Friday, August 23, 2024

المثقف صاحب الفلسفة لا يرضى على الشعب ولا على النخبة :

الثقافة و النظرة الفلسفية للحياة الثقافة و النظرة الفلسفية للحياة * د. رضا العطار كثيرا ما تحملنا دراسة علم السيكولوجيا على ان نتعمق في – الامراض النفسية – واخف انواعها هو الهم و القلق , واخطرها أنواع الجنون المختلفة مثل الشيزوفرنيا والمانيا، والمتعمق في هذه الامراض يستطيع ان يصفها بأنها – امراض فلسفية – . فهي توصف بأنها – امراض نفسية – من حيث ان الجسم سليم ولكن النفس مريضة . وقد يؤدي مرضها الى اعتدال للجسم او لا يؤدي . ولكن النظرة الفلسفية للحياة في اسلوبها وغايتها سيئة لا تتفق والقوى البشرية ولا تلائم المجتمع، حيث انها لا تشبع شهوات النفس وامانيها . وعلى الرغم من الجهل العام في سواد الامم , لا تزال لكل فرد نظرية فلسفية يمارسها في عقله الباطن او في كامنته الذي لا يدري به . ولكل مجتمع اتجاهات وقيم معينة دون غيرها . وهي تحمل الافراد على بذل المجهود كي يصلوا به الى ما ينشدونه من كرامة ووجاهة . ففي الولايات المتحدة الامريكية مثلا يتجه الفرد الى اقتناء الثروة وهو يؤمن بأنجيل النجاح ولا يبالي في سبيله ما يجني على نفسه من هموم تجعله يبكر في الصباح ويتاخر في المساء. وهذا المجهود يبذله كل امريكي يريد ان يصل الى القمة. المباراة عامة تجعل إقتناء الثروة يسير بالعدو والهرولة ويغطي على اي مجهود اخر, ثم سرعان ما تنفق الثروة بعد جمعها . فتكون مباراة في الانفاق بعدما كانت في الجمع. فهذا النظر للحياة هو في صميمه نظر فلسفي, اذ هو يجحد القناعة والبساطة في العيش ويحمل على الطموح والرغبة في الاسراف والبذخ. وليس في الولات المتحدة شاب او فتاة، الا وهما في هم وقلق, كيف يحصلان على الثروة وكيف يفوزان في المباريات الاقتصادية العامة. والهم والقلق هما تعب مرهق يؤدي الى انهيار نفسي في حالات كثيرة. يدلنا على ذلك ان اكثر من نصف عدد الاسرة في المستشفيات يملؤها مرضى النفوس وليس مرضى الاجسام. وليست حال فرنسا او المانيا او انكلترا بأفضل من حال امريكا الا قليلا. واذا شئنا ان نعالج احد هؤلاء المرضى فليس امامنا سوى العلاج الفلسفي. وهو ان للقناعة وبساطة العيش قيمتها في الدنيا. وانهما يتيحان لنا الوقت كي نلهو ونستمتع بالحياة وان نستبدل بالتوتر المضني استرخاء يريح ويسعد. وان قيصر الرومان مرقس اوريليوس كان يصف السعادة بانها – رغيف مع الجبن – , نأكلهما تحت ظلال اوراق الشجر. فقد يتطور مرض النفس وينقلب مرضا جسميا ذلك ان الهموم تزيد ضغط الدم فتنتفخ الشرايين ثم تتصلب و على القلب ان يتحمل اكثر من طاقته في دفع الدم في هذه الشرايين المتصلبة. وحينئذ قد يعجز القلب فيموت صاحبه بالسكتة او قد ينفجر شريان في الدماغ فيموت كذلك او عليه ان يقضي بقية سنوات العمر في حالة جسمية منحطة. وهذه المبالغة في المباراة هي مثال واحد من امثلة النظر الفلسفي السيء. وهناك الغيرة عند النساء, بل هناك الرغبات الطفلية تبقى معنا الى سن الشباب والكهولة وتغمر سلوكنا النفسي بل سلوكنا الجسمي، وكل هذا يدل على اننا في حاجة الى الصحة والسداد في النظر الفلسفي كي نعيش المعيشة الصحية المتزنة, فضلا عن الثقافة الرائدة التي يتحمل الكتاب المثقفون، توجيهها الوجهة الرائدة للشعب. فالكاتب الجيد هو مسجل لحياة المجتمع. وهو يسجلها على مستواها الظاهر ومستواها المحجوب. وهو يسجلها كما يراها هو لا كما يريده المجتمع ان يراها، لأن مهمته الكبرى هي الاخلاص في نواياه الطيبة, بينما يؤثر المجتمع التمويه عن قصد او غير قصد محاولا تغطية علله او تبريرها بشتى الاساليب التي لا تنطلي على الكاتب. والكاتب الجيد يكون عادة خارج على المجتمع. لأنه غير راض عنه ويرفض التواطؤ معه على الفساد والظلم, غاضب عليه لغوغائيته, لقصوره في العقل والعاطفة. لعيشه على تبادل الخداع بين افراده. لعجزه عن رؤية الجمال والجميل. والكاتب هو المخلوق الوحيد الذي يصعد سلم المجتمع ويهبطه, يتردد دوما بين اعلاه واسفله بحثا عن ( الأنسان ) الانسان المركب من حزن وجوع وشبق. لأنه يعشق هذا الأنسان. الكاتب مراقب لمأساة الحياة في المجتمع. انه يلاحظ تخبط الأنسان بين مطامحه ومخاوفه وكبريائه. انه يراقب ردود الافعال عن كثب, كيف انها ترفع خدها للشمس, ويرى الافاعي المتخفية تحت اوراقها. انه يضحك من مجتمعه ويبكي عليه. الكاتب راس جسر لانطلاق المجتمع من قلمه. يصبُ نيرانا على العوائق المنصوبة في وجه المجتمع. فهو محفّز المجتمع ودليله ولا يستطيع ان يقوم بهذا الدور الاّ لأنه يدرك مواطن الضعف في افراد جماعته، يوسّع حدقة عينه لتتعدّى حدود يومهم الى غدهم. ورغم هذا كله, فإن المجتمع لا يعترف بالكاتب. ان المجتمع يتوخى الطمأنينة وراحة البال, اما الكاتب فلا ينصرف عن زعزعة هذه الطمأنينة, لأنه يعرف انها اسم آخر للرضا والجمود. · ( من كتاب – اقنعة الحقيقة واقنعة الخيال – لجبرا ابراهيم جبرا )

No comments:

Post a Comment