Tuesday, August 13, 2024

الدين أم الوطن :

الدين أولا أم الوطن؟ قد يبدو السؤال غريبا ، والبعض ربما يعتبره نوع من التجاوز على المسلمات , وإختراق لجدران المحرمات ، لكنه يفرض نفسه ويريد منا جوابا معاصرا وواضحا ، وفهما عميقا وتعبيرا دقيقا عن العلاقة والإقرار بوجودها أو نفيها. فالدين لكي يحقق معانيه ومبادءه وأخلاقه عليه أن يكون في وطن ، أي في وعاء مادي (إجتماعي وجغرافي) ، وإلا فسيتحول إلى حالة مضادة لذاته ولعقيدته. والأديان المجردة من الأوطان لن ترتقي بقدراتها التعبيرية إلى مستوى ما فيها ، وستحيد عن رسالتها الإنسانية وتدخل في تفاعلات سلبية مع واقعها ومحيطها العام. فلو تأملنا الإسلام في بدايته ، حيث الوحي يتنزل والآيات تتواصل في مكة ، والمسلمون قلة يجاهدون في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى ، لما يقرب من ثلاثة عشر عاما ، لكنهم لم يكونوا قوةً ذات شأن وتأثير كبير، لأنهم تحركوا في مجتمع لا يسمح لدينهم أن يكون فيه ، فهو وطن حالة معروفة. لكن المسلمين حينما هاجروا إلى المدينة إستطاعوا أن ينطلقوا بالدين بقوة وسرعة إيمانية فائقة كأنه ضياء الشمس عند الصباح ، لأنهم أسسوا وطنا لدينهم ، فالمدينة المنورة صارت وطن الإسلام الذي إنطلق منه بقوة متواصلة , وطاقة متنامية إلى الدنيا بأسرها , فإمتزج الدين بالوطن (المدينة)، وصار الدفاع عن المدينة دفاعا عن الدين . ووفقا لهذا التفاعل العقائدي الخلاق ما بين الوطن والدين ، تحقق الإنتصار في المعارك التي قامت آنذاك ، وكانت معركة الخندق , التي حُفر فيها خندق حول المدينة ، لأنها وطن الدين الجديد ، والذود عنها ذود عن الدين . وتخيلوا ماذا سيحصل لو أن الدين فقد وطنه (المدينة). إن سر إنطلاق الإسلام السريع تمكنه من بناء الوطن الثابت , الذي فيه عبر عن مبادئه وقيمه , وترجم القرآن أفعالا واضحات وسننا تامات. فالدين لكي يتحقق ويعبر عن قدراته الروحية والأخلاقية والإجتماعية بحاجة لوطن ، وبدون الوطن لا يمكن للدين أن يجسد معانيه ويترجم مفاهيمه , والتعبير عن جوهره. فالوطن يأتي أولا والدين ثانيا ، لأن الوطن يمنح الدين قوة الصيرورة الكبرى ، والدين بلا وطن يعني ضعفا وتمزقا وإنهيارا لعناصر القوة والإقتدار. ولهذا كان القول ” حب الوطن من الإيمان” أي أن تكون مؤمنا صادقا وحقيقيا ، يجب أن تجسد معاني وأصول حب الوطن , لأن قوة الوطن تعني قوة الدين. وفي مجتمعاتنا ، ترى أن ضعف الأوطان تسبب بضعف الدين ، وما يحصل اليوم من مواقف وتفاعلات سلبية تجاه الدين ، بسبب ضعف الأوطان وفقدان قدرات تقرير المصير والإنطلاق المعاصر المفيد. فقوة الدين من قوة الأوطان ، وعندما كانت أوطان الدين قوية ومتطورة ، كان الدين منيرا ساطعا ومؤثرا في مسيرة الحياة الإنسانية. والمثل الواضح الذي تعيشه بعض المجتمعات ، هو أن الدين لم يكن فوق الوطن وحسب ، وإنما المذهب صار فوق الوطن والدين ، مما أدى إلى تحويل الدين إلى أداة ضارة بالمجتمع ، وتسبب بتداعيات خطيرة ، لأن الوعاء اللازم لرعاية الدين والمذهب قد تكسّر . وفي وعاءٍ محطم لا يكون الدين قويا وسليما ومعبرا عن مبادئه وأخلاقه وقيمه ، وإنما سيتكسّر مثل الوعاء الذي هو فيه. وهكذا ترانا في مأزق الحطام المتواصل ، والتداعيات المتوالدة ، ولن نحقق سلوكا مذهبيا مفيدا ودينا نافعا من غير الإقرار بالوطن أولا ، وترميم ما تحطم من معانيه ومواصفاته ، والتأكيد على أن الوطن يبقى أولا وكل ما فيه يأتي بعد ذلك. فعزة الأوطان وقوتها تعني عزة وقوة أهلها ، وهذا يمثل عزة وقوة ما فيهم وعندهم من معتقدات وآراء وتصورات وأفكار وتوجهات. إن إنقلاب الحالة في بعض البلدان تسبب بمرارة التداعيات , وتورط الجميع في وحل الصراعات , والدخول في المتاهات والإمعان في الخدر المروع . فالدنيا تتسارع في خطوها نحو العلى ، والبعض يتدحرج إلى السفول وقيعان الحضيض , وكأن المذهب والكرسي والحزب وطن , والوطن يصرخ من هول آلام مباضع التائهين. فاجعلوا الوطن أولا لكي يكون دينكم أقوم ، فترضى عنكم السماء , وتشيدون سعادة الإنسان فتعرفون الله!!

No comments:

Post a Comment