة قوالب جديدة للثقافة ينتج عنها جيل مثقف مستهلك لا يسمح لابداعه أن يتجاوز المدة المحددة لصلاحيّة الثقافة الإستهلاكية، واذا حصل وأراد ان ينتج ثقافته الخاصة فإن السوق العالمية ستحذر المستهليكن منها كونها غير صالحة وغير آمنة، و لن يكون بوسع المستهلكين سوى تقبل تلك الإدعاءات لأنهم سيكونون في وضع لا يسمح لهم بالتمييز بين المزيف والحقيقي من المنتجات والأفكار والثقافات ومصادر التاريخ. بين الإغتراب والتغريب: برغم أعداد الإصدارات التي تعلن عنها دور النشر ومعارض الكتب ، لا تزال الثقافة في غربة عن واقع وطبيعة وطريقة حياة الناس . إما لمهنية وحرفية وتجارية طابع كثير من تلك المطبوعات او لإفتقارها الى لغة مرنة مشتركة بين الكاتب والقارىء . بعض الكتاب يستخدمون تعبيرات غامضة بهدف التشويق أو بهدف تكوين إنطباع أولي لدى القارىء عن علو كعب الكاتب ، فكلما احتاج القارىء الى وقت أطول لفهم مقصد الكاتب دلّ ذلك – كما يتوهم بعضهم – على المهارة والعمق الثقافي والبعد الفكري للكاتب, بينما حقيقة الأمر يدلل على ضعف الكاتب و عدم قدرته على بيان الأمور بوضوح وسلاسة و بأقل جهد! في كتابه (قضايا الفكر في الأدب المعاصر) المطبوع سنة 1959م يقول, وديع المصري في صفحة 128 : [...وعليه فقد ازدحمت السوق بأطنان من الكتب وناءت الذاكرة بحفظ أسماء الكتاب الجدد]. ولكن اذا استصفينا حصيلة كل هذا النتاج لم ننته إلا الى قليل من الدسم في محيط من الغثاثة والفجاجة وهو ان التفكير… وقد أحسن الباحث والمحق المصري محمد عبد المنعم خفاجي تصوير هذه الحال فقال : [ان القرّاء يقعون فريسة لذوي المواهب الضيئلة والأهواء الصغيرة من محترفي الأدب], مما أدى الى ظهور الآلاف من الكتب والقصص التافهة التي تؤثر سلباً في عقول الشباب و تترك في نفوسهم تأثيراً ضاراً و سيئاً ذا اثر محزن في حاضرنا الفكري والثقافي، و تؤدي الى انحطاط مستوى الروح الأدبي والعلمي في اوساطنا المثقفة.. على مواقع التواصل الإجتماعي وبدافع حرية التعبير وحرية انشاء صفحة شخصية ، ينشر بعضهم ما يسمونه قصيدة أو مقالة قصيرة أو خاطرة ، لا يكاد يفهم منها شيئاً: (الغريب في الأمر إن اصدقاء الناشر يثنون عليه بـ “ احسنت النشر “ ؛ “ شكراً لحرفك الجميل “ ؛ “ روعة “ فتوهم بعضهم انه على خير حين غاب النقد الحقيقي وحلّت محله المجاملات الإجتماعية في كثير من الأحيان . تقارير ثقافية .. حسب تقرير التنمية البشرية لعام 2003 الصادر عن اليونسكو ان كل 80 شخصاً عربياً يقرأون كتاباً واحداً في السنة ، بينما يقرأ المواطن الاوربي الواحد حوالي 35 كتاباً في السنة . وفي تقرير التنمية الثقافية للعام 2011م الصادر عن مؤسسة الفكر العربي ان المواطن العربي يقرأ بمعدل 6 دقائق سنوياً ، بينما يقرأ المواطن الاوربي بمعدل 200 ساعة سنوياً وبحسب تقرير اليونسكو فإن الدول العربية انتجت عام 1991م 6500 كتاباً بالمقارنة مع امريكا الشمالية التي انتجت 102 الف كتاب و 42 الف كتاب في امريكا اللاتينية والكاريبي . وحسب تقرير التنمية الثقافية فإن الكتب الثقافية العامة التي تنشر سنوياً في العالم العربي لا تزيد عن 5000 عنواناً وفي امريكا يصدر سنوياً حوالي 300 الف عنوان . و تساعد هذه الأرقام في الكشف عن الفارق الثقافي بين الشرق والغرب ، فعدد النسخ المطبوعة من الكتاب الواحد في الشرق لا تزيد عن خمسة الاف نسخة ، بينما يصل الى خمسين الف نسخة للكتاب الواحد في الغرب. الكتاب الورقي وتقنية الطباعة: بعد ان وفرّت التقنية المتطورة أجهزة طباعة تتيح للكاتب والمؤلف طبع عدد محدود من كتابه بما يتلائم ومقدرته المالية من جهة ، و حركة الإقبال على الكتاب الورقي من جهة اخرى . وجد بعض الكُتّاب ذلك محفزاً لمضاعفة جهودهم وتقديم اكبر عدد ممكن من المؤلفات ، التي عدّها بعضهم مؤشراً على غزارة ثقافة الكاتب ، بينما كانت موضع إنتقاد آخرين ، خصوصاً عندما تحمل تلك الكتب عناوين ومضامين لا تخدم الواقع ولا تتحرك به في طريق النهضة ، ولعل بعضها يفتقر الى أبسط مقومات النص السليم ، الأمر الذي حمل بعض المعنيين على وصف هذه المرحلة بالمظلمة ثقافياً أو الفقيرة ثقافياً ، لا من حيث الإمكانات المادية والتقنية وكثرة المطبوعات . بل من حيث قلة عدد القرّاء وكثرة عدد الفقراء في مجتمع ما بعد التغيير السياسي و الإقتصادي و الأمني في العالم العربي ، والسماحية العالية التي توفرها شبكة الإنترنت للراغبين بكتابة بحث أو رسالة أو تأليف كتاب دون بذل جهد فكري أو حتى جهد عضلي . فقد أعدّت بعض شركات الإنتاج الألكتروني برامج وتطبيقات تتيح للمستخدم إعداد رسالة جامعية أو بحث أكاديمي أو تأليف كتاب في مجال من مجالات المعرفة والعلوم الإنسانية ، منها تطبيق chatGpt الذي يقدم خدمات متقدمة في مجال تأليف الكتب . يكفي أن يكتب المستخدم عنواناً لكتابه المرتقب فيتولى التطبيق تنفيذ المهمة و يتيح التطبيق للمستخدم تحديد عدد فصول الكتاب و فقراته و قصر وطول المادة المكتوبة وعدد صفحات الكتاب ويتولى موقع آخر تصميم غلاف مناسب للكتاب . بالنتيجة يصبح بمقدور المستخدم أن ينجز عشرات الكتب سنوياً ما بين طبعها ورقياً و بين الإقتصار على نشرها الكترونياً والترويج لها بواسطة إعلانات الكترونية مموّلة . هكذا تجعلنا بدايات القرن الواحد والعشرين على موعد مع عدد كبير من الأسماء التي تبحث لنفسها عن مكان في عالم الثقافة بحكم غزارة إنتاجها من مؤلفات ومقالات لم تكتب فيها شيئاً ، ولم تبذل فيها جهداً فكرياً . في مستقبل عصر التقنية المتطورة سيكثر الكتاب والمؤلفون ، وسيقل الثوّار والمبدعون . وستصبح الثقافة لوناً الكترونياً رقمياً يسهم في ترقيع لوحة الحياة التي ترسمها مشاريع الذكاء الإصطناعي . الكتاب والتسويق: تواجهنا في الحديث عن الدّور المهم لدور النشر في حركة الثقافة مشكلة التوجه التجاري للعاملين في كثير من المطابع لأنه يحملهم دائما على طبع الكتب التجارية التي تستهلك وقت القارىء وقد يندم على ذلك الوقت الذي امضاه في قراءة هذه الكتب كما قال وديع فلسطين المصري في حديثه عن المشكلة قبل اكثر من خمسين عاما في كتابه ( قضايا في الفكر) . تجذب الكتب التجارية الشباب اليها لأنها تخاطب رغباتهم في النجاح والثراء والتميز والحب بلغة مباشرة مقتصرة على لون محدد من الوان تلك الرغبات . لعلنا نستطيع معالجة هذه المشكلة بدخول المثقف على خط العمل في مشاريع الطباعة حيث تمتزج في شخصية المثقف ثنائية النشاط الثقافي والتجاري معاً مما ينتج عنه مطبوعات هادفة اكثر من تلك التي ينحصر انتاجها في الربح المالي فقط . كثير من القراء الشباب يفضلون قراءة الكتب الأجنبية المترجمة الى العربية . ويستشهد كثير من الكتاب والباحثين العرب في كتاباتهم وابحاثهم ومحاضراتهم بكتّاب وباحثين وعلماء أجانب أكثر من العرب في مجال البحث نفسه . لا يزال الكاتب والباحث العربي عموماً والعراقي بشكل خاص يؤدي كل الأدوار بنفسه في رحلة تأليفه الكتاب ، إذ لا يزال الجو الثقافي جواً مقصوراً على صاحبه لا يكاد يجد من يشاركه فيه حتى من افراد عائلته ومقربيه ، إلا من أوتي حظاً منهم ، لذا نتوجع كلما رحل كاتب وعالم الى العالم الآخر وقام ابناؤه ببيع مكتبته أو إهدائها الى جهة ما ، ثم تطور الألم مؤخراً وصار الكاتب يتبرع بمكتبته في أواخر حياته الى مكتبة عامة أو جهة ثقافية معينة ، وهو لا شك مؤشر مؤلم على إبتعاد نفوس وعقول المقربين من الكاتب والعالم والمفكر عن روح الثقافة . لأن الكاتب لم يوفق في نقل تلك الروح الى أحدهم ، فكان إقدامه شخصياً على إهداء مكتبته ، إجراء يشعر معه انه يتجاوز الألم الذي ينتابه وهو يرى مكتبة صديق له قد بيعت أو تخلص منها ابناؤه بأي طريقة بعد مفارقته الحياة . وأضيفت الى دراما إهداء المكتبات الخاصة بعض التلحيظات التي تجمل المشهد وتطيب النفس نوعاً ما حين يعلن على العامة خبر إهداء العالم الفلاني والمفكر الفلاني والكاتب الفلاني مكتبته مع صور جميلة توثق ذلك ، وقيام الجهة المستلمة للمكتبة بوضع إسمه على المكتبة كما هو حاصل في دار الكتب والمكتبات العامة والمراكز الثقافية . ينقل الكاتب المصري (وديع فلسطين) في كتابه (قضايا الفكر في الأدب المعاصر) جانباً من رسالة كتبها الكاتب المصري (مصطفى صادق) الرافعي المتوفي سنة 1937م الى صديقه الأديب المصري (محمود ابو ريّه) المتوفي سنة 1970م يقول فيها: [ان الأدب يتيم بائس لا أب له و لا نصير و رحم الله زماناً كان يجد فيه الأب و العم و الخال و ابن العم]. وسواء كان عدم توفيق الكاتب في نقل روح الثقافة الى أحد أبنائه ، سببه رؤيته المحدودة ، أو ضعف همّته على التوفيق بين عالمه الثقافي وجوه الأسري الإجتماعي ، أو ان أدوات الزمان قد تغيرت وجاء تيار جارف أخذ الأولاد بعيداً عن الشاطئ الذي حط عنده الكاتب رحاله وألف أجواءه ؛ فإن كل ذلك يؤشر عندي الى توقف تفاعل المثقف مع أدوات عصر أبنائه وإن كان يعيش إستخدامها معهم ، لكنه لم يوفق الى آلة ربط بين زمانه وزمانهم فتجد كثيراً من الأطباء والمهندسين والكفاءات المعرفية في المجتمع هم أبناء أدباء وكتاب ومفكرين ومؤلفين ، لكنهم في الأعم الأغلب ليسوا مثقفين كما هو حال آبائهم ، فهم مهنيون ، يؤمنون بالتخصص، أو هكذا وجدوا أنفسهم , وقد يبدو ذلك ملموساً في بعض المجالس الثقافية التي يحضرها أدباء وعلماء وأكاديميون تقدم بهم العمر ، كنت نادراً ما أرى أحدهم يرافقه إبنه أو إبنته ، وإن حصل فإنهم يحضرون بصفاتهم المهنية لا بصفات ثقافية ، وهو لا شك نوع من أنواع الخسارة التي نتجرعها على مضض . الثقافة والتقنية الصناعية .. كما إن التقنية الصناعية المتطورة قد أسهمت بشكل كبير في تسهيل إعداد وطبع ونشر الكتب ، فقد صار بمقدور الباحث والمؤلف والكاتب إصدار أعماله بكلفة مالية مقبولة مقابل أعداد محدودة من النسخ ، لكن المشكلة في عالمنا العربي لم تنته عند هذا الحل لأنها متعلقة بشكل كبير في عزوف الناس عن القراءة ، حتى عندما توفرت خدمة الكتاب الإلكتروني والنشر المجاني لملايين العنوانات في مكتبات إفتراضية تسهل عملية قراءة وتحميل الكتاب؛ يدخل العامل الإقتصادي والعامل النفسي ليؤثرا بشكل فعال في عملية تفاعل الفرد العربي مع القراءة والكتاب ، فهناك عشرات الملايين من المواطنين في عالمنا العربي و الإسلامي يعيشون تحت خط الفقر الثقافي, وقد وصل عددهم لأكثر من عشرة ملايين شخص في العراق وحده. يضاف الى ذلك الفوضى العامة التي ضربت البلاد في مجالات السياسة والأمن والصراعات المستمرة على السلطة ومكاسبها, هدّدت الإستقرار النفسي للفرد العربي عموماً ، والذي من شأنه أن يهبط بالمعنويات الى مستويات متدنية مخيفة ، بلغت عند بعض الشباب الى الإدمان والإنتحار والعنف, ودفعت بآخرين الى قبول ثقافة الواقع كما هو ، بِلغة تفكير وتعبير عادية وصلت حدّ كتابة الكلمات بالكيفية التي تُنطق بها ، فجاءت (لاكن) لتدل على ( لكن) و (لَكي) لتعني ( لَك) و (شُكرن) بدلًا عن ( شكراً) و (بارك الله فيكي) بدلاً عن (بارك الله فيكِ) و (إنشاء الله) بدلاً من (إن شاء الله) ، و هكذا .. الثقافة المرحلية .. هكذا تسهم الأحداث المرحلية في تشكيل ثقافة مرحلية للمجتمع ، يتقبل فيها الفرد الشعر العامي على الشعر الفصيح ، و ثقافة الصورة على ثقافة النص ، وقراءة التعليقات على قراءة المحتوى ، وصارت الشهرة عند كثيرين من دلالات المعرفة والثقافة فظن كثير من المتثاقفين وهَم الإبداع الحقيقي وهم يتلقون عبارات (متألق ، نص رائع ، يا لجمال حرفك ، انت قامة ادبية ، دام ابداعك ، …) غير منتبهين الى ان سبب ذلك هو إستفحال ظاهرة المجاملات الأدبيّة على جميع تفاصيل الواقع المأزوم و المثقل بكثير من المعاناة والإختناقات النفسية التي قيدت حركة النقد البناء ، خصوصاً عندما اخترقت بعض المفردات الأكترونية لغة الكتابة، فصار إعتيادياً عند بعض المثقفين أن يُضمّن حديثه ( تمّ بموافقة الأدمن ..) يريد بذلك المدير. و يبدأ أحدهم منشوره قائلاً : الأخوة في الكروب ) يريد بها المجموعة او التجمع. المضامين الثقافية .. اتسم طابع بعض الندوات والمجالس الثقافية التي تعقد هنا وهناك ، بإبتعاد موضوع المحاضرة أو الندوة عن قضايا الواقع . الأمر الذي جعل تلك المجالس تنغلق على نفسها ويقتصر حضورها على كبار السن من مثقفين واكاديمين ، فمن النادر ان تلمح وجود بعض الشباب في تلك المجالس الثقافية؛ يبدو إن بعض المثقفين ، بتناولهم موضوعات لا صلة لها بالواقع يحاولون إيجاد متنفس لهم وهم يعيشون تحت ضغوطات كبيرة تسببت بها التغييرات التي طرأت على البلاد منذ بدايات القرن الواحد والعشرين ، التي لم يكن للمثقف دور حيوي فيها بعد ان خاطبت سياسة السلطة الجديدة ثقافة المجتمع الشعبية دون ثقافة النخبة ، واعتمدت كلياً على ثقافة المجتمع الشعبية بينما جاملت ثقافة النخبة. ذلك لأن ثقافة كثير من المتصدين للشأن السياسي ليست بالعمق الكافي الذي يجعل من الثقافة عندهم مشروع دولة ، وقد كشفت كثير من تصريحات وحوارات ولقاءات وخطب ومواقف السياسيين عن حدة الفقر الفكري و الثقافي الذي هم عليه ، كما ان هناك سبباً آخر, و هو إن الثقافة لم تزل مقتصرة على النخبة، الأمر الذي جعل من الثقافة قضية خاصة أو لوناً أو مظهراً إجتماعياً يتسم به نفر من الناس ، فثقافة المجتمع شعبية بسيطة طبيعية غير متكلفة وهي تشكل نسبة كبيرة في البلاد ، بينما تصل ثقافة النخبة عند بعضهم الى درجات عالية من الدقة والتنظيم والتعقيد والنقد والجرأة وهو ما يعلل عزوف كثير من السياسيين عن مخاطبة النخب الثقافية ، بينما يتفننون في التقرب الى طبقات المجتمع الأخرى. نقد ثقافة الدّولة: الثقافة الإنسانية هي الثقافة التي يعوّل عليها الحفاظ على بنية المجتمع ، ذلك لقدرتها على حفظ القيم و المثل العليا والأخلاق بما يتوافق وطبيعة حياة المجتمع . فالانسان هو الكائن الحي الوحيد الذي لديه القدرة على إعطاء معنى أو رمز لكل شيء، و هو الوحيد القادر بثقافته الخاصة على أن يُعطي فهماً لذلك المعنى. إيماناً من أفلاطون بسيادة العقل؛ فقد أعلى من شأن الفلاسفة و المفكرين في جمهوريته، في حين حرص كثير من الحكام على مرّ التاريخ على إبقاء الجّهل و الفقر في المجتمع ضماناً لإخضاع الناس الى طاعتهم. فعندما تغيرت الأحوال بدخول الناس عصر التطور التقني وعصر البيانات والمعلومات ، تغيرت أدوات السلطة الحاكمة وبقي الهدف ذاته . فقد إستبدل الفقر والجهل ، بالإستهلاك والثقافة المعلبة ، في جو من الفوضى والسرعة بدعوى اننا نعيش عصر التطور العلمي الهائل وعلينا أن نركض لكي نلحق بركب العالم المتطور , إذ لم يعد الفقر متوافقاً مع التطور الصناعي الذي يحتاج الى سوق ومستهلكين ضماناً لإستمراريته ، لذا جاءت مشاريع التمويل والقروض والتسهيلات المصرفية و زيادة مرتبات الموظفين . الإجراء الذي فهمه بعضهم على انه إنتعاش إقتصادي ومنجز حكومي؛ هو وان كان كذلك، إلا انه ليس منجزاً خالصاً لمعنى الإنتعاش الإقتصادي و خدمة المجتمع لأهداف انسانية ، بل يراد به تهيئة وإعداد مجتمع كثير الإستهلاك ، يقضي كل وقته في العمل والتسوق ، حتى بدت قدرة الفرد على التسوق ومتابعة أحدث منتجات شركات الإنتاج وبضائع الأسواق مؤشراً على تحضره. إننا نعيش عصر أمركة العالم ، وهو عصر لا يُشغل السلطة فيه أمر أكثر من جمع الأموال! لذا تجد الكاميرات الذكية في الشوارع لرصد مخالفات الناس، و لا تجدها داخل مؤسسات الدولة لرصد مخالفات الموظفين والمسؤولين، فكثر الحديث عن الرشوة و الفساد المالي والتزوير و الإبتزاز و إغتصاب الحقوق داخل دوائر الدولة، و كثر الحديث عن المعاناة و الأمراض النفسية و الملل وضنك العيش في أوساط المجتمع. لم يعد الجهل متناسباً مع التدفق الهائل للبيانات والمعلومات، و مساحة التواصل و الإتصالات العابرة للحدود الجغرافية والقوميات واللغات، فكانت الفردانية والحرية الشخصية في ظل ثنائية الفوضى والتسارع هيالث ثقافة المرحلة الجديدة ، و هناك مشروع ثقافة عالميّة ينتجها النظام العالميّ بالقوى الكبرى المتنفذة فيه، يراد تمريره على جميع الناس من خلال حاجتهم المستمرة والمتواصلة الى إستخدام شبكة الإنترنت بما توفره هذه الشبكة من قوى جذب مغرية تشدّ المستخدم اليها وتجعله متسمراً أمام الشاشة ساعات قد لا يسعها عمر الليل عند بعض الشباب فتأكل من بعض ساعات نهارهم . فكلما وفرت الحكومة خدمة إتصالات متميزة ومحكمة ، كلما ضمنت مساحات أكبر وفرصاً اكثر في البقاء في السلطة . فعندما يصل الفرد الى مرحلة لا يعود فيها قادراً على إنجاز مهامه أو بعض مهامه ، بعيداً عن إتصاله بشبكة الإنترنت ، أو لعله يشعر بالفشل أو العجز عن القيام بأي نشاط ثقافي أو فكري بدون ذلك الإتصال الذي يقتصر على قراءة الأخبار ، عندها يصبح جانبه مأموناً ما دام مهموماً بدوام إتصاله بالشبكة . و هكذا ينتهي الإنسان و يضيع الدِّين و تنهار الأخلاق و القيم في كلّ مجتمع فيه مسؤول فاشل و مواطن غافل و مسروق و كما هو الحال مع الشعب العراقي و آلشعوب العربية. الثقافة الحكوميّة : في مؤسسات الدّولة الثقافيّة لا يبدو العقل الثقافيّ الرسميّ مُتّفقاً في كثير من خطواته مع توجهات العقل الثقافي العام المستقل عن إرتباطاته الرسميّة فيما يخصّ جوهر الثقافة و مشروع تمكين المجتمع ثقافياً. وأكثر من ذلك إن طبيعة السياسة البعيدة عن الأمانة عادة؛ تجرّ معها الفساد و سرقة الأموال, و هذا ما أشار له الأئمة والقرآن بحب الأنسان للمال حباً جماً وكذلك تخوّف الأئمة(ع) من إبتلائنا بحب الدنيا و الدينار... إذ يقتصر نشاط المؤسسة الثقافية الرسميّة في كثير من الأحيان على النمط التقليديّ الروتيني المتعلق بقصّ الأشرطة و الحضور الشكلي المبرمج للمهرجانات والملتقيات والمعارض الفنيّة و معرض الكتاب و المرور احياناً في الشارع و اللقاء بعابر سبيل أو مواطن يتم إكرامه أمام الناس و الأعلام و كما يفعل الرؤساء, الذين يبدو أنهم عاجزون عمداً أو جهلاً بإنشاء مؤسسات لحل الأزمات بشكل قانوني و للجميع .. وكثيراً ما يستغرق النشاط الثقافي في مؤسسات الدولة كوزارة الثقافة و إتحاد الأدباء في البعد الإداري المصاب بعدوى روتين دوائر الدولة الأخرى و الرشوة و المحسوبية و المنسوبية بعيداً عن المؤسسات و المنتديات الفكرية و الثقافية, و لعل أخطر ما هو شائع في بلادنا؛ هو جعل المثقف تابعاً للحاكم و المسؤول الحزبي, فمن شأن هذا الوضع؛ هو تميّع دور الثقافة و الفكر الهادف لإتجاهات محدودة لخدمة مصالح المسؤول و الحاكم و الحزبي المتحاصص لفقدان أصول الثقافة و الفكر الهادف في عقل المسؤول و نهج الأحزاب, حيث لا يصل للسلطة في بلادنا سوى الشياطين بأصوات الجهلاء وتلك مشكلة يجب بيانها وحلها. يقول أحد الأخوة : إنّ الفارق الوحيد الذي يبدو واضحاً بين (اتحاد الأدباء) كدائرة حكوميّة رسمية و بين أيّ (دائرة خدميّة) أخرى كما يقولون هو: [إن الموظف في آلأولى؛ يستقبلك بعبارة (تفضل أستاذ) بينما يستقبلك الحاكم و الموظف في دائرة حكوميّة أخرى بعبارة (تفضل أخي) و يخضع المُثقف كما المواطن البسيط للروتين الإداري الذي تختفي فيه كثير من ملامح أنسنة الوجود البشري و العدالة، و ممّا يُؤسف له أن تصاب (ثقافة الدولة الرسميّة) بهذا الوباء, و يصبح (المثقف الحكوميّ) ناقلاً لهذا الفايروس]. تقليل شأن ألمثقف : تقليل شأن ألمثقف : في الفلسفة الكونية نعتقد و كما أشرنا في بحوث و دراسات معينة, إلى أنّ معيار تقييم الأنسان يكون من خلال مداركه و ما يحمل من تجارب و ثقافة, حدّدناها بسبعة مراحل تخص معرفته و وعيه فيها, و تبدء بـ: قارئ – مثقف – كاتب – مفكر – فيلسوف – فيلسوف كوني – عارف حكيم. و لكل مستوى درجة و قيمة علمية يتم على أساسه معرفة الأنسان, و آلشهادة الجامعية تعطي مقداراً من تلك القيمة لصاحبها, لا كل القيمة و كما يعتقد عامة الناس بمن فيهم الأكاديميون للأسف, لأن الجانب الأهم في التقييم هي الأمانة و النزاهة و الصدق و الأخلاق! و يضيف أحد آلأخوة ألمثقّفين و هو ينقل ما جرى على زميل له في بداية عام 2024م, عندما قصد زميله مبنى (إتحاد الأدباء و الكتاب) في بغداد, و كان ذلك الزميل أحد اساتذته في الأدباء و النقد, و قد مضى على إنتمائه الى الاتحاد؛ ما لا يقل عن ثلاثين عاماً, شاءت ظروف البلاد القاهرة في سنواتها العجاف حيث فترة الإرهاب ثم مرحلة الجهاد الكفائي، مضافاً اليها ظروف الأديب الصحيّة و تقدمه بالعمر، أن تحوّل دون مراجعته مبنى الإتحاد لغرض تجديد عضويته فترة من الزمن، و لما تهيأ له الوقت و الظرف المناسبين تفاجأ بأحد موظفي الإتحاد و هو يخبره إن (إدارة الإتحاد) قد رقّنت قيده ، و لكي يُعيد إنتسابه؛ عليه أن يتقدّم بطلب جديد! يقول الراوي : إندهشت كثيراً و تألمت, و هو يحكي لي ما دار معه في صباح ذلك اليوم في مبنى الإتحاد, و سألته هل قدّمت طلباً جديداً؟ قال : لشدّة إمتعاضي من سوء التصرف و سماجته؛ إعتذرت عن كتابة الطلب كونيّ لا اتمكن من الكتابة و طلبت من الموظف ان يقوم بذلك بدلاً عني، ثمّ غادرت المبنى. يضيف الراوي : تحت عنوان "ترقين قيد مثقف" نشرت على حسابي الخاص في الفيس بوك منتقداً هذا التصرف دون ذكر اسم الأديب نزولاً عند رغبته ، فكان من بين التعليقات على الموضوع الذي انهيته مستفهماً : [هل في هذا الإجراء شيء من الثقافة؟]. فوصلني تعليق قال صاحبه : [بل قل؛ هل في هذا الإجراء شيء من الأدب]؟ و يضيف: [لا بد لي من الإشارة الى الحسّ الثقافيّ الإنسانيّ الذي أبداه عدد من المثقفين ممّن قرؤوا ذلك المنشور؛ (إذ عرض بعضهم مساعدته بالتدخل شخصيّاً لتسوية المسألة و طلبوا من الرّاوي اسم و رقم هاتف الاستاذ المرَقن قيده للتواصل معه لإنصافه]. مقابل هذه المواقف الإنسانية الثقافية .. كان موقف الموظف المثقّف الرسميّ الملوث بروتين الدولة الإداري فحين بعث أحد الأدباء بنسخة من المنشور الذي كتبته الى أحد المسؤولين في إدارة الإتحاد مُتسائلاً عن هذا التصرف أجابه؛ برسالة صوتية : [بعث لي الأديب المتفضل, نسخة منها قال فيها؛ (انه إجراء إعتيادي تتخذه الإدارة بسبب إنقطاع العضو الذي لا يُعلم إن كان مريضاً أو مسافراً أو ميتاً )، و هو إجراء مؤقت لا يقصد منه الإساءة الى العضو و ينتهي بمجرد إعادة تقديمه طلباً جديداً للإنتماء .. على وفق السياق الروتينيّ. في حادثة أخرى ، قصد أحد الكتاب و المؤلفين مبنى (الإتحاد) لطلب الإنتساب، فسأله الموظف عن عطائه الثقافي؟ أخبره الكاتب : انّ لديه مؤلفات في الفكر الإسلاميّ تجاوزت الخمسين كتاباً مطبوعاً. ردّ عليه الموظف : لا نريد كتباً في الفكر الإسلامي. أَ ليس لديكَ رواية أو قصة أو ديوان شعر أو كتاب في الأدب ؟ قال له الكاتب: أَ ليس هذا (اتحاد الأدباء و الكتاب) !؟ قال له الموظف : نحن نروج معاملات أصحاب الأعمال الأدبيّة و الفنيّة!! حصل هذا فعلاً مع احد الأصدقاء عام 2023م. و في لقاء آخر مع شخصية ثقافية شغلت منصب رئيس إتحاد الأدباء و الكتاب سنة 2021م ، أجرته احدى القنوات الفضائية, سُئل عن الإنجازات التي قدّمها الإتحاد في عهده ، فكان من بين ما أجاب : [أن الإتحاد لم يطالب اعضاءه بدفع الإشتراك المالي كما كان متبعاً في العهد البائد]. يروي أحد الأدباء انه حين قصد مبنى الإتحاد سنة 2010م لتجديد هويته ، سأله الموظف عن تاريخ انتمائه الى (الإتحاد) ، فقال له : سنة 1976م . نظر اليه الموظف و قال له مبتسماً : (انت واوي عتيك أستاذ)!! لا حياة بدون ثقافة .. ماذا يريد المثقف من وزارة الثقافة و من اتحاد الأدباء و الكتاب ؟ بل ماذا يريد المثقف من الحكومة نفسها؟ وماذا يريد المجتمع من الثقافة والمثقف؟ هل الثقافة التي نبحث عنها هي صفة أصحاب الشهادات و المواقع الإجتماعيّة والقياديّة و المهن العليا؟ أم هي ثقافة المجتمع ؟ هل ما يتم تداوله عبر وسائل التواصل الإجتماعي و أجهزة الموبايل و الحواسيب و الإنترنت هي ثقافة عالمية أم غزو ثقافيّ ؟ لا يرى كثير من المثقفين ، معنى للحياة في أيّ مجتمع من دون ثقافة و وجود فكر كونيّ. فهي تمثل عندهم جوهر الحياة و حقيقة الوجود الأنساني. عادة ما يصار الى تقسيم الثقافة الى ثقافة شعبية وأخرى راقية . يختلف علماء الإجتماع على مفهوم الثقافة من حيث كونها واحدة أم هي ثقافات مختلفة ، و يرى علماء إجتماع في تقسيم الثقافة الى نوعين : نوع مرتبط بالمنجز المادي كالإختراعات و الصناعة؛ ونوع مرتبط بجوانب الشخصية المتعلقة بالسلوك والأخلاق والعواطف والقيم والمثل العليا. الثقافة مفهوم أوسع مدى من نتاجات المبدعين في مجالات الأدب والفن والمعرفة . فهي محتوى يضم قيم المجتمع وتراثه وأفكار الناس ونتاجاتهم على إختلاف أعمالهم ومجالات معارفهم و مدياتها . ينتقل هذا المحتوى من جيل الى جيل آخر عبر الرابطة الإجتماعية التي تحكم علاقة أبناء المجتمع ببعضهم . من هنا نشأت المخاوف إزاء مفهوم الثقافة الكونيّة أو عولمة الثقافة، كونه مفهوماً يحمل معنى تذويب الثقافات المحلية و دمجها في ثقافة عالميّة و هو ما قد يهدّد الروح الاجتماعية و العلاقات الخاصة و العامة التي تتحكم بآلية انتقال المحتوى الثقافي لمجتمع ما أو لبلد ما من جيل الى الجيل الذي يليه ، بحيث تفقد الثقافة المحلية خصوصيتها. و قد إختصر امير الشعراء الشوقي مجمل المفاهيم المتعلقة بآلأخلاق و القيم التي هي نتاج الثقافة ببيت شعر رصين و بليغ, قائلاً: إنّما الأمم الأخلاق ما بقيت .. إن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا. الثقافة وانثروبولوجيا المجتمع : في كتابهما (الثقافة عرض نقدي للمفاهيم والتعريفات) ذكر العالم في مجال الانثروبولوجيا الثقافية الأمريكي الفريد كروبر )Alfired Louis Krober ( 1876 – 1960) والعالم الامريكي كلايد كلاكهون Clyde Kluckhohn م 1905 (. قدما قرابة 164 تعريفاً لمفهوم الثقافة , كان أفضلها؛ [الثقافة هي ما يبقى في الكفر بعد ما ينسى الأنسان كل شيئ. يرى (كروبر 1960) إن اول ظهور لكلمة ثقافة كان في قاموس الماني عام 1793م. يرى الانثروبولوجي الامريكي “ مالينوفسكس " ان الثقافة : [ كل متكامل من الأدوات والسلع والأفكار والمعتقدات والأعراف لمختلف الفئات الاجتاعية", أما “ الانثروبولوجي “ رادكليف براون “ فيقول عن الثقافة : انها ( جملة إكتساب التقاليد الثقافية ، والعملية التي تنتقل بها اللغة والمعتقدات والأفكار والأذواق الجمالية والمعرفة والمهارات]. في أنشطتنا الثقافية والإجتماعية اليوم ، أعمال أدبية وعلمية وفنية رائعة ، فيها من الإبداع ما يدعو الى الفخر ، وفيها من الهمّة ما يدعو الى الزهو ، وفيها من الأصالة ما يدعو الى التباهي .. لكن واقعنا المأزوم بكثير من المشاكل الإجتماعية والتذبذبات الإقتصادية والإضطرابات الأمنية والصراعات السياسية ، يدعونا الى التساؤل عن غايتنا من الثقافة؟ و ما إذا كان اللون التقليديّ للثقافة لا يزال فعالاً في مثل مرحلتنا الحرجة التي نعيشها منذ مطلع القرن الواحد والعشرين؟ إننا بحاجة الى ثقافة تخاطب في المتلقي؛ العقل والنفس و القلب معاً. إننا بحاجة لدور جديد للثقافة من خلال علم الإنسان (الانثروبولوجيا). دور نقدم فيه حلولاً تنقذ مجتمعاتنا من آثار الأعراض الجانبية لمخرجات عصر التقنية المتطورة بمنتجاتها الآلية فائقة السرعة؛ عالية الدقة، التي تسبب إستخدامها الخاطىء من قبل الناس في كثرة المشاكل الإجتماعية و إرتفاع معدلات الطلاق و الإنتحار و الإدمان و الأمراض النفسية و العنف الأسري و جرائم القتل و حالات الغش و التزوير و الإبتزاز و التسقيط الإعلامي و التشهير. إنّ من بين أهمّ أهداف الثقافة حماية الناس البسطاء ممّن يعيشون فقر التعليم و فقر المعيشة و فقر الرفاهية والجهل والمرض , لأن هؤلاء البسطاء عرضة لإستثمار ظروفهم من قبل تجار الأزمات لصالح فكرة معينة قد تضرّ بسلامة وجودهم , أو لصالح منفعة خاصة قد تفقدهم كرامتهم و حرية وجودهم و حقوقهم الطبيعيّة و بناء انفسهم بعيداً عن أي تدخل خارجي. و كذلك حماية الناس و عامّة المجتمع من كيد الحكومات و الساسة الذين يخططون لسرقة حقوقهم بشتى الوسائل و المؤآمرات. لا معنى للحديث عن الثقافة دون الحديث عن كرامة و حقوق المجتمع ، فالثقافة والمجتمع يشكلان أهمية تبلغ حدَّاً يتعذر معه الفصل بينهما، و سواءً أَ كان المجتمع هو الأصل و الأساس أم الثقافة هي الأصل و الأساس كما اختلف على ذلك نفر من العلماء؛ فإننا نعتقد بإنّ المجتمع هو الأساس و ان الثقافة ضرورة حتميّة لهذا الأساس لكي يسمو و يستمر . ذهب (مايكل كارذرس) في كتابه ( لماذا ينفرد الانسان بالثقافة ؟) الصادر عام 1992م الى ان المجتمع أو العلاقات الإجتماعية هي الأساس و ليست الثقافة .. يرى هوجين “ ان المجتمع يعني العلاقات التي تربط ابناءه ، وان الثقافة هي سلوك اولئك الأفراد" ، لذا فهو يرى ان الثقافة والمجتمع وجهان لشيء واحد. إن تمكين المجتمع ثقافياً هو اليوم حاجة ملحة تفرضها التشوهات التي اخذت تنعطف بالمفاهيم العامة باتجاه التطرف و التحوير حين دخلت الأخلاق و دخل الفكر سوق العرض و الطلب وحلّت لغة الجسم مكان لغة العقل ، ولحنت ألسِنة المتكلمين بالعربية وصاروا الى اللهجة العامية أقرب من الفصحى في التعبير عن مواقفهم وعواطفهم ، واحتلت العامية مساحة كبيرة على لسان كثير من المثقفين في المحاضرات والندوات والمؤتمرات والمهرجانات الثقافية . ودخلت مشاكل البيئة والمناخ على خط الأزمات التي تكاد تعصف بالناس في مختلف أنحاء العالم بسبب إرتفاع معدلات البطالة و نسب التصحر والجفاف و إزدياد أعداد الفقراء حول العالم، خصوصاً في عالمنا العربيّ و الإسلامي. carlton coon يقول الأمريكي (كارلتون كون) و هو أحد علماء الإنتربولوجيا ؛ ( فموضوع دراسة الثقافة هام و هو اليوم أهم من الدراسة الذرية أو الآداب، او الأعمال المصرفيّة العالية) . إن في دراسة الثقافة متاح كرامة النوع الإنساني ومساواته في المستقبل كما انها قد تهدينا الى سبيل الخروج من الحيرة التي اوقعنا فيها عصرنا ، عصر التقدم الآلي الفائق السرعة ..). يقول (إليوت)؛ [أوّل ما اعنيه بالثقافة هو ما يعنيه الانثروبولوجيين : طريقة حياة شعب معين ، يعيش معاً في مكان واحد و هذه الثقافة تظهر في تنوعهم وفي نظامهم الإجتماعي وفي عاداتهم واعرافهم و في دينهم]. في كتابه (الثقافة البدائيّة) الصادر سنة 1871م يقول (إدوارد تايلور): [الثقافة هي ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والعقائد والفن والاخلاق والقانون وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الانسان بوصفه عضواً في المجتمع]. واقع حال كثير من انشطة المثقفين اليوم تشير الى انهم اقرب الى الذاتية منهم الى الموضوعية في عطاءاتهم الثقافية و اذا ما اخذنا بأن الموضعيّة هي عقلنة الواقع في حدود الإمكانات المتاحة من أجل الحفاظ على البناء الإجتماعي من التداعي لمنع المجتمع من الإستسلام للظروف المعاكسة التي تمرّ به و تدفع بابنائه الى قبول واقع جديد مختلف عن طبيعة و طريقة حياتهم ، فإننا نتساءل عن حدود الموضوعية الثقافية التي على المثقف في القرن الواحد والعشرين التمتع بها؟ قد لا يسعنا القول إن بمقدور المثقف أن يكون موضوعياً أكثر منه ذاتياً ، لكننا نستطيع أن نقول إن بمقدور المثقف أن يوظف ذاتيته في خدمة الموضوعية الثقافية. يقول (سلامة موسى) في كتابه (مقالات ممنوعة) ص17 : [الواقعيّة هي المعالجة الموضوعيّة التي تتفق و واقع الحال، و ليست المعالجة الذاتية التي تعتمد على الاغراض الشخصية. ولا يستطيع أحد منا أن يفصل الفصل التام بين ذاتيته الشخصية و ما تحمل من أهواء و أغراض و بين واقع الحال في الأشياء و الناس و المجتمع و الفن). تتحرك المجاملات الإجتماعية في واقعنا الثقافي اليوم بنشاط أخذ يطغى على القيمة الحقيقية للمنجز الثقافي و للأثر الذي يمكن ان يحدثه في الواقع. يجب فصل الثقافة عن الحاكم: إنّ سيطرة السلطة على الثقافة هو بمثابة إعلان لأسرها بل لموت الثقافة, حيث يجب أن يتحقّق العكس تماماً ليمكننا القول بأن الثقافة حاكمة و فاعلة .. منذ بدايات القرن الواحد والعشرين والعالم من حولنا يعيش تغييراً يراه بعضهم طبيعياً بحكم المنجزات العلميّة و التطور الكبير في مجال الصناعة و التقنية الرقميّة ومشاريع الذكاء الإصطناعي والحوسبة والروبوت. ويراه البعض الآخر تغييراً مقلقاً بسبب سلوكيات غريبة وخطيرة أخذت تظهر في ظل هذه التغييرات مدعومة بالدّعوات و الصيحات المتعالية المنادية بحرية المواقف و العواطف مع ما تقدمه التكنلوجيا المتطورة من أدوات تخدم الكشف عن هذه الحريات . مع الأخذ بنظر الإعتبار التوجه العالمي لدعم تلك السلوكيات الشاذة والثقافات الغريبة بدعوى الحريات الشخصية. ثمّ محاولات توفير حماية لتلك الحريات حول العالم . أخذت معاناة المثقف العربي في التزايد في المرحلة الراهنة التي يغلب عليها الفوضى والتفاهة والإنهيار الإخلاقي والفساد المالي والإداري وكثرة المشاكل الإجتماعية مع مطلع القرن الحالي وما يخبئه المستقبل من تهديد تراه بعض الرؤى المستقبلية واقعاً ما لم يحدث تغيير في النظام العالمي الذي لم يعد قادراً على تفادي ومواجهة ومعالجة مشكلات البيئة والمناخ والتصحر والمياه وإزدياد الطلب على الغذاء والطاقة وإزدياد عدد النفوس حول العالم وشحة الموارد الطبيعية وغيرها. وسط هذه الأجواء المضطربة يقف المثقف مهموماً مشغولاً قلقاً ، فهو معنيّ بالواقع من جانبين : - كمواطن مفروض عليه تدبر شؤونه, - كمثقف تملي عليه مسؤوليته الثقافيّة أن يجد مخرجاً لهذا الضيق. لا يُمكننا أن نتجاوز الكم الكبير من المقالات و الكتب التي تتناول الواقع و تبحث في سبل معالجة أزماته، كما لا يُمكننا أن نتجاوز أزمتنا الحقيقية في ظل الإنموذج القومي و الأمريكي للديمقراطية المتمثلة في مشاريع تحوير المفاهيم و إلباسها ثياباً جديدة لا يجد المستخدم و المتلقي والمواطن بداً من مجاراتها، خصوصاً و ان التوجه العالمي الجديد في ظل العولمة و التطور العلمي و مشاريع الذكاء الإصطناعي تبحث في توفير حلول مُرضية تناسب واقع الحال وإن كانت لا تناسب الأصول والمنطق والقيم والمبادئ! هكذا يعيش المثقف اليوم محنته الحقيقية التي لا أظنني أبالغ إذا قلت إنه يعيشها لأول مرة في تاريخ الثقافة الإنسانية بهذا الشكل, خصوصاً في بلادنا. تبنى بعض المثقفين دعوات فصل الدِّين عن الدولة كحلّ من الحلول التي يرتجى منها إخراج العالم العربي و الأسلامي من أزماته و تحريك واقعه لإخراجه من دائرة التراجع والتأخر التي هو فيها . و بغض النظر عن دوافع تلك الدّعوات و أهدافها؛ فإنّ طبيعة المجتمع العربيّ؛ طبيعة لا يغادرها الدِّين الذي باتَ على الأقل جزءاً لا يتجزأ من حياته و ثقافته و طقوسه، و أي جهود إصلاحية خلاف تلك الطبيعة لا تعطي نتائج مرضية، و لعل إنحراف السلطة السياسية عن روح الدِّين كان من أهمّ أسباب الفجوة الآخذة بالإتساع مع مرور الوقت بين السلطة والمجتمع . يبدو لي إن طرح فكرة فصل الثقافة عن جسم الدولة السياسي مع الإبقاء على تبعية المؤسسات الثقافية للدولة ، سيخرج المثقف الرسمي من عباءة السلطة السياسية التي طبعته بطابعها الروتيني التقليدي الذي ليس فقط لم يقدم جديداً للمجتمع في مجال تمكينه ثقافياً ؛ بل و تسبب في تكريس الأمية الفكرية, و توجيه أنظار الناس إلى أن خريجي الجامعات هو المثقف مما تسبب في فساد عظيم, فهناك فرق كبير بين من يحمل شهادة جامعية في إختصاص مهني و بين المثقف الذي له مواصفات خاصة و كيان مميّز في المجتمع . بهذه الإدراك و المستوى يمكن للثقافة أن تعايش وعي الواقع وفهم ما ورائيات الطرح المباشر للإعلام الرسمي ، فعندما تصبح المؤسسة الثقافية مؤسسة إجتماعية يباشرها مثقف مسؤول تحمل الثقافة عنده بُعداً رسالياً و همّاً إنسانياً تشمل دنياه و آخرته .. لا تأثير للمصالح والعلاقات السياسية والشخصية فيها ، فمن المؤكد إن طريقة حياة الناس ستتغير الى الأفضل بفصل الثقافة عن جسم الدولة السياسي, حيث سيتحرر المثقف من روتين الأنشطة الشكلية الرسمية التي باتت عرفاً تقليدياً ينتهي مفعولها مع نهاية الفعالية ، وبهذا الخروج يتواصل المثقف مع الناس في البيوت والأماكن العامة. والحقيقة الغائبة و التي سعينا لتحقيقها منذ أكثر من عقدين سبقت الثورة الأسلامية عام 1979م, هي تبعية السلطة للثقافة و ليس العكس و كما هو واقع الحال اليوم في جميع الأنظمة للأسف الشديد. صحيح أنه بفصل الثقافة عن جسم الدولة السياسي وإلحاقها بالمجتمع بشكل حرّ؛ سيُمكن المثقف من تنمية الحس الجمعي للناس للإرتقاء به الى حد النهوض بالمسؤولية تجاه رموز وعلماء وشخصيات ثقافية واجتماعية لكن هذا لا يحدث بل ليس سهلاً لعدم توفر المادة اللازمة و البرنامج الفعّال لتحقيق ذلك، لتقدم أعمالاً رائدة في مجال النمو الإيجابي لوعي الأمة , و لنا في تجربة حزب الدعوة و بقية المكونات الأسلامية التنظيمية خير مثال, حيث إنها ليست فقط لم تنجح في تحقيق الهدف المشار إليه ؛ إنما فوق ذلك هي نفسها إنحرفت عن مسار الحقّ حين أجازت لنفسها التلاعب بآلمال العام و بحقوق الفقراء و حريتهم و بآلتالي سرقتهم بشكل كارثي مفجع, ممّا تسبب في فساد عظيم للطرفين أبعدت الناس و كرّهتهم للعمل و الألتزام بمبادئ الديانات السماوية. و تبعاً للظروف المعيشية السيئة للمثقفين الأحرار الذين اظطرتهم ظروفهم الصحية الى أن يكونوا في وضع يحتاجون فيه الى رعاية تفوق قدراتهم المادية ، و لطالما دفع كثير من هؤلاء حياتهم ثمناً لعدم إكتراث السلطة السياسية والمؤسسة الرسمية للثقافة لحالهم . كثيراً ما رأينا مشاهد مؤلمة و سمعنا أخباراً لا تسر عن شخصية ثقافية أفنت عمرها وهي تكتب و تطبع على نفقتها الخاصة وكانت في بعض الأحيان تقتطع من قوت عيالها ما تؤمن به ثمن طبع كتاب يرتجى منه تنمية حركة وعي الأمة ونهضة المجتمع وتحسين ذائقته الجمالية ونظرته الى الحياة, بل كثير من هؤلاء الكبار ماتوا وسط إهمال وإغفال المؤسسة الثقافية الرسمية التي لم تشعر بأدنى درجة من الإحساس بالمسؤولية الثقافيّة الإنسانية الوطنية تجاه رواد الثقافة في البلاد, لأنهم لم يكونوا حقيقيّن بسبب حالة البرمجة العقلية الحزبية, لهذا فلم تتورع عن ترقين قيد أديب كبير لأنه غاب عنهم عقوداً بسبب ظروفه الصحية الخاصة وظروف البلاد السيئة . كم من غريب و أديب ناشد من على فراش المرض سلطة سياسية وثقافية . وكم سمعنا ذوي أحد العلماء وهم يناشدون السلطة لمساعدة والدهم العليل ! وكم شاهدنا صوراً حية لشخصيات ثقافية وعلمية وفنية وهم على فراش المرض قد أهلمتهم سلطة الثقافة ونسيتهم المحافل التي كانوا يحاضرون فيها ! ومن المؤسف ان وظّف بعض السياسيين هذه الخصلة الملوثة في انفاس المتسلطين فعمدوا من باب الدعاية الإعلامية الى تقديم مساعدة مالية الى الفنان الفلاني والكاتب الفلاني لإجراء عملية جراحية له! تأتي أهمية إثارة هذا الحس الجمعي في المجتمع في وقت أخذت فيه السلطة التافهة ترعى وتتبنى شخصيات هابطة أسهمت مواقع التواصل الإجتماعي في دفعهم الى الواجهة بحكم عدد الإعجابات التي حصلوا عليها وعدد المتابعين الكبير الذي عدّه بعضهم شهادة على اجتماعية هذه الشخصية وتأثيرها في الناس ، وقد سجل على بعض المسؤولين السياسيين و مثقفي السلطة تكريمهم لعدد من هذه الشخصيات الفاشلة ، ولكي لا تتساوى “ الكَرعة و ام شعر” كما يقول المثل العراقي؛ فإننا ندعو الى فصل الثقافة عن جسم الدولة السياسي آخذين بنظر الإعتبار ما الحقته السياسات الفاشلة والإدارات الروتينية التقليدية للبلاد منذ أكثر من عقود بل قرون متوالية من دمار و خراب و مذابح و فساد على كل صعيد. يقول عبد الإله بلقزيز: [ان الثقافة أمست خارج حدود تعريفها وماهيتها الطبيعيين, لن يعود في وسعنا حدّها بالقول انها تعبير عن تمثّل الناس لمحيطهم ، وتعبير عن نظام اجتماعهم المدني ، بل سيصبح مطروحاً علينا أن نفكر في معنى أن تنشأ في وعي الناس ثقافة أو قيم ثقافية لا تقوم صلة بينها وبين النظام الإجتماعي الذي ينتمون اليه]. الثقافة في زمن الشاشات وشبكات التواصل الاجتماعي و تأثير الكومبيوتر عموماً على العقل البشري, هي في وضع أخطر مما هي عليه في حدود فتح مركز ثقافي هنا ، و مسرح و بيت للثقافة هناك. انه زمن صناعة الأحداث و فبركة التفاصيل؛ زمن يحتاج من المثقف دوراً أعمق و أخطر تصل خطورته حدّ التضحيّة بالنفس في سبيل إعادة يقظة الجماهير التي شدّها العالم الإفتراضي و أغرتهم الوان الشاشات و العقول المبرمجة؛ تضحية تصل الى قول الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد: علمتني مذ شراييني برت قلمي .. كيف الأديب يلاقي موته حربا و كيف يجعل من أعصابه نذراً .. حينـاً و حيناً نذوراً كلما وجبا. ولن يتحقق هذا الدور بوجود الثقافة ضمن جسم الدولة السياسي المصاب منذ أكثر من عشرين سنة, بل منذ قرون بأورام خطيرة تكبر كلما مرّ عليها الزمن. عصر التقنية الرقمية و ازمة الهوية الثقافية : يواجه مجتمعنا العربي اليوم إشكالية ثنائية العلاقة بين التراث والمعاصرة في وقت تبرز فيه أزمة الهوية بشكل واضح، فمن المشاهدة العيانية والمعايشة الحية لواقع الحياة اليومية لطبيعة المجتمع، يجد الباحث الانثروبولوجي تطلعاً ملحوظاً في عيون الناس لمشاهدة دور للثقافة في صياغة هوية جامعة من شأنها ان تعطي حراكاً لا يفرض أي شكل من اشكال القيود او الضوابط على الهويات الاخرى مثل هوية الوطن وهوية المعتقد وهوية العرق وهوية المهنة وهوية اللون وهوية الانتماء، بعد ان تعثرت جهود اغلب الهويات في الضلوع بهذه المهمة، فعلى الرغم من المشتركات الكثيرة والأساسية والمؤثرة في مجتمعاتنا العربية إلا انها لا تزال تعيش ازمة الهوية خصوصاً لدى الأجيال الشابة، إذ ان الماكنة العالمية للاقتصاد الصناعي تمكنت من احتواء كثير من الهويات وإعادة اصدارها بنسخ جديدة توافق تطلعات مشاريع النظام العالمي الجديد الذي قالت عنه تصريحات وآراء انه نظام يختلف عما كان عليه الحال قبل اجتياح وباء كورونا العالم، ومن حيث لم يعد بوسعنا اليوم ان نتحرك بمعزل عن العالم وعن دوره وربما تدخلاته بعد ان اجتذبت المشاريع العملاقة الناس اليها من مختلف اصقاع الارض حيث اختلاف اللغة والدين واللون والهوية الجغرافية والتاريخ، فظهرت الشركات العابرة للقوميات وتحرك المال ليدير هذا النظام الجديد، وفي ضوء هذه المستجدات المثيرة وجد الفرد العربي انه في حيرة من امره، فهو من ناحية عملية لم يعد يستغني عن مخرجات الثورة الصناعية والتقنية والعلمية والمعلوماتية، فقد صارت اجهزة الاتصال ووسائل التواصل والعالم الافتراضي من ضرورات حركة عجلة الحياة اليومية لابسط المستويات والامكانيات الثقافية والاجتماعية والمادية، ومن ناحية اخرى يجد الفرد على اختلاف المستوى التعليمي والثقافي انه مرتبط بالتراث والتاريخ والاسلاف ارتباطاً لا يشعر بالتوازن اذا تجاوزه او فرض عليه تجاوزه، وصارت المحنة كبيرة احتاجت الى هوية جديدة نستطيع بها تمثيل الواقع للنهوض به الى ما ينبغي ان يكون وتلك كانت رسالة الإمام علي عليه السلام في السلطة. الموروث الثقافي و تغيّر المجتمع ؛ يرى الفيلسوف الفرنسي فيليب هـفينكس؛ ان الحفاظ على الموروث الثقافي يأتي عن طريقين لا غنى لأحدهما عن الآخر، طريق حي يمثله الانسان، وطريق غير مباشر يمثله المتحف والكتاب والجريدة والمسرح وغيرها ولكي يحدث هذا التواصل بين الطريقين اقتضى تربية واعداد جيل من المتعلمين يستوعبون هذه الرسالة التعليمية وعدا ذلك قد يغدو المتحف مكاناً اثرياً جميلاً نستمتع بزيارته ونلتقط فيه الصور لننشرها على صفحاتنا في مواقع التواصل دون ان يكون لذلك اثره الحي في حركة واقعنا المنهك اليوم، ومن شأن هذا الخلل ان ينعكس سلباً على طبيعة الشخصية التي من المحتمل ان تتعرض للازدواج والتناقض وقد سجلت المشاهدات العملية وجود مثل هؤلاء الأشخاص. التغير صفة اساسية من صفات المجتمع، يراد به التحولات التي تطرأ على البناء الاجتماعي، اي منظومة القيم والسلوكيات التي تربط ابناء المجتمع مع بعضهم. يشتغل علماء الانثروبولوجيا وعلماء النفس والاجتماع والفلاسفة على موضوعة تغير المجتمع من اجل المزيد من العدالة الاجتماعية والرفاهية الاقتصادية، ولا يختلف مجتمع عن اخر من حيث طبيعة التغير لكن الاختلاف يكمن في درجة التغير والآثار الجانبية المترتبة على ذلك التغير، ففي عالمنا العربي والإسلامي عموماً والمجتمع العراقي بشكل خاص يواجه الناس مؤثرات تتفاوت درجات ضغطها على طبيعة المجتمع، منها ضغوطات داخلية تتمثل بالتغيير الذي حصل في سياسة وادارة واقتصاد البلاد، ومنها ضغوطات افرزها النظام العالمي الجديد ومشاريع الاقتصاد الصناعي السياسي للشركات الكبرى العابرة للقوميات، ومنها ما نتج عن الطبيعة مثل التصحر وشحة المياه و إنتشار الاوبئة وامراض الحروب، القت هذه الضغوطات بثقلها على طبيعة المجتمع الذي يتمتع بهوية ثقافية دينية وباتت تشكل خطراً حقيقياً على الهوية من حيث جهود بعض القوى في اعادة تشكيل العالم على وفق نظام جديد تندمج فيه المجتمعات المتأخرة والفقيرة والمتخلفة والعالم الثالث في النسيج العالمي الذي تقف وراء صياغته قوى هويتها الثقافية غير هوية تلك المجتمعات موضوع الدمج، وسط هذه الدوامة الكبيرة, يجد الانسان انه يعيش ازمة قد تأخذ به الى التغريب الثقافي على حساب الهوية الذاتية ونمو الشخصية الذي يبدأ من ذات الشخص في اتفاق مع نفسه التي تبدي استعدادها لوعي الشخص بطبيعته وطباعه وبعلاقته بالمجتمع وحرصه على ان يكتسب هوية شخصية يصنعها ذاتياً تعطيه دوراً ايجابياً في المجتمع. وهذا الحرص والاستعداد المسبق يعطيان الشخص من خلال مراحل العمر والتجربة والخبرة والتعلم، هوية مستقلة لها بصمتها الحضورية في واقع الحياة الاجتماعية، بينما الذين ليس لديهم استعداد مسبق واتفاق مع الذات على وعي الطبيعة البشرية وطباعها وبناء الشخصية فإنهم غالباً ما يميلون الى اكتساب هوياتهم من خلال الوسط الاجتماعي الذي يعيشون فيه فيغلب عليهم ماهو غالب على ذلك المجتمع من قيم وسلوكيات يفرزها التيار الاقوى في مرحلة معينة من عمر المجتمع كالتي يعيشها في العقدين الاخيرين من بداية القرن الحادي والعشرين حيث الانفتاح على العالم بواسطة شبكة الاتصالات العالمية والدعوات الى الحرية الشخصية و احترام حقوق الرأي والتعبير والتفكير تصل احياناً حد التجاوز على الذوق العام الذي يعبر المجتمع من خلاله عن طبيعته و هويته. ترى هل ان اخفاق المجتمع العربي اليوم في عقلنة العولمة راجعٌ الى ان المشاريع العالمية تستهدف علمنة تراث المجتمع الثقافي؟ ام ان المشكلة في ان المجتمع يريد ان يعيش خارج بيته بالأجواء نفسها التي يعيشها داخله، في الوقت الذي تريد منه العولمة ان يكون كما يريد في بيته وان يكون كما يراد منه خارجه، هي تريد منه ان يكون عربياً ومسلماً داخل بيته وتريد منه ان يكون مواطناً عالميا خارج بيته على وفق ما تعنيه العالمية من هيمنة الغرب الأقوى في مجال السياسة والاقتصاد والإدارة .. لا نستطيع الجزم بأن الانسان يستطيع ان يكون على صورة واحدة لا تقبل المراجعة او التغيير، فما بين تاثيرات الظروف ومناخات النمو المعرفي وبين ان يدرك الانسان انه ذات وليس موضوعاً، سيتمكن من اكتشاف هويته وإثبات ذاته من خلال تجاربه الحياتية والخبرات التي يحصل عليها من تجاربه وتجارب الاخرين والرسائل الثقافية التي يستوحيها من التراث ممثلاً في المتاحف والاثار والكتب والصحف والمكتبات و الفن.. يفشل كثير من الناس في فرض هوياتهم الخاصة على الاخرين ويضطرون الى التنازل عنها ليتشبهوا بغيرهم من اجل تمشية الأمور وتجاوز العقبات، فقد يعيش بعض الناس وهم غير راضين عن حياتهم وادائهم مضطرين لقبول واقعهم المفروض عليهم والذي يتعذر عليهم مواجهته وتغييره، يرى الفيلسوف الالماني "هيجل" ان الوعي البشري محدود بالظرف الإجتماعي والحضاري الخاص بالبيئة التي يعيشها الإنسان. يسلط علم الانسان الاجتماعي وعلم الانسان الثقافي الضوء على طبيعة احساس الفرد بنوع وجوده في الحياة، فالذي ينظر الى المتحف مثلا على انه مكان يحتوي على أشياء تشير الى طبيعة وثقافة مجتمع في مرحلة زمنية من مراحل التاريخ القديم والحديث لا تربطه به اكثر من رغبة الاطلاع والسياحة الثقافية التي ينتهي مفعولها بمغادرة المكان والتقاط الصور، اما الذي يرى في المتحف موضوعاً فإنه يمنح حاضره نظرة مستقبلية يرسم ملامحها من خلال معطيات يمده المتحف بها من خلال الرسالة التي تحملها موجوداته المادية والتي يترجمها الى لغة الواقع ليقارب بها بين الماضي والحاضر كي يتجاوز حالة الرضا الوهمي التي تخدعه بها عثرات الواقع المنهك المتأخر المأزوم.. ان الحد الأدنى من الأداء الثقافي يشتمل على بذل جهود مضاعفة تصل حد تكليف النفس اكثر من طاقتها للوصول بالمواطن الى حالة التوازن، لأن حالة التوازن تمنحه امكانية الالتفات الى الوراء والوقوف عند التراث واستحضاره، اما عندما يعيش الفرد حالة من القلق وفقدان او ضعف الثقة بالمحيط الذي يعيش فيه مع المقربين والآخرين، ومع السلطة ذاتها، فإن التراث لن يعدو كونه محطة استراحة تحتاجها النفس في اوقات معينة ومواقف معينة، في الوقت الذي ينبغي له ان يكون محطة يحتاجها حاضرنا كي نمر بالاتجاه الصحيح والمسار الآمن، فالتراث هو الماضي باحداثه وشخوصه وانتاجاته، وهذا كله رصيد من الخبرة يتحول الى ثروة عندما نستثمرها في حاضرنا على وفق معيار نقدي يعود علينا بالنفع في اجادة التصرف وحسن الاختيار وتحقيق الهوية، وما حالة الضياع أو ازمة الهوية التي تعيشها اجيال اليوم إلا لأنهم لم يجدوا من يصل بهم الى حالة التوازن، ولم يتمكنوا ذاتياً من تحقيق ذلك في زمن تكالبت فيه المشاكل والضغوطات والاغراءات والتهديدات وضرورات الحياة التي لم تعد كما في السابق، فاليوم صرنا من حيث ندري ولا ندري، ومن حيث نريد ولا نريد؛ ضمن نظام عالمي يتحرك فيه رأس المال ليدير مشاريع ضخمة عابرة للقوميات يعود نفعها على الجميع مع الاخذ بنظر الاعتبار ان القدر الاكبر من النفع يصب في صالح المنتجين ومالكي المشاريع، فهذه المشاريع وان كانت تسهم في تشغيل ابناء المجتمعات في مختلف انحاء العالم وعلى اختلاف اوضاعهم ولغاتهم والوانهم وميولهم واديانهم، إلا انها في النتيجة نمط من انماط التبعية المتطورة، وهي تبعية يرتضيها الناس لأنها في الحد الأدنى تخفف عنهم شعورهم بإالغاء الذات، مع انها تسعى وتهدف الى ذلك ولكن عن طريق لا ينتبه اليه كثير منا، وهو طريق الاقتصاد والمال والاعمال، الطريق الذي الغى فيه اشخاص كثيرون عبر التاريخ انفسهم من اجل مكتسباته المالية والمادية.. الهوية الثقافية وفلسفة التربية.. ينبغي ان تختلف نظرتنا الى المتحف اليوم عما كانت عليه بالأمس، بعد ان تخلّت المدرسة في زمن التقينة المتطورة والشخصية القلقة وازمة الهوية، عن اداء دورها في تحقيق الهدف من فلسفة التربية القائم على اعداد جيل من الابناء يعي اهمية حفظ الثقافة في جانبها المادي كالمتحف والجريدة والكتاب والمدونات، فلأسباب كثيرة لم تعد المدرسة اليوم قادرة على النهوض بالجانب التربوي للطبلة واقتصرت على الجانب المهني التعليمي في حدود لا تدعو كثيراً الى التفاؤل.. المدرسة في إعتقاد الفلاسفة التربويين: مكان يُراد من دخول الطالب او التلميذ اليه اعطاؤه دروساً عملية اجتماعية في حفظ التراث ونقل الثقافة الى ساحة التحضر كي يرتقي المجتمع الى ما ينبغي ان يكون ـ او على اقل تقدير - لمنع اصابة المجتمع بالركود الذي يؤدي الى التخلف وبالتالي الانعزال عن العالم، بينما واقع الحال يفيد بأن الناس يعيشون ويتعبون في اعمالهم وحياتهم وهم باقون على ما هم عليه، وبالتأكيد ان جانب السلطة الحاكمة له بالغ الاهمية في وصول الحال الى هذا المستوى الذي لا يخدم حركة النهضة الثقافية في المجتمع، فقد نجد الصغير والكبير يحمل جهاز موبايل ويجيد استخدام الحاسوب ويعرف كيف يتنقل عبر العالم الافتراضي، لكنه قد يكون فاشلاً في معرفة نفسه، وفي معرفة هدفه، فكثير من الناس يعيشون حياتهم مستسلمين لفكرة ان وجودهم هو حصيلة تكوين اسري اقامته علاقة بيولوجية سيكولوجية بين الاب والام، وبالتالي فقد شكّل هذا الشعور أو هذا الاداراك التلقائي، احباطاً وتراجعاً، جعل الشخص يتعامل مع نفسه وجسمه كآلة يُراد لها ان تعمل وتنتج بغض النظر عن هدف ذلك العمل وقيمة ذلك الانتاج.. الثقافة هي روح المجتمع: و لكي لا تتجمد تلك الروح و يتحول المجتمع الى كتل بشرية وتجمعات تتحرك في دائرة الاحداث اليومية للحياة، فالمتحف احد ادوار واطوار الثقافة، و التربية هي الحقل الآمن لتدريب ابناء المجتمع على معرفة هوياتهم التي يهتدون اليها بواسطة الثقافة، ويأتي الدين ليشكل روح تلك الهوية، لذلك فالثقافة والهوية والدين والمجتمع رباعية مترابطة يقوم عليها بناء الشخصية وعندما نذكر الهوية الثقافية فنعني بذلك منظومة القيم والعادات والأخلاق والمعرفة والإبداع المهني والإبداع الفكري. و من شأن هذا الترابط الرباعي بين الثقافة والهوية والدين والمجتمع تمكين الفرد من اكتشاف هويته التي توفر له مرونة عالية في التعامل مع الهويات الأخرى دون اضرار جانبية، بل ربما توفر له اجواء ايجابية من حرية الإستخدام الواعي لمخرجات العملية الصناعية الإقتصادية العالمية فقد نكون مضطرين اليوم الى عكس الية النظرية والنتيجة، فنبدأ من النتيجة كي نرجع الى الفكرة أو النظرية، فبعد أن تمكنت ونجحت الأجيال السابقة والى وقت قريب في حفظ التراث كانتاجات ثقافية وفشلنا في احتواء هدف تلك الإنتاجات عندما لم نعد نشعر ونحن نزور المتحف مثلا اننا نتواصل مع موجوداته كأنها فينا ومنا وليست جزءاً من ماضي نستذكره بعاطفة وفخر فنشعر بنشوة هي اقرب الى كونها جرعة مهدئة منها الى كونها محفزاً مقوياً، قد يكون من المفيد بالنسبة لنا اليوم ان ننطلق من المتحف لنصل الى فلسفة العلاقة الحيّة بين الماضي والحاضر مستخدمين لذلك ادوات التقنية الحديثة بدوافع من الهوية الثقافية الإجتماعية الدينية، وهذا هو دور القائمين على حفظ التراث و تنمية وصيانة وادارة المتاحف .. باعتقادي ان الاهتمام بالمكان يأتي بالدرجة الثانية بعد الاهتمام بالانسان، لأن هدف الثقافة هو ايجاد اشخاص مؤهلين لحمل الرسالة التي تركها لنا السلف في المتاحف والكتب والمدونات والاثار والاخبار، ولكي نكون مؤهلين لحمل هذه الرسالة نحتاج الى قراءة مضمونها، والقراءة تحتاج الى لغة حيّة تضمن حصول التفاعل بين الماضي والحاضر، لكن الظروف غير المتوازنة اظطرت بعض الشباب الى ان يلغي نفسه قبالة شعوره بالارتياح في وسط يمضي بهم في طريق لا يبدو انه يصل بهم الى مكان آمن، و لأن الحاجة الى معرفة الذات حاجة ملحة وضرورية و بدونها تستحيل حياة الانسان وقد يصبح الانتحار حلاً للمشكلة كما يرى عالم النفس الدنماركي المريكي اريكسون، لقد لجأ بعض الشباب الى اكتشاف هوياتهم عن طريق الآخرين، ومن الخطورة بمكان ان يساء استخدام التقنية المتطورة بحيث يؤدي دوراً سلبياً في تدني قيمة الذات وتدني الذائقة والحس الواعي مما اسفر عن ظهور اشخاص بلا معنى او تافهين او اصحاب محتوى فارغ في واجهة المجتمع، والذي يدعو للأسف والى الشعور بالفشل ان يكون عدد الاعجابات والمشاهدات والتفاعلات والمتابعات التي يحظى بها مقطع فديو لهذا او ذاك معياراً في تقييم تلك الشخصية بغض النظر عن قيمة محتوى الفديو، يكفي انه نال استحسان واعجاب عدد كبير من المتابعين الذين شدتهم الآلة المتطورة اليها وفتحت امامهم نوافذ لصناعة هوياتهم من خلال العالم الرقمي والتقنية واعادة تكوينها بعيداً عن اللغة والدين والتراث قريباً من سوق السلعة وكان نتيجة ذلك ظهور شخصيات مضطربة قلقة مشوشة هي اقرب الى اللامعنى منها الى ابسط معاني الوجود الحي للنوع البشري، وتصل درجة الانهيار حدّها عندما تقترب من مفكرين ومثقفين يصنعون افكارهم في بيئة عربية ومجتمع اسلامي دون ان يكون لهذه الافكار صلة بواقع حياة مجتمعاتهم، بل لعلها تزيد في استغراق المجتمع في سوق السلعة و رقمنة المستهلك.. يمارس بعض دعاة الثقافة والتنوير اليوم انتقاداتهم لمنظومة قيم اجتماعية ومواريث تاريخية ومصادر دينية وعرضها على جمهور منهك يعيش حالة الضعف بسبب ضغوطات الاوضاع العامة في داخل البلاد وخارجها في عموم العالم تقريباً وهو ما قد يشكل خطراً يتهدد الهوية.. الهوية كيان مرن يتشكل ويتغير تبعاً للتحولات التي يمر بها الشخص او المجتمع، فالهوية ليست ثابتة ولأنها ليست كذلك يخشى على المجتمع العربي المسلم اليوم من ان تسهم هذه الاضطرابات والاخفاقات والاحباطات المتراكمة والمتكررة وكثرة المشاكل الاجتماعية والأسرية، في تكوين هوية مضطربة ثقافيا قد يعتادها المجتمع بسبب استمرار تراكم تلك الإضطرابات في ظل غياب حقيقي لإدارة قادرة على تلافيها، فلا يعود للكتاب معنى في حياة ابنائه إلا بمقدار ما تمليه الحاجة المادية للكتاب من حيث ان القراءة تسهم في تأهيل الشخص للحصول على موقع اجتماعي وظيفي وليس لأن القراءة تسهم في اكتشاف وتكوين الهوية التي يراها الفيلسوف الفرنسي ذو النزعة الروحية "لافل" انها تمنح صاحبها قدرة الإجابة الحاسمة عن اهم مشكلات الوجود الميتافيزيقية مثل : لماذا أعيش ؟ من أنا ؟ من أين جئت؟ و كيف جئتُ؟ و لماذا جئت؟ و مع من جئت؟ وإلى أين أرجع و.. و.. و غيرها! يرى عالم النفس الدانماركي "اريكسون" إن تحقيق الهوية امر حيوي وضرورة حتمية تستحيل بدونها رغبة الناس في الحياة و يرى ان يكون ميتاً افضل من ان يعيش بلا هوية. و لا تتحصل الهوية عندك إلّا عندما تعرف نفسك و التي بها تعرف كل شيئ, و معرفة النفس تحتاج إلى علم النفس .. يقول (دايل كار نيجي)؛ [إن أحدث العلوم هو الطب النفسي و يبشر بآلدّين], لذا ضرورة بل وجوب التدين لدى الأنسان الهادف ليحقق رسالته في الوجود, لكن لا هذا الدين الذي يتدين به الناس اليوم, لأجل الدنيا, حيث يأكل الدنيا بآلدين للأسف, لهذا لا خير في مسعى هؤلاء الذين يصطلح عليهم بآلمنافقين!؟ يرى عالم الانسان البولندي "مالينوفسكي" ان ثقافة اي مجتمع تنشأ وتتطور في جو يتم فيه اشباع احتياجاته البيولوجية و النفسية التي يعمل على تلبيتها النظام الإجتماعيّ الذي ينظم ويحكم تبادل العلاقات بين ابناء المجتمع، فإذا تعرض ذلك النظام الإجتماعي الى ما يهدد سلامة بنائه من ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية وامنية فإن ما يدعو الى القلق والتشاؤم في بعض الأحيان هو ان تسهم تلك الإضطرابات والظروف المتذبذبة في ظهور ثقافة مرحلية خاصة بشريحة او طبقة وربما كل المجتمع، تشتمل على فهم جديد مختلف عن المألوف من مفاهيم مثل الكتاب والمتحف والمدرسة والجامعة، هناك من العلماء من يعتقد ان الثقافة مفهوم لا يقتصر على انتاجات المجتمع الحاضر وانها تجمع بين التجربة والخبرة المكتسبة عبر التاريخ ممثلة في مخرجات تلك المراحل الزمنية السابقة من كتب ومتاحف وآثار يضاف اليها التجارب الحية والحيوية لأبناء المجتمع في حاضره بما في ذلك الجانب النفسي والعاطفي والمعرفي والتعليمي، ولأن الانسان ينسى بحكم طبيعته البيولوجية فمن واقع المسؤولية الثقافية يستوجب ان يحدث حراكاً ثقافياً للوسط المثقف في اي مجتمع لإنعاش ذاكرة المجتمع و تقريب ماضي الآباء والأجداد اليهم باستخدام ادوات جديدة لا يشعر الناس معها انهم امام ماض جميل عليهم ان يسمعوا عنه وان يشاهدوا اثاره كجانب نظري تستوجبه احياناً ثقافة المجتمع المرحلية وحاجة الفرد الحياتية الى مصادر طاقة يستطيع بها التحرك في حياته اليومية على سبيل تمرير الوقت وتحقيق بعض المكتسبات المعاشية والحياتية التي لا تلامس الفهم العميق للثقافة.. ونحن نتحدث عن الهوية الثقافية للمجتمع علينا ان لا نغفل طبيعة هذا المجتمع والطريقة التي يعيش بها الناس، فليس من المفيد في الجانب العملي للبحث الانثروبولوجي ان نتناول ثقافة المجتمع عبر ازمنة مختلفة ونعمل على تكوين مقاربة بينها وبين ثقافة اليوم بمعزل عن الجوانب الاجتماعية و الحياتية للمجتمع وللفرد وندعو الناس الى تقديس الموروث وتعظيم إرث الآباء والأجداد وتقييم انجازاتهم بينما هم يعيشون ظروف حياة مختلفة عن تلك التي قامت عليها ثقافة آبائهم واجدادهم.. ان الحل العملي المنهجي يقتضي اخذ ظروف وطريقة حياة الناس بنظر الاعتبار ودراستها دراسة وافية تعملل نتائجها على ايصال الناس الى حالة من التوافق بين المادي والمعنوي، البيولوجي والسيكولوجي في حياة كل فرد، فالثقافة كما يرى عالم الاجتماع البولندي مالينوفسكي وهو احد اهم علماء الانسان في القرن العشرين، يرى ان الثقافة تنشأ وتتطور في مجتمع بعد تلبية احتياجات افراده البيولوجية التي حددها في المأكل والملبس والزواج والسكن، من خلال تحقيق هذه الاحتياجات تتحقق حالة التوازن عند الفرد وتنعكس هذه الحالة من التوازن على المجتمع بالتالي، عندها تتشكل الهوية الثقافية المنبثقة من طبيعة ذلك المجتمع وعندها لا يغدو المتحف مكاناً تاريخياً أثرياً تأخذنا اقدامنا اليه متى استشعرنا سايكولوجيا حاجتنا الى الاستجمام والراحة والتمتع .. يقتضي مشروع (الهوية الثقافية) البدء من واقع المجتمع والوقوف ملياً عند احتياجات ابنائه وان نوفر حلولاً جذرية للمشاكل الإجتماعية التي أخذت تكبر في بلادنا واخذت تهدد سلامة البناء الإجتماعي فيه، إننا مدعوون اليوم من واقع الوعي الثقافي, و من واقع الحرية المسؤولة أن نتبنى كمجتمع، كمنظمات ومؤسسات دينية وتربوية وثقافية وانسانية مستقلة رعاية هذا المشروع الذي تلتقي فيه سلامة الماضي بإستقرار الحاضر لضمان المستقبل، لا شك انها مهمة شاقة جداً خصوصاً واننا نعيش في زمن لم يعد بوسع اي مجتمع ان يعالج مشاكله بمعزل عن العالم او ان يعيش بمفرده دون ان ينظر في انجازات المجتمعات الاخرى كما يرى الانثروبولوجي الامريكي كارلتون كون. ان غلبة التيار المادي الاقتصادي وهيمنة القرار السياسي دون الثقافي على طبيعة المشهد الحياتي لشعوب العالم يجعل بلداننا امام تحد خطير ومصيري لا يتيح امامنا اكثر من طريقين؛ إما اكتشاف هويتنا الخاصة التي لا نزال الى الآن وعلى الرغم من كثرة الإحباطات والمعوقات، نمتلك مقومات وادوات اكتشافها خصوصاً و ان مجتمعاتنا العربيّة و الإسلامية تتمتع بوجود حقيقتين إتفق عليها كثير من علماء النفس و الإجتماع و الانثروبولوجيا هي! انه ما من مجتمع إنساني إلّا وله دِين او يبحث له عن دِين. والحقيقة الثانية؛ هي انه لا يوجد شخص في هذا الوجود ليس لديه شعور ديني يتجسد بقوة و يظهر عندما يكون صاحب الشعور له ضمير و(وجدان), أي وجود الله في وجوده! أو يتضائل و يخفت, عندما يكون ذلك الشعور الوجداني(الضمير) ضعيفاً أو ميّتاً بداخله. و من خلال واقع حياة الناس الاجتماعية و الثقافية يدرك الباحث الانثروبولوجي وجود هاتين الحقيقتين حاضرتين بحيوية وفاعلية في مفاصل حياة الناس على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم وميولهم واعتقاداتهم وثقافاتهم وهو ما يعد خميرة حيوية مهمة لاكتشاف الهوية الثقافية للمجتمع التي تمكنه من وضع بصمته الخاصة في المشهد الحياتي.. الطريق الثاني هو الاندماج بالنسيج العالمي الذي يحكمه التيار المادي بحكم تفوقه الصناعي والتقني والقبول بالتغريب الثقافي وهو ما يفرض على الناس هوية ثقافية جديدة تصنعها ثقافة الأقوى وهي ثقافة غربية بلغة غريبة عن طبيعة مجتمعاتنا خصوصاً العربية منها، وهو طريق في ايسر محطاته يعطي للفرد حرية ان يكون كما يريد داخل بيته او داخل مجتمعه، على ان يكون كما يراد منه عندما يخرج من بيته، وهو طريق يحكم على المجتمع بالتبعية، وفي هكذا جو تضطرب الثقافة ولا يعود فيه الكتاب او المتحف أو.. سوى نشاط اجتماعي اعتباري في اطار ثقافي هو اقرب الى التمني منه الى الواقع. دور الشباب في صناعة الوعي داخل المجتمع: الوعي يمثل الداينمو لتفعيل الضمير و الوجدان! جاءت الشريعة الإسلامية لتنظم حياة الإنسان بشكل يشعر معه بهويته الشخصية، ويحثّه على اكتشاف ذاته، وليس ما يجعله يرى نفسه مجرد رقم في هذا الوجود، يشعره بصغر حجمه فيه، فتصغر في عينه الدنيا و يتسلل الضعف الى نفسه، و ينهار أمام ظروف معيشته و كثرة إحباطاته وعجزه عن تحقيق أيّ نجاح يزوده بطاقة إيجابية .. و الحقيقة لا يمكن فصل جيل اليوم عن جيل الأمس .. جيل الآباء و هكذا الأجداد؛ فكل جيل ينعكس عليه مؤثرات و صفات الجيل السابق, لذلك يجب على كل مجتمع و في أي زمن أن يؤدي دوره كي لا يلاقي الجيل الجديد و يتحمل أخطاء و تبعات آبائهم و أجدادهم, و عادة ما يكون ذلك للأسباب التي ذكرناها آنفاً. لقد أدّى التدين السّياسي لأنظمة الحكم في عالمنا العربيّ الى هذه النتائج التي لا يشكّل فيها المواطن إلا رقماً في سجلات النفوس و صناديق الإقتراع، و آلة تعمل لديمومة البقاء البشري في مجالي التغذية و التكاثر ، بلا مضمون روحي يعطيها جمالاً وأهمية، فما بين حجم البطالة الكبير في صفوف الشباب الى نسب الطلاق المرتفعة ، الى كثرة أعداد الأرامل و الأيتام بسبب سياسات الأنظمة و تعثرها و انحسار فرص العمل .. كل هذه السلبيات ضيّعت الطريق الطبيعي الصحيح على بعض الشباب فتاهوا في دروب الإلحاد والفوضى والإنتحار والعبث و التغرب، ما أبعدهم عن التدبّر والتفكير في انفسهم واكتشاف هوياتهم الشخصية. إنّ بناء الذات بناءً إيجابياً تزدهر معه الدنيا وتحلو ، فهي (حلوة خضرة) في قول رسول الله صلى الله عليه وآله الذي اورده اليعقوبي في تاريخه ؛ [الدنيا حلوة خضرة والله مستعملكم فيها فانظروا كيف تعملون]. وهي مهبط أولياء الله ومسجد ملائكته وهي الطريق الى الآخرة كما اخبرنا الإمام علي عليه السلام ولطالما دعا الناس ليتفقهوا ويتدبروا ويعقلوا دنياهم ليصحّحوا مساراتهم فيها كي يضمنوا سلامة الوصول في نهاية الطريق .. ان شبابنا اليوم مدعوون الى إعادة النظر في واقعهم من حيث انهم يشكلون نبض حياة هذا الواقع و حكمة المستقبل .. ان غياب وعي السلطة وافتقار العاملين فيها الى المسؤولية مكّن أدوات الفكر الهدّام من العمل بكثافة عبر القنوات الفضائية و وسائل التواصل الإجتماعي والأعمال الدرامية الهابطة والبرامج الترفيهية المبتذلة ، على إستهداف الشخصية العراقية خصوصاً والعربية بشكل عام ، تارة عن طريق استدرار عواطف الناس للتغرير بهم أو ابتزازهم أو الضحك عليهم أو إضحاكهم وتسليتهم ، تحت مسميات – كاميرا خفية ؛ برامج تسلية ؛ مسابقات و جوائز ينالها من يأكل اكثر عدد من حبات البرتقال أمام منافس له ، أو من يستطيع مدّ لسانه ليصل الى قطعة حلوى معلقة بالقرب منه، أو .. أو .. و غيرها! ان ثنائية الدين والدولة تؤثر تأثيراً بالغاً في ترشيد و إستقامة حياة المجتمعات ، وما حالات التردّي والتدهور و الإنهيار فيها إلاّ جرّاء اتساع الفجوة بين الدين والدولة ، فقد كانا - الدين والدولة - كياناً واحداً يمثلّه النبي القائد ، وما ان انقطع الوحي برحيل النبي عن الدنيا، وحصل ما حصل بعده ، واجه المجتمع ثنائية الدِّين و الدولة و اتساع الهوّة بينهما.. عاملان قادا كثيرين الى الإحباط ، هما : قلّة وعي الجماهير للأسباب التي أشرنا لها .. و تلبّس الدولة بلباس الدِّين, لمآرب مادية .. و هو ما جعل الشاب يقف مذهولاً، متحيّراً أمام التناقض بين لسان الدولة و سياستها .. أيّ بين ظاهرها الإسلامي وباطنها المادّي .. بكلمة واحدة صفة (النفاق) الملازمة للسياسة. استخدمت السلطة في كثير من ممارساتها قوانين تخويفيّة أكثر منها تثقيفية، إنْ على مستوى فقه السلطة او سياسة النظام! فحين اتسعت الفجوة بين الدِّين و الدّولة؛ لجأ بعض المشتغلين في مجال الدِّين الى القبول بسلطة الحاكم الجائر المبسوطة يده .. النافذة قوّته، ما دام يسمح للمسلمين بممارسة طقوسهم وعباداتهم الشخصية، وهو ما جعل الهدف من الإسلام ينحرف تدريجيّاً عن الإنسان و الوجود، ليذهب باتجاه المحافظة على الوجود الشكلي للدِّين عبر أعداد المسلمين، و ليس عبر هوياتهم و مواقفهم! و هي(الحكومات) حين تقوم بهذا؛ فهي لا تظهر إنها تدعو الى عزل الدِّين عن الدّولة .. أو الى تهميش الدِّين و إحلال القانون الوضعي الحديث مكانه؛ بل هي تخترق كل ذلك باسم الدِّين و باسم التجديد في الدِّين و الدّعوة الى إعادة قراءة التراث بشكل معاصر .. وهي بآلنتيجة؛ ليست دعوة صادقة في مضمونها .. بقدر ما هي لتمكين السلطة من توجيه و إستغلال الدِّين في المجتمع بما يخدم استمرارية وجودها في الإدارة و صناعة القرار لدرّ الأموال و المكاسب المادية الأخرى، و ربما إستخدمت هذه العناوين الكبيرة الجذاية لدّس أفكارٍ ملوثة سيئة تُطرح ضمن سياقات الحريّة الفكريّة و تبادل الآراء و الأفكار ليبدو الطرح مقبولاً لدى عموم الناس الذين أساساً يفتقدون المعرفة و الوعي و الثقافة القانونيّة و الشرعيّة التي تؤدي إلى صمتهم لقلة مداركهم و عدم دركهم لما ستسبب من دمار و محن في مستقبل الأجيال القادمة التي لا ذنب لها, إنما بسبب ذنب آبائهم الذين لا يعرفون إذا ما مرّ وقت على هذا الصمت؛ فإنه سيصبح نوعاً من الرضا عندما تطالعه الاجيال القادمة لتستمر المحنة و كما هو حال الجيل الحالي في بلادنا و العالم الذي يئن من وطأة ذلك و يبدو عاجزاً عن وضع حدّ لهذه المأساة! وقد بيّن (عدي بن حاتم الطائي) هذه الفكرة حين أقسم عليه معاوية أن يبدي رأيه بزمانه؟ فقال له عدي : [عدل زمانكم هذا جور زمانٍ قد مضى و جور زمانكم هذا عدل زمان ما يأتي]. و تلك هي إشارة واعية الى خطورة تغييب وعي الجماهير الذي يسبب إطالة أمد الظلم و الفساد في حياة المجتمع دون موقف رسالي آني مضاد له يردع الحكام! لقد قلنا في مقال كتبته بعد سقوط الصنم في بغداد و حلول جماعة أخرى للحكم بدعم من القوى الكبرى التي أسقطت صدام : تلك الجماعة التي أذهلتني تصرفاتها و فعالها المشينة, لانها و كما ظهرت كانت مصممة حتى من قبل السقوط للإجهاز على الأموال و المناصب دون التخطيط لنشر العدالة .. بل أساساً لم تكن تفكر في العدالة لأنها و للآن لا تعرف أسسها و منطلقاتها, فكان ما كان من مصائب و فساد ستبقى وصمة عار في جبينهم و جبين العراقيين عموماً لأنهم أيضا يتحملون مسؤولية ذلك! المهم قلت بعنوان: (هل ثمّة مجال لرحلة أخرى نحو المجهول؟) [مؤلم جداً .. جداً, أن ترى (الأسلام) قد مات في العراق بسبب حفنة من “دعاة ومجاهدي اليوم” ألذين تحاصصوا مع الجميع حتى قتلة الصدر على تقسيم الأموال و رجعوا لديارهم ليثبتوا بأنهم لم يكونوا بأفضل من البعثيين إلا قليلاً .. فقد بان معدنهم و حقيقة دينهم عند المحك خصوصا الذين رجعوا لأصلهم في لندن و أوربا و أمريكا .. وتبيّن أن قلوبهم كانت فاسدة و إنما تظاهروا بآلتديّن التقليدي و تحملوا لوم النفس ألدائم ألتي كانوا يمنونها بآلصبر و نجحوا بفضل الشيطان مقطعياً بآلسيطرة و التستر على حيوانيتها و الخبائث المكنونة في إعماقها حتى ظهورها في اليوم المعلوم ليقطفوا الثمار ويسرقوا الناس علناً و يخونوا بلا حياء مبادئ الصدر الأول التي بقيت مركونة في كتبه العملاقة التي لم يفهم دعاة اليوم منها سطراً .. ليستمرّ بغربته وحيداً و هو يشكوا جفائهم لمحبوبه في عالم البرزخ! وآلمؤلم أكثر .. أنك و لأجل أن تبني الأسلام في العراق من جديد بعد ما هدمه الممسوخين المُدّعين؛ فإنّك تحتاج لنصف قرن آخر لتبني ما تمّ تدميره بآلكامل مقابل راتب أو صفقة حرام يتلذذون بها كما فعل عمر بن العاص و طلحة و الزبير و عكرمة و شرذمة تلاعبوا بأموال بيت المال دون الطبقات الفقيرة!؟ لكن المشكلة الكبرى التي ستُعيق العمل و البناء هذه المرة, هي أكثر تعقيداً و تكلفة و معاناة ممّا كان حتى في زمن صدام على قساوتها .. لأنّ الناس سيحتجون و سيرفضونك رفضا قاطعا, بدعوى أنهم مروا بتجربة (الدعوة) المزعومة و ثبت لهم أن الدعاة ليسوا بأفضل ممّن سبقهم في حكم العراق, الجميع سواسي في فلسفة الحكم و الهدف منه, مع فارق اللون و اللافتة والعنوان فقط. ألمسألة أتصورها ستشبه خلافة الأمام علي(ع) و الظروف والمسؤوليات التي كانت محيطة بخلافته من كل النواحي, فحين إستلم السلطة بعد خراب البلاد والعباد و إنفصال الشام والمحسوبية و المنسوبية و القبائلية و الرشاوى و الرواتب الخاصة للمقربين و المخصصات التي سادت بخلاف الأسلام في ظل من سبقه قهراً أو رضاً ؛ سهوا أو عمداً , قد ساهمت جميعها لتعقيد الأمور أضعافا مضاعفة.. حيث أصبح النفاق و الدجل و رفض الولاية(ولاية عليّ) و تقرير الفتوى و القانون بحسب المصالح سُنّة جائزة بذريعة عدم وجود العصمة في مواقف الخليفة وكل إنسان يخطأ و لهم الحق إذن أن يتخذوا المواقف بحسب المصالح, و صار الكثير حتى من الصحابة الذين عاصروا الرسول (ص) و الذين بقوا أحياء لزمنه(ع) يعتقدون بصحة تلك المناهج الخاطئة التي سادت بآلخطأ, حتى الصحابة منهم إعتقدوا بذلك و كان عددهم بحدود 30 صحابيا بدرياً و للأسف الشديد, ولك أن تتصوّر حال الباقين! فما عادت تنفع أوامر و وصايا الأمام و خطبه حتى للبدريين الذين كان يُفترض بهم أن يقفوا بجانبه في محنته التي تشبه محنتنا اليوم .. لكن كيف .. و لماذا يقفوا مع ولاية الأمام التي تمثل الخلافة الأسلامية الحقيقية وقد تشوّه الأسلام كله في أخطر نقطة وهي الجانب المالي من جانب و فشل الحكم بقوانين الأسلام من جانب آخر بسبب إنتشار الفساد و النفاق المشرعن!؟ و سيشبه يومنا بآلبارحة و بآلتأريخ الأسلامي الأسود!؟؟ بغداد يومك لا يزال كأمسه .. صورٌ على طرفي نقيض تجمع في القصر أغنية على شفة الهوى و الكوخ دمع في المحاجر يلذع تلك هي الحقيقة القائمة اليوم للأسف .. وإنها لقمة (الرواتب) و الصفقات الحرام و نهب بيت المال الذي فعل المعاجز و آلغرائب حتى في أتقى القلوب و البطون و الفروج والمشتكى لله! ثمّ مَنْ يضمن عدم خروج شلّة أخرى كدعاة اليوم الممسوخين, شلة لا تستحي و تدعي الدّعوة و الدّين و العلم و الجهاد بعد نهاية رحلتا المجهولة لو نجحت؟ لتفعل من جديد ما فعلتها الثلة السابقة من فساد و جهل و خراب و سرقات و هدر حقوق و تأريخ كتبه الشهداء بآلدم و الدموع في سنوات الجمر العراقي, و ما أدراك ما في تلك السنوات, لتصبح بعدها .. نسياً منسياً للأبد و الأنزواء للنوم على وسائد من المال الحرام معتقدين بعدم وجود آخرة لمحاكمتهم كأي منافق سبقهم في التأريخ؟ ثمّ لا أدري .. هل هناك ثمّة بقية في العمر للبدء برحلة نصف قرن أخرى للدّعوة إلى إيجاد الثلة المؤمنة و الأرضية المناسبة لعودة الأسلام مع هذا البشراللعين الذي ما زال بشراً و لا يمكن أن يرتقي أبداً مع نضوب الوعي و لقمة الحرام نحو مدار الأنسانية ثم الآدمية التي لا يفهم العراقيون كما العرب و غيرهم حتى تعريفها, خصوصا و أنّ دعاة اليوم كما علماؤهم يجهلون ليس فقط أحداث التأريخ؛ بل خفايا و أسرار منعطفاته سواءاً ألفترة الأسلامية الماضية أو هذه الحقبة السوداء؟ و ما ظهر أو ربما يظهر من نشرات و كتب؛ إنما هي نسخ مترجمة من أصل فكرنا الكوني العزيزي, لكن مع تحوير في المقدمة و المؤخرة, أو لمؤلفين من أهل الرايات السود الذين لا يذكرونهم حتى في الهوامش ليضاف إلى فسادهم و إلى التراكم التأريخي و كما تحققتُ من ذلك بنفسي لتبقى مشكلة النفاق بلا حلّ منذ زمن الأنبياء و للآن و كما بيَّن ذلك الأمام الراحل(قدس) ليستمر حُكم الشيطان على الأرض بإمتياز. الناس في كثير من الأحيان يجاهدون أنفسهم، فهم يرون واقعاً سيئاً و يعيشون أيّاماً غادرتها الرحمة و البركة و حلّت محلّها المادّية و الأنانية، و مع ذلك لا يزال بعض المجتمعات المسلمة و العربية منها تمتلك طاقة روحيّة و بقايا القيم الكونية .. تدفعه للمواجهة و التدخل بشكل متحضر ، إذ لا يزال الدِّين ينبض في وجدان الناس على الرغم من الهجمات المكثفة للفكر الهدّام و مبادئ الديمقراطية المستهدفة، سواء من أنظمة حكم أو من قوى أخرى مستفيدة من طمس معالم الهوية الشخصية للمسلم, و التي بدأت ملامحها تتشكل مع أول أسرة استحوذت على السلطة في العالم الإسلامي في عهد الأمويين حين حوّلت الحكم إلى ملك عضوض، فقد ظهر تنظيم جديد لأمور القضاء و صار الخليفة ملكاً يورث من يشاء و يتدخل في كل شيئ ، بل هو السلطة العليا في نفس القاضي .. و اذا كان عليٌ(ع) الذي كان حاكماً على أكثر من (12) دولة وقتها قد عاب على القاضي (شريح) لمجرد مناداته له بـكنيته (أبي الحسن) أمام خصمه اليهودي في قضيّة الدرع (درع و سيف طلحة) المشهورة؛ فإن سطوة الحاكم فيما بعد جعلت القاضي، و في كثير من الأحيان، يُغازل في حكمه هوى الخليفة لينال رضاه و يتمتع بعطاياه .. و حاول العباسيون أوّل عهدهم جعل الشريعة الإسلامية مصدر القانون في الدولة على نهج أهل البيت(ع)، لكنهم لم يُحققوا تطابقاً بين القول و الفعل .. ما جعل الفجوة تكبر بين الدِّين و الدولة, بين (الدِّين و السياسة) و صار القضاء بيد السلطة تتصرف به وفق ما يضمن بقاءها، فقد فرض أبو جعفر المنصور الإقامة الجبريّة على (أبي حنيفة النعمان) لنشاطاته في دعم ثورة (زيد بن علي بن الحسين) ، و رفضه تولي منصب قاضي القضاة الذي عرضه عليه، و كذا موقفه السّلبي من (احمد بن حنبل)، و مع كل هذا الإستهداف السياسي للدِّين من قبل السلطة يبدو انها تمكنت فقط في الجانب المرتبط بتسييس الناس و إبقائهم لصالح بقائها و طاعتها بأي شكل يخدم ديمومة احتفاظها بالسلطة، فقد كتب المنصور الى الإمام (جعفر الصادق)(ع) يقول له: لم لا تغشانا كما يغشانا سائر الناس؟ فأجابه الإمام(ع): [ليس لنا ما نخافك من اجله، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له، و لا أنت في نعمة فنهنئك، ولا تراها نقمة فنعزيك بها، فما نصنع عندك] .. فكتب اليه المنصور: [تصحبنا لتنصحنا].. فكان ردّ الإمام(ع): [من اراد الدُّنيا لا ينصحك، و من اراد الآخرة لا يصحبك] .. حافظ الدِّين على حيويّته في الجانب الإجتماعي الشخصي، حاضراً في عقول و نفوس و تصرفات الناس و قادتهم الحقيقيين، يشغل مساحات واسعة في نطاق توافقه مع أعراف اجتماعيّة أخلاقيّة، حتى عندما اخترق الإستعمار و الإحتلال نسيج المجتمع و تطورت وسائل الاحتلال من العسكري .. الى السياسيّ .. الى الاقتصاديّ .. الى الثقافي .. الى احتلال العقول، واحتلال الإرادة و مصادرة الهوية و تفريغ الشخصيّة من محتواها الروحي و القيمي و إعادة تعبئتها بمحتوى صناعيّ بديل .. تارة باسم الإنفتاح و اخرى باسم التطور و الحداثة و التقدم ، وأخرى باسم العالم الافتراضي و التقنيات الرقميّة و الذكاء الإصطناعي ، واخرى باسم القطب الواحد في العالم، وهو ما دفع انظمة السلطة في العالم العربي و في بلادنا الإسلامية الى الإعتراف بتأثير الغرب وعملت على مجاراته بل و الخضوع له لضمان الإحتفاظ بالمناصب والمكاسب، مؤطرين هذا التناقض بأطر دبلوماسية يظهر فيها الرئيس الغربي مع نظيره الشرقي أمام الكاميرات و وسائل الإعلام على انهما نظيران يتبادلان سبل التعاون المشترك بين البلدين و اقامة علاقات ثقافية و تجارية و ما الى ذلك من قضايا مشتركة .. يظهر تأثير استهداف الشخصيّة في المجتمع واضحاً في طبقة الشباب من خلال توسيع فجوة فاعليتهم و تفاعلهم مع المجتمع بصناعة أزمات البطالة و الإنحراف و الإنحلال، أو الإسهام و لو يشكل غير مباشر في تفعيلها من خلال الإهمال وغياب بعد النظر، ما أدّى ذلك الى تفشي بعض الظواهر السلبية و تصديرها على انها تقليعات حديثة للتفكير و الأزياء ، حتى تدنّت قيمة الذات و تغيرت معها السلوكيات و الطباع و الأذواق الى حدّ ما!! ففي احدى السنوات التي تلت سقوط داعش ، طرحت احدى دور عرض الأزياء، ملابس و ديكورات لداعش كزيّ يستخدمه الطلبة في حفلات التخرج الجامعيّة، و أقدمت بعض المطاعم على عرض مأكولات بمسميات مثل (همبرغر لغم)، و(سندويج رعب) ، وأخذ بعض الشباب يتقبل الأمر دون ان يترك ذلك أثراً سيئاً في شخصية الشاب ، ربما لأنه لم يعد يشعر بها في ظل ديمومة الظلم والفوضى وفقدان الأمل في وجود حل لهذه المشاكل ، فصار يطلب سندويج الرعب في المطعم مكتفياً بتبرير قبوله بالطعم اللذيذ للسندويج متجاوزاً الأثر اللفظي والمعنوي للكلمة في نفسه .. وفي احد الفديوهات على اليوتيوب ، يقدم احد المطاعم وجباته في أواني يشبه تصميمها مقاعد الحمامات.. وفي مقطع آخر كيكة معمولة على شكل طفل صغير ، ويأخذ احدهم السكينة ليبدأ بتقطيع - الطفل الكيكة – و تقديمها للضيوف و هم يشاهدون عمليّة التقطيع محتفلين فرحين بمناسبتهم .. و مقطع آخر يقدم تصميماً للكيك على شكل حذاء ! وأخذت حالات عنف غريبة تظهر داخل الأسرة وصلت في بعضها حدّ القتل مقابل أمر تافه لا يتجاوز القليل من المال أو لمجرد حالة انفعال، مثلما كنّا نستغرب و نحن نسمع الإرهابي في جلسات التحقيق عبر وسائل الإعلام حين يقول انه تقاضى اجراً في حدود 50 الف دينار او 50 دولاراً مقابل كل عملية قتل أو ذبح يرتكبها بحق مخطوف أو طفل أو امرأة أو أسير، و بعضها يندرج ضمن السلوكيات البشرية الشاذة.. واسهم الدور الخطير للإعلام المضاد في إظهار هذه السلبيات و العمليات الإجراميّة، و ربّما تضخيم احداثها، لتبدو مرعبة في عيون و اسماع الناس بحيث تترك فيهم احساساً بعدم الأمان يوثقه الدور البارد لإدارات البلاد في التعاطي مع هذه الأزمات و الحالات الإجتماعيّة المستحدثة بفعل ما تعيشه البلاد في عهد الإحتلال الأمريكي .. هذا و كان للعالم الإفتراضي دوره الريادي وهو يفتح نوافذه عبر شاشات الآيباد و الآيفون و الحواسيب و الموبايلات، دون رقابة مسؤولة واعية من قبل الجهات الرسمية وكثير من الناس، للأخذ بنظر الإعتبار اختلاف مستويات المتلقين و تحملهم لآثار تلك آلصور و الأفلام المخيفة حقاً, حيث الطفل، و المراهق، و المرأة و محدودية المعرفة تساعد على تعميق المآسي .. الى الحد الذي باتت فيه الحياة الجديدة مصدر قلق كبير لكثير من الآباء والأمهات الذين كانوا يتوقون لرؤية وجه جديد للبلاد ينعم فيه ابناؤهم بالحرية و التطور و الإستقرار بعد ان انهكتهم سنوات الإنقلابات و المؤامرات و الدكتاتورية، فهم اليوم يعيشون عهد صناديق الإقتراع و حرية الكلام و التعبير لبعض الحدود .. لكن أدوات هذا العهد الجديد و الوسائل مخيفة و مرعبة هدّدت سكينة الأسرة و أواصرها .. بحيث إرتفعت نسبة الطلاق إلى معدلات لم نشهدها من قبل، وصار الخطر قاب قوسين او ادنى منها، و لعله دخل البيت على علم أهله به, و جهلهم بمخاطره، كونها تفرض نفسها من ضرورات الحياة اليوم، فإن شكلاً من أشكال الأزمة ظهرت بين الآباء و الأبناء، و هو ما ألجأ الأبناء الى الإغتراب المعنوي و إزدواج الهوية و القطبية! فالشاب يعيش مع اسرته في جوّ يظهرون فيه كأشخاص يجمعهم مكان واحد و دين واحد، بعد ان كانت الأسرة، ولا يزال كثير منها لحدّ الآن، تعيش كأنها كيان واحد موزع في عدة أشخاص، فالجميع يعيش حالة فرح و مرض, و حزن احدهم يصيب الجميع ، و الواحد منهم يعيش احساسه بالمسؤولية تجاه الجميع .. و اذا كانت هذه الأزمات قد جعلت الأهل في حالة قلق مزمن ، فإنها جعلت الشباب في حالة من الضعف واللا توازن، يقابلها الحاجة الداخلية الملحة عليه في اثبات ذاته و صناعة شخصيته .. ذلك الصراع و التناقضات و الإزدواجية قد أفرزت أشخاصاً إنفعاليين؛ و شاذيين؛ سريعي التأثر، لا يعطون لنصيحة الآخرين حضوراً في واقعهم، يحملون في ذواتهم شيئاً من التمرد على الواقع الأسري و الإجتماعي والديني والاخلاقي، ما دفع البعض الى القيام بسلوكيات غريبة يحاول من خلالها اثبات ذاته، والإيحاء لنفسه بأنها موضع انظار الآخرين دون الأخذ بنظر الإعتبار إيجابية أو سلبية تلك الأنظار ، فأصبح الشاب مقحماً في تفاصيل حياته بوضعيات معينة يفرضها واقع الحال من خلال مسميات عليه تقبلها قسراً، فظهرت امواج من الملابس و الأكلات و قصات الشعر و الأفكار، في بعضها خروج فاضح واضح على الذوق العام والحدود المألوفة للتعبير عن الأفكار و النوازع الداخلية والرغبات، فصار الشاب يرتدي ثياباً ضيقة و يحمل أفكاراً ضيقة ويأكل ساندويجاً ملغوماً, و وجبة سريعة و يشترك في مجاميع الكترونية على مواقع التواصل الاجتماعي يتبادل الأحاديث مع آخرين عن العنف و الإلحاد و الهروب من الواقع و العيش في فضاء الأحلام والخيالات والامنيات الوردية، تاركين واقعهم تعبث به جهات وأشخاص لا يشغلهم سوى المصلحة الخاصة فردية كانت او جهوية، ما أسفر عن أكثر من سبعة ملايين عراقيّ يعيشون تحت خط الفقر, و70% بطالة في صفوف الشباب و اكثر من 160 الف حالة طلاق في السنة, و ارتفاع معدلات الأميّة حتى 35% و كثرة الأمراض المفاجئة و تقلص حجم الحكومة الى الحد الذي دفع مرضى السرطان الى الخروج بتظاهرة يُطالبون فيها بتوفير علاجهم في مستشفيات الدولة، و امتد الإنحراف ليصل الى الأسرة في سلوكياتها ، فصرنا نسمع عن (حفلات الطلاق) و (الطلاق العاطفيّ) و (الغش الجماعي في الإمتحانات العامة)، و تغييب الإنسانية في المهن الطبيّة و استحواذ الأنانية والمادّية على طريقة التعامل مع المريض من قبل بعض الأطباء و الصيادلة و مختبرات التحليلات المرضية .. لقد هدّدت هذه الإشياء ركناً مهماً في الحياة وهو الثقة .. ثقة الشخص بنفسه و بمحيطه و بدينه و تاريخه ، و لعله تصدّع لدى البعض ممّا ادّى الى ظهور شخصية الشاب المنفعل الفارغ من القيم؛ قليل الحكمة؛ قليل الرحمة؛ سريع الاندفاع ؛ قليل الصبر ، قليل الخبرة، غير جاد في حياته، متحير، غير مستقر، تحتل المادية أجواء تفكيره، فصرنا نسمع عن حيل و أساليب خطيرة تقوم بها الأسرة كي تضمن تفوق ابنها في الإمتحانات العامة من اجل الظفر بكلية من كليات التعيين المركزي، وحيث فشل ادارات البلاد في احتواء الأزمات و منع تحولها الى اوبئة و امراض مزمنة يعانيها المجتمع و يصارعها أو يألفها كما هو الحال مع البعض .. مع كل هذا التهديد الخطير المحيط بالشباب، لا يزال في كثير من المشاهدات و التجارب متماسكاً صابراً يتلوى و يعاني حدّ الاختناق لكن دون ان يموت .. ان الحديث عن مسؤولية وصول الحال الى هذه الدرجة من التدهور لا يكاد يخفى ، و لسنا نريد الوقوف عنده قدر ما نريد ان نعالج وندرك ما بين ايدينا خشية فوات الأوان ، ولأن التصحيح والإصلاح في خضم الفوضى التي نعيشها في البلاد يحتاج الى قوى كبرى وامكانات تفوق حدود الأمل والرغبة في العيش الآمن والسليم ، فإن الوعي هو السبيل الى النهضة التي يراد بها بناء البلاد ، فحين يصبح المجتمع على درجة عالية من الوعي؛ سيتمكن من احتواء الأزمات، و الحيلولة دون أن تصبح إشكاليات تهدّد سلامته.. و حين يضع الشاب في إعتباره أن الدين يبحث عن الإنسان من حيث هو كيان و هوية و ضمير، ومن حيث هو وعي له بصمته الخاصة بكل شخص كما لبصمة ابهامه ، أكثر منه شخص يراد منه ممارسة طقوس وعبادات وتوالد، لا شك ان رؤية جديدة مشرقة ستشغل تفكيره .. وحين يضع الشاب في اعتباره ان السياسة تنظر اليه كياناً فاعلاً مشاركاً حقيقياً في بناء الدولة ، وليس موضع استغفال اصحاب الأجندات الخاصة والمصالح العابرة للإنسانية والكرامة والحقوق؛ لا شك ان رؤية جديدة مشرقة ستشغل تفكيره ، تأخذه بعيداً عن وساوس الاستغلال ، أو اليأس من تحقيق التغيير الإيجابي على مستوى الذات الشخصية وعلى مستوى المسؤولية الجماعية .. وحين يضع الشاب في اعتباره ان العلم يصنع الحياة السعيدة ، ويذلل العقبات ، وليس وسيلة للحصول على الشهادة الجامعية الموقوفة على التعيين والوظيفة المجزية من حيث المرتب و اعتبارات المظهر فقط، بل هو للإرتقاء من مرحلة البشرية الى مرحلة الانسانية، حيث التفكير و التأمل و صناعة الوعي .. حيث العقل مصدر التغيير الإيجابي في المجتمع و الذي يحتاج الى التأمل الذي يوفر له اجواء التحكم بالأفكار والهواجس والخواطر التي تمر على الإنسان وتلح عليه حسب ظرفها الزماني والمكاني وطبيعة الحدث .. ربما يخبرك التأمل انك سبب من أسباب المشاكل التي تعيشها ، و اذا قبلت من عقلك بهذه النتيجة وفكّرت بها جيداً ستبدأ مرحلة التغيير الإيجابي معك خطواتها الأولى.. ان نوع التفكير يؤدي دوراً مهمّاً في صناعة الشخصية ، فالقبول بفكرة (الحظ والنصيب) والإستسلام لها ينتج شخصية غير قادرة على التغيير ، أو هي لا تبحث عنه ولا تفكر به ، أو تتحاشاه مع المتغيرات والظروف التي يتقبلها العقل كونها اكبر من قدرة مواجهتها أو التحكم بها ، لذا فالإستسلام لها مع بعض الحرص والحيطة من الوقوع في الأسوء سيكون هو حال تلك الشخصية ، أما العقل الذي يخبر صاحبه ان تجربته خاضعة لإرادته ، و انه يملك الإختيار و يملك تفعيل اختياره، وانه لا يخوض تجربة ما ، لأنها مفروضة عليه ، أو وجد نفسه داخلها ، بل يخوضها لأنه يعرف ماذا يريد ان يستنتج من تلك التجربة ، مثل هكذا شخصية تفكّر بالتغيير الإيجابي كونه التجربة التي عليه خوضها للخروج من الإشكاليات والمشاكل التي يتعرض لها.. أن تكون رقيباً على أفكارك ، وان تكون انت من يصنعها ، فلن تكون كمن يبرر افعالاً سيئة صدرت عنه، بانّها جاءته من هنا و هناك و دارت في خلده فوجد نفسه منصاعاً لها .. نعم قد يحدث هذا، و هنا يأتي دور القلب ليسهم الى جانب العقل في معرفة قيمة ما نفكر به أو نتأمله من أفكار.. في حالات الغضب تجد افكارك وقراراتك لا تتفق مع افكارك وقراراتك في حالات الرضى ، مع ان العقل نفسه ، والقلب نفسه في الحالين ، فربّما اوكلت قرارك الى مشاعرك في لحضة غضب ، وربما اوكلتها الى عقلك في لحضة تأمل و راحة.. ولعل من مخاطر العيش فترة طويلة مع وجود الخطأ ، مع وجود الظلم ، مع وجود الباطل ، مع وجود الإنحراف، يقسّم الانسان في داخله الى قسمين لا يتفقان مع بعضهما ، وهو ما يسمونه: (انفصام الشخصية) أو (إزدواجيّة الشخصية) أو (إضطراب الشخصيّة) أو الشخصية غير السوية.. فقد ظهر (هتلر) على الرغم من قساوته و وحشيته بالقرب من الأطفال يقدم لهم اللعب ، و فعلها كثير من الحكّام في عالمنا العربيّ الإسلاميّ ممّن وصفوا بالدكتاتورية و الظلم ، و ظنها البعض انسانية القائد التي لم يتخلّ عنها على الرغم من مسؤولياته و قساوة الظروف التي يواجهها و هو يزج بعشرات الآلاف من المقاتلين الى الموت المحقّق في سوح قتال انتجتها عنجهيته، أو تزمته ، أو محدودية تفكيره ، أو ولاءاته، أو أفكار سيئة صاغها ذهنه في أجواء ملوثة .. و هنا يأتي دور العقل في نهي النفس عن الهوى، وقد اعطى الإمام علي(ع) انموذجاً حيّاً لهذا النوع من الإنسان ، فقد كان يعيش اجواء الحرب بما تحتمله من تشنجات و انفعالات و شدّة و اندفاع دون ان يخلع قلبه و عقله قبل نزول الميدان، بل حملهما معه ليكونا معه, و هاذ هو العاشق الحقيقي لله و هو يخطو خطواته حتى اذا ما بصق (عمر بن ودّ) حال سقوطه, صبر و لم ينفعل، ثم إنصرف عنه الإمام(ع) و لم يعاجله (بضربة النهاية)، ثمّ عاد اليه بعد حين فقتله .. لقد كان العقل و القلب في حالة اتخاذ قرار خلال هذه الخطوات التي مشى بها الإمام بعيداً عن ابن ودّ، و لمّا سألوه كان جوابه يفصح عن قوة الشخصيّة و توازنها في اجواء مشحونة بالإضطراب و الشدّة، فقال خشيت إن قتلته حينها أن أكون إنتقمت لنفسي بينما انا خارج في سبيل الله .. يعرف كلّ شخص نوع المشاعر التي يعيشها إزاء حدث ما أو فكرة ما ، ان كانت جيدة أو سيئة ، فالذي يرتضي النجاح بواسطة الغش هو يعلم انه يرتكب خطأً لكنّه يبرر فعله الخطأ هذا على انه سلوك مشاع في المجتمع ، مثلما نشمئز اليوم و نلعن ذلك السيئ الذي انتزع الأقراط من أذن طفلة في حدود السابعة من العمر في معسكر الأمام (الحسين)(ع) حتى اذا ما عوتب على قبح عمله برره بأن غيره كان سيفعل ذلك ان لم يكن فعلها هو .. هذه هي الخطورة التي نتحدث عنها و التي نواجهها اليوم ، فنحن نشكو من تعثر الحكومة في ادارة البلاد، و نشهد احداثاً سيئة و افعالاً غريبة و سلوكيات مرفوضة .. لكن كثيرين يبررون لأنفسهم عجزهم عن تغيير الواقع أو استسلامهم للأمر المفروض .. إن الإحباط و اليأس والغضب والكره والأنانية تفقد الشخص شعوره بالسيطرة على تصرفاته ، فالأب الذي ضرب ابنته، وهي في عامها الدراسي الأول، ضرباً مبرّحاً لأنها لم تتعلم الكتابة كما يعلمها ، وماتت قبل وصولها المستشفى، انه يعيش الخطورة التي نتحدث عنها ، فهو يبدو سوياً الى ان حرّك بطء استجابة الطفلة ، القسم الثاني السيء في شخصيته والذي لا يتفق مع القسم الأول فيه ، فانهال عليها بالضرب دون وعي منه الى الحد الذي لم يعد يقوى على نهي نفسه عن الإستسلام لهذه الأفكار السلبية وبالتالي اصبح جسمه وحواسّه أدواتاً تنفذ إملاءات تلك المشاعر الخشنة والقسوة المفرطة والتي لا تستجيب لنداءات القسم الثاني بالدعوة الى المصالحة و تمالك النفس والسيطرة على الأعصاب .. يغلب على كثير من هذه الأحداث غياب الحكمة بحيث تضطرب علاقة التناسب الطردي بين العقل والقلب ، فالفكرة الجيدة لا يصدر معها سلوك سيء، و الجمال لا يتوافق مع القبح .. و يحتاج بناء الذات الى الإيجابية في الأفكار و المشاعر و الذات المنتجة الجذابة ، و ليس الذات الباردة ، أو (الذات الرقميّة) التي هي موضع تحرك و تحكم من قبل قوة خارجية.. و يحتاج قراراً داخليّاً يصنعه الشخص في نفسه سواء كان إيجابياً أو سلبياً .. يتدخل في صناعة مثل هذا القرار مستوى الوعي الذي يصل اليه الشخص و مستوى الإدراك .. أدت ظروف البلاد السياسية والاقتصادية الى فرض أو تهيئة أجواء التفكير السيء لدى كثيرين بسبب النتائج السلبية التي افرزتها مرحلة التغيير والفوضى التي جاء بها الإحتلال ومارستها أحزاب السلطة المنتخبة! وبدا ذلك واضحاً في كلام بعض طلبة المراحل الدراسية المنتهية في تقرير تلفزيوني سئلوا فيه عن أسباب صعوبة الأسئلة الوزارية ، حين قالوا: انها عملية مدبّرة ومؤامرة تشترك فيها وزارة التربية ووزارة التعليم بتمويل من رؤوس اموال هدفها توسيع منافذ الكسب والربح بغض النظر عن الوسيلة ، فتقام مشاريع التعليم الأهلي والكليات الأهلية على خلفية شيوع فكرة انحسار فرص التعيين واقتصارها على بعض المهن ، ما يجعل الأهل ينفقون اموالاً طائلة لتعليم ابنائهم في مدارس وكليات اهلية ضماناً لحصولهم على احدى المؤهلات المضمونة التعيين حال تخرجهم ، ان تفكيراً سيئاً كهذا، وان كان واقعاً يعيشه المواطن اليوم ، من شأنه ان يؤسس مستقبلاً لأفكار مادية و انتهازية و انانية، الأمر الذي يستدعي استحضار مناهج سيئة لتحقيق تلك الأفكار السيئة بعيداً عن المكاشفة .. في المستقبل لن تتوقف الجامعات عن تخريج الطلبة ، لكن نوعيات خطيرة من الإزدواجية ستنتشر في المجتمع ، تهدد سلامته و تضرب البراءة و العفوية و الجمال الفطري للأخلاق في الصميم بشكل غير مباشر و ربّما بشكل مباشر حتى .. و نحن اليوم نشهد ظهور مثل هذه الأشباه البشرية، فالطبيب الانتهازي لا يخبر مريضه بأنه يستغفله حين يطلب منه تحليلات لا علاقة لها بحالته المرضية، كما انه لا يخبره؛ انه(الطبيب) على اتفاق تجاري مع الصيدلية حين يكتب له شامبو للشعر و هو مصاب بالتهابات جلدية، لأن المذخر يحتفظ بكميات كبيرة من ذلك النوع من الشامبو و اوشك تاريخ نفاذ الصلاحية على الاقتراب ، و لتفادي الضرر المالي ، استغفل المريض.. طبيب آخر لا يطلب أجوراً عالية ، لكنه يعمد الى التكرار الإلزامي للمراجعة ، و إن كانت لا توجب ذلك، لكن المريض لا يملك تقرير وجوب المراجعة من عدمها و ان تحسنت حالته، و سيبدو الطبيب مثالاً رائعاً لو أخبر مريضه ان عليه ان يدفع اجرة المعاينة بين زيارة و اخرى و ليس في كل مرّة ... و هكذا ... ومع الأسف تجذب هذه الأفكار السيئة مثيلاتها ، وتضطر الآخرين في حقل العمل الى تقبلها على مضض مبررين افعالهم بأنها لا تدخل في إطار إيذاء المريض صحياً، و الأجور العالية واقع حال معمول به لدى كثير من العيادات والصيدليات والمذاخر والمستشفيات ما جعل هذا الوباء ينتقل الى اصحاب الأملاك فصار ايجار العيادة مكلفاً و ايجار الصيدلية مكلفاً .. قياساً بمثيلاتها من الاماكن المشغولة لمهن اخرى مختلفة.. وشيئاً فشيئاً يجد المواطن نفسه أمام طبيب متعاطف مع حالته دون ان يقدم له العون وصيدلي متعاطف مع حالته دون ان يعطيه العلاج بكلفة أقل مما هو مطلوب ، سيصبح الكل محكوم ببعض .. و مع كل هذه الأفكار السيئة والممارسات السلبية تشخص حالات على النقيض تماماً مما ذكرنا .. لكن المساحة التي يشغلها السوء اكبر من تلك التي يشغلها الخير ، لذا تشيع الاخبار السيئة على حساب الاخبار الجيدة ، إلا ان واقعنا يحفل بكثيرمن اصحاب الوعي الذين يتصدون من مواقع اعمالهم لهذا المدّ الخطير الذي يهدد الشخصية .. الوعي هو البصمة التي لا يمكن تزييفها او استنساخها ، و بوجوده تتوفر سبل متعددة تخفف عن الانسان وطأة الضعف الذي يتعرض له ، إذ يسعفه بأفكار جيدة من قبيل الالتجاء الى شخص موثوق برجاحة عقله وسلامة تفكيره للإستئناس برأيه ، او من قبيل إستذكار مواقف ايجابية مرّت تركت اثراً عميقاً في الذاكرة يستشف من اجوائها روح الصبر والتفاؤل .. أو من قبيل استحضار قول مأثور وحكمة بالغة من رصيد الذاكرة تسهم في اضافة لمسة مهمة على واقع الحال قد تخفف من وطأته أو ترشد الى تجاوز الأزمة .. أو من قبيل استحضار لحظات النجاح والفرح التي مرّت سابقاً وتقمصها من جديد لدفع النفس وتحفيزها لتجاوز حالة الوهن أو الأجواء السيئة التي تمر بها .. ان افضل بيئة ينشأ فيها (الوعي) هي (السلام) ، و فكرة السلام تندرج ضمنها أفكار جيدة كالمحبة والتعاون والانسانية والخير والكرامة والإيثار والعفة والأخلاق الحميدة .. يمرّ الانسان خلال حياته بمراحل متنوعة تحكمها ظروف صعبة تارة و مرنة اخرى، و هذه بمجموعها تكوّن عنده افكاراً يتدخل الوعي لاستخلاص الجيد منها و صياغتها على شكل تجربة و نصيحة تكون عند حاجة الآخرين ان حاضراً أو مستقبلاً.. يختلف الشخص الواعي عن غيره في انه لا يحتاج المرور بتجربة جديدة كي يستخلص نفعها من ضررها ، فوعيه يؤهله للسير في احوال واخبار الماضين ما يجعله متمكناً من قراءة واقعه وفق ذلك الرصيد من خبرة الأقدمين فنسمع عن فلان انه توقع ان عاقبة هذا الأمر هي كذا ثم يصادق الواقع على توقعاته ، وهو ما يسمونه الحدس او قراءة ما بين السطور وبلسان العوام هو من (اهل الخير و البركة والكرامة) ، لأنه (يعرف صفو ذلك من كدره ونفعه من ضرره) وهي النتيجة التي استفادها الإمام علي عليه السلام من اطلاعه على اخبار السلف اطلاعاً وجد معه انه كأحدهم. وهذا النمط المعرفي يمنح الحاضر امتداداً يتخطى به الأمس فلا يكون نسخة عنه كما هو حاله عند كثيرين ممّن لا يتعلمون من تجربة حتى يقعوا فيها وان كان هناك من سبقهم الى مثلها وهؤلاء من يتساوى عندهم الامس واليوم .. كثير من الناس لديهم الرغبة في التغيير و يبحثون عن الطريق التي يغيرون بها واقعهم الى الأفضل ولكن هذا الدافع وحده لا يصنع تغييراً، انه بحاجة الى فكر التغيير ، فالطريقة الملائمة للتغيير تأتي بعد القناعة والإيمان بضرورة التغيير .. في لقاء مع أكاديمي يعمل في مجال النقد الفني أشار الى واحدة من أفكار الإدارات السلبية حين انتقد نشاطاً إدارياً في إقامة جزرات وسطية مصممة لتكون مزهرة بالأوراد مسوّرة بسور سميك من الإسمنت يحول دون الوصول الى تلك الأوراد ، فكان تعليقه على ذلك ان من حق المواطن على الدولة ان يشعر بانجازاتها بلا حواجز ، وانه على الحكومة ان تتوقع من المواطن ان يعبث بتلك الأوراد وهذا مهم كي يتعرف عليها خارج بيته ، وعلى الجهات المعنية ان تعيد تأهيلها اكثر من مرّة حتى ينمو عند المواطن شعوره بضرورة محافظته عليها بنفس القدر الذي يحافظ به على اوراد حديقة بيته.. اذا امتلك الحالمون من الشباب وعياً كافياً ، فإنهم سيسهمون بشكل مميز في تغيير واقعهم وتحديثه ، وتنمية ثقافة مجتمعهم ، فالشخص الحالم هو بشكل او بآخر يريد أجواءً أو يبحث عن أجواءٍ أجمل من تلك التي يقدمها الواقع ، فهو يمتلك مشاعر جيدة وافكاراً جيدة لكنه يصطدم بالواقع السيء فيلجأ الى التخيل ليضع نفسه في أجواء جيدة و مواقف مفرحة، فإذا تمتع بالوعي الإيجابي سيجد نفسه مندفعاً يمتلك الحافز لتحديث الواقع وتغيير السيء فيه الى خير يتناغم مع الأحلام الوردية والرومانسية التي يتخيلها .. في كتاب امالي الطوسي ، يقول نبي الرحمة لأبي ذر: [يا أبا ذر حاسب نفسك قبل ان تحاسب فإنه أهون لحسابك غداً ، وزن نفسك قبل ان توزن ..] و الحساب يأتي من طرح الإستفهامات ، كيف فعلت هذا ولماذا لم افعل كذا ولم لم اقل كذا وماذا سيكون لو انني فعلت كذا ..؟ وتأتي مرحلة اعطاء النفس قدرها بقوله زن نفسك ، ووزن النفس باعطائها قدرها الذي يتأتى من وعي الانسان بنفسه ، ولكي يجد طريقاً صحيحاً الى ذلك قال الإمام الكاظم(ع): [ليس منّا من لم يُحاسب نفسه في كلّ يوم]، فإن (عمل خيراً استزاد الله منه و حمد الله عليه، و ان عمل شيئاً شراً استغفر الله و تاب اليه..) ، فأهل البيت هم القدوة في معايرة الافعال و السلوكيات و مدى اقترابها من افعال و سلوكياتهم عليهم السلام. و تعتمد الدراسات النفسية على قاعدة محاسبة النفس في بناء الشخصية والنجاح ، اذ تفيد الدراسات بأن من عوامل واسرار النجاح ان تراجع ما حدث لك في يومك قبل ان تنام وتفكر بتلك الأحداث وتبحث عن التصرف الأفضل الذي كان ينبغي ولم يسعفك الوقت او التفكير للقيام به فاستبدله في ذاكرتك بالأفضل وفكّر بأنك ستقدم الأفضل اذا مرّ بك موقف كهذا، ثمّ نم متوكلاً على الله سبحانه و تعالى و كلمة (منّا) في قول الإمام الكاظم(ع), هي من مفاتيح الارتقاء بالشخصية والوصول بها الى مواصفات ما كان يتمتع به اهل البيت(ع) ، ثم تأتي مرحلة (الاستغفار) من الاهمية بمكان في اعادة ترتيب وتنظيم التفكير و الاعمال و السلوكيات. فقد يفكر البعض في عمل الخير و يستعد لذلك لكنه و بحكم محدودية معرفته و اطلاعه و خبرته و وعيه قد لا يعرف ان ما يعتقده صحيحاً، هو فعلاً كذلك .. و لعله سيستغرق وقتاً حتى يرى مصدراً موثوقاً يعتمده في اكتساب معرفته واطلاعه وتنمية خبرته ورسم ملامح ثقافته .. يروى ان رجلاً سأل الإمام الصادق عليه السلام : ادعو فلا يستجاب لي ؟ فقال له الإمام لعلك لا تستغفر .. استغفر الله كل يوم في اخره مئة مرّة مدّة سنة .. ويقال ان رسول الله صلى الله عليه واله ، كان يستغفر الله كل يوم سبعين او مئة مرّة .. ويقول المولى جل شأنه في سورة نوح : [وقل استغفروا ربكم انه كان غفارا، يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم باموال وبنين ويجعل لكم انهارا]. الاستغفار في اللغة هو طلب المغفرة والعفو من الله سبحانه ، وهو كلمة السر التي تفتح للمرء نافذة الى تصليح اموره، وقد لا يلق ذلك اهتماماً كبيراً لدى كثيرين، لأنه مرتبط بأمور معنوية وروحية وايمانية ، بينما غلب على الانسان تيقنه بالأمور العينية والحسية والمادية ، لكن سياق الآية الكريمة يفصح عن كثير من المكافآت التي تنتظر المستفغر .. ارتبط المال بأفكار سيئة عند كثير من الناس فهو مصدر الفتنة والمتعة والشر .. فبالمال باع (عبيد الله بن العباس) قيادته لجيش الإمام الحسن(ع) و تسبب في كسر همم المقاتلين! و بالمال ساهم عدد من العراقيين في دعم وجود القوات الامريكية! وبالمال غدرت زوجة الإمام الحسن(ع) و دسّت له السمّ! و بآلمال إستطاع العدو من كسب نصف حزب الله كعملاء له, فتسببوا بدجر و أنهاء حزب الله! يقابل هذا ، تخلي (زهير بن القين) عن امواله و املاكه ليلتحق بركب الحسين(ع) مع علمه بأنه لن يرجع بعد انتهاء المعركة .. قصص كثيرة؛ منها المثير للدهشة و منها المحزن .. منها الغريب والسيء والقبيح ، وفيها الإفراط والتجاوز و.. و.. استخدم المال كما في السابق ليكون سلاحاً فعالاً في تحطيم بنية المجتمع و سلامته، فمثلما اشترى (عبيد الله بن زياد) سيوف فرسان قبيلة (هاني بن عروة) بالمال بعد ان كانوا مصدر تهديد له و لمن معه، فتفرقوا على الرغم من مكانة هانئ في قومه .. كذلك استخدم الاحتلال المال لشراء ذمم و ارواح كثيرين بعد ان صدّرت لهم فكرة الدولة الإسلامية عبر أشخاص برمجت عقولهم على التكبير عند ذبح الأسرى و الاطفال و اغتصاب النساء و إقامة الحد الشرعي الذي اعتقدوه كما حدث بالأمس مع الخوارج ، وكما سوّق (ابن زياد) لجيش الشام لِيُلوّث الجو العام في الكوفة فيستنشقه الضعفاء من اهلها فيحدثون ضوضاء تربك الخط العام وهو ما حصل.. كذلك حصل بعد اكثر من الف عام على ذلك التاريخ الدامي المظلم، فقد كان خليفة دولة الخرافة يصلي بجنده ثمّ يمضون لقتل الناس و تهديم قبور الأنبياء والآثار و تغيير أخلاق الناس و إرغامهم على تقبل المنهج الجديد و تعليمهم القرآن بلغة السياط و جرّهم الى المساجد للصلاة و رجم المتأخرين عن حضورها .. الحياة حلوة خضرة كما ذكرنا في حديث لنبي الرحمة ، وان يريد الشعب الحياة ، فهو بداية طرق الوعي في جو نقي وفطرة سليمة توجه هذه الإرادة باستحضار الأفكار الجيدة عن الحياة ، عندها ستكون مطالب الجماهير موضع استجابة القدر كما في قصيدة ابي تمام :. اذا الشعب يوماً ارادد الحياة فلا بد ان يستجيب القدر برزت الدوافع الانفعالية في كثير من تظاهرات الشارع العراقي وكانت آنية أو تراكمية اندفاعية ، وعلى الرغم من التقصير الواضح لادارات الحكومة إلا انها تمكنت من احتواء التظاهرات او الالتفاف عليها ، عن طريق الوعود او ارسال ممثلين عنها الى ساحات التظاهر والتعرف على مطالب المتظاهرين و رفعها في مذكرات رسمية الى الجهات المسؤولة للنظر فيها و تحقيقها. و هكذا ضاعت كثير من مطالب الجماهير وسجلت في دفاتر النسيان ، او وجدت في سلات المهملات في مكاتب كثير من المسؤولين كما صرح بعضهم ، فبقي الحال على ما هو عليه ، و ربما يزيد الأمر سوءً ، فلعلنا نغفل فاعلية الزمن في ذلك ، فكلما مرّ الوقت على حالة سيئة في المجتمع غدت وضعاً اعتيادياً ، وهو غاية الخطورة ، ولعل رد فعل بعض المسؤولين البارد إزاء معاناة الناس هو اولى علامات تلك الخطورة ، فعندما تمر تظاهرة مرضى السرطان المطالبين بتوفير علاجهم في مستشفيات الدولة ، مروراً عاطفياً على مسمع ومرأى المعنيين واصحاب القرار بحيث تبقى الجهود متلكئة بطيئة في تجاوز هذا التقصير ، على وعي الناس ان يبدأ مفعوله .. ان الفكرة الجيدة تجلب افكاراً جيدة اخرى داعمة لها ، وحضورها مطلوب من كلا الطرفين ، الجماهير والحكومة ، لكن المشهد العراقي لا يشير الى هذا الحضور ، فالعملية آخذة في اتجاه الفعل ورد الفعل ، كلما تجاهلت الحكومة تظاهرة واغفلت مطالب جماهيرها أو اهملتها أو تماهلت عنها ، او ارجأتها الى وقت بأعذار وتبريرات، فإن التظاهرة اللاحقة شهدت مواقف عنف ابداها متظاهر هنا ومتظاهر هناك تجاه الحكومة ، الفاظ قاسية تنم عن غيظ كبير وبركان يكاد ينفجر بالناس ويفجر الوضع ، ظهرت بعض علائمه في التجاوز على ابنية تشغلها بعض دوائر الحكومة و احراقها ، قابلها استهجان مسؤول و تلفظه بالفاظ سيئة بحق متظاهرين هتفوا ضدّه ، ما يجعل الهوة تكبر بين المواطن والمسؤول ، لكن المهم في كل هذا الوضع السيء انّ الجماهير لم تفقد فكرة الخير في داخل النفوس تجاه بعضهم و ان ابدوا غيره تجاه الحكومات، فقد سجلت الأحداث كثيراً من المواقف المشرفة الإنسانية قام بها مواطن تجاه آخر تناولت بعضها وسائل الإعلام ، على ان غير المعلن عنه كثير ، وهو ما يشجعنا على الخوض في موضوعة صناعة الوعي ، لإعتماده كثيراً على وجود مثل هذه الخصلة الجيدة.. و لكي لا يتساوى يومنا بالأمس ، فنصبح مغبونين وفق قول الإمام علي (ع): [من تساوى يوماه فهو مغبون و مَنْ كان يومه أفضل من غده فهو ملعون].. و ألمغبون ؛ تعني مظلوم، و لطالما كانت هذه الحالة موضع رفض الانسان في مختلف العصور و الازمنة والعهود ، فقد كان الشعور بالظلم حافزاً قوياً دفع العبيد والفقراء للإلتفاف حول نبي الرحمة(ص) مع علمهم بضآلة قوّتهم العدديّة و العضليّة أمام قوّة أسياد مكة، لكنهم تحسسوا ذواتهم قرب النبي، و شعروا أنهم معه يكتشفون شخصياتهم التي كانت موضع ابتذال و إذلال اسيادهم ، فوقفوا الى جانب الدعوة ، فانقلبت الأمور و تغيرت الأحوال وسادت الكرامة ومكانة الإنسان على قوة المال وظلم المجتمع وغلبة الانا .. ان وصف تساوي الأمس و اليوم بالغبن فيه دعوة قوية للتفكير في الحاضر بوعي و معرفة شاملة من أجل تحديثه ليكون التخطيط و البناء سليما و محكماً و راقياً تبرز دورنا في رحلة الحياة هذه.. نقد الواقع المعرفي و الأنتربولوجي في العراق : إقصاء دولنا العربية "الوطنية" في بلادنا لعلم الأنثروبولوجيا و اهتمامها بعلم الاجتماع؛ لإعتقادها بخدمة الأنثروبولوجيا للحركة الاستعماريّة و إتهام دارسيها بآلخيانة و العمالة، كما يتطرق إلى العلاقة بين العِلمين في الماضي و الحاضر؛ تلك النظرة الضيقة أدّت إلى ليس فقط عزوف الناس عن هذا العلم الذي سبق و أن أكدته الآيات القرآنية و الأحاديث المختلفة؛ قد أدى إلى تجاهل هذا العلم الأهم و المركزي في تطوير و تحسين الأخلاق و القيم و العلاقات في مجتمعنا و أي مجتمع آخر! أين نحن آلآن من علم (الأنثروبولوجيا في بلادنا؟). كما إن (الأنثروبولوجيا) في بلادنا لم تحض بنفس الاهتمام الذي حُضي به علم الاجتماع, و هذه محنة أخرى تضاف للسابقة, و هكذا تراكمت تلك الأخطاء رغم إنها من صلب عقيدتنا و ديننا للأسف, فكيف نتطور و هذا الحال, على الصعدين العلمي التكنولوجي و الأخلاقي المدني!؟ إن إطلاق تهمة الخيانة على الطالب الدارس لهذه آلعلوم و أخواتها, كون الغرب سبقتنا في التقدم فيها؛ لا يجوز أن نصفها بأنها علوم تخدم المشروع الاستعماري، فهي قد عاشت نكسة رسمية و لحد الآن للأسف و يكون علم الاجتماع قد تم تبنيه ليس لفضائله الخاصة فحسب، و إنما للاعتقاد بعذريته السياسية و قدرته في رسم ملامح القوانين المدنية في مختلف العصور، أضافة باعتباره بديلا للإثنولوجيا المقصية. إن أعمال علماء الاجتماع الجزائريين يجب أن تكون وقتئذ ليس في خدمة الحقيقة الاجتماعية، لكن في مساعدة الدولة للقيام بمشاريع التنمية وبناء الوحدة الوطنية. وعلى أية حال إن الذي تطلبه الجزائر المستقلة من علم الاجتماع هو لعب اتجاه الدولة الوطنية نفس الدور الذي لعبته الإثنولوجيا اتجاه المشروع الاستعماري. من هذا المنطلق أقول إننا بعيدون كل البعد عن الدور المنوط بالعلوم الإنسانيّة و الاجتماعية عموماً و عن الدراسات الأنثروبولوجيا خصوصا. فهناك مدى بعيد يفصل بيننا و بين الأنثروبولوجيا الحقيقية التي سبقنا إليها الغرب و بعض الدول العربيّة نسبة للعراق, فقد أسست لها حتى في بعض الدول الأسلامية أقساما و معاهد منذ الخمسينات و الستينيات و قطعت في ذلك أشواطا كبيرة في السبعينيات والثمانينيات، وهو الوقت الذي أدرنا فيه بظهورنا للأنثروبولوجيا من دون معرفة واضحة بينها و بين علم الأجتماع, و حتى موقعها في القرآن و الكتب السماوية, لذلك با على الدوام في آخر القافلة ندور في أفلاك الجاهلية و العشائرية و الحزبية و الفئوية و القبلية كمقدسات و خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها حتى هذه اللحظة, لتبقى شعوبنا رهينة هذا الشخص أو ذاك لحزب و غيره. ففي زيارتي الأخيرة ؛ ضقت ذرعاً بآلمجالس التي كنت أحضرها بين الأهل و الأقرباء و الأصدقاء حتى في المساجد و العتبات بسبب التعصب و ضيق الأفق و قلة الوعي؛ هذا يدافع و يقول (فلان) فقط هو القائد الأوحد لا غيره, و ذاك يقول؛ بل (فلان) هو القائد الفذ و غيرهم يقول بغيرهم كقائد أعلى, و لا يقاس به أحد .. و هكذا كانت تنتهي تلك المجالس بآلخصام و النزاع و الخلاف الذي ترك إفرازاته حتى بعد سقوط الصنم صدام عبر مختلف الظواهر و إشاعة الفساد و الكفر و الطبقية و ترشيح طبقة سياسية مجرمة في النتيجة عبر الانتخابات المستهدفة و المدعومة بآلأموال, طبقة عجيبة لو وضعتها في الجنة لأفسدوها. و ليس هذا فقط ؛ بل لم أستمع لحوار أو لقاء إعلامي صوتي أو مرئي بين شخصين أو أكثر عبر وسائل التواصل أو الفضائيات طيلة كل تلك العقود الماضية؛ إلّا و ينتهى أخيراً لنفس النتيجة المؤسفة, و هي السّبّ و الشتم و التخوين و التهم و القذف و غيرها لجهلهم بقوانين و آداب الحوار و النقاش العلمي و قوانين الإستماع و إفتقادهم – خصوصا الحزبيين منهم - للمبادئ الأخلاقيّة و التواضع و العلمية و النزاهة, إضافة لجهلهم بالفروقات ما بين علم الأنتبربولوجيا و علم الأجتماع و مكانة و دور الأخلاق في أوساطها!؟ ما الفرق بين علم الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع؟ ما الفرق بين علم الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع؟ علم (الاجتماع) يركّز في دراساته على المشكلات الاجتماعية في المجتمع الواحد، كما يدرس الطبقات الاجتماعية في هذا المجتمع أو ذاك من المجتمعات الحديثة، و يندر أن يدرس المجتمعات البدائيّة أو المنقرضة.. بينما تُركّز الأنثروبولوجيا, التي هي (علم الإنسان) في دراساتها؛ على المجتمعات البدائية / الأوليّة، وأيضاً المجتمعات المتحضّرة / المعاصرة. ولكنّ دراسة الأنثروبولوجيا للمجتمعات الإنسانيّة، تتركّز في الغالب على؛ التقاليد و العادات و النظم، و العلاقات بين الناس، و الأنماط السلوكيّة المختلفة، التي يمارسها شعب مّا أو أمّة معيّنة. أيّ أنّ علم الأنثروبولوجيا الاجتماعية يدرس الحياة الاجتماعية (المجتمع ككلّ )، وينظر إليها نظرة شاملة، ويدرس البيئة العامة، والعائلة ونظم القرابة والدين، بينما تكون دراسة علم الاجتماع متخصّصة إلى حدّ بعيد, حيث يقتصر على دراسة ظواهر محدّدة أو مشكلات معيّنة، أو مشكلات قائمة بذاتها، كمشكلات: الأسرة و الطلاق و الجريمة، و البطالة و الإدمان و الانتحار و الفوارق الطبقية … وإذا كان ثمّة تباين أو اختلاف بين العلمين، فهو لا يتعدّى فهم الظواهر الاجتماعية وتفسيراتها، وفق أهداف كلّ منهما. فبينما نجد أنّ الباحث في علم الاجتماع، يعتمد على افتراضات نظرية لدراسة وضع المتغيرات الاجتماعية، ويحاول التحقّق منها من خلال المعلومات التي يجمعها بواسطة استبيان أو استمارة خاصة لذلك، نجد – في المقابل – أنّ الباحث الأنثروبولوجي، يعتمد تشخيص الظاهرة استناداً إلى فهم الواقع كما هو، و من خلال الملاحظة المباشرة ومشاركة الأفراد في حياتهم العادية. وبصورة موجزة ومختصرة نقول: الأنثروبولوجيا تبحث عما يوجد وراء أفعال الأشخاص. فهي لا تبحث عن الحقيقة، بل عن المعنى. بناء المعنى هو المهمّ وليس بناء الحقيقة. الأنثروبولوجيا تجعل الإنسان (الباحث الأنثروبولوجي) يشعر بأنه أقدر على إدراك ما وراء الكلمات والعبارات ومظاهر السلوك من معان خفية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هناك تخصص جديد يطفو على السطح و هو: السوسيو- أنثروبولوجيا الذي يزيل كلّ الحواجز والفوارق التي وضعت بين العلمين على الرغم مما يبدو أن هناك عددا كبيرا من علماء الاجتماع يهتمون بدراسة النظم الاجتماعية والبناء الاجتماعي، وأن هناك إلى جانب ذلك تيارا آخر قويا يجذب إليه عددا كبيرا من العلماء و يوجههم نحو دراسة الثقافة و التعرض لمشكلاتها، وما يقابل ذلك في الأنثروبولوجيا من انصراف بعض الانثروبولوجيين نحو دراسة النظم الاجتماعية، واتجاه البعض الآخر من علماء الأنثروبولوجيا نحو دراسة الثقافة، وأنه يمكن القول عموماً أن الاتجاه الثقافي يغلب على الدراسات الانثروبولوجية في أمريكا، بينما تميل الأنثروبولوجيا في بريطانيا ميلا شديداً نحو الدراسات البنائيّة. إلا أنه مع ذلك قد يكون من التعسف أن نحاول تقسيم العلم والعلماء وحتى العالم إلى مناطق محددة ونزعم أنه يسود فيها أحد الاتجاهين: الاتجاه البنائيّ أو الاتجاه الثقافيّ. فالواقع أنّ الاتجاهين يوجدان إلى جانب بعضهما البعض في كل دراسة, و لقد ساعدت جهود العلماء والباحثين في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا حديثاً في التغلب على هذا التقسيم، واستطاعوا ـ على سبيل المثال ـ التحديد الواضح لمفهوم الثقافة و ما أثاره من مشكلات على تجاوز هذا التقسيم، خاصة و أن هذه الجهود قد أوضحت أنّ الثقافة تمتاز بالكليّة و العمومية، و أنه لا يمكن فهم الثقافة و ظواهرها بعيداً عن بناء الجماعة التي تظهر في إطارها. كما أن الملابسات والظروف التي كانت مسؤولة عن قيام هذين الاتجاهين و تبلورهما قد زالت. تلك الملابسات والظروف التي يتمثل بعضها في ما صاحب نشأة الأنثروبولوجيا في القرن التاسع عشر في كل من بريطانيا وأمريكا، ويتمثل بعضها الثاني في الاختلاف في تحديد موضوع الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع بين أصحاب المدخل الاجتماعي البنائي والمدخل الثقافي لدراسة المجتمع. إذ كانت الأنثروبولوجيا في أولى عهدها في بريطانيا تتجه إلى دراسة المجتمع البدائي في أفريقيا حيث توجد معظم مستعمراتها، وهي قبائل تعيش كل منها في شبه عزلة اجتماعية واقتصادية لظروفها الجغرافية، بحيث تؤلف القبيلة في ذاتها مجتمعا متميزا ومستقلا عن غيره، مما جعل الباحث يقصر دراسته على مجتمع واحد، وينظر إليه كوحدة متكاملة ويلاحظ النظم الاجتماعية التي تسوده، أو يدرس البناء الاجتماعي في تكامله وتمايزه. وكانت الأنثروبولوجيا في أمريكا تهتم بدراسة قبائل الهنود الحمر التي كانت تتبعثر وتنتشر وتسمح بالاختلاط والاتصال بين جماعاتها، وتتداخل ثقافاتها. ومن هنا انصرف العلماء نحو دراسة ثقافات هذه القبائل بدلا من دراسة البناء الاجتماعي لها. وإن كان هذا الاهتمام المتباين بين الأنثروبولوجيا البريطانية و الأمريكية قد انعكس على الأنثروبولوجيا عامة، و أدى إلى الاختلاف في تحديد موضوعها لفترة من الزمن, إلّا انه عندما أدرك العلماء أن التفرقة بين المجتمع و الثقافة كانت دائماً مسألة صعبة و شائكة، بدأوا في التخلي عنها خاصّة بعدما أدركوا أن الاثنين هما في الحقيقة مظهران مختلفان لشيء واحد، أو تجريدان مختلفان لوجود واقعي واحد. قديما، كان العالم يتّصف بالموسوعاتية (مؤرخ، شاعر، فلكي..)، ثم تدريجيا ظهر التخصص و بعده الميكرو تخصص و النانوميتر، هل يمكن للباحث الانثروبولوجي أن ينجز دراساته دون معرفة بالعلوم المتّصلة بتخصصه مثل: علم الاجتماع؛ التاريخ؛ الفلسفة؛ علم النفس؛ الهندسة المعمارية, علم الآثار..الخ؟ أقول لك أني كنت في السابق أقول أن الذي يميّز الفيلسوف أو دارس الفلسفة هو أن الفلسفة تتميز بالموسوعية، فأنت ملزم على اكتساح مجمل المجالات العلمية والمعرفية لتكوين نظرة كلية شاملة عن الكون والإنسان والحياة … لكنها في كثير من جوانبها نظرة مجردة. هكذا و بعد أن دراسة الأنثروبولوجيا وتخصصنا فيها, وجدت ما يشبه الفلسفة إلى حدٍّ بعيد، غير أنّ ما يميزها عن الفلسفة هي أنها تتخلى عن الطابع التجريدي و تتشبث بالميدان. فما يميزها هو الميدان. كيف يمكن أن نستفيد من الدراسات الإنسانية ( الاجتماعية، التاريخية، النفسية، الانثروبولوجية..) التي أنجزت من طرف الباحثين الفرنسيين، وذلك منذ مطلع القرن التاسع عشر ؟ • دعنا نوضّح أمرا مهما للغاية. حينَ اتصل الأوربيون عن طريق التجارة والتبشير والاستعمار بالشعوب الأخرى المسماة (بدائية)، نشأت الحاجة إلى فهم هذه الشعوب بقدر ما تقتضيهِ مصلحة الأوربيين في حكم الشعوب واستغلالها، وفي حالاتٍ نادرة جداً بقدر ما تقتضيهِ مساعدة تلكَ الشعوب وأعانتها على اللحاق بقافلة المدنية الحديثة, فنشأ فرعٌ جديدٌ من الأنثروبولوجيا يدرس مشاكل الاتصال والتواصل مع تلكَ الشعوب البدائية ومعضلات إدارتها وتصريف شؤونها ووجوه تحسينها, ويُدعى هذا الفرع (الأنثروبولوجيا التطبيقيّة). وقد تطورَ هذا الفرع (الأنثروبولوجيا التطبيقية) كثيراً ، خاصة مُنذ الحرب العالمية الثانية، وتنوّعت مجالاتهُ بتطور أقسام الأنثروبولوجيا وفروعها، إذ انهُ يمثل الجانب التطبيقي لهذهِ الأقسام والفروع، ولا يعد فرعاً مُستقلاً عنها وإنما هو الأداة الرئيسة لتطبيق نتائج بحوث كل فروع الأنثروبولوجيا والتي تجد طموحاتها لخدمة الإنسان والمُجتمع. وقد شملت تطبيقاتهُ مجالات كثيرة أهمها: التربية والتعليم، التحضّر والسُكان، التنمية الاجتماعية والاقتصادية؛ خاصة تنمية المُجتمعات المحلية، المجالات الطبية والصحة العامّة، والنفسية، الإعلام والاتصال وبرامج الإذاعة والتلفزيون، التأليف الروائي والمسرحي، والفن، ومجال الفلكلور (التراث الشعبي)، والمتاحف الاثنولوجية، إضافة إلى المجالات الصناعيّة، والعسكرية والحرب النفسية، السياسة ومُشكلات الإدارة والحكم، الجريمة والسجون….الخ. و من تطور هذا القسم (الأنثروبولوجيا التطبيقيّة) و ازدياد البحوث فيهِ ظهرت فروع حديثة للانثروبولوجـيا الحضاريّة والاجتماعية حيث أختص كل فرع منها بمجال معين مما ورد أعلاه. وحتى نكون موضوعيين لقد ساعدتنا الدراسات التي أنجزتها الأنثروبولوجيا الفرنسية والأنجلوسكسونية عن المجتمعات المغاربية على فهم أنفسنا وذواتنا، إذ تحتوي هذه الدراسات على مادة إثنوغرافية هامة يمكن لنا أن نستغلها لإعادة بناء صورة حقيقية عن شخصيتنا الحضارية. فقط ما يستوجبه الأمر هو تحديد الهدف بدقة فيما إذا كان مرادنا إحداث القطيعة أم الاستمرارية. هل مناهج البحث العلمي المطبقة في الدراسات الإنسانيّة حيادية؛ بحكم أنها نتاج ثقافة وسياقات معينة ؟ تعتبر مشكلة الموضوعيّة من بين المشاكل الإبستيميلوجية الأساسية في مجال العلوم الإنسانيّة و الاجتماعيّة، واعتبرت الموضوعية علامة على قدرة هذه العلوم على التحرر من هيمنة الأنساق الفلسفية التأملية، وتجرد الباحث من ذاتيته وحمولتها القيمية وأحكامها ومواقفها القبلية اللاواعية، وإدراك الوقائع كما هي بما تستلزمه من ابعاد للمعتقدات والآراء الذاتية، والتعامل معها كأشياء وانساق تقع دون تدخل الذات. وإذا كان هذا النوع من الموضوعية قد تم تحقيقه في إطار العلوم الطبيعية وذلك لاستقلال المواضيع عن ذات العالم ولاعتبارها مواضيع شيئية، بل وعرفت الموضوعية نوعا من التعديل والاكتشافات الميكروفيزيائيّة فإن الموضوعية في إطار العلوم الإنسانية والاجتماعية مسألة جد معقدة. لكن طالما أنها ترتبط بالميدان فإن قدرا كبيرا من الموضوعية سيتحقق مهما كان الأمر. لقد إستطاعت دولة المغرب أن تقطع أشواطا هامّة في تطوير عديد العلوم الإنسانيّة و الترجمة، وهناك من يتوقع أن تتحول العاصمة (الرباط) إلى حاضرة ثقافيّة بديلة لبيروت و القاهرة، فما هي الإستراتيجيّة التي إتبعتها المغرب لتحقيق هذه النهضة العلمية والثقافية؟ تتمثل الإستراتيجية في أنها تحاول خلق مجمعات لغوية تنافس تلك الموجودة في المشرق، تكون بمثابة قاعدة أساسية تنطلق من حركة الترجمة و وضع المصطلح، وكذا حركة البحث المستفيض خاصة في مجال الدراسات الاجتماعيّة والإنسانيّة بطابع فلسفي. هناك من ينتقص من أهميّة و ضرورة العلوم الإنسانيّة في تطور الأمم معتقداً أن التكنولوجيا كافية لتحقيق ذلك؛ فهل يمكن أن نتطور بالعلوم التجريبيّة فقط ؟ بالتأكيد لا.. بل يستحيل ذلك, فلو كان كذلك, كان الله تعالى أولى من خلقه للإشارة و آلتأكيد على ذلك, لكننا نرى أنه تعالى قد أكّد على التقوى و الأستقامة و تزكية النفس و الأيمان بآلله في كل السور و أكثر الآيات و لم يشر للتقدم التكنولوجي سوى في بعض الآيات السور بحيث لا تعد نسبتها 10% تقريباً من مجموع آيات القرآن العظيم. لهذا يجب علينا البحث عن سبب تعثّر العلوم الإنسانيّة والإجتماعيّة بما فيها علوم النفس في جامعاتنا و حتى حوزاتنا العلمية التي نعتب عليها في هذا المجال, بل و في داخل بيوتنا و مؤسسات مجتمعنا؟ المطّلع على تاريخ العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة في الوطن العربي يكتشف أنها تعاني من هيمنة ثقافة الشارع السياسي و الحاكم العربي و رموزه الفكرية الأحادية الجانب، إذ بلغت تلك الهيمنة حداً دفعت إغراءاتها بعض الباحثين في هذه التخصصات إلى مغادرة أسوار الأكاديميات و الانتقال إلى الشارع السياسيّ وأصبحوا بنتيجتها في مواقع منافسة ليس للزعامات السياسية و حسب و إنما حتى لكتاب الأعمدة الصحفيّة لنيل المزيد من الأموال. وكان وراء هذا النزوح من الأسوار إلى الشوارع، إما إرضاء لدوافع ذاتية صادقة بتأديّة الأكاديمي لدوره في المجتمع باعتباره مثقفاً و هؤلاء يمثلون القلة المحدودة، أو للضغوطات المتتالية عليه من قبل الشارع و رموزه بالتخلي عن عزلته، كأكاديمي، و المبادرة بلعب دور المثقف النهضوي, أو لأجل مطامح مادية كما أشرنا آنفاً. وهكذا وفي غضون عقود متتالية لم يعد للعلوم الإنسانيّة و الاجتماعيّة في الوطن العربي من دور تقوم به سوى إنتقاء ما يصلح من أطروحاتها و رموزها العلميّة و توظيفها في الصراعات. لقد أوجدت هذه الظروف التاريخية أوضاعا مواتية لمستويات متدنية من الباحثين في العلوم الإنسانية والاجتماعية لمواصلة الكتابة والبحث في هذه الميادين، ولكن بشروط ومواصفات أصبحت عادة ما تتسم بالضعف والابتذال. الأمر الذي جعل معاهد و أقسام العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة و معظم جامعات الوطن العربي تظهر بمظهر الضعف .. مقارنة بغيرها من معاهد و أقسام العلوم والتكنولوجيا. وأمام غياب عدد من الباحثين المتميّزين و انشغالهم بالشأن السّياسي العام في الشارع الثقافي، و توجّه فريق آخر للاستفادة من الظروف الموآتية في بيئات البحث العلميّ في الأكاديميّات و مراكز البحث في الغرب، كما إستطاعت فئة أخرى لا تريد أن تجهد نفسها عناء البحث العلمي، إنتاج أبحاث و دراسات إتّسمت بالسطحيّة والابتذال لتحقيق أغراض بعيدة تماما عن أهداف العلم. لقد ترتب على تلك الأوضاع؛ أنْ عانت العلوم النفسية و الإنسانيّة والاجتماعية و ميادينها المتعددة من ظروف غاية في السلبية، و لعل نصيب الأنثروبولوجيا، باعتبارها أيضا ميداناً حديثاً من ميادين هذه العلوم، كان الأعظم مقارنة ببقية الميادين؛ حيث تناولت في رسالة الماجستير موضوع (الخيمـة): أدواتها و قيمها الرمزية بين الماضي و الحاضر؛ دراسة أنثروبولوجية في "الزيبان و جنوب الأوراس"، و قد ارتبطت (الخيمة) بالترحال و الرعي، و هل يمكن بناء الحضارة دون الانتقال من حياة الترحال إلى حياة الاستقرار على الصعيدين الروحي(المعنوي) و آلجسدي (المادي) ؟ الترحال عقيدة راسخة في حياة البدو الرحل: الترحال عقيدة راسخة في حياة البدو الرحل: إنه نمط من أنماط الحياة البدائية التي لم تنتقل إلى حياة الزراعة الأكثر إستقراراً و أمناً فيه لا يستقر الناس في مكان واحد وثابت, بل يتنقلون من مكان لآخر في المناطق الصحراوية بحثاً عن المراعي و الماء لبهائمهم, فيتم الترحال في أماكن محددة و في كثير من الأحيان في مسار سنوي ثابت. هكذا تحتّم حياة الترحال الدائم أن تكون الجماعة البدوية خفيفة الحركة، كي تتمكن من مواجهة كافة الظروف الصعبة و المتغيرة التي تواجهها أثناء ترحالها .. و خفّة الحركة هذه تستدعي أن تكون الجماعة البدويّة بسيطة في مسكنها و ملبسها و معداتها. بناء على هذا نجد أن الترحال و التنقل الدائم أو الموسمي يعبر بصورة أو بأخرى عن مفهوم الاستقرار في الحياة البدويّة، فتعبير (استقرار) هو ذلك الذي لا يوحي بالتغير الشامل في نمط الحياة البدويّة، ثم إنّ البدو مستقرون فعلاّ حسب نمط معيشتهم الخاصة، و ذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار كما يقول ( د.محمد السويدي) تصورهم للمكان، فالمدى الجغرافي الذي يمارس فيه البدو هذا الاستقرار أفسح بكثير مما يتصور سكان القرى و المدن. بناء على هذا نجد أنّ الخيمة و ما ارتبط بها, هي جزء من حضارة الإنسان من الناحيّة الماديّة و ما ارتبط بها من قيم رمزيّة يمثل الجانب الثقافي. في حوار صحفي مع الأستاذ سليم درنوني في مجلة (بتنة) عن طبيعة حياة (البدو) و عاداتهم .. ألسؤآل : الخيمة فضاء اجتماعي و ثقافي؛ فيم تتمثل ثقافة هذا الفضاء ؟ أجاب : تحكم المجتمع البدوي منظومة قيّم تشكل بتعبير ( بيير بورديو) : (رأسماله الرمزي و الاجتماعي) و الذي يشير إلى مجموعة القيّم أو المعايير غير الرسميّة و التي تشترك فيها مجموعة من الناس و تسمح بإعطاء هذا المجتمع مميّزات و خصائص تشكل القاعدة الأساسية لهويته، و تعتبر في الوقت ذاته المعايير التي تنبني عليها رؤى هذا المجتمع نحو الكون والحياة, وعلى كلّ حال نلخّص قيّم فضاء الخيمة بما يلي: - فضاء الخيمة رمز للتواضع والحشمة و الحرمة و الرجولة. ـ الخيمة فضاء مميز للتعبير عن قيم الجود والكرم. ـ الخيمة رمز العزة والشجاعة والحرية. ـ الخيمة رمز الانتماء و الهوية. و آلسؤآل آلآخر : هل هذه الثقافة في تطور أم في جمود ؟ أم في تحول مستمر و إن كان بطيئاً!؟ الجواب : الناس إذا اعتادوا على قيّم معينة فترة طويلة من الزمن صعب عليهم أن يتركوها دفعة واحدة و بسهولة و بمجرد تغيير ظروفهم. من أهم خصائص الحضارة الحديثة، و التي تعامل الفرد حسب كفاءته و صفاته الخاصة به، و لا أهمية لانتمائه القبلي، من حيث علاقته بقيم الكرم والشرف والنخوة والثأر والضيافة و حق الجيرة و الزاد و الملح وما شابه ذلك. إن الحضارة الحديثة أحدثت صراعاً بين ما حملته إلى البوادي والمناطق الحضريّة التي يقطنها البدو المتحضرين من مبدأ الفرديّة، و ما تمّ توارثه من القيم البدويّة المضادة له، و هذا الصراع كثيراً ما يُؤدي إلى صراع نفسيّ، لا سيما عند البدو المتحضرين، فكثيراً ما يجد هؤلاء أنفسهم في صراع، فيما يجب عليهم الأخذ به وفق مبادئ المساواة و العدالة و الديمقراطية الحقة، التي جاءت بها الحضارة الحديثة - القديمة، و بين أن يجدوا أنفسهم مُضطرين إلى الاستجابة لقيّم النخوة و الشهامة وعزّة النفس و الأنفة و حق الجيرة والقرابة و العشيرة و الزاد و الملح التي نشأوا عليها في محيطهم المحليّ. جريدة النصر بناريخ: 06 أفريل 2010م (تفاصيل الحوار في مجلة (بتنة) عدد تموز2010م كما يُمكنكم الإطلاع على أبحاث الأستاذ سليم درنوني من خلال موقعه. نستنتج من عموم دراستنا هذه و الدراسات السابقة الأخرى بهذا الشأن في الجزئين الأول و الثاني ؛ بأن علم الأنتربولوجيا و السيسيو – لوجيا, تمثل فيها الساحة الرئيسة و التي تستحق أن نكتب عنه دراسة كاملة منفصلة في جزء يكون الرابع بعد هذا, لكننا الآن سنحدّد فيها نظرتنا على الأقل و ذلك بطرح البرنامج الأمثل لتعريف فريقنا المجاهد و مؤيديهم و المشجعين من حولهم .. على القواعد و الفنون المطلوبة معرفتها لتحقيق أو لبيان صورة الهدف أو الأهداف التي تمّ تحديدها سابقاً, لذلك سنلقي الأضواء الكلية ألأولية كمنطلقات لمعرفة هذا العِلم الأساس لكل معرفة و الذي هو محور بحثنا, بل و محور البحث في كتاب الله الخاتم و الذي لم يحاول علماؤونا للأسف بمن فيهم (علماء و مراجع الدين* من النظر إليه لبيانه, و نحن إذ على شواطئ هذه المعرفة الكونيّة بإذن الله سنشير بعمق لذلك, فما لا يدرك كله لا يترك كله. الإنثروبولوجيا في العراق الإنثروبولوجيا في العراق : ان الكلام عن هويّة محدّدة لعلم الإنثروبولوجيا في العراق و بلادنا و الأمة ليست سهلة .. وفي اعتقادنا ان ذلك يرجع الى اسباب عديدة اشرت الى بعضها ومنها ايضا ان اساتذة الانثروبولوجيا انفسهم لم يترددوافي تدريس علم الاجتماع بل انهم مثل الدكتور (علاء الدين جاسم) وصفوا انفسهم بعبارات مثل (مدرس الاجتماع و الانثروبولوجيا) وكما اشرف اساتذة الاجتماع على أطاريح في مجال الانثروبولوجيا كان العكس وارداً ايضاً. من جانب آخر لا نجد في المنتج الانثروبولوجي العراقي كتابات يحاول اصحابها رسم ملامح الانثروبولوجيا ذات طابع يأخذ بالاعتبار خصوصية المجتمع العراقي او العربي او الاسلامي بل ان معظم المنتج الذي بين ايدينا هو قي الواقع ترجمات للأدبيات الغربية بالمقابل كان الدكتور علي الوردي ومنذ مطلع الستينيات - حين شارك في مؤتمر بالقاهرة عن إبن خلدون - قد دعا الى اقامة علم اجتماع عربي و هي دعوة أصبحت واضحة في الخطاب السّوسيولوجي العربي في العقود الثلاثة الاخيرة من القرن العشرين كما انها كانت شعارا و مفردة رئيسة في جدول اعمال العديد من المؤتمرات العربية. و اذا كان الاجتماعيّون قد اسسوا جمعية لهم واصدروا مجلة باسمهم فان الانثروبولوجيين لم يكن لهم مثل هذا النشاط المهم الذي يمكن من خلاله بلورة رؤية انثروبولوجية ذات خصوصية ، ذلك لان العلم ليس مجرد ابحاث وترجمات بل هو ايضا (مؤسسة اجتماعية) ذات تنظيم و شبكة من القيم والمعايير(1). ان ما نقوله عن الانثروبولوجيا لا يحرر علم الاجتماع من الاعباء والمعوقات المذكورة ، فالعلم ابن بيئته وهو نتاج مايتاح له من فرص وإمكانات مادية وفنية، وعليه فان مأزق الانثروبولوجيا، هو الوجه الاخر لمأزق علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية ولذا فان على اساتذة العلمين مضاعفة جهودهم وخاصة بعد غياب وتقاعد معظم الرواد والجيل الذي تلاهم . غير ان علينا ايضا ان لا نحمل هذا الجيل من الأساتذة والباحثين لوحدهم مسؤوليّة أيّ اخفاق اذ ان العوامل التي تؤثر على وضع العلوم الاجتماعيه تتراكم في العادة على مدى زمني طويل و تخلق عقبات لا يمكن تجاوزها بين عشية و ضحاها فهي بحاجة الى جهود مستدامة قصيرة و متوسطة و طويلة الأمد تبدا من التحديد الصريح الدقيق للمشكلات(2). بإختصار إنّ فريقاً للأبحاث بقيادة الدكتور (فالح عبد الجبار) أشار الى ان المحدد الاقوى الذي حكم تصنيف العلوم الاجتماعية هو دمجها في حقل واحد وقد نتج هذا عن رؤية الى البعد العلمي لهذه الحقول من دون قيمتها المعرفية او النظرية ولذلك كانت الانثروبولوجيا جزءا من علم الاجتماع(3). مع ذلك كله - اذا أردنا ان نغض النظر عن ملابسات العلاقة بين علم الاجتماع و الانثروبولوجيا في العراق؛ فإن هناك سؤآل يطرح نفسه مفاده : [هل نستطيع ان نقنع أنفسنا بأن تجربة العراق أفرزت إتجاهاً سوسيو – إنثروبولوجيا مميزاً؟]. في الواقع يحتاج هذا (السؤال) الى وقفة طويلة سنجد لها مساحة للنقاش في الصفحات الأتية: إشكالات تواجه الإنثروبولوجيا في العراق: - لا شك ان علوم الانسان والمجتمع في العراق ظهرت منقطعة الى حد كبير عن تراثها الفكري والاسلامي باستثناء الجهد المهم الذي بذله الدكتور (علي الوردي) للعودة الى الجذور الخلدونية – و بناء على هذا فإن مسيرتها لم تؤدي حتى الان الى اكتساب هويّة مميزة تفي بحق الخصوصية الوطنية. على اننا لكي لا نكون متشائمين؛ نقول ان كل اشكال تواجهه هذه العلوم – و منها الانثروبولوجيا – قابل للتجاوز و ان الفكر النقدي المنتج يستطيع ان يوجد اجراءات و حلول تعدل مسيرة العلم و تُنميه منهجياً و نظريّاً وعملياً, و يتطلب ذلك بيان الإشكالات و المعوقات وهي: 1- لعلّ أوّل إشكال منهم هو الفصام بين النظريّ و العمليّ: ان هذا الاشكال بالذات يبين ان الانثروبولوجيا في العراق تراجعت الى حد كبير والدليل ان الدكتور شاكر مصطفى سليم الذي قام بدراسة ( الجبايش ) عام 1953 بناءا على اقامة دراسة في قرية الجبايش استغرقت حوالي تسعة اشهر اراد ان يثبت مبدأ مهما له قيمته العلمية و الخصوصية للانثروبولوجيا و هو الاقامة الدراسية Fieldwork لمدة لا تقل في العادة عن سنة واحدة وقد تطول الى سنتين او اكثر مؤكدا ان ذلك احد شروط المدارس الحديثة في الانثروبولوجي(4). وقد حاول الدكتور (سليم) منذ أواخر عقد الخمسينيات من القرن الماضي أن يُعرّف طلبة الانثروبولوجيا بأهمية الاقامة الدراسيّة بمفهومها الحديث معرفا بتجربة (برونسلاف مالينوفسكي) في جزر (تروبرياند) وهي جزر صغيرة في الجنوب الشرقي لـ(غينيا) الجديدة, حيث اقام فيها ذلك العالم ما بين عامي 1914 – 1918م(5). من المؤسف ان دعوة الدكتور (سليم) لم تلقَ ما يكفي من قوة وعقلانية الاستجابة فظلت معظم الدراسات في الانثروبولوجيا نظرية تستهدف نقل ادبيات الاخرين, و لا نكران لحقيقة ان كثيرأ من رسائل الماجستير و خاصة في عقدي السبعينيات و الثمانينيات من القرن الماضي اعتمدت مبدأ الدراسة او الاقامة الحقلية على نحو متفاوت. كذلك فان تجربة الدكتور (علاء الدين جاسم) في دراسته لكل من الراشدية و قرية شثاثه, وهما اطروحتاه للماجستير والدكتوراه تبدو مميزة من زاوية الاقامة الدراسية. الا ان الوضع الحالي وهو امتداد لما يقرب من عقدين يظهران الهوة بين التنظير و الميدان عميقة، او ان الدراسات الميدانية تفتقر الى مبدأ الاقامة الدراسية بالصورة النموذجية المطلوبة و لذلك اعتقد انّ على الاساتذة الانثروبولوجيا؛ ان يراجعوا وان يقيموا بوضوح وموضوعية مستوى الدراسات الميدانية ومتطلباتها المنهجية والنظرية. ولعل من الانصاف القول ان ظروف المجتمع العراقي – و الامنية منها بصورة خاصة – غالباً ما كانت تعطل الاجراءات الميدانية او تحد منها . كذلك فان معظم اساتذة الانثروبولوجيا انشغلوا بالتدريس والبحث النظري وهم في ذلك لايختلفون كثيرا عن اساتذة علم الاجتماع. 2- ضعف الدور المجتمعيّ لعالم و استاذ الانثروبولوجيا و مراجع الدّين: العلم ليس محدودا بقاعة الدرس وفي اعتقادي ان النتاج العلمي – النظري خاصة – للأستاذ الجامعي هو احد معايير تقويم دوره في مجتمعه اذ ان عليه ايضا ان يمارس دوره في مجالات المجتمع المختلفة التي تحتاج الى تخصصه . كان اساتذة علم الاجتماع سباقون للعمل في كثير من دوائر الدولة وخاصة في وزارات مثل العمل والشؤون الاجتماعية والهجرة وحقوق الانسان وغيرها غير اننا لا نجد لأساتذة الانثروبولوجيا مثل هذا الحضور. يمكن تفسير ذلك من زاويا عديدة لعل أولها : ان مفهوم (الانثروبولوجيا) يبدو غامضا سواء لدى متخذي القرار او لدى عموم المواطنين وهذا يعني – من وجهة الآخر – أن اساتذة الانثروبولوجيا انفسهم لم يبذلوا ما يكفي من الجهد للتعريف بعلمهم ففي هذا الحقل لم يظهر (وردي) يحوّل مادته الى نوع من الثقافة الشعبية. لقد بقيت الانثروبولوجيا نخبوية ، وحتى حين يعين خريج الانثروبولوجيا في دوائر وزارة العمل مثلا فانه يمارس دور الباحث الاجتماعي الذي لا يختلف عن دور خريج علم الاجتماع او الخدمة الاجتماعية واذا كنا نستطيع ان نشير الى اسماءِ كثيرٍ من اساتذة علم الاجتماع ممن خدموا في دوائر رسميّة كباحثين أو مستشارين فإننا لانجد الاسماء قليلة لأساتذة أنثروبولوجيين. يلاحظ ان بعض الباحثين يركز على الدور التدريسي و على الدور البحثي للأستاذ الاكاديمي لكنه يهمل الاشارة الى الدور المجتمعي(6). 3- الموقف غير المشجع للدولة: ان اي نهضة علمية حقيقة ومؤثرة لايمكن ان تكون نتاج جهود فرد او حزب . بل هي بالضرورة نتاج جهود رسمية لعل في مقدمتها التمويل وايجاد القواعد التشريعية اللازمة والحوافز ومعايير العقاب والثواب. وخلافا لعلوم مثل الاقتصاد والقانون ، والى حد اكبر العلوم الطبيعية نجد ان علوم الانسان والمجتمع عامة و الانثروبولوجيا خاصة لا تحظى بدعم حكومي واضح. ولقد كان لعلم الاجتماع – ومعه بعض العلوم الاخرى كعلم الاجرام والقانون الجنائي – فرصة انشاء مركز وطني للبحوث في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية – أُلغي في أواسط الثمانينيات – وفي السنوات الاخيرة أنشئ مركز اخر في الوزارة ذاتها لكنه كما يبدو غير مؤهل. اما الانثروبولوجيا فلم تجد لها مكانا واضحا في هذه المؤسسات ، بل انها حتى في مؤسسة علمية كبرى لم تجد مثل هذا المكان المميز أيضا. قد يكون هذا جزء من إهمال الدولة العراقية للعلم(7). الا انه ايضا يعكس ضعف مباشرة اساتذة هذا الحقل في اقامة مؤتمرات و ندوات و المشاركة في البرامج التلفزيونية والفضائيات. 4- الافتقار الى المراجعة التقويمية للمنتج الانثروبولوجي: لم يكتب عن مسيرة الانثروبولوجيا في العراق بقدر ما كتب عن علم الاجتماع على قلته ايضا فلم نجد مراجعة لأطاريح الانثروبولوجيا ( الماجستير والدكتوراه ) يمكن ان تشخص مواطن الخلل المنهجي او المعرفي واذا كنا نجد رسائل للماجستير عن اساتذة علم اجتماع مثل د. حاتم الكعبي و الدكتور عبد الجليل الطاهر الى جانب الكثير الذي كتب عن الوردي فإننا لا نجد سوى اطروحة واحدة عن الدكتور (شاكرمصطفى سليم), فلم يكتب أحد عن منجز الدكتور قيس النوري أو علاء الدين جاسم أو خالد الجابري. كذلك لم يقم أحد اساتذة الانثروبولوجيا بمراجعة نقدية لتوجهاتها النظرية او لموضوعات الأطاريح التي درست فيها . ان لمثل هذه المراجعة ضرورتها بعد اكثر من ستة عقود من بداية الدرس الانثروبولوجي في جامعة بغداد وبعد اكثر من أربعة عقود من منح درجة الماجستير في الانثروبولوجيا ، اذ انها – اي تلك المراجعة – ستشخص الخلل وترسم خارطة طريق جديدة. 5- الاشكال المؤسسي: في العراق اليوم هنالك ما نسميه ( هيمنة سوسيولوجية ). اذ ليس هناك سوى قسم واحد للانثروبولوجيا في الجامعة المستنصرية (كلية الاداب ) . اما في قسم علم الاجتماع بكلية الاداب فان الدراسة تنقسم الى ثلاثة فروع هي : علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية والانثروبولوجيا ابتداءاً من الصف الثالث ، كان القسم يمنح درجتي الماجستير والدكتوراه ، ثم الغيت درجة الدكتوراه لقلة الاساتذة و محدودية التخصصات المتاحه في فروع الانثروبولوجيا حالياً. إنّ سؤالا مهما يطرح نفسه اليوم؛ هل نؤسس أقساما مستقلة للانثروبولوجيا ام تبقى على صلتها المؤسسية بعلم الاجتماع؟ الوجه المؤسسي الآخر ان اساتذة الانثروبولوجيا لم يوفقوا حتى اليوم بتشكيل بيئة اجتماعية مؤسسة لعلاقاتهم المهنية والشخصية مثل (جمعية او رابطة) تمكنهم من ايجاد فرص للحوار والنقاش وطرح مشكلات المجتمع و دور علمهم في ايجاد الحلول لها(8). ان ثنائية : اجتماع / انثرو تنعكس على جهد التدريسيين فهم غالبا يترددون بين العلمين مع ضمور واضح لحدود التخصص. الجانب الاخر يتعلق بسؤال مهم : ما الادوار المؤسسية التي نطمح ان يقوم بها خريجو حقل الانثروبولوجيا. هل هو التدريس؟ ام البحث الاجتماعي في مؤسسات الرعاية الاجتماعية؟ او مجرد التوظيف؟ أم المشاركة في انشطة اجتماعيه اخرى( مثل منظمات المجتمع المدني ؟ ان اسئلة مهمة كهذه ينبغي ان تطرح لتحديد وظيفة العلم ومخرجاته الواقعية فليس المهم ان نقبل كذا عدد من الطلبة بل المهم ان نعرف اين تكون مجالات نشاطاتهم كمتخصصين في هذا الحقل. 6- اشكال ضعف التواصل مع مراكز انتاج المعرفة: في العالم اليوم كثير من المجلات المتخصصه بالفروع المتعددة للانثروبولوجيا فضلا عن مراكز البحوث الى جانب مايصدر عن المؤتمرات من توجيهات وما يلقى من على منابرها من البحوث وما تشهده من مناقشات لكننا وخاصة بعد عام 1990م حيث خضوع العراق للحصار الدولي الشامل كادت صلتنا العلمية بتلك المراكز ان تنقطع وهذه القطيعة لا تتعلق بالانثروبولوجيا فقط بل تتعداها الى كل علوم الانسان والمجتمع فقد كان الدكتور قيس النوري من اكثر اساتذة الانثروبولوجيا تواصلا مع المراكز العلمية و لم يخلفه احد حتى الان و لعل ذلك هو الذي جعل ادبياتنا فقيرة ، و جعل اكثر الطلبة يكررون عبارات البنائية الوظيفية من دون استيعاب حقيقي لمضامينها ومناهجها ودون احاطة بالتطورات التي شهدتها كذلك يلاحظ المتابع ان مكتباتنا فقيرة وان المجلات العلمية المتخصصة غائبة عن رفوفها ولذا نستطيع القول اننا طوال اكثر من عقدين من الزمن انقطعنا عن مراكز انتاج العلم وان علينا ان نحل هذا الاشكال عن طريق حركة واسعة للترجمة والمشاركة في الدوريات العلمية وكذلك المشاركة في المؤتمرات المهمة وتمكين الطلبة من الاتصال و زيارة مراكز البحث العلمي ذات الصلة. 7- الاشكال المعرفي: هل للانثروبولوجيا في العراق هوية اليوم ؟ أعتقد ان مسيرة هذا العلم في العراق افصحت عن ثلاثة توجهات او منظورات غير منقطعة عن بعضها الأول الاتجاه الذي تبناه الدكتور شاكر مصطفى سليم وهو البنائية الوظيفية (البريطانية) و الثاني الاتجاه الذي تبناه الدكتور (قيس النوري) وهو الانثروبولوجيا الحضارية وان كان في احد كتبه يقول انه (يتبنى مفهوم البناء الاجتماعي بشكل غير متطرف كأساس مفيد لعرض الظواهر المختلفة وتحليلها في المجتمع بوصفها ترتبط وتتبادل التأثير فيما بينها (9). إلا انه يعود فيقول انه(لا يوافق على موقف الوظيفيين الذين احالوا المنهج الوظيفي لفلسفة ايديولوجية متعصبه مفتقرة الى مقومات المرونة والاجتهاد الفكري), و تفهم بالنتيجة ان د. (قيس النوري) يرى ضرورة اللجوء الى منهج الديناميكية الحضارية(10). الاتجاه الثالث يمثله الدكتور علاء الدين جاسم وهو الاتجاه السوسيو- انثروبولوجي . اذ ان الدكتور يتكلم عن (علم اجتماع المقارن؟) قائلا ان دراسة النظرية في علم الاجتماع وعلم الانثروبولوجيا (علم الاجتماع المقارن؟) شرط ضروري لنمو المعرفة السوسيولوجية التي تمكننا من استقراء الواقع وتحليل العلاقات والنظم والانساق والظواهر(11). إن الاتجاه السّوسيو – إنثروبولوجي يسد النقص الذي يمكن ان يظهر من حقليّ علم الاجتماع وعلم الانسان فهناك قضايا لا يستطيع اي منهما لوحده من انتظامها وعليه فان من المهم تجاوز ثنائية (الحقلين) الى حقل واحد, فمثلا في اتجاه سوسيو – انثروبولوجي في دراسة المجتمع(13). ان البحث عن هوية معرفية لا يتطلب بالضرورة الالتزام بواحد من الاتجاهات المشار اليها وخاصة في ضوء التحولات المعاصرة للانثروبولوجيا بل قد يتطلب الامر تشكيل رؤية مرجعية مركبة تأخذ في اعتبارها تداخل مختلف الحقول والحاجة الى تفسيرات متعددة للظواهر المختلفة. الخـاتمـة : الخـاتمـة : من المستحيل قراءة مسيرة علم الانثروبولوجيا في العراق في ضوء المتاح من الوقت لهذه الدراسة و لذلك آثرنا عرض رؤية عامّة تعكس حقيقة العناوين التي تزدحم بها ادبيات الانثروبولوجيا التي تعبّر عن درجة من الفوضى الاصلاحية و غموض الاطر المرجعية التي ربما تجاوزتها الدوائر العلميّة في بعض المجتمعات الا ان ظلالها القاتمة ما زالت ملقاة على هوية العلم في العراق و التي ما زالت تعكر صفو الأجواء الأنسانية و الأجتماعية والحياتية على كل صعيد. ان مراجعة تلك المسيرة تتطلب العودة الى التاريخ الذي إبتدأ حوالي منتصف خمسينيات القرن الماضي مقترنا بجهود رواد مثل الدكتور علي الوردي و الدكتور حاتم الكعبي و الدكتور شاكر مصطفى سليم وقد كان للأخير فضل البدء بأولى خطوات مسيرة العلم من خلال منجزات علمية مهمة كان اولها اطروحته الجبايش ثم القاموس المهم الذي اصدرته له جامعة الكويت, هذه المسيرة التي ما زالت لم تقدم المطلوب في بلادنا؛ جاءت متأخرة بحدود 5000 آلاف سنة بآلقياس مع فلاسفة اليونان. كما لم يكن من الانصاف أن نتغاضى عن جهود أستاذين كبيرين هما الدكتور (قيس النوري و الدكتور علاء الدين جاسم), اذ انّ معظم الانثروبولوجيين العاملين اليوم هم من الذين تتلمذوا على ايديهما في قسم (علم الاجتماع الأم) و الذي ما زال حتى اللحظه؛ الحاضنة الرئيسة للانثروبولوجيا في العراق رغم تأسيس قسم للانثروبولوجيا في كلية الاداب بالجامعة المستنصرية بداية السبعينات من القرن الماضي. ان تأسيس ذلك القسم وما واجهته الدراسة الانثروبولوجية في قسم علم الاجتماع بكلية الاداب جامعة بغداد؛ جعلنا نطرح اسئله ضرورية عن علاقة الانثروبولوجيا بعلم الاجتماع و ما اذا كان من المفيد انقطاعهما عن بعضها او توأمتهما كحقلين يكمل أحدهما الآخر, كذلك مررنا على ما أسميناه الإشكاليات التي تعيق الدرس الانثروبولوجي في العراق, نأمل ان تكون الدراسة مفيدة كمادة أساسية للحوار والمناقشة لمدراء المنتديات و أساتذة الجامعات, وليس على اساس كون الاراء التي وردت فيها من المسلمات, و لا أنسى إلا تقديم الشكر لبعض الرّواد الأنتربولوجيين و المؤسسين لبيت الحكمة ببغداد على مبادراتهم الهامّة و دورهم في تطوير العلوم الاجتماعيّة في بلد مختلط و معقد كآلعراق الذي يتّه نحو الفوضى و الغموض مع باقي بلادنا العربية و الإسلاميّة الأخرى و حتى العالم, التي تحتاجها أشد الاحتياج نتيجة للظروف و المآسي التي تمرّ بها. ألنداء الأخير للعارف الحكيم : ألنداء الأخير للعارف الحكيم : في ختام هذا الكتاب؛ نكرر ندائنا للمثقفين و المفكرين القائمين على المراكز و المنتديات الفكرية و الثقافية و الفنية و العلمية: أيها الأعزاء الحاملين لراية المعرفة المقدسة؛ يا أهل القلوب في شرق الأرض و غربها : أنتم وحدكم اليوم تحملون بين جوانحكم(السّر) لقيادة العالم, و هو شيئ ثقيل و مكلف و خطير .. بعد كشف زيف الحكومات و الأحزاب و السياسيين و فسادهم بسبب أهوائهم و عقائدهم الفاسدة التي تسعى لتكريس الأبعاد المادية دون الأخلاقية و العدالة السماوية العلوية .. أنتم وحدكم مَنْ يحمل هم الثقافة و الفكر و الأدب و الصّدق .. في زمن الكذب و الزيف و النفاق هذا بحيث عندما رآى الشيطان فساد الناس و قادتهم و حكوماتهم أعلن إستقالته .. معتذرأً لله تعالى عن إدامة مسؤوليته في غواية العباد لكونهم هم الغواية و النفاق بعينها و ذاتها .. نعم .. الصّدق هو العنوان الأكبر .. لأنهُ؛ [ الفصل الأوّل في كتاب الحكمة] ألذى يُطرح و يناقش في المنتدىات الفكرية في كلّ بلاد الأرض, ثمّ يأتي الباقي من المفاهيم و القيم .. بصدور كتابنا المنهجي هذا الذي يمثل الجزء الثالث, بعنوان (أسس و مبادئ ألمنتدى الفكريّ) إن شاء الله و آلذي يضم تفاصيل إقامة المنتديات العلمية الفاعلة و النافعة و الممكنة إقامتها في كلّ مكان و في كل الظروف و بأقل الأمكانات .. إنه لا يحتاج لإمكانات كبيرة سوى المحبة التي وحدها تُمثّل العمود لبقاء المنتديات التي توصلكم للحقّ, لأنه يضم تفاصيل المنهج الأم ألرائع والراعي لمبادئ الحوار المتمدن الهادف! و رأيت من المفيد .. بل الواجب هضم العناوين التي وردت كأربعين سؤآلاً إضافة لخمسين وصية .. لتكون محوراً فاعلاً و قيداً في نشر الثقافة و الفكر بين الناس الذين يعانون الجهل على جميع المستويات بعد ما وصلهم إسلام فاسد ممّن إدّعى الدِّين لأنهُ كان يلف قماشاً موبوءاً على رأسه العفن .. لهذا لم يسلم أحداً ممّن تولّى الحكم و المسؤوليية من تلك آلفايروسات التي دمرت البلاد و العباد .. فعمّ الفساد و النهب بتنفيذ مباشر من ألاحزاب المتحاصصة وآلساسة في العراق و غيره .. للأسف! أحزاباً و إئتلافات عديدة لم تتعلم سوى ثقافة واحدة فقط, هي: [إفعل ما تريد بلباس "آلدعوة لله" و الدّين المؤدلج و تَحمّل كلّ شيئ لأجل الراتب و القنص و الفساد, متوهمين أنهم يستخدمون (التقية), بأبشع و أسوء صورة معكوسة للأسف!] فكان ما كان كما شهدتم سرقة دولة بأكملها إلى جانب تخريب أخلاق الناس .. لهذا نريد حلّ مشكلة الفساد هذه من الجذور رغم أنها أضافت ثقلا آخر على أكتافنا المجروحة و قلوبنا الداميّة, و يتطلب أوّل ما يتطلب معرفة أدب الحوار بآلتسلح و التفكر بآلمبادئ التالية كأول درس في آلمنتدى الفكري أو الثقافي أو الأدبي .. أو أية تسمية تعجب المؤسسين لوصفها حسب وضعها, تسبقها الحكمة الكونية التالية: [ألصّدق أوّل فصل من كتاب الحكمة], و بغيرها لا تحصدون الثمار و ستتكرر الأخطاء و الأخطار: لأنّ آلعلم الكونيّ العزيزي أثبت بأنّ: [آلأشجار تتّكأ على الأرض لتنمو و تثمر .. بينما البشر يتّكأ على المحبة لينمو و يثمر]. و قد أوردنا ضمن محاور ألمنتدى الفكري (الخمسون) بعض الأضواء التي كتبت عام 1998م تزامناً مع فتح مركز ألفيلسوف (الصدر الأول) نهاية القرن الماضي لتداولها و هضمها و إغنائها بآلبحث و النقاش .. ريثما يتمّ إصدار كتابنا الهام ألموسوم أعلاه و الذي لا بدَ لكلّ إستاذ و أديب و عالم و مفكر و سياسي أن يقرأها بوعي .. و هي هدية فلسفتنا الكونيّة لأهل القلوب الرائعين الجميليين, و لكم بآلذات يا أصحابي المثقفين في جميع المنتديات في العالم خصوصاً في العراق منذ أن تصدّيتم لقيادة الجهاد الأكبر مع الأصغر: إلى جانب (المباحث الأربعون التي وردت كأسئلة محورية) والتي طرحنا عناوينها أيضاً مع إشارات و بيانات إجمالية في مباحث سابقة, و التي بمعرفة أجوبتها و موضوعاتها؛ يصبح المثقف ملمّاً بآلحياة و قضايا الخلق و مهيئاً للبدء بآلأسفار الكونية التي خصصنا لها كتاباً بعنوان : [ألأسفار الكونية السبعة] و سبب وجودنا و مصيرنا إلى جانب الأسئلة الستة التي وردت ضمن تلك الأسئلة أيضاً .. إضافة للخمسين نقطة حول فنّ قبول الاختلاف والتعايش لهضم و لمعرفة الكثير من أسرار الحياة و الوجود لتحقيق السعادة و الرضا .. أملاً بآلفوز يوم القيامة بجنات الخلد في كنف الخالق مع العاشقين الذين لا يتلذذون حتى يوم القيامة إلاّ بعبادة الله تعالى بعمق و بإخلاص مقرون بآلمحبة و الذوبان فيه تعالى! نعم هي خمسون شمعة + الأربعون سؤآل التي يجب عرضها و إضائتها بآلأجوبة الوافية لتنوير نفوسنا لمعرفة أفضل و أعمق و رعاية أقوم أثناء الحوار أو النقاش أو الكتابة, لأنها بمثابة صيدلية الرّوح و الفكر, للأطلاع عليها, فيرجى مراجعة الجزء الثاني من الكتاب للأطلاع على التفاصيل. ألمصادر ألمصادر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) د. حميد الهاشمي : على الوردي و التأصيل الخلدوني لعلم الاجتماع في الوطن العربي، دارسة في مجلة : اضافات ، بيروت، الجمعية العربية لعلم الاجتماع، العدد (19) – صيف 2012م ، ص41-42. (2) فريق ابحاث ، وضع العلوم الاجتماعية في الجامعات العراقية ، مسح – تقييم – افاق التطور معهد الدراسات الاستراتيجية ، اربيل/بيروت 2007م ، ص7-8. (3) المصدر نفسه ، ص45. (4) د. شاكر مصطفى سليم : الجبايش ، دراسة انثروبولوجية لقرية في اهوار العراق ، بغداد مطبعة العاني ، 1970 ، ص (ز). (5) د. شاكر مصطفى سليم : علم الانثروبولوجي ، تأريخه و مدارسه ، دراسة في كتابه المعنون : محاضرات في الانثروبولوجي ، بمصدر سابق – ص44-45. (6) وينظر مثلا : د. معن خليل عمر – رواد علم الاجتماع في العراق – بغداد – دار الشؤون الثقافيه – 1990 ص9-10. (7) يراجع بشأن هذا الموضوع ، فريق ابحاث ، وضع العلوم الاجتماعيه ، مصدر سابق ، ص136-137. (8) عبد الحكيم خالد الحسبان : الدراسات السوسيولوجية والانثروبولوجية في الاردن – دراسة في : احمد موسى بدوي واخرون – مستقبل العلوم الاجتماعيه في الوطن العربي ، بيروت مركز دراسات الوحدة العربيه ، 2014 ، ص241. (9) د. قيس النوري : طبيعة المجتمع البشري في ضوء الانثروبولوجيا الاجتماعيه ، ج1 ، مصدر السابق ، ص ب. (10) المصدر نفسه ، ص ج. (11) د. علاء الدين جاسم البياتي : علم الاجتماع بين النظرية والتطبيق ، بغداد دار التربية 1975، ص5. (12) د. محمد عبده محجوب ، مقدمة في الاتجاه السوسيو – انثروبولوجي ، الاسكندرية ، الهيئه المصرية العامة للكتاب ، 1977م، المقدمة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تمّ الكتاب بفضل الله ورعايته ونوره آلأزليّ الذي بسببه نحيا والخلائق ويظهر الوجود, نتمنى لأهل القلوب ألإستفادة منه لأيمانهم بآلجّمال وأملهم لتحكم آلمحبة في مملكة العاشقين بلا حاكم ومحكوم أو مالك ومملوك أو شاه وعبيد, فظهورنا رهن وجود الله. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ألعبد الفقير لربّه: عزيز حميد الخزرجي