صدى آلكون ............................................................................ إدارة و إشراف : عزيز آلخزرجي
Friday, June 14, 2024
أزمة الواقع الثقافي :
أزمة الواقع الثقافي
مقدمة ..
في القرن الثامن عشر ، قال الفيلسوف الفرنسي “ فولتير “ بمقدورنا إحداث ثورة في العقول في ظرف سنتين الى ثلاثة إذا وجدت الى جانبي خمس أو ست من الفلاسفة ومطبعة . في إشارة منه الى أهمية ثنائية الفكر والنشر في إحداث تغيير إيجابي في المجتمع . نحن اليوم في القرن الحادي والعشرين حيث مخرجات الثورة الصناعية المتطورة ، وما نتج عنها من تقنية وبرامجيات عالية الدقة والسرعة . هيأت مساحة كبيرة للنشر ولحرية التعبير وسرعة وصول المعلومة ، بالإضافة الى ما يتوافر عليه العالم العربي الإسلامي من مفكرين وكتاب وأدباء ومثقفين .مع كل هذا لا تبدو مجتمعاتنا معافاة ، بسبب ظروف وتحولات خطيرة مرّت على البلاد في العقدين الأولين لبداية القرن الحالي ، لذلك نعتقد ظرورة دراسة الثقافة دراسة جديدة تأخذ بعين الإعتبار طبيعة المجتمع ، والطريقة التي يعيش بها المجتمع ، من أجل الحفاظ على المنظومة الإجتماعية من الأذى الذي يراد لها بسبب سوء استخدام التقنية الرقمية ، والحرية الشخصية ، وكثرة وسرعة النشر ، وظهور محتويات هابطة وتصريحات غير مسؤولة ، تمس المنظومة القيمية والأخلاقية والإنسانية والثقافية والدينية بصورة عامة.
الكتاب كائن حي ..
في الجاهلية وقبل مجيء الإسلام . كانت البضائع الصينية متوفرة في أسواق مكة ، وكان أبو سفيان يرعى الأدب والأدباء ويكرم الشعراء ويحضر وغيره من سادات مكة مهرجانات الشعر . كانت الصناعة رائجة ، وقوافل التجار تحمل من بلاد الأرض مختلف السلع . وكان عدد الآلهة يزداد كلما إزدادت مواردهم ، حتى صار حول الكعبة اكثر من ثلاثمائة صنم . كانت الطبقية هي السائدة ، والمال هو الحاكم ، والعصبية هي دين القوم . لقد إعتاد الناس آنذاك على قبول الواقع الإجتماعي والإقتصادي حيث السادة والعبيد ، الأغنياء والفقراء . ومن يدخل مكة لا يكاد يكتشف ان هناك ظلماً وظلاماً ، وما كان لغير الراسخين في العلم ان يتنبأوا بأن الأرض تنتظر منقذاً بات ظهوره ضرورة حتمية اقتضتها إرادة الخالق ، فكان محمد بن عبد الله رسول الدعوة الى الإنسانية عن طريق التوحيد .
كانت الأعراف الإجتماعية تملي على الأبناء طاعة آبائهم ، فما كان “ للصادق الأمين “ أن يجمع الناس حوله في ذلك الوقت لولا فسحة الوعي التي كان عليها بعضهم . أما أغلبية أبناء المجتمع فكانوا مستسلمين لإرادة العرف الإجتماعي السائد ، إذ هم تبع آبائهم وأسيادهم الذين وجدوا في عبادة رب واحد ما يتقاطع مع توسع التجارة وإزدهار الصناعة ودوام النفوذ والسيادة . لذلك عرض سادة مكة ، المال والجاه على النبي الجديد من أجل ان يترك لهم حياتهم تسير على ما هي عليه .
كانت الكلمة هي المادة الخام التي استخدمها النبي الخاتم في مشروعه الرسالي المتضمن صناعة وعي ذاتي في الفرد والمجتمع يحمله على تغيير واقعه الى ما ينبغي أن يكون عليه كوجود إنساني لا كتواجد بشري ، ففي عبارة ( أفلا ينظرون ) التي جاءت في سياق آيات قرآنية ، دعوة إلهية للناس لكي يستخدموا التفكير الموضوعي في تعاطيهم مع الطرح الجديد في ضوء الواقع الذي كانوا يظنونه آمناً بوجود تلك الأصنام في الكعبة وفي بيوتهم . الوعي هو الذي حث الذات الإنسانية في ( سميّة ) و ( ياسر) بعدما أظهرا قلقهما وخوفهما حال سقوط الصنم الى الأرض في حركة غير مقصودة من ولدهما عمار وهو يحاول ان يطمئنهما على حاله بعد علمهما بأنه يلتقي بالنبي الجديد . سرعان ما تحول ذلك القلق والخوف الى باعث للتامل ودعوة الى إسترجاع الأحداث حين اخبرهما ( عمار ) ان هذا الصنم لا يضر ولا ينفع ، والكلمات التي جاء بها النبي محمد فيها من الطاقة الروحية ما يشجع على قبول الفكرة . هكذا تهيأت للذاكرة أجواء العودة بـ ( سميّة) الى الوراء لتقف عند مشهد وأد أبيها لأختها ، وما خلفه ذلك الفعل اللاإنساني من الم مزمن في نفسها لم يغادرها برغم السنين ، ولم تتمكن وهي بقرب الألهة من ان تشعر بالأمان ، فأستمدت من إستقرار نفس ولدها ( عمار ) وهو يذكر كلمات الله ، طاقة حركتها وزوجها لإستنهاض وعيهما الذاتي .
وعندما اصبح ( عمار ) في مواجهة مع سادة مكة ، دعوه الى التعقل والى استخدام المنطق الذي يظنونه في جانب تخلي عمار عن اتّباعه الدين الجديد ، واتسعت دائرة الوعي الإنساني حين أمر ( أمية بن خلف ) عبده ( بلال ) بجلد ( عمار) بالسوط ، فكان إمتناع ( بلال ) عن تنفيذ الأمر إيذاناً ببدء مرحلة التعذيب الجسدي البشع ، تلك المرحلة التي كان اهون خطواتها هي هلاك جسم ذلك العبد ، لكن رحمة الله شاءت ان ينجو بعرض قدمه ( ابو بكر ) الى ( أمية ) ، فكانت حياة بلال مقابل 100 دينار .
مات ( ياسر ) وماتت زوجته ( سمية ) ميتة بشعة أُرغم ( عمار ) على حضورها في مشهد تعذيب علني أدّاه سادة مكة . ترك ذلك المشهد أثره العميق في نفس ( عمار ) .
فمثلما كانت قوة العضلة غالبة في ذلك الوقت الذي لم تصل فيه قوة الكلمة الى ما يكفيها من قدرة على المواجهة ، كانت معادلة التوازن تدّخر شخص ( حمزة ) ليوظف قوته البدنية المشهود له بها ، في الدفاع عن كلمة العدل والحق ، ودعم حرية الكلام والتعبير .
( كيف نقاتل رجلاً لا ندرك سر قوته ) هذا ما قاله أبو سفيان حين قاس بعين رؤيته المادية إمكانات محمد التي تفتقر الى المال والسلاح والرجال الأشداء ، فالذين يتبعون الدين الجديد هم من العبيد والفقراء ، ومع كل صنوف التعذيب والتنكيل والقتل والقمع كانوا يصمدون ويزدادون . لا يفرطون بالكلمة التي خاطبهم بها نبيهم بوحي الله ، حتى عندما حمل روع المشهد الأليم ( عمار) الى ذكر ( هبل ) بخير ، كانت كلمة النبي الخاتم أكبر من مجرد تهدأة للنفس وتطييب للخاطر ومواساة على الفاجعة . لقد كانت تكريماً ووعداً إلهياً بأعلى مرتبة في الجنة .
“ محمد إنسان ، ونحن لا نركع إلا لله “ . هكذا وجد جعفر بن أبي طالب طريقه الجديد في الحياة ، فوظف رؤيته الجديدة في حضرة ملك الحبشة حين أمر بالسلاسل لتقييده ومن جاء معه من مكة . فأنبرى مخاطباً الملك بثنائية الدين والعدالة ، حين قال له ان نبينا ارسلنا اليك لأنك ملك عادل ، ولأنك من أهل الكتاب .
وجد الملك في قول جعفر ما يحمله على الإصغاء اليه ، فوجد كلامه مقنعاً ملزماً له ، فمنحهم حق اللجوء والإقامة في المدينة . هكذا مثلت الكلمة شرارة الثورة العظيمة التي زلزلت المجتمع في ذلك الوقت . وكأي تغيير لم تخل أحداث تلك المرحلة من وقوع ضحايا وخسائر بالأرواح والممتلكات . فكان الصبر رافد النبي في دعوته التي كلفته وفاة زوجته وعمه في عام الأحزان ، وكلف أتباعه إغترابهم عن عوائلهم وفقدانهم أموالهم وأعمالهم . لكن تنمية الذات والعمل من أجل لحظة وعي ذاتي في كل شخص كان مشروعاً إستحق كل ذلك العطاء وكل تلك القرابين التي أفصح عنها قوله صلى الله عليه واله ( ما أوذي نبي مثلما اوذيت ) . وبينما كانت الحروب الأهلية متوقعة في تلك الظروف وكان متوقعاً توسعها كلما اتسعت دائرة الدعوة الى الدين الجديد ، كان الإسلام يرى نواة دولة انسانية جديدة في طريق انشطارها محدثة بركاناً وجدانياً ، إيمانياً ، إنسانياً ، أدهش سادة مكة لما اقتحم رجالهم بيت النبي ليلاً ، فإذا بـ ( علي بن ابي طالب ) ينام مكان رسول الإنسانية ليفتديه بنفسه حين دبر العقل التسلطي القرشي مكيدة قتل النبي بيد جماعية يضيع معها دمه بين القبائل . كان الصدق رفيق خطوات الدعوة الإيمانية الجديدة في تدابيرها وهو يكفي علياً خطر الموت المحتمل على أيدي القوم وهم يتعجلون الإنتقام ، لقد كان الله معه يسمع ويرى لأنه يحب الصادقين ، هذا هو سرّ قوة الدين الجديد التي حيرت أبا سفيان ومن معه .
كانت الدفوف التي استقبل بها المسلمون نبيهم في المدينة إيذاناً بدخول المجتمع لأول مرّة مرحلة التصويت الحر لحكومة جديدة دستورها الكتاب المبين ، يتحركون بهديه الى ما يرتقي بهم ويحفظ لهم كرامتهم وامنهم وحريتهم وحقهم في العيش في مجتمع عادل ، هو اليوم وبعد أكثر من الف عام ينادي بكتاب الله دستوراً . لكن الكتاب لم يعد كائناً حياً حين اكتفت أنظمة الحكم المعاصرة بوجوده للتبرك والعمل به في حدود لا تشمل كل مفاصل حياة الناس اليومية ، الأمر الذي دفع بالناس في ظل ظروف الدولة الجديدة الى هجر القرآن ، ثم العزوف عن القراءة ، ثم دخل فارق التطور الكبير بين المجتمع العربي والمجتمع الغربي أو الأوربي على خط جذب الناس الى الكلمة العلمية ، المادية البحتة الخالية أحياناً من الروح التي حركت مجتمع الأمس قبل أكثر من الف عام . شيئاً فشيئاً تحولت آلهة الأمس الحجرية الى آلهة بشرية في زمن الرياء والنفاق والمصالح المادية والصراعات والنزاعات التي كادت تفتك بالبلاد وترجع بها الى زمن السبي والظلم والظلام ، ليس باسم اللات وهبل ، ولكن باسم الله هذه المرة . انه الإستغراق في المادة بعيداً عن الروح ، الامر الذي من شأنه ان يقود المجتمع المعاصر الى جاهلية وثنية بشرية بتقينة رقمية وبأدوات معاصرة غير التي كان يستخدمها مجتمع الأمس . ان تفعيل المشروع المحمدي الإنساني يقتضي منا اليوم ان نتفاعل مع الكتاب ككائن حي ، لا مجرد كلمات في صفحات كتاب على رفوف مكتبة لا نقصدها إلا في أوقات معدودة ولحاجات محدودة بسبب عزوف كثير من الناس عن القراءة ، حتى ممن يتخرجون من الجامعات . الذين إذا قرأوا فإنهم لا يقرأون إلا كتباً في مجالات تخصصاتهم التطبيقية فقط . أما عوام الناس فقد استسلموا لروتين الحياة وتعقيداتها وانغمسوا في طلب العيش فأقصروا وجودهم على تأمين احتياجاتهم من مأكل وملبس ومسكن وتكاثر .
الثقافة المحلية وعصر التقنية ..
يرى بعض المثقفين المعجبين والمتأثرين بعصر التقنية والثقافات الغربية ، ان ثقافاتهم المحلية ليس بمقدورها مواكبة المشاريع الثقافية العالمية التي تمولها مشاريع الإقتصاد الصناعي والسياسي للدول الكبرى في العالم عبر شركات عابرة للقوميات ، وعبر مواقع التواصل الإجتماعي ، من خلال محركات البحث الالكتروني . لذا وجدوا في المرونة حاجة ضرورية تفرضها ظروف مرحلية محلية واقليمية وعالمية متعلقة بمستقبل الحياة على الارض وبمصير الإنسانية ، لذلك دعا نفر من المثقفين الى تكوين عقل ثقافي محلي بمواصفات عالمية عابرة للخصوصية ، وفي بعض الأحيان عابرة للقيم والمبادىء والمثل العليا للمجتمع .
لقد منحت أدوات التقنية للمثقف العربي الواناً من الحرية كان ولا يزال يفتقر إليها في مجتمعه ، فقد صار بمقدوره إنتاج ثقافته الخاصة بعد أن كان إنتاجها جماعياً .
الفردية الثقافية ..
اختلف المثقفون حول الفردية الثقافية ،. منهم من يراها تهدد وحدة المجتمع ، خصوصاً عندما تكون متأثرة بالتغريب الثقافي . ومنهم من يراها تعزز مركزية الذات ، وتزيد في حرية التعبير ، وحرية الإبداع التي يحتاجها العقل العربي المقيد بالمصادر والآراء القديمة والموروث الثقافي عموماً .
لا يرى بعض المثقفين ، في التغريب الثقافي خطراً على حاضر بلدانهم العربية بموروثها الثقافي في ظل النظام العالمي الجديد الذي لا معنى فيه لحياة أي مجتمع بعيداً عن التأثر بثقافات المجتمعات الأخرى حول العالم والتأثير فيها . بينما يعتقد المثقف المحافظ ان الأمر يحتمل كل الخطورة ما دامت معادلة الأقوى في أجندات النظام العالمي لم تغادر بعدها المادي عددياً وعسكرياً وإقتصادياً فهي المعادلة التي لا تزال غالبة على طبيعة المشهد العالمي في كل المجالات تقريباً ، وان الدول الكبرى التي استعمرت بلداننا في السابق ، هي نفسها من يقود العالم اليوم بعد أن أجرت تحديثاً على بعض المفاهيم كالإستعمار والإحتلال . فصار الحديث عن الغزو الثقافي ، وعن إحتلال العقول ، والهيمنة الرقمية العالمية ، والتغريب الثقافي وأمركة العالم وثقافة القطب الواحد .
المثقف والتطور ..
لا تزال لكلمة “ تطور “ جاذبيتها الشديدة التي تشد اليها كل باحث عن واقع أفضل وحال أحسن وحياة أجمل .
بإسم التطور خرجنا من عباءة الماضي وانفتحنا على العالم. وبإسم التطور وسّعنا علاقاتنا التجارية والثقافية والدبلوماسية مع بلدان العالم . وبإسم التطور خرجنا الى صناديق الإقتراع نحمل السلام بدل السلاح بحثاً عن ممثلين صادقين عنا في السلطة . وبإسم التطور ارتضينا الاختراق الالكتروني لخصوصياتنا عندما وفرت لنا بعض شركات الإنتاج الرقمي امكانية الكسب المالي بالترويج لصفحاتنا الشخصية بمنشوراتها ومعروضاتها ومن بينها شؤوننا الشخصية وحياتنا العائلية.
يُعتقد ان المساحة الكبيرة للحرية التي وفرتها التقنية الرقمية المتطورة في مجال النشر وإبداء الرأي ، تعدّ من إيجابيات عصر التقنية . لكنهم قد لا يعلمون ان القائمين على مشاريع التطور التقني يستثمرون في الثقافة لصالح اجنداتهم الخاصة ، فهم يوفرون للكاتب والمفكر سبل التواصل ونشر المقالات والكتب والأراء ويقدمون له عروضاً للشهرة ، وفي الوقت نفسه ، يستخدمون ظهوره الإعلامي وصوره الشخصية ومقاطع الفديو التي يتحدث فيها ، كسلاح خطير يوجهونه اليه متى ما اراد ان يواجه بأخلاق ثقافته ووعي حريته ومبادىء مهنته ، عروضاً وأفكاراً ومخططات يتم الترويج لها هنا وهناك ، يراها تهدد أو تضرب البنية التحتية لمنظومة القيم والأخلاق والدين والإنسانية . فيعمدون عبر تقنيات برمجية متطورة الى إنتاج مقاطع فديو يظهر فيها ذلك المثقف وهو يتحدث بالضد من طروحاته ومنهجيته العلمية والأخلاقية والدينية ، وقد يظهرونه في أوضاع مخلة بالأدب أو يجرون على لسانه آراء تضر بالسلامة الفكرية أو تطعن في الدين والقيم والموروث الأخلاقي .
الثقافة وعصر التقنية ..
عصر التقنية المتطورة ، بما يوفره من حق شخصي في إمتلاك أجهزة الموبايل والحاسوب والإنترنت . وبما يوفره من حرية وسهولة في إستخدام وسائل التواصل الإجتماعي ، والمواقع الألكترونية. يوفر في رأي بعض المثقفين فرصة ركوب أمواج ثقافات الدول المتطورة بما يحقق أو يدفع بإتجاه اللحاق بركب العالم ثقافياً وإجتماعياً وإقتصادياً ، من خلال التدفق الهائل للبيانات والمعلومات وسرعة الحصول عليها ودقة نتائج البحث الألكتروني التي يراها بعض المثقفين تغني رصيدهم الثقافي وتجربتهم الإبداعية .
منذ بدايات القرن الواحد والعشرين ، كثر في العالم العربي حملة الشهادات العليا وحملة الألقاب الرسمية و الإجتماعية ، وهيمنت الثقافة الشعبية على مشاهد الحياة اليومية للناس قياساً بثقافة النخبة. ربما لقلة العطاء الفكري والثقافي للنخب الثقافية ، وربما لغزارته في الجانب النظري البعيد عن واقع حال المجتمع الذي يُراد ان يتأثر بفكر المثقفين بما يدفعه الى تغيير واقعه الى ما ينبغي ان يكون عليه . وربما لافتقاره الى علاقة تواصل مؤثرة بالمتلقي ، تجعل من ذلك العطاء الفكري العملي موضع تفاعل الناس ، فقد نجد كثيراً من البحوث الأكاديمية المهمة التي تصب في معالجة الواقع ، لكنها حبيسة رفوف المكتبات ومكاتب المسؤولين الذين لا يجدون في تنفيذها ما يخدم توجهاتهم في إدارة البلاد .
التثقيف الافتراضي ..
كما أتاح العالم الافتراضي إمكانية تأسيس أكاديميات افتراضية ومراكز أبحاث وكليات ومعاهد للدراسة عن بعد ، وسّعت مساحة اللقاء الثقافي والمعرفي وأعطت للكتاب الألكتروني حضوراً أثّر في حركة الكتاب الورقي فقلّ الإقبال عليه أمام وفرة المكتبات الألكترونية المجانية التي تعرض عنوانات متنوعة وكثيرة يمكن قراءتها عبر الشاشة أو نقل نسخة منها إلى الحاسوب الشخصي ، فضلاً عن مكتبات بيع الكتب الكترونياً بأسعار هي الأقل مقارنة بكلفة شرائها مطبوعة بصيغة كتاب ورقي .
انشطة ثقافية الكترونية ..
التغطية المستمرة والبث المتواصل للإنترنت على مدار الساعة حفز كثيرين على الظهور في مواقع التواصل الإجتماعي وغرف الدردشة والملتقيات والصالونات والمجموعات الثقافية والإخبارية والتجارية . ثم جاء وباء كورونا ليدعم هذا الحافز ويوسعه ، فلم يتوقف النشاط الثقافي والتواصل الإجتماعي بسبب العزلة التي فرضتها شروط السلامة من الوباء ، فقد ظهرت منتديات ومجالس ثقافية الكترونية تلقى فيها المحاضرات بالصوت والصورة الحية تارة ، والمسجلة تارة أخرى ، وكان لرابطة مجالس بغداد الثقافية دور مميز في تحريك الوسط الثقافي في أجواء الحظر حيث التنسيق بين الأعضاء عبر المجموعة الالكترونية للرابطة وتحديد وقت ويوم لشخصية ثقافية تختارها الإدارة لتلقي محاضرة يختارها المحاضر ويرسلها على شكل بصمات صوتية الى المجموعة ، تعقبها مداخلات واسئلة . تمخض عن هذا الدور ، كتاب “ ثقافتنا في زمن الكورونا “ الذي جمع فيه رئيس الرابطة الاستاذ صادق الربيعي كل المحاضرات الثقافية التي القيت افتراضياً وطبع على شكل كتاب ورقي ضخم .
عمد بعض القائمين على الأنشطة الثقافية الإلكترونية الى تقديم ” شهادة مشاركة ” باسم كل من يسجل حضوره الالكتروني في المنصة التي تلقى من عليها المحاضرة الثقافية . فضلاً عن ” شهادة شكر ” و” درع الإبداع والتميز ” .
بعض الآراء ثمنت تلك المبادرات وعدتها تشجيعية ومحفزة ، وبعضها رأت فيها أنشطة قائمة على أساس مشترك بين المظهر الإجتماعي والجوهر الثقافي ، فتقديم شهادة مشاركة لمجرد دخول الشخص وتسجيله في المنصة يحفز كثيرين على تلك الخطوة من أجل الحصول على تلك الشهادة التي ترسل اليه الكترونياً فيقوم المشترك بنشرها على حسابه الخاص كي يحصل على الإجايات وكلمات الثناء على نشاطه الثقافي هذا .
الثقافة والتزييف العميق ..
هكذا نصبح أمام تعريفات جديدة للحرية والأخلاق والثقافة في عصر التقنية . تعريفات تسمح لكل من يلتزم بثقافة المشاريع الإستثمارية العالمية أن يصبح شخصية إجتماعية ، أو شخصية مؤثرة ، أو شخصية عالمية , ما دام يتمدد بتفكيره ضمن حدود المنتج العالمي لمفهوم الحرية التقنية الرقمية المؤرشفة والمؤدلجة . ، من ذلك ما نسمعه ونشاهده هنا وهناك من ظهور اشخاص بلا محتوى ثقافي رصين وهم يملأون الشاشات ويشغلون اوقات البث ، يحتفى بهم في محافل ثقافية تم الإعداد لها في إطار سياسي اقتصادي . وقتذاك سيشعر المثقف الحقيقي ان الثقافة من حيث هي رسالة وعي إنساني أخلاقي إيجابي ، تشكل عبئاً يثقل كاهله حد كسر الظهر ان هو أصرّ على حملها في عصر الشاشات الملونة والنفوس الملوثة .
أدرك أصحاب الوعي هذا الخطر المحدق بمستقبل الثقافة الإنسانية . كما أدركوا ان الأعمال العظيمة التي خدمت الانسانية عبر التاريخ لن تكون بعيدة عن متناول يد مشاريع الإستثمار وبرامج التقنية المتطورة والذكاء الإصطناعي غداً ، فبعد ان يمر وقت على ظهور جيل أو جيلين من الشباب الذين لا يعرفون غير الإنترنت مصدراً لمعلوماتهم ومعارفهم وثقافاتهم ، ستأخذ مخططات ومشاريع الثقافة العالمية من تلك الأعمال العظيمة واولئك الأبطال والمفكرين والمثقفين ما تستفيده في برامج الكترونية عالية الدقة كـ “ تقنية التزييف العميق “ مثلاً ، حيث يعاد إنتاج حديث نبوي أو رأي شرعي جاء على لسان عالم جليل القدر عظيم الأثر عند أتباعه ومريديه ومقلديه . أو إعادة صياغة حكمة أو وجهة نظر لفيلسوف أو مفكر أو كاتب مشهود له بالكتابة الجادة والأمانة العلمية وبقوة الشخصية وسلامتها . أو إعادة كتابة حدث أو مجموعة من أحداث التاريخ . بحيث تقدم هذه الأعمال والأقوال والأحداث الى الأجيال الشابة المثقفة الكترونياً بعد أن يضاف اليها او يحذف منها أو يغير كامل محتواها بما يتوافق مع ما تقتضيه أجندات أصحاب المشاريع العابرة للقيم والإنسانية . فيتوهم اولئك الشباب انهم على إتصال بتاريخهم ، فيبنون على هذا الإتصال الموهوم ثقافاتهم الجديدة .
غالباً ما تأتي مشاريع تزييف الحقائق من أجل صناعة قوالب جديدة للثقافة ينتج عنها جيل مثقف مستهلك لا يسمح لابداعه أن يتجاوز المدة المحددة لصلاحية الثقافة الإستهلاكية ، واذا حصل وأراد ان ينتج ثقافته الخاصة فإن السوق العالمية ستحذر المستهليكن منها كونها غير صالحة وغير آمنة ، ولن يكون بوسع المستهلكين سوى تقبل تلك الإدعاءات لأنهم سيكونون في وضع لا يسمح لهم بالتمييز بين المزيف والحقيقي من المنتجات والأفكار والثقافات ومصادر التاريخ .
بين الإغتراب والتغريب ..
برغم أعداد الإصدارات التي تعلن عنها دور النشر ومعارض الكتب ، لا تزال الثقافة في غربة عن واقع وطبيعة وطريقة حياة الناس . إما لمهنية وحرفية وتجارية طابع كثير من تلك المطبوعات او لإفتقارها الى لغة مرنة مشتركة بين الكاتب والقارىء . بعض الكتاب يستخدمون تعبيرات غامضة بهدف التشويق أو بهدف تكوين إنطباع أولي لدى القارىء عن علو كعب الكاتب ، فكلما احتاج القارىء الى وقت أطول لفهم مقصد الكاتب دلّ ذلك – كما يتوهم بعضهم – على المهارة والعمق الثقافي والبعد الفكري للكاتب .
في كتابه “ قضايا الفكر في الأدب المعاصر “ المطبوع سنة 1959م يقول : وديع فلسطين” في صفحة 128 ( وعليه فقد ازدحمت السوق بأطنان من الكتب وناءت الذاكرة بحفظ أسماء الكتاب الجدد . ولكن اذا استصفينا حصيلة كل هذا النتاج لم ننته إلا الى قليل من الدسم في محيط من الغثاثة والفجاجة وهوان التفكير…
وقد أحسن الباحث والمحق المصري محمد عبد المنعم خفاجي تصوير هذه الحال فقال : ان القرّاء يقعون فريسة لذوي المواهب الضيئلة والأهواء الصغيرة من محترفي الأدب .. مما أدى الى ظهور الآلاف من الكتب والقصص التافهة التي تؤثر في عقول الشباب ونفوسهم تأثيراً ضاراً سيئاً ذا اثر محزن في حاضرنا الفكري والثقافي ، وتؤدي الى انحطاط مستوى الروح الادبي والعلمي في اوساطنا المثقفة..)
على مواقع التواصل الإجتماعي وبدافع حرية التعبير وحرية انشاء صفحة شخصية ، ينشر بعضهم ما يسمونه قصيدة أو مقالة قصيرة أو خاطرة ، لا يكاد يفهم منها شيئاً . الغريب في الأمر إن اصدقاء الناشر يثنون عليه بـ “ احسنت النشر “ ، “ شكراً لحرفك الجميل “ ، “ روعة “ فتوهم بعضهم انه على خير حين غاب النقد الحقيقي وحلت محله المجاملات الإجتماعية في كثير من الأحيان .
تقارير ثقافية ..
حسب تقرير التنمية البشرية لعام 2003 الصادر عن اليونسكو ان كل 80 شخصاً عربياً يقرأون كتاباً واحداً في السنة ، بينما يقرأ المواطن الاوربي الواحد حوالي 35 كتاباً في السنة .
وفي تقرير التنمية الثقافية للعام 2011 الصادر عن مؤسسة الفكر العربي ان المواطن العربي يقرأ بمعدل 6 دقائق سنوياً ، بينما يقرأ المواطن الاوربي بمعدل 200 ساعة سنوياً
وبحسب تقرير اليونسكو فإن الدول العربية انتجت عام 1991 6500 كتاباً بالمقارنة مع امريكا الشمالية التي انتجت 102 الف كتاب و 42 الف كتاب في امريكا اللاتينية والكاريبي .
وحسب تقرير التنمية الثقافية فإن الكتب الثقافية العامة التي تنشر سنوياً في العالم العربي لا تزيد عن 5000 عنواناً وفي امريكا يصدر سنوياً حوالي 300 الف عنوان .
قد تساعد هذه الأرقام في الكشف عن الفارق الثقافي بين الشرق والغرب ، فعدد النسخ المطبوعة من الكتاب الواحد في الشرق لا تزيد عن خمسة الاف نسخة ، بينما يصل الى خمسين الف نسخة للكتاب الواحد في الغرب .
الكتاب الورقي وتقنية الطباعة ..
بعد ان وفرّت التقنية المتطورة أجهزة طباعة تتيح للكاتب والمؤلف طبع عدد محدود من كتابه بما يتلائم ومقدرته المالية من جهة ، وحركة الإقبال على الكتاب الورقي من جهة اخرى . وجد بعض الكتاب ذلك محفزاً لمضاعفة جهودهم وتقديم اكبر عدد ممكن من المؤلفات ، التي عدّها بعضهم مؤشراً على غزارة ثقافة الكاتب ، بينما كانت موضع إنتقاد آخرين ، خصوصاً عندما تحمل تلك الكتب عناوين ومضامين لا تخدم الواقع ولا تتحرك به في طريق النهضة ، ولعل بعضها يفتقر الى أبسط مقومات النص السليم ، الأمر الذي حمل بعض المعنيين على وصف هذه المرحلة بالمظلمة ثقافياً أو الفقيرة ثقافياً ، لا من حيث الإمكانات المادية والتقنية وكثرة المطبوعات . بل من حيث قلة عدد القرّاء وكثرة عدد الفقراء في مجتمع ما بعد التغيير السياسي والإقتصادي والأمني في العالم العربي ، والسماحية العالية التي توفرها شبكة الإنترنت للراغبين بكتابة بحث أو رسالة أو تأليف كتاب دون بذل جهد فكري أو حتى جهد عضلي . فقد أعدّت بعض شركات الإنتاج الألكتروني برامج وتطبيقات تتيح للمستخدم إعداد رسالة جامعية أو بحث أكاديمي أو تأليف كتاب في مجال من مجالات المعرفة والعلوم الإنسانية ، منها تطبيق chatGpt الذي يقدم خدمات متقدمة في مجال تأليف الكتب . يكفي أن يكتب المستخدم عنواناً لكتابه المرتقب فيتولى التطبيق تنفيذ المهمة ويتيح التطبيق للمستخدم تحديد عدد فصول الكتاب وفقراته وقصر وطول المادة المكتوبة وعدد صفحات الكتاب ويتولى موقع آخر تصميم غلاف مناسب للكتاب . بالنتيجة يصبح بمقدور المستخدم أن ينجز عشرات الكتب سنوياً ما بين طبعها ورقياً وبين الإقتصار على نشرها الكترونياً والترويج لها بواسطة إعلانات الكترونية ممولة .
هكذا تجعلنا بدايات القرن الواحد والعشرين على موعد مع عدد كبير من الأسماء التي تبحث لنفسها عن مكان في عالم الثقافة بحكم غزارة إنتاجها من مؤلفات ومقالات لم تكتب فيها شيئاً ، ولم تبذل فيها جهداً فكرياً .
في مستقبل عصر التقنية المتطورة سيكثر الكتاب والمؤلفون ، وسيقل الثوّار والمبدعون . وستصبح الثقافة لوناً الكترونياً رقمياً يسهم في ترقيع لوحة الحياة التي ترسمها مشاريع الذكاء الإصطناعي .
الكتاب والتسويق ..
تواجهنا في الحديث عن الدور المهم لدور النشر في حركة الثقافة مشكلة التوجه التجاري للعاملين في كثير من المطابع لأنه يحملهم دائما على طبع الكتب التجارية التي تستهلك وقت القارىء وقد يندم على ذلك الوقت الذي امضاه في قراءة هذه الكتب كما قال وديع فلسطين في حديثه عن المشكلة قبل اكثر من خمسين عاما في كتابه ( قضايا في الفكر) . تجذب الكتب التجارية الشباب اليها لأنها تخاطب رغباتهم في النجاح والثراء والتميز والحب بلغة مباشرة مقتصرة على لون محدد من الوان تلك الرغبات . لعلنا نستطيع معالجة هذه المشكلة بدخول المثقف على خط العمل في مشاريع الطباعة حيث تمتزج في شخصية المثقف ثنائية النشاط الثقافي والتجاري معاً مما ينتج عنه مطبوعات هادفة اكثر من تلك التي ينحصر انتاجها في الربح المالي فقط .
كثير من القراء الشباب يفضلون قراءة الكتب الأجنبية المترجمة الى العربية . ويستشهد كثير من الكتاب والباحثين العرب في كتاباتهم وابحاثهم ومحاضراتهم بكتّاب وباحثين وعلماء أجانب أكثر من العرب في مجال البحث نفسه .
لا يزال الكاتب والباحث العربي عموماً والعراقي بشكل خاص يؤدي كل الأدوار بنفسه في رحلة تأليفه الكتاب ، إذ لا يزال الجو الثقافي جواً مقصوراً على صاحبه لا يكاد يجد من يشاركه فيه حتى من افراد عائلته ومقربيه ، إلا من أوتي حظاً منهم ، لذا نتوجع كلما رحل كاتب وعالم الى العالم الآخر وقام ابناؤه ببيع مكتبته أو إهدائها الى جهة ما ، ثم تطور الألم مؤخراً وصار الكاتب يتبرع بمكتبته في أواخر حياته الى مكتبة عامة أو جهة ثقافية معينة ، وهو لا شك مؤشر مؤلم على إبتعاد نفوس وعقول المقربين من الكاتب والعالم والمفكر عن روح الثقافة . لأن الكاتب لم يوفق في نقل تلك الروح الى أحدهم ، فكان إقدامه شخصياً على إهداء مكتبته ، إجراء يشعر معه انه يتجاوز الألم الذي ينتابه وهو يرى مكتبة صديق له قد بيعت أو تخلص منها ابناؤه بأي طريقة بعد مفارقته الحياة . وأضيفت الى دراما إهداء المكتبات الخاصة بعض التلحيظات التي تجمل المشهد وتطيب النفس نوعاً ما حين يعلن على العامة خبر إهداء العالم الفلاني والمفكر الفلاني والكاتب الفلاني مكتبته مع صور جميلة توثق ذلك ، وقيام الجهة المستلمة للمكتبة بوضع إسمه على المكتبة كما هو حاصل في دار الكتب والمكتبات العامة والمراكز الثقافية .
ينقل الكاتب المصري “ وديع فلسطين” في كتابه “ قضايا الفكر في الأدب المعاصر “ جانباً من رسالة كتبها الكاتب المصري مصطفى صادق الرافعي المتوفي سنة 1937م الى صديقه الأديب المصري محمود ابو ريه المتوفي سنة 1970م يقول فيها:( ان الأدب يتيم بائس لا أب له ولا نصير ورحمم الله زماناً كان يجد فيه الأب والعم والخال وابن العم ) . وسواء كان عدم توفيق الكاتب في نقل روح الثقافة الى أحد أبنائه ، سببه رؤيته المحدودة ، أو ضعف همته على التوفيق بين عالمه الثقافي وجوه الأسري الإجتماعي ، أو ان أدوات الزمان قد تغيرت وجاء تيار جارف أخذ الأولاد بعيداً عن الشاطئ الذي حط عنده الكاتب رحاله وألف أجواءه . فإن كل ذلك يؤشر عندي الى توقف تفاعل المثقف مع أدوات عصر أبنائه وإن كان يعيش إستخدامها معهم ، لكنه لم يوفق الى آلة ربط بين زمانه وزمانهم فتجد كثيراً من الأطباء والمهندسين والكفاءات المعرفية في المجتمع هم أبناء أدباء وكتاب ومفكرين ومؤلفين ، لكنهم في الأعم الأغلب ليسوا مثقفين كما هو حال آبائهم ، فهم مهنيون ، يؤمنون بالتخصص، أو هكذا وجدوا أنفسهم , وقد يبدو ذلك ملموساً في بعض المجالس الثقافية التي يحضرها أدباء وعلماء وأكاديميون تقدم بهم العمر ، كنت نادراً ما أرى أحدهم يرافقه إبنه أو إبنته ، وإن حصل فإنهم يحضرون بصفاتهم المهنية لا بصفات ثقافية ، وهو لا شك نوع من أنواع الخسارة التي نتجرعها على مضض . وبهذا الصدد يتوجب عليّ ومن باب العرفان بالجميل أن أذكر ان والدي الأديب الناقد والشاعر عدنان عبد النبي البلداوي كان يدعوني وأنا في مرحلة الدراسة المتوسطة الى الإستماع الى مقالة له قبل أن يبعث بها الى النشر ، ليس لمجرد الإستماع بل كان يغريني وانا في ذلك العمر برغبته الصادقة في معرفة رأيي فيما كتب ، وان كانت لي ملاحظات على مقالته . كان يأخذ برأيي ، ليس لكفاءتي طبعاً ، ولكن لبراعته . كانت تلك طريقة عبقرية ، اعترف بها اليوم وانا أتجاوز الخمسين عاماً من عمري وقد تحولت الى عاشق للكتاب . لقد أعدني بهذه الطريقة النفسية البديعة وشدني الى مكتبته التي احتفظ بها اليوم وقد نمت وكبرت معي ، وصارت جزءاً مني. ليس هذا وحسب بل انه شجعني على أن أدرس تخصصاً استطيع به تكوين نفسي مادياً وان لا أفارق الكتاب ، وفعلاً تخرجت في كلية الهندسة وانا أهوى الكتاب والكتابة ، وكان يقرأ كتاباتي الطفولية قراءة نقدية لم يشعرني أبداً انه كان يداعبني أو ( ياخذني على كد عقلي ) كما نقول في العراق . كان صادقاً معي في كل ملاحظة وتصويب ، وفوق كل هذا شجعني على نشر تلك الخواطر والكتابات فكانت أولى خطوات النشر لي في جريدة العراق وجريدة الراصد وانا في المرحلة الإعدادية .
في كتابه “ الأدب للشعب “ يطلب سلامة موسى من الأديب ( ان يكون له مقام المعلم المربي في المجتمع ، لا مقام المهرج ، وان تكون له رسالة كما لو كان نبياً ، وان يزيد حياة القارئ حيوية بالتعمق والفهم ، وان يوجد حوله مناخاً تستطيع الحريات ان تحيا فيه وتنمو وتنتصر … ).
الثقافة والتقنية الصناعية ..
كما إن التقنية الصناعية المتطورة قد أسهمت بشكل كبير في تسهيل إعداد وطبع ونشر الكتب ، فقد صار بمقدور الباحث والمؤلف والكاتب إصدار أعماله بكلفة مالية مقبولة مقابل أعداد محدودة من النسخ ، لكن المشكلة في عالمنا العربي لم تنته عند هذا الحل لأنها متعلقة بشكل كبير في عزوف الناس عن القراءة ، حتى عندما توفرت خدمة الكتاب الإلكتروني والنشر المجاني لملايين العنوانات في مكتبات إفتراضية تسهل عملية قراءة وتحميل الكتاب .
يدخل العامل الإقتصادي والعامل النفسي ليؤثرا بشكل فعال في عملية تفاعل الفرد العربي مع القراءة والكتاب ، فهناك ملايين المواطنين في عالمنا العربي الإسلامي يعيشون تحت خط الفقر . وصل عددهم الى عشرة ملايين شخص في العراق وحده .
يضاف الى ذلك الفوضى العامة التي ضربت البلاد في مجالات السياسة والأمن والصراعات المستمرة على السلطة ومكاسبها . هدّدت الإستقرار النفسي للفرد العربي عموماً ، والذي من شأنه أن يهبط بالمعنويات الى مستويات متدنية مخيفة ، بلغت عند بعض الشباب الى الإدمان والإنتحار والعنف . ودفعت بآخرين الى قبول ثقافة الواقع كما هو ، بلغة تفكير وتعبير عادية وصلت حد كتابة الكلمات بالكيفية التي تنطق بها ، فجاءت (لاكن) لتدل على ( لكن) و (لكي) لتعني ( لك) و (شكرن) بدلا عن ( شكرا) و ( بارك الله فيكي) بدلاً عن ( بارك الله فيكِ) ، وهكذا ..
الثقافة المرحلية ..
هكذا تسهم الأحداث المرحلية في تشكيل ثقافة مرحلية للمجتمع ، يتقبل فيها الفرد الشعر العامي على الشعر الفصيح ، و ثقافة الصورة على ثقافة النص ، وقراءة التعليقات على قراءة المحتوى ، وصارت الشهرة عند كثيرين من دلالات المعرفة والثقافة فظن كثير من المتثاقفين وهَم الإبداع الحقيقي وهم يتلقون عبارات ( متألق ، نص رائع ، يا لجمال حرفك ، انت قامة ادبية ، دام ابداعك ، …) غير منتبهين الى ان سبب ذلك هو إستفحال ظاهرة المجاملات الأدبية على جميع تفاصيل الواقع المأزوم والمثقل بكثير من المعاناة والإختناقات النفسية التي قيدت حركة النقد البناء ، خصوصاً عندما اخترقت بعض المفردات الأكترونية لغة الكتابة ، فصار إعتيادياً عند بعض المثقفين أن يضمّن حديثه ( تم بموافقة الأدمن ..) يريد بذلك المدير . ويبدأ أحدهم منشوره قائلاً : الأخوة في الكروب ) يريد بها المجموعة او التجمع.
المضامين الثقافية ..
اتسم طابع بعض الندوات والمجالس الثقافية التي تعقد هنا وهناك ، بإبتعاد موضوع المحاضرة أو الندوة عن قضايا الواقع . الأمر الذي جعل تلك المجالس تنغلق على نفسها ويقتصر حضورها على كبار السن من مثقفين واكاديمين ، فمن النادر ان تلمح وجود بعض الشباب في تلك المجالس الثقافية .
يبدو إن بعض المثقفين ، بتناولهم موضوعات لا صلة لها بالواقع يحاولون إيجاد متنفس لهم وهم يعيشون تحت ضغوطات كبيرة تسببت بها التغييرات التي طرأت على البلاد منذ بدايات القرن الواحد والعشرين ، التي لم يكن للمثقف دور حيوي فيها بعد ان خاطبت سياسة السلطة الجديدة ثقافة المجتمع الشعبية دون ثقافة النخبة ، واعتمدت كلياً على ثقافة المجتمع الشعبية بينما جاملت ثقافة النخبة . ذلك لأن ثقافة كثير من المتصدين للشأن السياسي ليست بالعمق الكافي الذي يجعل من الثقافة عندهم مشروع دولة ، وقد كشفت كثير من تصريحات وحوارات ولقاءات وخطب ومواقف السياسيين عن حدة الفقر الثقافي الذي هم عليه ، كما ان هناك سبباً آخر وهو إن الثقافة لم تزل مقتصرة على النخبة ، الأمر الذي جعل من الثقافة قضية خاصة أو لوناً أو مظهراً إجتماعياً يتسم به نفر من الناس ، فثقافة المجتمع شعبية بسيطة طبيعية غير متكلفة وهي تشكل نسبة كبيرة في البلاد ، بينما تصل ثقافة النخبة عند بعضهم الى درجات عالية من الدقة والتنظيم والتعقيد والنقد والجرأة وهو ما يعلل عزوف كثير من السياسيين عن مخاطبة النخب الثقافية ، بينما يتفننون في التقرب الى طبقات المجتمع الأخرى .
في نقد ثقافة الدولة ..
الثقافة الإنسانية هي الثقافة التي يعوّل عليها الحفاظ على بنية المجتمع ، ذلك لقدرتها على حفظ القيم والمثل العليا والأخلاق بما يتوافق وطبيعة حياة المجتمع . فالانسان هو الكائن الحي الوحيد الذي لديه القدرة على إعطاء معنى لكل شيء ، وهو الوحيد القادر بثقافته الخاصة على أن يعطي فهماً لذلك المعنى .
إيماناً من أفلاطون بسيادة العقل فقد أعلى من شأن الفلاسفة والمفكرين في جمهوريته ، في حين حرص كثير من الحكام على مر التاريخ على إبقاء الجهل والفقر في المجتمع ضماناً لإخضاع الناس الى طاعتهم . فعندما تغيرت الأحوال بدخول الناس عصر التطور التقني وعصر البيانات والمعلومات ، تغيرت أدوات السلطة الحاكمة وبقي الهدف ذاته .
فقد إستبدل الفقر والجهل ، بالإستهلاك والثقافة المعلبة ، في جو من الفوضى والسرعة بدعوى اننا نعيش عصر التطور العلمي الهائل وعلينا أن نركض لكي نلحق بركب العالم المتطور . إذ لم يعد الفقر متوافقاً مع التطور الصناعي الذي يحتاج الى سوق ومستهلكين ضماناً لإستمراريته ، لذا جاءت مشاريع التمويل والقروض والتسهيلات المصرفية وزيادة مرتبات الموظفين . الإجراء الذي فهمه بعضهم على انه إنتعاش إقتصادي ومنجز حكومي . هو وان كان كذلك ، إلا انه ليس منجزاً خالصاً لمعنى الإنتعاش الإقتصادي وخدمة المجتمع لأهداف انسانية ، بل يراد به تهيئة وإعداد مجتمع كثير الإستهلاك ، يقضي كل وقته في العمل والتسوق ، حتى بدت قدرة الفرد على التسوق ومتابعة أحدث منتجات شركات الإنتاج وبضائع الأسواق مؤشراً على تحضره .
إننا نعيش عصر أمركة العالم ، وهو عصر لا يشغل السلطة فيه امر أكثر من جمع الأموال ، لذا تجد الكاميرات الذكية في الشوارع لرصد مخالفات الناس ، ولا تجدها داخل مؤسسات الدولة لرصد مخالفات الموظفين والمسؤولين ، فكثر الحديث عن الرشوة والفساد المالي والتزوير والإبتزاز وإغتصاب الحقوق داخل دوائر الدولة ، وكثر الحديث عن المعاناة والأمراض النفسية والملل وضنك العيش في أوساط المجتمع .
لم يعد الجهل متناسباً مع التدفق الهائل للبيانات والمعلومات ، ومساحة التواصل والإتصالات العابرة للحدود الجغرافية والقوميات واللغات ، فكانت الفردانية والحرية الشخصية في ظل ثنائية الفوضى والتسارع هي ثقافة المرحلة الجديدة ، وهناك مشروع ثقافة عالمية ينتجها النظام العالمي بالقوى الكبرى المتنفذة فيه ، يراد تمريره على جميع الناس من خلال حاجتهم المستمرة والمتواصلة الى إستخدام شبكة الإنترنت بما توفره هذه الشبكة من قوى جذب مغرية تشدّ المستخدم اليها وتجعله متسمراً أمام الشاشة ساعات قد لا يسعها عمر الليل عند بعض الشباب فتأكل من بعض ساعات نهارهم . فكلما وفرت الحكومة خدمة إتصالات متميزة ومحكمة ، كلما ضمنت مساحات أكبر وفرصاً اكثر في البقاء في السلطة . فعندما يصل الفرد الى مرحلة لا يعود فيها قادراً على إنجاز مهامه أو بعض مهامه ، بعيداً عن إتصاله بشبكة الإنترنت ، أو لعله يشعر بالفشل أو العجز عن القيام بأي نشاط بدون ذلك الإتصال ، عندها يصبح جانبه مأموناً ما دام مهموماً بدوام إتصاله بالشبكة . ينتهي الإنسان ويضيع الدين وتنهار الأخلاق في كل مجتمع فيه مسؤول فاشل ومواطن غافل .
الثقافة الرسمية ..
في مؤسسات الدولة الثقافية لا يبدو العقل الثقافي الرسمي متفقاً في كثير من خطواته مع توجهات العقل الثقافي العام المستقل عن إرتباطاته الرسمية فيما يخص جوهر الثقافة ومشروع تمكين المجتمع ثقافياً . إذ يقتصر نشاط المؤسسة الثقافية الرسمية في كثير من الأحيان على النمط التقليدي الروتيني المتعلق بقص الأشرطة والحضور الشكلي المبرمج للمهرجانات والملتقيات والمعارض الفنية ومعرض الكتاب و .. و ..
كثيراً ما يستغرق النشاط الثقافي في مؤسسات الدولة كوزارة الثقافة وإتحاد الأدباء في البعد الإداري المصاب بعدوى روتين دوائر الدولة الأخرى . ان الفارق الوحيد الذي يبدو واضحاً بين اتحاد الأدباء كدائرة حكومية رسمية وبين أي دائرة خدمية أخرى هو ان الموظف في إتحاد الأدباء يستقبلك بعبارة “ تفضل أستاذ “ بينما يستقبلك الموظف في دائرة حكومية أخرى بعبارة “ تفضل أخي “ ويخضع المثقف كما المواطن البسيط للروتين الإداري الذي تختفي فيه كثير من ملامح أنسنة الوجود البشري ، ومما يوسف له أن تصاب ثقافة الدولة الرسمية بهذا الوباء ويصبح المثقف الحكومي ناقلاً لهذا الفيروس .
ترقين قيد مثقف ..
في بداية هذا العام 2024م قصد مبنى إتحاد الأدباء والكتاب في بغداد أحد اساتذتنا من الأدباء والنقاد الذين مضى على إنتمائهم الى الاتحاد ما لا يقل عن ثلاثين عاماً . شاءت ظروف البلاد القاهرة في سنواتها العجاف حيث فترة الإرهاب ثم مرحلة الجهاد الكفائي ، مضافاً اليها ظروف الأديب الصحية وتقدمه بالعمر ، أن تحول دون مراجعته مبنى الإتحاد لغرض تجديد عضويته ، ولما تهيأ له الوقت والظرف المناسبين تفاجأ بأحد موظفي الإتحاد وهو يخبره ان إدارة الإتحاد قد رقنت قيده ، ولكي يعيد انتسابه عليه ان يتقدم بطلب جديد .
اندهشت كثيراً وتألمت وهو يحكي لي ما دار معه في صباح ذلك اليوم في مبنى الإتحاد وسألته هل قدمت طلباً جديداً ؟ قال : لشدة امتعاضي من سوء التصرف وسماجته ، اعتذرت عن كتابة الطلب كوني لا اتمكن من الكتابة وطلبت من الموظف ان يقوم بذلك بدلاً عني ، ثم غادرت المبنى .
تحت عنوان “ ترقين قيد مثقف “ نشرت على حسابي الخاص في الفيس بوك منتقداً هذا التصرف دون ذكر اسم الأديب نزولاً عند رغبته ، فكان من بين التعليقات على الموضوع الذي انهيته مستفهماً : هل في هذا الإجراء شيء من الثقافة ؟. تعليق قال صاحبه : بل قل هل في هذا الإجراء شيء من الأدب .
لا بد لي من الإشارة الى الحس الثقافي الإنساني الذي ابداه عدد من المثقفين ممن قراوا المنشور إذ عرض بعضهم مساعدته بالتدخل شخصياً لتسوية المسألة وطلبوا مني اسم ورقم هاتف الاستاذ المرقن قيده للتواصل معه من أجل إنصافه . مقابل هذه المواقف الإنسانية الثقافية . كان موقف الموظف المثقف الرسمي الملوث بروتين الدولة الإداري ، فحين بعث أحد الأدباء بنسخة من المنشور الذي كتبته الى أحد المسؤولين في إدارة الإتحاد متسائلاً عن هذا التصرف أجابه برسالة صوتية ، بعث لي الأديب المتفضل نسخة منها قال فيها انه إجراء إعتيادي تتخذه الإدارة بسبب إنقطاع العضو الذي لا يُعلم إن كان مريضاً أو مسافراً أو ميتاً ، وهو إجراء مؤقت لا يقصد منه الإساءة الى العضو . ينتهي بمجرد إعادة تقديمه طلباً جديداً للإنتماء على وفق السياق الروتيني .
في حادثة أخرى ، قصد أحد الكتاب والمؤلفين مبنى الإتحاد لطلب الإنتساب ، فسأله الموظف عن عطائه الثقافي . أخبره الكاتب ان لديه مؤلفات في الفكر الإسلامي تجاوزت الخمسين كتاباً مطبوعاً. رد عليه الموظف : لا نريد كتباً في الفكر الإسلامي . اليس لديك رواية أو قصة أو ديوان شعر أو كتاب في الأدب . قال له الكاتب : اليس هذا اتحاد الأدباء والكتاب ! قال له الموظف : نحن نروج معاملات أصحاب الأعمال الأدبية والفنية . حصل هذا فعلاً مع احد الأصدقاء عام 2023م .
وفي لقاء مع شخصية ثقافية شغلت منصب رئيس إتحاد الأدباء والكتاب سنة 2021م ، أجرته احدى القنوات الفضائية سئل عن الإنجازات التي قدمها الإتحاد في عهده ، فكان من بين ما أجاب أن الإتحاد لم يطالب اعضاءه بدفع الإشتراك المالي كما كان متبعاً في العهد البائد.
يروي أحد الأدباء انه حين قصد مبنى الإتحاد سنة 2010م لتجديد هويته ، سأله الموظف عن تاريخ انتمائه الى الإتحاد ، فقال له سنة 1976م . نظر اليه الموظف وقال له مبتسماً : (انت واوي عتيك استاذ ) .
لا حياة بدون ثقافة ..
ماذا يريد المثقف من وزارة الثقافة ومن اتحاد الأدباء والكتاب ؟
ماذا يريد المجتمع من الثقافة والمثقف ؟
هل الثقافة التي نبحث عنها هي صفة أصحاب الشهادات والمواقع الإجتماعية والقيادية والمهن العليا أم هي ثقافة المجتمع ؟
هل ما يتم تداوله عبر وسائل التواصل الإجتماعي وأجهزة الموبايل والحواسيب والإنترنت هي ثقافة عالمية أم غزو ثقافي ؟
لا يرى كثير من المثقفين ، معنى للحياة في أي مجتمع من دون ثقافة . فهي تمثل عندهم جوهر الحياة . عادة ما يصار الى تقسيم الثقافة الى ثقافة شعبية وأخرى راقية . يختلف علماء الإجتماع على مفهوم الثقافة من حيث كونها واحدة أم هي ثقافات مختلفة ، ويرى علماء إجتماع في تقسيم الثقافة الى نوعين. نوع مرتبط بالمنجز المادي كالإختراعات والصناعة ، ونوع مرتبط بجوانب الشخصية المتعلقة بالسلوك والأخلاق والعواطف والقيم والمثل العليا.
الثقافة مفهوم أوسع مدى من إنتاجات المبدعين في مجالات الأدب والفن والمعرفة . فهي محتوى يضم قيم المجتمع وتراثه وأفكار الناس وإنتاجاتهم على إختلاف أعمالهم ومجالات معارفهم ومدياتها . ينتقل هذا المحتوى من جيل الى جيل آخر عبر الرابطة الإجتماعية التي تحكم علاقة أبناء المجتمع ببعضهم . من هنا نشأت المخاوف إزاء مفهوم الثقافة الكونية أو عولمة الثقافة ، كونه مفهوماً يحمل معنى تذويب الثقافات المحلية ودمجها في ثقافة عالمية وهو ما قد يهدد الروح الإجتماعية التي تتحكم بآلية انتقال المحتوى الثقافي لمجتمع ما أو لبلد ما من جيل الى الجيل الذي يليه ، بحيث تفقد الثقافة المحلية خصوصيتها .
الثقافة وانثروبولوجيا المجتمع ..
في كتابهما “ الثقافة عرض نقدي للمفاهيم والتعريفات” ذكر العالم في مجال الانثروبولوجيا الثقافية الامريكي الفريد كروبر Alfired Louis Krober ( 1876 – 1960) والعالم الامريكي كلايد كلاكهون Clyde Kluckhohn ( 1905 – 1960) . قدما قرابة 164 تعريفاً لمفهوم الثقافة . يرى “ كروبر” ان اول ظهور لكملة ثقافة كان في قاموس الماني عام 1793م .
يرى الانثروبولوجي الامريكي “ مالينوفسكس “ ان الثقافة : “ كل متكامل من الأدوات والسلع والأفكار والمعتقدات والأعراف لمختلف الفئات الاجتاعية”.
أما “ الانثروبولوجي “ رادكليف براون “ فيقول عن الثقافة انها ( جملة اكتساب التقاليد الثقافية ، كما انها العملية التي تنتقل بها اللغة والمعتقدات والأفكار والأذواق الجمالية والمعرفة والمهارات).
في أنشطتنا الثقافية والإجتماعية اليوم ، أعمال أدبية وعلمية وفنية رائعة ، فيها من الإبداع ما يدعو الى الفخر ، وفيها من الهمّة ما يدعو الى الزهو ، وفيها من الأصالة ما يدعو الى التباهي . لكن واقعنا المأزوم بكثير من المشاكل الإجتماعية والتذبذبات الإقتصادية والإضطرابات الأمنية والصراعات السياسية ، يدعونا الى التساؤل عن غايتنا من الثقافة. وما إذا كان اللون التقليدي للثقافة لا يزال فعالاً في مثل مرحلتنا الحرجة التي نعيشها منذ مطلع القرن الواحد والعشرين . إننا بحاجة الى ثقافة تخاطب في المتلقي العقل والنفس والقلب معاً .
إننا بحاجة الى دور جديد للثقافة من خلال علم الإنسان ( الانثروبولوجيا) . دور نقدم فيه حلولاً تنقذ مجتمعاتنا من آثار الأعراض الجانبية لمخرجات عصر التقنية المتطورة بمنتجاتها الآلية فائقة السرعة ، عالية الدقة ، التي تسبب إستخدامها الخاطىء من قبل الناس في كثرة المشاكل الإجتماعية وإرتفاع معدلات الطلاق والإنتحار والإدمان والأمراض النفسية والعنف الأسري وجرائم القتل وحالات الغش والتزوير والإبتزاز والتسقيط الإعلامي والتشهير . ان من بين أهداف الثقافة حماية الناس البسطاء ممن يعيشون فقر التعليم وفقر المعيشة وفقر الرفاهية والجهل والمرض . لأن هؤلاء البسطاء عرضة لإستثمار ظروفهم من قبل تجار الأزمات لصالح فكرة معينة قد تضر بسلامة وجودهم . أو لصالح منفعة خاصة قد تفقدهم كرامتهم وحرية وجودهم وبناء انفسهم بعيداً عن أي تدخل خارجي .
لا معنى للحديث عن الثقافة دون الحديث عن المجتمع ، فالثقافة والمجتمع يشكلان أهمية تبلغ حدَّاً يتعذر معه الفصل بينهما ، وسواء أكان المجتمع هو الأساس أم الثقافة هي الأساس كما اختلف على ذلك نفر من العلماء ، فإننا نعتقد ان المجتمع هو الأساس وان الثقافة ضرورة حتمية لهذا الأساس لكي يستمر . ذهب مايكل كارذرس في كتابه ( لماذا ينفرد الانسان بالثقافة ؟) الصادر عام 1992م الى ان المجتمع أو العلاقات الإجتماعية هي الأساس وليست الثقافة .
يرى “ هوجين “ ان المجتمع يعني العلاقات التي تربط ابناءه ، وان الثقافة هي سلوك اولئك الأفراد ، لذا فهو يرى ان الثقافة والمجتمع وجهان لشيء واحد.
إن تمكين المجتمع ثقافياً هو اليوم حاجة ملحة تفرضها التشوهات التي اخذت تنعطف بالمفاهيم العامة باتجاه التطرف والتحوير حين دخلت الأخلاق ودخل الفكر سوق العرض والطلب وحلّت لغة الجسم مكان لغة العقل ، ولحنت ألسنة المتكلمين بالعربية وصاروا الى اللهجة العامية أقرب من الفصحى في التعبير عن مواقفهم وعواطفهم ، واحتلت العامية مساحة كبيرة على لسان كثير من المثقفين في المحاضرات والندوات والمؤتمرات والمهرجانات الثقافية . ودخلت مشاكل البيئة والمناخ على خط الأزمات التي تكاد تعصف بالناس في مختلف أنحاء العالم بسبب إرتفاع معدلات البطالة ونسب التصحر والجفاف وإزدياد أعداد الفقراء حول العالم ، خصوصاً في عالمنا العربي والإسلامي . يقول الأمريكي كارلتون كون carlton coon وهو أحد علماء الإنسان ( فموضوع دراسة الثقافة هام وهو اليوم أهم من الدراسة الذرية أو الآداب ، او الأعمال المصرفية العالية . إن في دراسة الثقافة مفتاح كرامة النوع الإنساني ومساواته في المستقبل كما انها قد تهدينا الى سبيل الخروج من الحيرة التي اوقعنا فيها عصرنا ، عصر التقدم الآلي الفائق السرعة ..)
يقول إليوت ( اول ما اعنيه بالثقافة هو ما يعنيه الانثروبولوجيين : طريقة حياة شعب معين ، يعيش معاً في مكان واحد وهذه الثقافة تظهر في تنوعهم وفي نظامهم الإجتماعي وفي عاداتهم واعرافهم وفي دينهم ) .
في كتابه ( الثقافة البدائية ) الصادر سنة 1871م يقول إدوارد تايلور ( الثقافة هي ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والعقائد والفن والاخلاق والقانون وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الانسان بوصفه عضواً في المجتمع ).
واقع حال كثير من انشطة المثقفين اليوم تشير الى انهم اقرب الى الذاتية منهم الى الموضوعية في عطاءاتهم الثقافية واذا ما اخذنا بأن الموضعية هي عقلنة الواقع في حدود الإمكانات المتاحة من أجل الحفاظ على البناء الإجتماعي من التداعي لمنع المجتمع من الإستسلام للظروف المعاكسة التي تمر به وتدفع بابنائه الى قبول واقع جديد مختلف عن طبيعة وطريقة حياتهم ، فإننا نتساءل عن حدود الموضوعية الثقافية التي على المثقف في القرن الواحد والعشرين التمتع بها ؟ .
قد لا يسعنا القول إن بمقدور المثقف أن يكون موضوعياً أكثر منه ذاتياً ، لكننا نستطيع أن نقول إن بمقدور المثقف أن يوظف ذاتيته في خدمة الموضوعية الثقافية .
يقول سلامة موسى في كتابه “ مقالات ممنوعة “ ص17 ( الواقعية هي المعالجة الموضوعية التي تتفق وواقع الحال ، وليست المعالجة الذاتية التي تعتمد على الاغراض الشخصية . ولا يستطيع أحد منا أن يفصل الفصل التام بين ذاتيته الشخصية وما تحمل من أهواء وأغراض وبين واقع الحال في الأشياء والناس والمجتمع والفن .).
تتحرك المجاملات الإجتماعية في واقعنا الثقافي اليوم بنشاط أخذ يطغى على القيمة الحقيقية للمنجز الثقافي وللأثر الذي يمكن ان يحدثه في الواقع .
فصل الثقافة عن جسم الدولة السياسي ..
منذ بدايات القرن الواحد والعشرين والعالم من حولنا يعيش تغييراً يراه بعضهم طبيعياً بحكم المنجزات العلمية والتطور الكبير في مجال الصناعة والتقنية الرقمية ومشاريع الذكاء الإصطناعي والحوسبة والروبوت . ويراه البعض الآخر تغييراً مقلقاً بسبب سلوكيات غريبة وخطيرة أخذت تظهر في ظل هذه التغييرات مدعومة بالدعوات والصيحات المتعالية المنادية بحرية المواقف والعواطف مع ما تقدمه التكنلوجيا المتطورة من أدوات تخدم الكشف عن هذه الحريات . مع الأخذ بنظر الإعتبار التوجه العالمي لدعم تلك السلوكيات الشاذة والثقافات الغريبة بدعوى الحريات الشخصية . ثم محاولات توفير حماية لتلك الحريات حول العالم . أخذت معاناة المثقف العربي في التزايد في المرحلة الراهنة التي يغلب عليها الفوضى والتفاهة والإنهيار الإخلاقي والفساد المالي والإداري وكثرة المشاكل الإجتماعية مع مطلع القرن الحالي وما يخبئه المستقبل من تهديد تراه بعض الرؤى المستقبلية واقعاً ما لم يحدث تغيير في النظام العالمي الذي لم يعد قادراً على تفادي ومواجهة ومعالجة مشكلات البيئة والمناخ والتصحر والمياه وإزدياد الطلب على الغذاء والطاقة وإزدياد عدد النفوس حول العالم وشحة الموارد الطبيعية وغيرها ..
وسط هذه الأجواء المضطربة يقف المثقف مهموماً مشغولاً قلقاً ، فهو معني بالواقع من جانبين . كمواطن مفروض عليه تدبر شؤونه وكمثقف تملي عليه مسؤوليته الثقافية أن يجد مخرجاً لهذا الضيق .
لا يمكننا أن نتجاوز الكم الكبير من المقالات والكتب التي تتناول الواقع وتبحث في سبل معالجة أزماته ، كما لا يمكننا أن نتجاوز ازمتنا الحقيقية في ظل الإنموذج الأمريكي للديمقراطية المتمثلة في مشاريع تحوير المفاهيم وإلباسها ثياباً جديدة لا يجد المستخدم والمتلقي والمواطن بداً من مجاراتها ، خصوصاً وان التوجه العالمي الجديد في ظل التطور العلمي ومشاريع الذكاء الإصطناعي تبحث في توفير حلول مرضية تناسب واقع الحال وإن كانت لا تناسب الأصول والمنطق والقيم والمبادىء ، هكذا يعيش المثقف اليوم محنته الحقيقية التي لا أظنني أبالغ إذا قلت إنه يعيشها لأول مرة في تاريخ الثقافة الإنسانية .
تبنى بعض المثقفين دعوات فصل الدين عن الدولة كحل من الحلول التي يرتجى منها إخراج العالم العربي من أزماته وتحريك واقعه لإخراجه من دائرة التراجع والتأخر التي هو فيها . وبغض النظر عن دوافع تلك الدعوات وأهدافها ، فإن طبيعة المجتمع العربي طبيعة لا يغادرها الدين ، وأي جهود إصلاحية خلاف تلك الطبيعة لا تعطي نتائج مرضية ، ولعل إنحراف السلطة السياسية عن روح الدين كان من أهم أسباب الفجوة الآخذة بالإتساع مع مرور الوقت بين السلطة والمجتمع . يبدو لي إن طرح فكرة فصل الثقافة عن جسم الدولة السياسي مع الإبقاء على تبعية المؤسسات الثقافية للدولة ، سيخرج المثقف الرسمي من عباءة السلطة السياسية التي طبعته بطابعها الروتيني التقليدي الذي لم يقدم جديداً للمجتمع في مجال تمكينه ثقافياً . بهده الدعوة يمكن للثقافة أن تعايش وعي الواقع وفهم ما ورائيات الطرح المباشر للإعلام الرسمي ، فعندما تصبح المؤسسة الثقافية مؤسسة إجتماعية يباشرها مثقف مسؤول تحمل الثقافة عنده بعداً رسالياً وهماً إنسانياً لا تأثير للمصالح والعلاقات السياسية والشخصية فيها ، فمن المؤكد إن طريقة حياة الناس ستتغير الى الأفضل .
بفصل الثقافة عن جسم الدولة السياسي سيتحرر المثقف من روتين الأنشطة الشكلية الرسمية التي باتت عرفاً تقليدياً ينتهي مفعولها مع نهاية الفعالية ، وبهذا الخروج سنصل بالمثقف الى الناس في البيوت والأماكن العامة .
بفصل الثقافة عن جسم الدولة السياسي وإلحاقها بالمجتمع ، سيتمكن المثقف من تنمية الحس الجمعي للناس للإرتقاء به الى حد النهوض بالمسؤولية تجاه رموز وعلماء وشخصيات ثقافية واجتماعية ، قدّمت أعمالاً رائدة في مجال النمو الإيجابي لوعي الأمة ، اظطرتهم ظروفهم الصحية الى أن يكونوا في وضع يحتاجون فيه الى رعاية تفوق قدراتهم المادية ، ولطالما دفع كثير من هؤلاء حياتهم ثمناً لعدم إكتراث السلطة السياسية والمؤسسة الرسمية للثقافة لحالهم . كثيراً ما رأينا مشاهد مؤلمة وسمعنا أخباراً لا تسر عن شخصية ثقافية أفنت عمرها وهي تكتب وتطبع على نفقتها الخاصة وكانت في بعض الأحيان تقتطع من قوت عيالها ما تؤمن به ثمن طبع كتاب يرتجى منه تنمية حركة وعي الأمة ونهضة المجتمع وتحسين ذائقته الجمالية ونظرته الى الحياة . كثير من هؤلاء الكبار ماتوا وسط إهمال وإغفال المؤسسة الثقافية الرسمية التي لم تشعر بأدنى درجة من الإحساس بالمسؤولية الثقافية الإنسانية الوطنية تجاه رواد الثقافة في البلاد فلم تتورع عن ترقين قيد أديب كبير لأنه غاب عنهم إثني عشر عاماً بسبب ظروفه الصحية الخاصة وظروف البلاد السيئة . كم من أديب ناشد من على فراش المرض سلطة سياسية وثقافية . وكم سمعنا ذوي أحد العلماء وهم يناشدون السلطة لمساعدة والدهم العليل . وكم شاهدنا صوراً حية لشخصيات ثقافية وعلمية وفنية وهم على فراش المرض قد أهلمتهم سلطة الثقافة ونسيتهم المحافل التي كانوا يحاضرون فيها . ومن المؤسف ان وظف بعض السياسيين هذه الخصلة الملوثة في انفاس المتسلطين فعمدوا من باب الدعاية الإعلامية الى تقديم مساعدة مالية الى الفنان الفلاني والكاتب الفلاني لإجراء عملية جراحية له .
تأتي أهمية إثارة هذا الحس الجمعي في المجتمع في وقت أخذت فيه السلطة التافهة ترعى وتتبنى شخصيات هابطة أسهمت مواقع التواصل الإجتماعي في دفعهم الى الواجهة بحكم عدد الإعجابات التي حصلوا عليها وعدد المتابعين الكبير الذي عدّه بعضهم شهادة على اجتماعية هذه الشخصية وتأثيرها في الناس ، وقد سجل على بعض المسؤولين السياسيين ومثقفي السلطة تكريمهم لعدد من هذه الشخصيات الفاشلة ، ولكي لا تتساوى “ الكرعة وام شعر” كما يقول المثل العراقي فإننا ندعو الى فصل الثقافة عن جسم الدولة السياسي آخذين بنظر الإعتبار ما الحقته السياسات الفاشلة والإدارات الروتينية التقليدية للبلاد منذ أكثر من عشرين عاماً من بداية القرن الحالي .
يقول عبد الإله بلقزيز ان ( الثقافة أمست خارج حدود تعريفها وماهيتها الطبيعيين . لن يعود في وسعنا حدّها بالقول انها تعبير عن تمثّل الناس لمحيطهم ، وتعبير عن نظام اجتماعهم المدني ، بل سيصبح مطروحاً علينا أن نفكر في معنى أن تنشأ في وعي الناس ثقافة أو قيم ثقافية لا تقوم صلة بينها وبين النظام الإجتماعي الذي ينتمون اليه ) .
الثقافة في زمن الشاشات وشبكات التواصل الإجتماعي . هي في وضع أخطر مما هي عليه في حدود فتح مركز ثقافي هنا ، ومسرح وبيت للثقافة هناك. انه زمن صناعة الأحداث وفبركة التفاصيل . زمن يحتاج من المثقف دوراً أعمق وأخطر تصل خطورته حد التضحية بالنفس في سبيل إعادة يقظة وهي الجماهير التي شدّها العالم الإفتراضي وأغرتهم الوان الشاشات . تضحية تصل الى قول الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد :
علمتني مذ شراييني برت قلمي
كيف الأديب يلاقي موته حربا
وكيف يجعل من اعصابه نذراً
حيناً وحيناً نذوراً كلما وجبا
ولن يتحقق هذا الدور بوجود الثقافة ضمن جسم الدولة السياسي المصاب منذ أكثر من عشرين سنة بأورام خطيرة تكبر كلما مر عليها الزمن .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عصر التقنية الرقمية وازمة الهوية الثقافية
نشر بتاريخ: 01 آذار/مارس 2024
يواجه مجتمعنا العربي اليوم إشكالية ثنائية العلاقة بين التراث والمعاصرة في وقت تبرز فيه أزمة الهوية بشكل واضح، فمن المشاهدة العيانية والمعايشة الحية لواقع الحياة اليومية لطبيعة المجتمع، يجد الباحث الانثروبولوجي تطلعاً ملحوظاً في عيون الناس لمشاهدة دور للثقافة في صياغة هوية جامعة من شأنها ان تعطي حراكاً لا يفرض أي شكل من اشكال القيود او الضوابط على الهويات الاخرى مثل هوية الوطن وهوية المعتقد وهوية العرق وهوية المهنة وهوية اللون وهوية الانتماء، بعد ان تعثرت جهود اغلب الهويات في الضلوع بهذه المهمة، فعلى الرغم من المشتركات الكثيرة والأساسية والمؤثرة في مجتمعاتنا العربية إلا انها لا تزال تعيش ازمة الهوية خصوصاً لدى الأجيال الشابة، إذ ان الماكنة العالمية للاقتصاد الصناعي تمكنت من احتواء كثير من الهويات وإعادة اصدارها بنسخ جديدة توافق تطلعات مشاريع النظام العالمي الجديد الذي قالت عنه تصريحات وآراء انه نظام يختلف عما كان عليه الحال قبل اجتياح وباء كورونا العالم، ومن حيث لم يعد بوسعنا اليوم ان نتحرك بمعزل عن العالم وعن دوره وربما تدخلاته بعد ان اجتذبت المشاريع العملاقة الناس اليها من مختلف اصقاع الارض حيث اختلاف اللغة والدين واللون والهوية الجغرافية والتاريخ، فظهرت الشركات العابرة للقوميات وتحرك المال ليدير هذا النظام الجديد، وفي ضوء هذه المستجدات المثيرة وجد الفرد العربي انه في حيرة من امره، فهو من ناحية عملية لم يعد يستغني عن مخرجات الثورة الصناعية والتقنية والعلمية والمعلوماتية، فقد صارت اجهزة الاتصال ووسائل التواصل والعالم الافتراضي من ضرورات حركة عجلة الحياة اليومية لابسط المستويات والامكانيات الثقافية والاجتماعية والمادية، ومن ناحية اخرى يجد الفرد على اختلاف المستوى التعليمي والثقافي انه مرتبط بالتراث والتاريخ والاسلاف ارتباطاً لا يشعر بالتوازن اذا تجاوزه او فرض عليه تجاوزه، وصارت المحنة كبيرة احتاجت الى هوية جديدة نستطيع بها تمثيل الواقع للنهوض به الى ما ينبغي ان يكون وتلك كانت رسالة الإمام علي عليه السلام في السلطة.
الموروث الثقافي وتغيّر المجتمع ..
يرى الفيلسوف الفرنسي فيليب هـ فينكس ان الحفاظ على الموروث الثقافي يأتي عن طريقين لا غنى لأحدهما عن الآخر، طريق حي يمثله الانسان، وطريق غير مباشر يمثله المتحف والكتاب والجريدة والمسرح وغيرها ولكي يحدث هذا التواصل بين الطريقين اقتضى تربية واعداد جيل من المتعلمين يستوعبون هذه الرسالة التعليمية وعدا ذلك قد يغدو المتحف مكاناً اثرياً جميلاً نستمتع بزيارته ونلتقط فيه الصور لننشرها على صفحاتنا في مواقع التواصل دون ان يكون لذلك اثره الحي في حركة واقعنا المنهك اليوم، ومن شأن هذا الخلل ان ينعكس سلباً على طبيعة الشخصية التي من المحتمل ان تتعرض للازدواج والتناقض وقد سجلت المشاهدات العملية وجود مثل هؤلاء الأشخاص.
التغير صفة اساسية من صفات المجتمع، يراد به التحولات التي تطرأ على البناء الاجتماعي، اي منظومة القيم والسلوكيات التي تربط ابناء المجتمع مع بعضهم.
يشتغل علماء الانثروبولوجيا وعلماء النفس والاجتماع والفلاسفة على موضوعة تغير المجتمع من اجل المزيد من العدالة الاجتماعية والرفاهية الاقتصادية، ولا يختلف مجتمع عن اخر من حيث طبيعة التغير لكن الاختلاف يكمن في درجة التغير والآثار الجانبية المترتبة على ذلك التغير، ففي عالمنا العربي والإسلامي عموماً والمجتمع العراقي بشكل خاص يواجه الناس مؤثرات تتفاوت درجات ضغطها على طبيعة المجتمع، منها ضغوطات داخلية تتمثل بالتغيير الذي حصل في سياسة وادارة واقتصاد البلاد، ومنها ضغوطات افرزها النظام العالمي الجديد ومشاريع الاقتصاد الصناعي السياسي للشركات الكبرى العابرة للقوميات، ومنها ما نتج عن الطبيعة مثل التصحر وشحة المياه والاوبئة وامراض الحروب، القت هذه الضغوطات بثقلها على طبيعة المجتمع الذي يتمتع بهوية ثقافية دينية وباتت تشكل خطراً حقيقياً على الهوية من حيث جهود بعض القوى في اعادة تشكيل العالم على وفق نظام جديد تندمج فيه المجتمعات المتأخرة والفقيرة والمتخلفة والعالم الثالث في النسيج العالمي الذي تقف وراء صياغته قوى هويتها الثقافية غير هوية تلك المجتمعات موضوع الدمج، وسط هذه الدوامة الكبيرة يجد الانسان انه يعيش ازمة قد تأخذ به الى التغريب الثقافي على حساب الهوية الذاتية ونمو الشخصية الذي يبدأ من ذات الشخص في اتفاق مع نفسه التي تبدي استعدادها لوعي الشخص بطبيعته وطباعه وبعلاقته بالمجتمع وحرصه على ان يكتسب هوية شخصية يصنعها ذاتياً تعطيه دوراً ايجابياً في المجتمع، وهذا الحرص والاستعداد المسبق يعطيان الشخص من خلال مراحل العمر والتجربة والخبرة والتعلم، هوية مستقلة لها بصمتها الحضورية في واقع الحياة الاجتماعية، بينما الذين ليس لديهم استعداد مسبق واتفاق مع الذات على وعي الطبيعة البشرية وطباعها وبناء الشخصية فإنهم غالباً ما يميلون الى اكتساب هوياتهم من خلال الوسط الاجتماعي الذي يعيشون فيه فيغلب عليهم ماهو غالب على ذلك المجتمع من قيم وسلوكيات يفرزها التيار الاقوى في مرحلة معينة من عمر المجتمع كالتي يعيشها في العقدين الاخيرين من بداية القرن الحادي والعشرين حيث الانفتاح على العالم بواسطة شبكة الاتصالات العالمية والدعوات الى الحرية الشخصية واحترام حقوق الرأي والتعبير والتفكير تصل احياناً حد التجاوز على الذوق العام الذي يعبر المجتمع من خلاله عن طبيعته وهويته.
ترى هل ان اخفاق المجتمع العربي اليوم في عقلنة العولمة راجعٌ الى ان المشاريع العالمية تستهدف علمنة تراث المجتمع الثقافي؟ ام ان المشكلة في ان المجتمع يريد ان يعيش خارج بيته بالأجواء نفسها التي يعيشها داخله، في الوقت الذي تريد منه العولمة ان يكون كما يريد في بيته وان يكون كما يراد منه خارجه، هي تريد منه ان يكون عربياً ومسلماً داخل بيته وتريد منه ان يكون مواطناً عالميا خارج بيته على وفق ما تعنيه العالمية من هيمنة الغرب الأقوى في مجال السياسة والاقتصاد والإدارة ..
لا نستطيع الجزم بأن الانسان يستطيع ان يكون على صورة واحدة لا تقبل المراجعة او التغيير، فما بين تاثيرات الظروف ومناخات النمو المعرفي وبين ان يدرك الانسان انه ذات وليس موضوعاً، سيتمكن من اكتشاف هويته وإثبات ذاته من خلال تجاربه الحياتية والخبرات التي يحصل عليها من تجاربه وتجارب الاخرين والرسائل الثقافية التي يستوحيها من التراث ممثلاً في المتاحف والاثار والكتب والصحف والمكتبات..
يفشل كثير من الناس في فرض هوياتهم الخاصة على الاخرين ويضطرون الى التنازل عنها ليتشبهوا بغيرهم من اجل تمشية الأمور وتجاوز العقبات، فقد يعيش بعض الناس وهم غير راضين عن حياتهم وادائهم مضطرين لقبول واقعهم المفروض عليهم والذي يتعذر عليهم مواجهته وتغييره، يرى الفيلسوف الالماني "هيجل" ان الوعي البشري محدود بالظرف الإجتماعي والحضاري الخاص بالبيئة التي يعيشها الإنسان.
يسلط علم الانسان الاجتماعي وعلم الانسان الثقافي الضوء على طبيعة احساس الفرد بنوع وجوده في الحياة، فالذي ينظر الى المتحف مثلا على انه مكان يحتوي على أشياء تشير الى طبيعة وثقافة مجتمع في مرحلة زمنية من مراحل التاريخ القديم والحديث لا تربطه به اكثر من رغبة الاطلاع والسياحة الثقافية التي ينتهي مفعولها بمغادرة المكان والتقاط الصور، اما الذي يرى في المتحف موضوعاً فإنه يمنح حاضره نظرة مستقبلية يرسم ملامحها من خلال معطيات يمده المتحف بها من خلال الرسالة التي تحملها موجوداته المادية والتي يترجمها الى لغة الواقع ليقارب بها بين الماضي والحاضر كي يتجاوز حالة الرضا الوهمي التي تخدعه بها عثرات الواقع المنهك المتأخر المأزوم..
ان الحد الأدنى من الأداء الثقافي يشتمل على بذل جهود مضاعفة تصل حد تكليف النفس اكثر من طاقتها للوصول بالمواطن الى حالة التوازن، لأن حالة التوازن تمنحه امكانية الالتفات الى الوراء والوقوف عند التراث واستحضاره، اما عندما يعيش الفرد حالة من القلق وفقدان او ضعف الثقة بالمحيط الذي يعيش فيه مع المقربين والآخرين، ومع السلطة ذاتها، فإن التراث لن يعدو كونه محطة استراحة تحتاجها النفس في اوقات معينة ومواقف معينة، في الوقت الذي ينبغي له ان يكون محطة يحتاجها حاضرنا كي نمر بالاتجاه الصحيح والمسار الآمن، فالتراث هو الماضي باحداثه وشخوصه وانتاجاته، وهذا كله رصيد من الخبرة يتحول الى ثروة عندما نستثمرها في حاضرنا على وفق معيار نقدي يعود علينا بالنفع في اجادة التصرف وحسن الاختيار وتحقيق الهوية، وما حالة الضياع أو ازمة الهوية التي تعيشها اجيال اليوم إلا لأنهم لم يجدوا من يصل بهم الى حالة التوازن، ولم يتمكنوا ذاتياً من تحقيق ذلك في زمن تكالبت فيه المشاكل والضغوطات والاغراءات والتهديدات وضرورات الحياة التي لم تعد كما في السابق، فاليوم صرنا من حيث ندري ولا ندري، ومن حيث نريد ولا نريد، ضمن نظام عالمي يتحرك فيه رأس المال ليدير مشاريع ضخمة عابرة للقوميات يعود نفعها على الجميع مع الاخذ بنظر الاعتبار ان القدر الاكبر من النفع يصب في صالح المنتجين ومالكي المشاريع، فهذه المشاريع وان كانت تسهم في تشغيل ابناء المجتمعات في مختلف انحاء العالم وعلى اختلاف اوضاعهم ولغاتهم والوانهم وميولهم واديانهم، إلا انها في النتيجة نمط من انماط التبعية المتطورة، وهي تبعية يرتضيها الناس لأنها في الحد الأدنى تخفف عنهم شعورهم بإالغاء الذات، مع انها تسعى وتهدف الى ذلك ولكن عن طريق لا ينتبه اليه كثير منا، وهو طريق الاقتصاد والمال والاعمال، الطريق الذي الغى فيه اشخاص كثيرون عبر التاريخ انفسهم من اجل مكتسباته المالية والمادية..
الهوية الثقافية وفلسفة التربية..
ينبغي ان تختلف نظرتنا الى المتحف اليوم عما كانت عليه بالأمس، بعد ان تخلّت المدرسة في زمن التقينة المتطورة والشخصية القلقة وازمة الهوية، عن اداء دورها في تحقيق الهدف من فلسفة التربية القائم على اعداد جيل من الابناء يعي اهمية حفظ الثقافة في جانبها المادي كالمتحف والجريدة والكتاب والمدونات، فلأسباب كثيرة لم تعد المدرسة اليوم قادرة على النهوض بالجانب التربوي للطبلة واقتصرت على الجانب المهني التعليمي في حدود لا تدعو كثيراً الى التفاؤل..
المدرسة في اعتقاد الفلاسفة التربويين، مكان يُراد من دخول الطالب او التلميذ اليه اعطاؤه دروساً عملية اجتماعية في حفظ التراث ونقل الثقافة الى ساحة التحضر كي يرتقي المجتمع الى ما ينبغي ان يكون ـ او على اقل تقدير لمنع اصابة المجتمع بالركود الذي يؤدي الى التخلف وبالتالي الانعزال عن العالم، بينما واقع الحال يفيد بأن الناس يعيشون ويتعبون في اعمالهم وحياتهم وهم باقون على ما هم عليه، وبالتأكيد ان جانب السلطة الحاكمة له بالغ الاهمية في وصول الحال الى هذا المستوى الذي لا يخدم حركة النهضة الثقافية في المجتمع، فقد نجد الصغير والكبير يحمل جهاز موبايل ويجيد استخدام الحاسوب ويعرف كيف يتنقل عبر العالم الافتراضي، لكنه قد يكون فاشلاً في معرفة نفسه، وفي معرفة هدفه، فكثير من الناس يعيشون حياتهم مستسلمين لفكرة ان وجودهم هو حصيلة تكوين اسري اقامته علاقة بيولوجية سيكولوجية بين الاب والام، وبالتالي فقد شكّل هذا الشعور أو هذا الاداراك التلقائي، احباطاً وتراجعاً، جعل الشخص يتعامل مع نفسه وجسمه كآلة يُراد لها ان تعمل وتنتج بغض النظر عن هدف ذلك العمل وقيمة ذلك الانتاج..
الثقافة هي روح المجتمع، ولكي لا تتجمد تلك الروح ويتحول المجتمع الى كتل بشرية وتجمعات تتحرك في دائرة الاحداث اليومية للحياة، فالمتحف احد ادوار واطوار الثقافة، والتربية هي الحقل الآمن لتدريب ابناء المجتمع على معرفة هوياتهم التي يهتدون اليها بواسطة الثقافة، ويأتي الدين ليشكل روح تلك الهوية، لذلك فالثقافة والهوية والدين والمجتمع رباعية مترابطة يقوم عليها بناء الشخصية وعندما نذكر الهوية الثقافية فنعني بذلك منظومة القيم والعادات والأخلاق والمعرفة والإبداع المهني والإبداع الفكري، ومن شأن هذا الترابط الرباعي بين الثقافة والهوية والدين والمجتمع تمكين الفرد من اكتشاف هويته التي توفر له مرونة عالية في التعامل مع الهويات الأخرى دون اضرار جانبية، بل ربما توفر له اجواء ايجابية من حرية الإستخدام الواعي لمخرجات العملية الصناعية الإقتصادية العالمية فقد نكون مضطرين اليوم الى عكس الية النظرية والنتيجة، فنبدأ من النتيجة كي نرجع الى الفكرة أو النظرية، فبعد أن تمكنت ونجحت الأجيال السابقة والى وقت قريب في حفظ التراث كانتاجات ثقافية وفشلنا في احتواء هدف تلك الإنتاجات عندما لم نعد نشعر ونحن نزور المتحف مثلا اننا نتواصل مع موجوداته كأنها فينا ومنا وليست جزءاً من ماضي نستذكره بعاطفة وفخر فنشعر بنشوة هي اقرب الى كونها جرعة مهدئة منها الى كونها محفزاً مقوياً، قد يكون من المفيد بالنسبة لنا اليوم ان ننطلق من المتحف لنصل الى فلسفة العلاقة الحيّة بين الماضي والحاضر مستخدمين لذلك ادوات التقنية الحديثة بدوافع من الهوية الثقافية الإجتماعية الدينية، وهذا هو دور القائمين على حفظ التراث وتنمية وصيانة وادارة المتاحف..
باعتقادي ان الاهتمام بالمكان يأتي بالدرجة الثانية بعد الاهتمام بالانسان، لأن هدف الثقافة هو ايجاد اشخاص مؤهلين لحمل الرسالة التي تركها لنا السلف في المتاحف والكتب والمدونات والاثار والاخبار، ولكي نكون مؤهلين لحمل هذه الرسالة نحتاج الى قراءة مضمونها، والقراءة تحتاج الى لغة حيّة تضمن حصول التفاعل بين الماضي والحاضر، لكن الظروف غير المتوازنة اظطرت بعض الشباب الى ان يلغي نفسه قبالة شعوره بالارتياح في وسط يمضي بهم في طريق لا يبدو انه يصل بهم الى مكان آمن، ولأن الحاجة الى معرفة الذات حاجة ملحة وضرورية وبدونها تستحيل حياة الانسان وقد يصبح الانتحار حلاً للمشكلة كما يرى عالم النفس الدنماركي المريكي اريكسون، لقد لجأ بعض الشباب الى اكتشاف هوياتهم عن طريق الآخرين، ومن الخطورة بمكان ان يساء استخدام التقنية المتطورة بحيث يؤدي دوراً سلبياً في تدني قيمة الذات وتدني الذائقة والحس الواعي مما اسفر عن ظهور اشخاص بلا معنى او تافهين او اصحاب محتوى فارغ في واجهة المجتمع، والذي يدعو للأسف والى الشعور بالفشل ان يكون عدد الاعجابات والمشاهدات والتفاعلات والمتابعات التي يحظى بها مقطع فديو لهذا او ذاك معياراً في تقييم تلك الشخصية بغض النظر عن قيمة محتوى الفديو، يكفي انه نال استحسان واعجاب عدد كبير من المتابعين الذين شدتهم الآلة المتطورة اليها وفتحت امامهم نوافذ لصناعة هوياتهم من خلال العالم الرقمي والتقنية واعادة تكوينها بعيداً عن اللغة والدين والتراث قريباً من سوق السلعة وكان نتيجة ذلك ظهور شخصيات مضطربة قلقة مشوشة هي اقرب الى اللامعنى منها الى ابسط معاني الوجود الحي للنوع البشري، وتصل درجة الانهيار حدّها عندما تقترب من مفكرين ومثقفين يصنعون افكارهم في بيئة عربية ومجتمع اسلامي دون ان يكون لهذه الافكار صلة بواقع حياة مجتمعاتهم، بل لعلها تزيد في استغراق المجتمع في سوق السلعة ورقمنة المستهلك.. يمارس بعض دعاة الثقافة والتنوير اليوم انتقاداتهم لمنظومة قيم اجتماعية ومواريث تاريخية ومصادر دينية وعرضها على جمهور منهك يعيش حالة الضعف بسبب ضغوطات الاوضاع العامة في داخل البلاد وخارجها في عموم العالم تقريباً وهو ما قد يشكل خطراً يتهدد الهوية..
الهوية كيان مرن يتشكل ويتغير تبعاً للتحولات التي يمر بها الشخص او المجتمع، فالهوية ليست ثابتة ولأنها ليست كذلك يخشى على المجتمع العربي المسلم اليوم من ان تسهم هذه الاضطرابات والاخفاقات والاحباطات المتراكمة والمتكررة وكثرة المشاكل الاجتماعية والأسرية، في تكوين هوية مضطربة ثقافيا قد يعتادها المجتمع بسبب استمرار تراكم تلك الإضطرابات في ظل غياب حقيقي لإدارة قادرة على تلافيها، فلا يعود للكتاب معنى في حياة ابنائه إلا بمقدار ما تمليه الحاجة المادية للكتاب من حيث ان القراءة تسهم في تأهيل الشخص للحصول على موقع اجتماعي وظيفي وليس لأن القراءة تسهم في اكتشاف وتكوين الهوية التي يراها الفيلسوف الفرنسي ذو النزعة الروحية "لافل" انها تمنح صاحبها قدرة الإجابة الحاسمة عن اهم مشكلات الوجود الميتافيزيقية مثل : لماذا اعيش ؟ من انا ؟ و.. و.. ويرى عالم النفس الدانماركي "اريكسون" ان تحقيق الهوية امر حيوي وضرورة حتمية تستحيل بدونها رغبة الناس في الحياة ويرى ان يكون ميتاً افضل من ان يعيش بلا هوية..
يرى عالم الانسان البولندي "مالينوفسكي " ان ثقافة اي مجتمع تنشأ وتتطور في جو يتم فيه اشباع احتياجاته البيولوجية والنفسية التي يعمل على تلبيتها النظام الإجتماعي الذي ينظم ويحكم تبادل العلاقات بين ابناء المجتمع، فإذا تعرض ذلك النظام الإجتماعي الى ما يهدد سلامة بنائه من ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية وامنية فإن ما يدعو الى القلق والتشاؤم في بعض الأحيان هو ان تسهم تلك الإضطرابات والظروف المتذبذبة في ظهور ثقافة مرحلية خاصة بشريحة او طبقة وربما كل المجتمع، تشتمل على فهم جديد مختلف عن المألوف من مفاهيم مثل الكتاب والمتحف والمدرسة والجامعة، هناك من العلماء من يعتقد ان الثقافة مفهوم لا يقتصر على انتاجات المجتمع الحاضر وانها تجمع بين التجربة والخبرة المكتسبة عبر التاريخ ممثلة في مخرجات تلك المراحل الزمنية السابقة من كتب ومتاحف وآثار يضاف اليها التجارب الحية والحيوية لأبناء المجتمع في حاضره بما في ذلك الجانب النفسي والعاطفي والمعرفي والتعليمي، ولأن الانسان ينسى بحكم طبيعته البيولوجية فمن واقع المسؤولية الثقافية يستوجب ان يحدث حراكاً ثقافياً للوسط المثقف في اي مجتمع لإنعاش ذاكرة المجتمع وتقريب ماضي الآباء والأجداد اليهم باستخدام ادوات جديدة لا يشعر الناس معها انهم امام ماض جميل عليهم ان يسمعوا عنه وان يشاهدوا اثاره كجانب نظري تستوجبه احياناً ثقافة المجتمع المرحلية وحاجة الفرد الحياتية الى مصادر طاقة يستطيع بها التحرك في حياته اليومية على سبيل تمرير الوقت وتحقيق بعض المكتسبات المعاشية والحياتية التي لا تلامس الفهم العميق للثقافة..
ونحن نتحدث عن الهوية الثقافية للمجتمع علينا ان لا نغفل طبيعة هذا المجتمع والطريقة التي يعيش بها الناس، فليس من المفيد في الجانب العملي للبحث الانثروبولوجي ان نتناول ثقافة المجتمع عبر ازمنة مختلفة ونعمل على تكوين مقاربة بينها وبين ثقافة اليوم بمعزل عن الجوانب الاجتماعية والحياتية للمجتمع وللفرد وندعو الناس الى تقديس الموروث وتعظيم إرث الآباء والأجداد وتقييم انجازاتهم بينما هم يعيشون ظروف حياة مختلفة عن تلك التي قامت عليها ثقافة آبائهم واجدادهم.. ان الحل العملي المنهجي يقتضي اخذ ظروف وطريقة حياة الناس بنظر الاعتبار ودراستها دراسة وافية تعملل نتائجها على ايصال الناس الى حالة من التوافق بين المادي والمعنوي، البيولوجي والسيكولوجي في حياة كل فرد، فالثقافة كما يرى عالم الاجتماع البولندي مالينوفسكي وهو احد اهم علماء الانسان في القرن العشرين، يرى ان الثقافة تنشأ وتتطور في مجتمع بعد تلبية احتياجات افراده البيولوجية التي حددها في المأكل والملبس والزواج والسكن، من خلال تحقيق هذه الاحتياجات تتحقق حالة التوازن عند الفرد وتنعكس هذه الحالة من التوازن على المجتمع بالتالي، عندها تتشكل الهوية الثقافية المنبثقة من طبيعة ذلك المجتمع وعندها لا يغدو المتحف مكاناً تاريخياً أثرياً تأخذنا اقدامنا اليه متى استشعرنا سايكولوجيا حاجتنا الى الاستجمام والراحة والتمتع..
يقتضي مشروع الهوية الثقافية البدء من واقع المجتمع والوقوف ملياً عند احتياجات ابنائه وان نوفر حلولاً جذرية للمشاكل الإجتماعية التي أخذت تكبر في بلادنا واخذت تهدد سلامة البناء الإجتماعي فيه، إننا مدعوون اليوم من واقع الوعي الثقافي ومن واقع الحرية المسؤولة ان نتبنى كمجتمع، كمنظمات ومؤسسات دينية وتربوية وثقافية وانسانية مستقلة رعاية هذا المشروع الذي تلتقي فيه سلامة الماضي بإستقرار الحاضر لضمان المستقبل، لا شك انها مهمة شاقة جداً خصوصاً واننا نعيش في زمن لم يعد بوسع اي مجتمع ان يعالج مشاكله بمعزل عن العالم او ان يعيش بمفرده دون ان ينظر في انجازات المجتمعات الاخرى كما يرى الانثروبولوجي الامريكي كارلتون كون..
ان غلبة التيار المادي الاقتصادي وهيمنة القرار السياسي دون الثقافي على طبيعة المشهد الحياتي لشعوب العالم يجعل بلداننا امام تحد خطير ومصيري لا يتيح امامنا اكثر من طريقين، إما اكتشاف هويتنا الخاصة التي لا نزال الى الآن وعلى الرغم من كثرة الإحباطات والمعوقات، نمتلك مقومات وادوات اكتشافها خصوصاً وان مجتمعاتنا العربية والإسلامية تتمتع بوجود حقيقتين اتفق عليها كثير من علماء النفس والإجتماع والانثروبولوجيا، هي انه ما من مجتمع إلا وله دين او هو يبحث له عن دين، والحقيقة الثانية هي انه لا يوجد شخص في هذا الوجود ليس لديه شعور ديني، من خلال واقع حياة الناس الاجتماعية والثقافية يدرك الباحث الانثروبولوجي وجود هاتين الحقيقتين حاضرتين بحيوية وفاعلية في مفاصل حياة الناس على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم وميولهم واعتقاداتهم وثقافاتهم وهو ما يعد خميرة حيوية مهمة لاكتشاف الهوية الثقافية للمجتمع التي تمكنه من وضع بصمته الخاصة في المشهد الحياتي.. الطريق الثاني هو الاندماج بالنسيج العالمي الذي يحكمه التيار المادي بحكم تفوقه الصناعي والتقني والقبول بالتغريب الثقافي وهو ما يفرض على الناس هوية ثقافية جديدة تصنعها ثقافة الأقوى وهي ثقافة غربية بلغة غريبة عن طبيعة مجتمعاتنا خصوصاً العربية منها، وهو طريق في ايسر محطاته يعطي للفرد حرية ان يكون كما يريد داخل بيته او داخل مجتمعه، على ان يكون كما يراد منه عندما يخرج من بيته، وهو طريق يحكم على المجتمع بالتبعية، وفي هكذا جو تضطرب الثقافة ولا يعود فيه الكتاب او المتحف أو.. سوى نشاط اجتماعي اعتباري في اطار ثقافي هو اقرب الى التمني منه الى الواقع.
دور الشباب في صناعة الوعي
جاءت الشريعة الإسلامية لتنظم حياة الإنسان بشكل يشعر معه بهويته الشخصية ، ويحثّه على اكتشاف ذاته، وليس ما يجعله يرى نفسه مجرد رقم في هذا الوجود ، يشعره بصغر حجمه ، فتصغر في عينه الدنيا ويتسلل الضعف الى نفسه ، وينهار أمام ظروف معيشته وكثرة احباطاته وعجزه عن تحقيق أي نجاح يزوده بطاقة إيجابية ..
لقد أدّى التدين السياسي لأنظمة الحكم في عالمنا العربي الى هذه النتائج التي لا يشكّل فيها المواطن إلا رقماً في سجلات النفوس وصناديق الإقتراع ، وآلة تعمل لديمومة البقاء البشري في مجالي التغذية والتكاثر ، بلا مضمون روحي يعطيها جمالاً وأهمية ، فما بين حجم البطالة الكبير في صفوف الشباب الى نسب الطلاق المرتفعة ، الى كثرة أعداد الأرامل والأيتام بسبب سياسات الأنظمة وتعثرها وانحسار فرص العمل .. كل هذه السلبيات ضيّعت الطريق الطبيعي الصحيح على بعض الشباب فتاهوا في دروب الإلحاد والفوضى والإنتحار والعبث ، ما أبعدهم عن التدبّر والتفكير في انفسهم واكتشاف هوياتهم الشخصية وبناء الذات بناءً إيجابياً تزدهر معه الدنيا وتحلو ، فهي (حلوة خضرة) في قول رسول الله صلى الله عليه وآله الذي اورده اليعقوبي في تاريخه ( الدنيا حلوة خضرة والله مستعملكم فيها فانظروا كيف تعملون) ، وهي مهبط أولياء الله ومسجد ملائكته وهي الطريق الى الآخرة كما اخبرنا الإمام علي عليه السلام ولطالما دعا الناس ليتفقهوا ويتدبروا ويعقلوا دنياهم ليصحّحوا مساراتهم فيها كي يضمنوا سلامة الوصول في نهاية الطريق ..
ان شبابنا اليوم مدعوون الى إعادة النظر في واقعهم من حيث انهم يشكلون نبض حياة هذا الواقع وحكمة المستقبل ..
ان غياب وعي السلطة وافتقار العاملين فيها الى المسؤولية مكّن أدوات الفكر الهدّام من العمل بكثافة عبر القنوات الفضائية ووسائل التواصل الإجتماعي والأعمال الدرامية الهابطة والبرامج الترفيهية المبتذلة ، على إستهداف الشخصية العراقية خصوصاً والعربية بشكل عام ، تارة عن طريق استدرار عواطف الناس للتغرير بهم أو ابتزازهم أو الضحك عليهم أو إضحاكهم وتسليتهم ، تحت مسميات – كاميرا خفية ، برامج تسلية ، مسابقات وجوائز ينالها من يأكل اكثر عدد من حبات البرتقال أمام منافس له ، أو من يستطيع مدّ لسانه ليصل الى قطعة حلوى معلقة بالقرب منه ، أو .. أو ..
ان ثنائية الدين والدولة تؤثر تأثيراً بالغاً في حياة المجتمعات ، وما حالات التردّي والتدهور والإنهيار فيها إلاّ جرّاء اتساع الفجوة بين الدين والدولة ، فقد كانا - الدين والدولة - كياناً واحداً يمثلّه النبي القائد ، وما ان انقطع الوحي برحيل النبي عن الدنيا، وحصل ما حصل بعده ، واجه المجتمع ثنائية الدين والدولة واتساع الهوّة بينهما..
عاملان قادا كثيرين الى الإحباط ، هما قلّة وعي الجماهير وتلبّس الدولة بلباس الدين ، وهو ما جعل الشاب يقف مذهولاً ، متحيراً امام التناقض بين لسان الدولة وسياستها .. بين ظاهرها الإسلامي وباطنها المادّي ..
استخدمت السلطة في كثير من ممارساتها قوانين تخويفية أكثر منها تثقيفية ، انْ على مستوى فقه السلطة او سياسة النظام ، فحين اتسعت الفجوة بين الدين والدولة لجأ بعض المشتغلين في مجال الدين الى القبول بسلطة الحاكم الجائر المبسوطة يده النافذة قوّته ، مادام يسمح للمسلمين بممارسة طقوسهم وعباداتهم ، وهو ما جعل الهدف من الإسلام ينحرف تدريجياً عن الإنسان ، ليذهب باتجاه المحافظة على الوجود الشكلي للدين عبر أعداد المسلمين ، وليس عبر هوياتهم ، وهي حين تقوم بهذا ، فهي لاتظهر انها تدعو الى عزل الدين عن الدولة أو الى تهميش الدين وإحلال القانون الحديث مكانه ، بل هي تخترق كل ذلك باسم الدين وباسم التجديد في الدين والدعوة الى اعادة قراءة التراث بشكل معاصر .. وهي ليست دعوة صادقة في مضمونها بقدر ماهي لتمكين السلطة من توجيه الدين في المجتمع بما يخدم استمرارية وجودها في الإدارة وصناعة القرار ، وربما استخدمت هذه العناوين الكبيرة الجذاية لدّس افكارٍ ملوثة سيئة تُطرح ضمن سياقات الحرية الفكرية وتبادل الآراء والأفكار ليبدو الطرح مقبولاً لدى عموم الناس ، أو هو في موضع صمتهم لقلة وعيهم ومعرفتهم ، واذا مرّ وقت على هذا الصمت ، فإنه سيصبح نوعاً من الرضا عندما تطالعه الاجيال القادمة ، وقد بيّن عدي بن حاتم الطائي هذه الفكرة حين اقسم عليه معاوية ان يبدي رأيه بزمانه فقال له : عدل زمانكم هذا جور زمانٍ قد مضى وجور زمانكم هذا عدل زمان ما يأتي ... وهي إشارة واعية الى خطورة تغييب وعي الجماهير واطالة امد الظلم في حياة المجتمع دون موقف آني مضاد له ..
الناس في كثير من الأحيان يجاهدون أنفسهم ، فهم يرون واقعاً سيئاً ويعيشون أيّاماً غادرتها الرحمة والبركة وحلّت محلّها المادّية والأنانية ، ومع ذلك لا يزال المجتمع العربي المسلم يمتلك طاقة روحية تدفعه للمواجهة والتدخل بشكل متحضر ، إذ لا يزال الدين ينبض في وجدان الناس على الرغم من الهجمات المكثفة للفكر الهدّام ، سواء من أنظمة حكم أو من قوى أخرى مستفيدة من طمس معالم الهوية الشخصية للعربي المسلم والتي بدأت ملامحها تتشكل مع أول أسرة استحوذت على السلطة في العالم الإسلامي في عهد الأمويين، فقد ظهر تنظيم جديد لأمور القضاء وصار الخليفة يتدخل ، بل هو السلطة العليا في نفس القاضي.. واذا كان عليٌ عليه السلام قد عاب على القاضي مناداته له بأبي الحسن أمام خصمه اليهودي في قضية الدرع المشهورة ، فإن سطوة الحاكم فيما بعد جعلت القاضي ، وفي كثير من الأحيان ، يغازل في حكمه هوى الخليفة لينال رضاه ويتمتع بعطاياه .. وحاول العباسيون اول عهدهم جعل الشريعة الإسلامية مصدر القانون في الدولة ، لكنهم لم يحققوا تطابقاً بين القول والفعل ، ما جعل الفجوة تكبر بين الدين والدولة، وصار القضاء بيد السلطة تتصرف به وفق ما يضمن بقاءها ، فقد فرض أبو جعفر المنصور الإقامة الجبرية على أبي حنيفة النعمان لنشاطاته في دعم ثورة زيد بن علي بن الحسين ، ورفضه تولي منصب قاضي القضاة الذي عرضه عليه ، وكذا موقفه من احمد بن حنبل ، ومع كل هذا الإستهداف السياسي للدين من قبل السلطة يبدو انها تمكنت فقط في الجانب المرتبط بتسييس الناس لصالح بقائها وطاعتها بأي شكل يخدم ديمومة احتفاظها بالسلطة، فقد كتب المنصور الى الإمام جعفر الصادق يقول له: لم لا تغشانا كما يغشانا سائر الناس ؟ ، فأجابه الإمام: ليس لنا ما نخافك من اجله ، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له، ولا انت في نعمة فنهنئك ، ولا تراها نقمة فنعزيك بها، فما نصنع عندك ..
فكتب اليه المنصور: تصحبنا لتنصحنا..
فكان ردّ الإمام : من اراد الدنيا لا ينصحك ، ومن اراد الآخرة لا يصحبك..
حافظ الدين على حيويته في الجانب الإجتماعي الشخصي ، حاضراً في عقول ونفوس وتصرفات الناس ، يشغل مساحات واسعة في نطاق توافقه مع أعراف اجتماعية أخلاقية ، حتى عندما اخترق الإستعمار والإحتلال نسيج المجتمع وتطورت وسائل الاحتلال من العسكري الى السياسي الى الاقتصادي الى الثقافي ، الى احتلال العقول ، واحتلال الإرادة ، ومصادرة الهوية ، وتفريغ الشخصية من حتواها وإعادة تعبئتها بمحتوى صناعي بديل .. تارة باسم الإنفتاح واخرى باسم التطور والحداثة ، وأخرى باسم العالم الافتراضي والتقنيات الرقمية ، واخرى باسم القطب الواحد في العالم، وهو ما دفع انظمة السلطة في العالم العربي الإسلامي الى الإعتراف بتأثير الغرب وعملت على مجاراته لضمان الإحتفاظ بالمناصب والمكاسب ، مؤطرين هذا التناقض بأطر دبلوماسية يظهر فيها الرئيس الغربي مع نظيره الشرقي أمام الكاميرات ووسائل الإعلام على انهما نظيران يتبادلان سبل التعاون المشترك بين البلدين واقامة علاقات ثقافية وتجارية ومال الى ذلك ..
يظهر تأثير استهداف الشخصية في المجتمع واضحاً في طبقة الشباب من خلال توسيع فجوة فاعليتهم وتفاعلهم مع المجتمع بصناعة أزمات البطالة والإنحراف والإنحلال، أو الإسهام ولو يشكل غير مباشر في تفعيلها من خلال الإهمال وغياب بعد النظر ، ما أدّى الى تفشي بعض الظواهر السلبية وتصديرها على انها تقليعات حديثة للتفكير والأزياء ، حتى تدنت قيمة الذات وتغيرت معها السلوكيات والطباع والأذواق الى حدّ ما ، ففي احدى السنوات التي تلت سقوط داعش ، طرحت احدى دور عرض الأزياء ، ملابس وديكورات لداعش كزي يستخدمه الطلبة في حفلات التخرج الجامعية ، وأقدمت بعض المطاعم على عرض مأكولات بمسميات مثل (همبرغر لغم) ، و(سندويج رعب) ، وأخذ بعض الشباب يتقبل الأمر دون ان يترك ذلك أثراً سيئاً في شخصية الشاب ، ربما لأنه لم يعد يشعر بها في ظل ديمومة الظلم والفوضى وفقدان الأمل في وجود حل لهذه المشاكل ، فصار يطلب سندويج الرعب في المطعم مكتفياً بتبرير قبوله بالطعم اللذيذ للسندويج متجاوزاً الأثر اللفظي والمعنوي للكلمة في نفسه .. وفي احد الفديوهات على اليوتيوب ، يقدم احد المطاعم وجباته في أواني يشبه تصميمها مقاعد الحمامات.. وفي مقطع آخر كيكة معمولة على شكل طفل صغير ، ويأخذ احدهم السكينة ليبدأ بتقطيع -الطفل الكيكة- وتقديمها للضيوف وهم يشاهدون عملية التقطيع محتفلين فرحين بمناسبتهم .. ومقطع آخر يقدم تصميماً للكيك على شكل حذاء !!!
وأخذت حالات عنف غريبة تظهر داخل الأسرة وصلت في بعضها حدّ القتل مقابل أمر تافه لا يتجاوز القليل من المال أو لمجرد انفعال ، مثلما كنّا نستغرب ونحن نسمع الإرهابي في جلسات التحقيق عبر وسائل الإعلام حين يقول انه تقاضى اجراً في حدود 50 الف دينار او 50 دولاراً مقابل كل عملية قتل أو ذبح يرتكبها بحق مخطوف أو طفل أو امرأة أو أسير ، وبعضها يندرج ضمن السلوكيات البشرية الشاذة..
واسهم الدور الخطير للإعلام المضاد في إظهار هذه السلبيات والعمليات الإجرامية ، وربّما تضخيم احداثها ، لتبدو مرعبة في عيون واسماع الناس بحيث تترك فيهم احساساً بعدم الأمان يوثقه الدور البارد لإدارات البلاد في التعاطي مع هذه الأزمات والحالات الإجتماعية المستحدثة بفعل ما تعيشه البلاد في عهد الإحتلال الأمريكي ..
وكان للعالم الإفتراضي دوره وهو يفتح نوافذه عبر شاشات الآيباد والآيفون والحواسيب والموبايلات ، دون رقابة مسؤولة واعية من قبل الجهات الرسمية وكثير من الناس ، للأخذ بنظر الإعتبار اختلاف مستويات المتلقين حيث الطفل ، والمراهق ، والمرأة ، ومحدود المعرفة .. الى الحد الذي باتت فيه الحياة الجديدة مصدر قلق كبير لكثير من الآباء والأمهات الذين كانوا يتوقون لرؤية وجه جديد للبلاد ينعم فيه ابناؤهم بالحرية والتطور والإستقرار بعد ان انهكتهم سنوات الإنقلابات والمؤامرات والدكتاتورية ، فهم اليوم يعيشون عهد صناديق الإقتراع وحرية الكلام والتعبير لكن أدوات هذا العهد الجديد مخيفة مرعبة هددت سكينة الأسرة ، وصار الخطر قاب قوسين او ادنى منها ، ولعله دخل البيت على علم اهله به وجهلهم بمخاطره ، كونها تفرض نفسها من ضرورات الحياة اليوم ، فإن شكلاً من أشكال الأزمة ظهرت بين الآباء والأبناء ، وهو ما الجأ الأبناء الى الإغتراب المعنوي ، فالشاب يعيش مع اسرته في جوّ يظهرون فيه كأشخاص يجمعهم مكان واحد ، بعد ان كانت الأسرة ، ولا يزال كثير منها لحد الآن ، تعيش كأنها كيان واحد موزع في عدة أشخاص ، فالجميع يعيش حالة فرح ومرض وحزن احدهم ، والواحد منهم يعيش احساسه بالمسؤولية تجاه الجميع ..
واذا كانت هذه الأزمات قد جعلت الأهل في حالة قلق مزمن ، فإنها جعلت الشباب في حالة من الضعف واللاتوازن ، يقابلها الحاجة الداخلية الملحة عليه في اثبات ذاته وصناعة شخصيته .. أفرز هذا الصراع أشخاصاً انفعاليين ، سريعي التأثر ، لا يعطون لنصيحة الآخرين حضوراً في واقعهم ، يحملون في ذواتهم شيئاً من التمرد على الواقع الأسري والإجتماعي والديني والاخلاقي ، ما دفع البعض الى القيام بسلوكيات غريبة يحاول من خلالها اثبات ذاته ، والإيحاء لنفسه بأنها موضع انظار الآخرين دون الأخذ بنظر الإعتبار إيجابية أو سلبية تلك الأنظار ، فأصبح الشاب مقحماً في تفاصيل حياته بوضعيات معينة يفرضها واقع الحال من خلال مسميات عليه تقبلها ، فظهرت امواج من الملابس والأكلات وقصات الشعر والأفكار ، في بعضها خروج فاضح واضح على الذوق العام والحدود المألوفة للتعبير عن الأفكار والنوازع الداخلية والرغبات ، فصار الشاب يرتدي ثياباً ضيقة ويحمل أفكاراً ضيقة ويأكل ساندويجاً ملغوماً ويشترك في مجاميع الكترونية على مواقع التواصل الاجتماعي يتبادل الأحاديث مع آخرين عن العنف والإلحاد والهروب من الواقع والعيش في فضاء الأحلام والخيالات والامنيات الوردية، تاركين واقعهم تعبث به جهات وأشخاص لا يشغلهم سوى المصلحة الخاصة فردية كانت او جهوية ، ما أسفر عن سبعة ملايين عراقي يعيشون تحت خط الفقر و70% بطالة في صفوف الشباب واكثر من 160 الف حالة طلاق في السنة وارتفاع معدلات الأمية حتى 35% وكثرة الأمراض المفاجئة وتقلص حجم الحكومة الى الحد الذي دفع مرضى السرطان الى الخروج بتظاهرة يطالبون فيها بتوفير علاجهم في مستشفيات الدولة ، وامتد الإنحراف ليصل الى الأسرة في سلوكياتها ، فصرنا نسمع عن (حفلات الطلاق) و (الطلاق العاطفي) و (الغش الجماعي في الإمتحانات العامة ) ، وتغييب الإنسانية في المهن الطبية واستحواذ الأنانية والمادية على طريقة التعامل مع المريض من قبل بعض الأطباء والصيادلة ومختبرات التحليلات المرضية ..
هددت هذه الإشياء ركناً مهماً في الحياة وهو الثقة .. ثقة الشخص بنفسه وبمحيطه وبدينه وتاريخه ، ولعله تصدّع لدى البعض مما ادّى الى ظهور شخصية الشاب المنفعل ، قليل الحكمة ، سريع الاندفاع ، قليل الصبر ، قليل الخبرة ، غير جاد في حياته ، متحير ، غير مستقر ، تحتل المادية أجواء تفكيره ، فصرنا نسمع عن حيل وأساليب خطيرة تقوم بها الأسرة كي تضمن تفوق ابنها في الإمتحانات العامة من اجل الظفر بكلية من كليات التعيين المركزي ، وحيث فشل ادارات البلاد في احتواء الأزمات ومنع تحولها الى اوبئة وامراض مزمنة يعانيها المجتمع ويصارعها أو يألفها كما هو الحال مع البعض ..
مع كل هذا التهديد الخطير المحيط بالشباب ، لايزال في كثير من المشاهدات والتجارب متماسكاً صابراً يتلوى ويعاني حدّ الاختناق لكن دون ان يموت ..
ان الحديث عن مسؤولية وصول الحال الى هذه الدرجة من التدهور لا يكاد يخفى ، ولسنا نريد الوقوف عنده قدر ما نريد ان نعالج وندرك ما بين ايدينا خشية فوات الأوان ، ولأن التصحيح والإصلاح في خضم الفوضى التي نعيشها في البلاد يحتاج الى قوى كبرى وامكانات تفوق حدود الأمل والرغبة في العيش الآمن والسليم ، فإن الوعي هو السبيل الى النهضة التي يراد بها بناء البلاد ، فحين يصبح المجتمع على درجة عالية من الوعي سيتمكن من احتواء الأزمات ، والحيلولة دون ان تصبح اشكاليات تهدّد سلامته..
وحين يضع الشاب في اعتباره ان الدين يبحث عن الإنسان من حيث هو كيان وهوية ، ومن حيث هو وعي له بصمته الخاصة بكل شخص كما لبصمة ابهامه ، أكثر منه شخص يراد منه ممارسة طقوس وعبادات ، لا شك ان رؤية جديدة مشرقة ستشغل تفكيره ..
وحين يضع الشاب في اعتباره ان السياسة تنظر اليه كياناً فاعلاً مشاركاً حقيقياً في بناء الدولة ، وليس موضع استغفال اصحاب الأجندات الخاصة والمصالح العابرة للإنسانية والكرامة والحقوق.. لا شك ان رؤية جديدة مشرقة ستشغل تفكيره ، تأخذه بعيداً عن وساوس الاستغلال ، أو اليأس من تحقيق التغيير الإيجابي على مستوى الذات الشخصية وعلى مستوى المسؤولية الجماعية ..
وحين يضع الشاب في اعتباره ان العلم يصنع الحياة السعيدة ، ويذلل العقبات ، وليس وسيلة للحصول على الشهادة الجامعية الموقوفة على التعيين والوظيفة المجزية من حيث المرتب واعتبارات المظهر فقط ، بل هو للإرتقاء من مرحلة البشرية الى مرحلة الانسانية ، حيث التفكير والتأمل وصناعة الوعي .. حيث العقل مصدر التغيير الإيجابي في المجتمع والذي يحتاج الى التأمل الذي يوفر له اجواء التحكم بالأفكار والهواجس والخواطر التي تمر على الإنسان وتلح عليه حسب ظرفها الزماني والمكاني وطبيعة الحدث ..
ربما يخبرك التأمل انك سبب من أسباب المشاكل التي تعيشها ، واذا قبلت من عقلك بهذه النتيجة وفكّرت بها جيداً ستبدأ مرحلة التغيير الإيجابي معك خطواتها الأولى..
ان نوع التفكير يؤدي دوراً مهمّاً في صناعة الشخصية ، فالقبول بفكرة (الحظ والنصيب) والإستسلام لها ينتج شخصية غير قادرة على التغيير ، أو هي لا تبحث عنه ولا تفكر به ، أو تتحاشاه مع المتغيرات والظروف التي يتقبلها العقل كونها اكبر من قدرة مواجهتها أو التحكم بها ، لذا فالإستسلام لها مع بعض الحرص والحيطة من الوقوع في الأسوء سيكون هو حال تلك الشخصية ، أما العقل الذي يخبر صاحبه ان تجربته خاضعة لإرادته ، وانه يملك الإختيار ويملك تفعيل اختياره ، وانه لا يخوض تجربة ما ، لأنها مفروضة عليه ، أو وجد نفسه داخلها ، بل يخوضها لأنه يعرف ماذا يريد ان يستنتج من تلك التجربة ، مثل هكذا شخصية تفكّر بالتغيير الإيجابي كونه التجربة التي عليه خوضها للخروج من الإشكاليات والمشاكل التي يتعرض لها..
أن تكون رقيباً على أفكارك ، وان تكون انت من يصنعها ، فلن تكون كمن يبرر افعالاً سيئة صدرت عنه، بانّها جاءته من هنا وهناك ودارت في خلده فوجد نفسه منصاعاً لها ..
نعم قد يحدث هذا ، وهنا يأتي دور القلب ليسهم الى جانب العقل في معرفة قيمة ما نفكر به أو نتأمله من أفكار..
في حالات الغضب تجد افكارك وقراراتك لا تتفق مع افكارك وقراراتك في حالات الرضى ، مع ان العقل نفسه ، والقلب نفسه في الحالين ، فربّما اوكلت قرارك الى مشاعرك في لحضة غضب ، وربما اوكلتها الى عقلك في لحضة تأمل وراحة .. ولعل من مخاطر العيش فترة طويلة مع وجود الخطأ ، مع وجود الظلم ، مع وجود الباطل ، مع وجود الإنحراف ، يقسّم الانسان في داخله الى قسمين لا يتفقان مع بعضهما ، وهو ما يسمونه (انفصام الشخصية) أو (إزدواجية الشخصية) أو (إضطراب الشخصية) أو الشخصية غير السوية.. فقد ظهر هتلر على الرغم من قساوته ووحشيته بالقرب من الأطفال يقدم لهم اللعب ، وفعلها كثير من الحكّام في عالمنا العربي الإسلامي ممن وصفوا بالدكتاتورية والظلم ، وظنها البعض انسانية القائد التي لم يتخل عنها على الرغم من مسؤولياته وقساوة الظروف التي يواجهها وهو يزج بعشرات الآلاف من المقاتلين الى الموت المحقق في سوح قتال انتجتها عنجهيته ، أو تزمته ، أو محدودية تفكيره ، أو ولاءاته ، أو أفكار سيئة صاغها ذهنه في أجواء ملوثة .. وهنا يأتي دور العقل في نهي النفس عن الهوى ، وقد اعطى الإمام علي عليه السلام انموذجاً حيّاً لهذا النوع من الإنسان ، فقد كان يعيش اجواء الحرب بما تحتمله من تشنجات وانفعالات وشدّة واندفاع دون ان يخلع قلبه وعقله قبل نزول الميدان ، بل حملهما معه ليكونا معه وهو يخطو خطواته حتى اذا ما بصق عمر بن ود حال سقوطه ، انصرف عنه الإمام ولم يعاجله بضربة ، ثم عاد اليه بعد حين فقتله ..
لقد كان العقل والقلب في حالة اتخاذ قرار خلال هذه الخطوات التي مشى بها الإمام بعيداً عن ابن ودّ ، ولمّا سألوه كان جوابه يفصح عن قوة الشخصية وتوازنها في اجواء مشحونة بالإضطراب والشدّة ، فقال خشيت ان قتلته حينها ان اكون انتقمت لنفسي بينما انا خارج في سبيل الله ..
يعرف كلّ شخص نوع المشاعر التي يعيشها إزاء حدث ما أو فكرة ما ، ان كانت جيدة أو سيئة ، فالذي يرتضي النجاح بواسطة الغش هو يعلم انه يرتكب خطأً لكنّه يبرر فعله الخطأ هذا على انه سلوك مشاع في المجتمع ، مثلما نشمئز اليوم ونلعن ذلك السيئ الذي انتزع الأقراط من أذن طفلة في حدود السابعة من العمر في معسكر الحسين حتى اذا ما عوتب على قبح عمله برره بأن غيره كان سيفعل ذلك ان لم يكن فعلها هو .. هذه هي الخطورة التي نتحدث عنها والتي نواجهها اليوم ، فنحن نشكو من تعثر الحكومة في ادارة البلاد ، ونشهد احداثاً سيئة وافعالاً غريبة وسلوكيات مرفوضة لكن كثيرين يبررون لأنفسهم عجزهم عن تغيير الواقع أو استسلامهم للأمر المفروض ..
ان الإحباط واليأس والغضب والكره والأنانية تفقد الشخص شعوره بالسيطرة على تصرفاته ، فالأب الذي ضرب ابنته، وهي في عامها الدراسي الأول، ضرباً مبرّحاً لأنها لم تتعلم الكتابة كما يعلمها ، وماتت قبل وصولها المستشفى، انه يعيش الخطورة التي نتحدث عنها ، فهو يبدو سوياً الى ان حرّك بطء استجابة الطفلة ، القسم الثاني السيء في شخصيته والذي لا يتفق مع القسم الأول فيه ، فانهال عليها بالضرب دون وعي منه الى الحد الذي لم يعد يقوى على نهي نفسه عن الإستسلام لهذه الأفكار السلبية وبالتالي اصبح جسمه وحواسّه أدواتاً تنفذ إملاءات تلك المشاعر الخشنة والقسوة المفرطة والتي لا تستجيب لنداءات القسم الثاني بالدعوة الى المصالحة وتمالك النفس والسيطرة على الأعصاب ..
يغلب على كثير من هذه الأحداث غياب الحكمة بحيث تضطرب علاقة التناسب الطردي بين العقل والقلب ، فالفكرة الجيدة لا يصدر معها سلوك سيء ، والجمال لا يتوافق مع القبح ..
يحتاج بناء الذات الى الإيجابية في الأفكار والمشاعر ، الذات المنتجة الجذابة ، وليس الذات الباردة ، أو الذات الرقمية التي هي موضع تحرك وتحكم من قبل قوة خارجية.. ويحتاج قراراً داخلياً يصنعه الشخص في نفسه سواء كان إيجابياً أو سلبياً .. يتدخل في صناعة مثل هذا القرار مستوى الوعي الذي يصل اليه الشخص ومستوى الإدراك ..
أدت ظروف البلاد السياسية والاقتصادية الى فرض أو تهيئة أجواء التفكير السيء لدى كثيرين بسبب النتائج السلبية التي افرزتها مرحلة التغيير والفوضى التي جاء بها الإحتلال ومارستها أحزاب السلطة المنتخبة ، وبدا ذلك واضحاً في كلام بعض طلبة المراحل الدراسية المنتهية في تقرير تلفزيوني سئلوا فيه عن أسباب صعوبة الأسئلة الوزارية ، حين قالوا: انها عملية مدبّرة ومؤامرة تشترك فيها وزارة التربية ووزارة التعليم بتمويل من رؤوس اموال هدفها توسيع منافذ الكسب والربح بغض النظر عن الوسيلة ، فتقام مشاريع التعليم الأهلي والكليات الأهلية على خلفية شيوع فكرة انحسار فرص التعيين واقتصارها على بعض المهن ، ما يجعل الأهل ينفقون اموالاً طائلة لتعليم ابنائهم في مدارس وكليات اهلية ضماناً لحصولهم على احدى المؤهلات المضمونة التعيين حال تخرجهم ، ان تفكيراً سيئاً كهذا، وان كان واقعاً يعيشه المواطن اليوم ، من شأنه ان يؤسس مستقبلاً لأفكار مادية وانتهازية وانانية ، الأمر الذي يستدعي استحضار مناهج سيئة لتحقيق تلك الأفكار السيئة بعيداً عن المكاشفة .. في المستقبل لن تتوقف الجامعات عن تخريج الطلبة ، لكن نوعيات خطيرة من الإزدواجية ستنتشر في المجتمع ، تهدد سلامته وتضرب البراءة والعفوية والجمال الفطري للأخلاق في الصميم بشكل غير مباشر وربّما بشكل مباشر حتى ..
واليوم نشهد ظهور مثل هذه الأشباه البشرية ، فالطبيب الانتهازي لا يخبر مريضه بأنه يستغفله حين يطلب منه تحليلات لا علاقة لها بحالته المرضة ، كما انه لا يخبره انه على اتفاق تجاري مع الصيدلية حين يكتب له شامبو للشعر وهو مصاب بالتهابات جلدية ، لأن المذخر يحتفظ بكميات كبيرة من ذلك النوع من الشامبو واوشك تاريخ نفاذ الصلاحية على الاقتراب ، ولتفادي الضرر المالي ، استغفل المريض..
طبيب آخر لا يطلب اجوراً عالية ، لكنه يعمد الى التكرار الإلزامي للمراجعة ، وان كانت لا توجب ذلك ، لكن المريض لا يملك تقرير وجوب المراجعة من عدمها وان تحسنت حالته، وسيبدو الطبيب مثالاً رائعاً لو أخبر مريضه ان عليه ان يدفع اجرة المعاينة بين زيارة واخرى وليس في كل مرّة ... وهكذا ... ومع الأسف تجذب هذه الأفكار السيئة مثيلاتها ، وتضطر الآخرين في حقل العمل الى تقبلها على مضض مبررين افعالهم بأنها لا تدخل في إطار إيذاء المريض صحياً ، والأجور العالية واقع حال معمول به لدى كثير من العيادات والصيدليات والمذاخر والمستشفيات ما جعل هذا الوباء ينتقل الى اصحاب الأملاك فصار ايجار العيادة مكلفاً وايجار الصيدلية ملكفاً قياساً بمثيلاتها من الاماكن المشغولة لمهن اخرى مختلفة.. وشيئاً فشيئاً يجد المواطن نفسه أمام طبيب متعاطف مع حالته دون ان يقدم له العون وصيدلي متعاطف مع حالته دون ان يعطيه العلاج بكلفة أقل مما هو مطلوب ، سيصبح الكل محكوم ببعض ..
ومع كل هذه الأفكار السيئة والممارسات السلبية تشخص حالات على النقيض تماماً مما ذكرنا .. لكن المساحة التي يشغلها السوء اكبر من تلك التي يشغلها الخير ، لذا تشيع الاخبار السيئة على حساب الاخبار الجيدة ، إلا ان واقعنا يحفل بكثيرمن اصحاب الوعي الذين يتصدون من مواقع اعمالهم لهذا المدّ الخطير الذي يهدد الشخصية ..
الوعي هو البصمة التي لا يمكن تزييفها او استنساخها ، وبوجوده تتوفر سبل متعددة تخفف عن الانسان وطأة الضعف الذي يتعرض له ، إذ يسعفه بأفكار جيدة من قبيل الالتجاء الى شخص موثوق برجاحة عقله وسلامة تفكيره للإستئناس برأيه ، او من قبيل استذكار مواقف ايجابية مرّت تركت اثراً عميقاً في الذاكرة يستشف من اجوائها روح الصبر والتفاؤل .. أو من قبيل استحضار قول مأثور وحكمة بالغة من رصيد الذاكرة تسهم في اضافة لمسة مهمة على واقع الحال قد تخفف من وطأته أو ترشد الى تجاوز الأزمة .. أو من قبيل استحضار لحظات النجاح والفرح التي مرّت سابقاً وتقمصها من جديد لدفع النفس وتحفيزها لتجاوز حالة الوهن أو الأجواء السيئة التي تمر بها ..
ان افضل بيئة ينشأ فيها الوعي هي السلام ، وفكرة السلام تندرج ضمنها أفكار جيدة كالمحبة والتعاون والانسانية والخير والكرامة والإيثار والعفة والأخلاق الحميدة ..
يمرّ الانسان خلال حياته بمراحل متنوعة تحكمها ظروف صعبة تارة ومرنة اخرى ، وهذه بمجموعها تكوّن عنده افكاراً يتدخل الوعي لاستخلاص الجيد منها وصياغتها على شكل تجربة ونصيحة تكون عند حاجة الآخرين ان حاضراً أو مستقبلاً..
يختلف الشخص الواعي عن غيره في انه لا يحتاج المرور بتجربة جديدة كي يستخلص نفعها من ضررها ، فوعيه يؤهله للسير في احوال واخبار الماضين ما يجعله متمكناً من قراءة واقعه وفق ذلك الرصيد من خبرة الأقدمين فنسمع عن فلان انه توقع ان عاقبة هذا الأمر هي كذا ثم يصادق الواقع على توقعاته ، وهو ما يسمونه الحدس او قراءة ما بين السطور وبلسان العوام هو من (اهل البركة والكرامة) ، لأنه (يعرف صفو ذلك من كدره ونفعه من ضرره) وهي النتيجة التي استفادها الإمام علي عليه السلام من اطلاعه على اخبار السلف اطلاعاً وجد معه انه كأحدهم ، وهذا النمط المعرفي يمنح الحاضر امتداداً يتخطى به الأمس فلا يكون نسخة عنه كما هو حاله عند كثيرين ممن لا يتعلمون من تجربة حتى يقعوا فيها وان كان هناك من سبقهم الى مثلها وهؤلاء من يتساوى عندهم الامس واليوم ..
كثير من الناس لديهم الرغبة في التغيير ويبحثون عن الطريق التي يغيرون بها واقعهم الى الأفضل ولكن هذا الدافع وحده لا يصنع تغييراً ، انه بحاجة الى فكر التغيير ، فالطريقة الملائمة للتغيير تأتي بعد القناعة والإيمان بضرورة التغيير ..
في لقاء مع أكاديمي يعمل في مجال النقد الفني أشار الى واحدة من أفكار الإدارات السلبية حين انتقد نشاطاً إدارياً في إقامة جزرات وسطية مصممة لتكون مزهرة بالأوراد مسوّرة بسور سميك من الإسمنت يحول دون الوصول الى تلك الأوراد ، فكان تعليقه على ذلك ان من حق المواطن على الدولة ان يشعر بانجازاتها بلا حواجز ، وانه على الحكومة ان تتوقع من المواطن ان يعبث بتلك الأوراد وهذا مهم كي يتعرف عليها خارج بيته ، وعلى الجهات المعنية ان تعيد تأهيلها اكثر من مرّة حتى ينمو عند المواطن شعوره بضرورة محافظته عليها بنفس القدر الذي يحافظ به على اوراد حديقة بيته..
اذا امتلك الحالمون من الشباب وعياً كافياً ، فإنهم سيسهمون بشكل مميز في تغيير واقعهم وتحديثه ، وتنمية ثقافة مجتمعهم ، فالشخص الحالم هو بشكل او بآخر يريد أجواءً أو يبحث عن أجواءٍ أجمل من تلك التي يقدمها الواقع ، فهو يمتلك مشاعر جيدة وافكاراً جيدة لكنه يصطدم بالواقع السيء فيلجأ الى التخيل ليضع نفسه في أجواء جيدة ومواقف مفرحة ، فإذا تمتع بالوعي الإيجابي سيجد نفسه مندفعاً يمتلك الحافز لتحديث الواقع وتغيير السيء فيه الى خير يتناغم مع الأحلام الوردية والرومانسية التي يتخيلها ..
في كتاب امالي الطوسي ، يقول نبي الرحمة لأبي ذر (يا أبا ذر حاسب نفسك قبل ان تحاسب فإنه أهون لحسابك غداً ، وزن نفسك قبل ان توزن ..)
والحساب يأتي من طرح الإستفهامات ، كيف فعلت هذا ولماذا لم افعل كذا ولم لم اقل كذا وماذا سيكون لو انني فعلت كذا ..؟
وتأتي مرحلة اعطاء النفس قدرها بقوله زن نفسك ، ووزن النفس باعطائها قدرها الذي يتأتى من وعي الانسان بنفسه ، ولكي يجد طريقاً صحيحاً الى ذلك قال الإمام الكاظم عليه السلام:
(ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كل يوم ، فإن عمل خيراً استزاد الله منه وحمد الله عليه ، وان عمل شيئاً شراً استغفر الله وتاب اليه..) ، فأهل البيت هم القدوة في معايرة الافعال والسلوكيات ومدى اقترابها من افعال وسلوكياتهم عليهم السلام ، وتعتمد الدراسات النفسية على قاعدة محاسبة النفس في بناء الشخصية والنجاح ، اذ تفيد الدراسات بأن من عوامل واسرار النجاح ان تراجع ما حدث لك في يومك قبل ان تنام وتفكر بتلك الأحداث وتبحث عن التصرف الأفضل الذي كان ينبغي ولم يسعفك الوقت او التفكير للقيام به فاستبدله في ذاكرتك بالأفضل وفكّر بأنك ستقدم الأفضل اذا مرّ بك موقف كهذا ، ثم نم متوكلاً على الله سبحانه وتعالى وكلمة (منّا) في قول الإمام الكاظم عليه السلام هي من مفاتيح الارتقاء بالشخصية والوصول بها الى مواصفات ما كان يتمتع به اهل البيت عليهم السلام ، ثم تأتي مرحلة (الاستغفار) من الاهمية بمكان في اعادة ترتيب وتنظيم التفكير والاعمال والسلوكيات فقد يفكر البعض في عمل الخير ويستعد لذلك لكنه وبحكم محدودية معرفته واطلاعه وخبرته ووعيه قد لا يعرف ان ما يعتقده صحيحاً ، هو فعلاً كذلك .. ولعله سيستغرق وقتاً حتى يرى مصدراً موثوقاً يعتمده في اكتساب معرفته واطلاعه وتنمية خبرته ورسم ملامح ثقافته ..
يروى ان رجلاً سأل الإمام الصادق عليه السلام : ادعو فلا يستجاب لي ؟ فقال له الإمام لعلك لا تستغفر ..
استغفر الله كل يوم في اخره مئة مرّة مدّة سنة .. ويقال ان رسول الله صلى الله عليه واله ، كان يستغفر الله كل يوم سبعين او مئة مرّة .. ويقول المولى جل شأنه في سورة نوح : ( وقل استغفروا ربكم انه كان غفارا ، يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم باموال وبنين ويجعلك لكم انهارا) ..
الاستغفار في اللغة هو طلب المغفرة والعفو من الله سبحانه ، وهو كلمة السر التي تفتح للمرء نافذة الى تصليح اموره ، وقد لا يلق ذلك اهتماماً كبيراً لدى كثيرين ، لأنه مرتبط بأمور معنوية وروحية وايمانية ، بينما غلب على الانسان تيقنه بالأمور العينية والحسية والمادية ، لكن سياق الآية الكريمة يفصح عن كثير من المكافآت التي تنتظر المستفغر ..
ارتبط المال بأفكار سيئة عند كثير من الناس فهو مصدر الفتنة والمتعة والشر ، فبالمال باع عبيد الله بن العباس قيادته لجيش الإمام الحسن وتسبب في كسر همم المقاتلين ..
وبالمال ساهم عدد من العراقيين في دعم وجود القوات الامريكية ..
وبالمال غدرت زوجة الإمام الحسن ودسّت له السمّ ..
يقابل هذا ، تخلي زهير بن القين عن امواله واملاكه ليلتحق بركب الحسين مع علمه بأنه لن يرجع بعد انتهاء المعركة ..
قصص كثيرة ، منها المثير للدهشة ومنها المحزن .. منها الغريب والسيء والقبيح ، وفيها الإفراط والتجاوز و.. و..
استخدم المال كما في السابق ليكون سلاحاً فعالاً في تحطيم بنية المجتمع وسلامته ، فمثلما اشترى عبيد الله بن زياد سيوف فرسان قبيلة هاني بن عروة بالمال بعد ان كانوا مصدر تهديد له ولمن معه ، فتفرقوا على الرغم من مكانة هانئ في قومه ..
كذلك استخدم الاحتلال المال لشراء ذمم وارواح كثيرين بعد ان صدّرت لهم فكرة الدولة الإسلامية عبر أشخاص برمجت عقولهم على التكبير عند ذبح الأسرى والاطفال واغتصاب النساء وإقامة الحد الشرعي الذي اعتقدوه كما حدث بالأمس مع الخوارج ، وكما سوّق ابن زياد لجيش الشام ليلوث الجو العام في الكوفة فيستنشقه الضعفاء من اهلها فيحدثون ضوضاء تربك الخط العام وهو ما حصل..
كذلك حصل بعد اكثر من الف عام على ذلك التاريخ الدامي المظلم ، فقد كان خليفة دولة الخرافة يصلي بجنده ثم يمضون لقتل الناس وتهديم قبور الأنبياء والآثار وتغيير أخلاق الناس وإرغامهم على تقبل المنهج الجديد وتعليمهم القرآن بلغة السياط وجرّهم الى المساجد للصلاة ورجم المتأخرين عن حضورها ..
الحياة حلوة خضرة كما ذكرنا في حديث لنبي الرحمة ، وان يريد الشعب الحياة ، فهو بداية طرق الوعي في جو نقي وفطرة سليمة توجه هذه الإرادة باستحضار الأفكار الجيدة عن الحياة ، عندها ستكون مطالب الجماهير موضع استجابة القدر كما في قصيدة ابي تمام :.
اذا الشعب يوماً ارادد الحياة فلا بد ان يستجيب القدر
برزت الدوافع الانفعالية في كثير من تظاهرات الشارع العراقي وكانت آنية أو تراكمية اندفاعية ، وعلى الرغم من التقصير الواضح لادارات الحكومة إلا انها تمكنت من احتواء التظاهرات او الالتفاف عليها ، عن طريق الوعود او ارسال ممثلين عنها الى ساحات التظاهر والتعرف على مطالب المتظاهرين ورفعها في مذكرات رسمية الى الجهات المسؤولة للنظر فيها وتحقيقها ، هكذا ضاعت كثير من مطالب الجماهير وسجلت في دفاتر النسيان ، او وجدت في سلات المهملات في مكاتب كثير من المسؤولين كما صرح بعضهم ، فبقي الحال على ما هو عليه ، وربما يزيد الأمر سوءً ، فلعلنا نغفل فاعلية الزمن في ذلك ، فكلما مرّ الوقت على حالة سيئة في المجتمع غدت وضعاً اعتيادياً ، وهو غاية الخطورة ، ولعل رد فعل بعض المسؤولين البارد إزاء معاناة الناس هو اولى علامات تلك الخطورة ، فعندما تمر تظاهرة مرضى السرطان المطالبين بتوفير علاجهم في مستشفيات الدولة ، مروراً عاطفياً على مسمع ومرأى المعنيين واصحاب القرار بحيث تبقى الجهود متلكئة بطيئة في تجاوز هذا التقصير ، على وعي الناس ان يبدأ مفعوله ..
ان الفكرة الجيدة تجلب افكاراً جيدة اخرى داعمة لها ، وحضورها مطلوب من كلا الطرفين ، الجماهير والحكومة ، لكن المشهد العراقي لا يشير الى هذا الحضور ، فالعملية آخذة في اتجاه الفعل ورد الفعل ، كلما تجاهلت الحكومة تظاهرة واغفلت مطالب جماهيرها أو اهملتها أو تماهلت عنها ، او ارجأتها الى وقت بأعذار وتبريرات ، فإن التظاهرة اللاحقة شهدت مواقف عنف ابداها متظاهر هنا ومتظاهر هناك تجاه الحكومة ، الفاظ قاسية تنم عن غيظ كبير وبركان يكاد ينفجر بالناس ويفجر الوضع ، ظهرت بعض علائمه في التجاوز على ابنية تشغلها بعض دوائر الحكومة واحراقها ، قابلها استهجان مسؤول وتلفظه بالفاظ سيئة بحق متظاهرين هتفوا ضده ، ما يجعل الهوة تكبر بين المواطن والمسؤول ، لكن المهم في كل هذا الوضع السيء ان الجماهير لم تفقد فكرة الخير في داخل النفوس تجاه بعضهم وان ابدوا غيره تجاه الحكومة ، فقد سجلت الأحداث كثيراً من المواقف المشرفة الإنسانية قام بها مواطن تجاه آخر تناولت بعضها وسائل الإعلام ، على ان غير المعلن عنه كثير ، وهو ما يشجعنا على الخوض في موضوعة صناعة الوعي ، لإعتماده كثيراً على وجود مثل هذه الخصلة الجيدة.. لكي لا يتساوى يومنا بالأمس ، فنصبح مغبونين وفق قول الإمام علي عليه السلام ) من تساوى يوماه فهو مغبون)..
مغبون تعني مظلوم ، ولطالما كانت هذه الحالة موضع رفض الانسان في مختلف العصور والازمنة والعهود ، فقد كان الشعور بالظلم حافزاً قوياً دفع العبيد والفقراء للإلتفاف حول نبي الرحمة مع علمهم بضآلة قوتهم العددية والعضلية أمام قوة أسياد مكة ، لكنهم تحسسوا ذواتهم قرب النبي ، وشعروا انهم معه يكتشفون شخصياتهم التي كانت موضع ابتذال وإذلال اسيادهم ، فوقفوا الى جانب الدعوة ، فانقلبت الأمور وتغيرت الأحوال وسادت الكرامة ومكانة الإنسان على قوة المال وظلم المجتمع وغلبة الانا ..
ان وصف تساوي الأمس واليوم بالغبن فيه دعوة قوية للتفكير في الحاضر بوعي ، من اجل تحديثه ..
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment