ALSERAT
صدى آلكون ............................................................................ إدارة و إشراف : عزيز آلخزرجي
Thursday, March 06, 2025
شهدت كيف يموت الحُبّ :
شهدت كيف يموت الحُبّ؟
لعل كل البشر يعتبرون الموت العادي نهاية العمر هو الموت .. ربما إستثناآت نادرة منهم يعتبرون ذلك الموت عادياً , أو كما عبّرَ عنه القرآن الكريم بأنه تذوق لا أكثر كما نذوق الأكل أحياناً!؟
أما أنا فقد شهدته بكل تفصيل أمامي و تلمّسته بكل حواسي .. حين وثقت بمن كان يدعي بأنه مع حزب الله و مع نصر الله .. بل مع الله نفسه, ولا يهمه الدّنيا!
و لكن حين جرّبته؛ كان هو الشيطان بعينه .. لهذا أعتقد بإن يوم القيامة سوف يقتص البشر منه قبل الشيطان الرجيم, فقد تغيير تماماً بشكل لا أكاد أصدق إنقلابه حتى هذه اللحظة
هناك أشياء تتغيير و تقتل حتى الحُبّ .. و حين تتغير و تقتل الحُب، لا تعود أبدًا كما كانت .
بل تذبل و تموت فى أعماقنا بصمت .
كقلوب أحببناها بصدق ، ثم طعنتنا بلا رحمة .
فلم يعد لها مكان سوى فى صفحات النسيان .
كالثقة التى منحناها بكل نقاء ، ثم تحطمت على صخرة الغدر .
فلا تُصلحها إعتذارات زائفة .
كالأمان الذى إحتضن أرواحنا يومًا ، ثم إختفى فجأة .
ليتركنا ضائعين بين الخوف و الخذلان .
كأحلامنا التى كنا نراها مضيئة ، ثم إنطفأت واحدة تلو الأخرى .
حتى صار الحلم نفسه مؤلمًا .
كملامحنا التى ذبلت تحت وطأة الحزن .
و عيوننا التى لم تعد تلمع إلا بالدموع .
كالأصدقاء الذين كانوا يومًا وطنًا .
ثم صاروا غرباء يمرون بنا دون إكتراث .
هناك أشياء عندما تنكسر ، لا تُصلح ، لا تُنسى ، و لا تموت تمامًا .
لكنها تظل تُولمنا كلما تذكرناها!
عزيز حميد
مأساة احسين؛ ين جفاء الشيعة و ظلم السّنة:
مأساة الحُسين؛ بين جفاء الشـــيعة و ظلم ألسُّـــنّة
مُقدمة ألمأساة :
قبل عالم ألذّر .. بستّة آلاف عام ..أبْرمَ الباري ميثاقاً مع آلحُسين (ع) ليكون قدر ألكون الذي سيتحدّى به ربّ ألعباد أصل ألشّر ألذي سيظهر في آلكائنات حتى آلملائكة بسبب ألعلو و آلتّكبر ألذي أصيب به رئيسهم ألشيطان الّلعين و الذي سيُخلع من منصبه, عندما يَعترض و من معهُ من آلملائكة على خلق آدم لاحقاً:
(قالوا أ تجعلُ فيها من يُفسد فيها و يَسفك ألدّماء و نحن نُسبّح بحمدك و نُقدّس لك)(1)؟
فكان فصل ألخطاب ألألهيّ مباشرةً مع أؤلئك ألمُعترضين على خلق أبونا آدم (ع) ألّذي سقط في الأمتحان ألعملي بعد نجاحه في آلأمتحان ألنّظري .. ليكون إيذاناً بالبلاء و المحنة للأسف (فعصى آدم ربه فغوى), و لولا توبته لكان من الخاسرين - و كان فصل الخطاب آية إحتوتْ الكثير من آلأسرار الغامضة : (إنّي أعلمُ ما لا تعلمون).
فما الذي كان يعلمه الله؟
و ما هي أصل ألقصّة (ألمحنة) التي ما عرف - لا آلشّيعة و لا آلسّنة ناهيك عن أصحاب ألكتب ألسّماوية – تفاصيلها و أسرارها ألموثقة(2)؟
بعد أنْ أتمّ الباري تعالى خلق أهل الكساء ألخمسة كما إستنبطنا من الروايات و آلأحاديث والقرآن الكريم, قال تعالى للحسين (ع) : أريد تجلّياً في هذا الوجود العظيم بظهورٍ يليق بوجهي و مقامي فيه, لردم ألشّر الذي بدأ الشيطان يكتنفهُ لعلمه بخلقي لكم و إعتباركم أهل بيتي في هذا آلوجود ! فهل لك يا شُبّير (ألحسين) أنْ تكون لها؟
أجابَ آلحُسين (ع) غير مبالياً و بكل بساطة : سمعاً و طاعة .. إنّه من دواعي ألفخر و آلأعتزاز أنْ أكونَ أنا الذي منْ سيتحمل تلك الأمانة التي تبدو أنّها عظيمة جدّاً! لكن منْ أنا مُقابل عظمتك يا خالقي و ربيّ حتى تستشيرني بالرّفض أو القبول؟
ثمّ أنهُ معيَ منْ هم أولى بهذا الأمر العظيم كجديّ و أبي و أميّ و أخي, فلماذا وقع التقدير علينا؟
و ما هذا الأمر الذي يحتاج كلّ هذه المُقدمات و آلأذن و آلتحضير و أنت القاهر فوق الخلق و الكائنات و الوجود؟
قال تعالى: لِكُلّ من ذكرتَهم – جدّكَ و أبيكَ و أمكَ و أخيكَ – يوماً! لكنْ لا يومَ كيومكَ يا شُبّير!؟!
ثمّ بيّنَ تعالى أصل ألمأساة بآلقول : سأخلقُ بشراً من صلصالٍ من حمأ مسنون, و سيكون هناك مراتب و أحداث و محن, و الكثير منهم سَيَكْفرون و يستكبرون, لأنّ الذي يُقدسني حتى هذه اللحظة ذو شأن عظيم, هو رئيس ملائكتي , و قد عبدني أربعة آلاف عام و ما يزال, إلاّ أنه سيختار طريقاً آخر لأستكباره مُتأملاً نيل ما ليس من حقّه, بعدما أصيب بالعُجْب, و هو ماردٌ أقسمَ على غواية العباد إنتقاماً, لأني شئْتُ أنْ أجعلكم خلفائي في هذا الوجود بعدما أثْبَتّم صدقكم و وفائكم لي من قبل, لذلك سيسعى بكلّ كيده كي يعلو عليكم و على أتباعكم, مُحاولاً إثبات موقفه تكبّراً و علواً أمام إرادتي, و ستكون أنت يا حُسين من يتصدى لهذه الأمانة العظيمة لإثبات حقيّ بمشيئتي, و سيأتي دورك بعد خيانة القوم لجدّك و أبيك و أمك الزهراء و أخيك شبر (ألحسن), حيث سينقلب القوم على أعقابهم, لكن يومك سيكون غريباً على أهل السموات و الأرض, و وحدك من سيتحمل أمانتي و صورتي الحقيقة للأجيال في الوجود بعد شهادتك الكونية المباركة, لتكون مثلاً أعلى للأنسان ألكامل ألذي وحده سيعرف سرّ ألوجود عبر آلأزمان و آلأكوان, و ليس هذا فقط بل ستكون مُفسّراً لآياتي و أسباب خلقي لهذا آلوجود .. حيث سيعلم الكائنات تفسير: { إنّي اعلمُ ما لا تعلمون} و لا يبقى بعد ذلك من لا يعرف آلسّر و آلمعنى لو أراد!؟
قال الحسين (ع) ما آلأمر يا معبودي ؟
لقد شغل وجودك وجودي, و هواك هواي , فهل لي الخيار مقابل خيارك و أنا آلعاشق ألمُتيم؟
و هل سينقلب الكون بعد إنقلاب القوم على أعقابهم بعد رحيل جدّي ألذي أمينك و حبيبك و خاتم رُسلك و أنبيائك ؟
قال تعالى: نعم هو كذلك, لكنّك ستكون ناجياً و حائلاً عن وقوع هذا آلأمر ألعظيم ؟
قال الحسين (ع): إذن و الله فُزْتُ فوزاً عظيماً!
قال تعالى هو كذلك, لكنك ستُقتل و يُقطع رأسك ثمناً لذلك.
قال: و عزّتك و جلالك إنها أهون ما يكون عليّ ما دام في رضاك.
ثم أعقب تعالى: لكن ياشُبير (حسين)؛ ليس هذا فقط, و إنّما أصحابك آلأوفياء و أهل بيتك الأبرار و هم خير آلبريّة سيُقتلونَ أمامكَ بأبشعِ صورةٍ .. هنا أعقب شُبّير (ألحسين) بالقول:
هو و هل ذلك سيكون يا إلهي برضاهم أيضاً أم مُجبرون عليه؟
قال تعالى: بلْ بكاملِ رضاهم و إختيارهم.
ثم قال تعالى: لكن يا حسين؛ لا يتوقف الأمر عند هذا آلحدّ! بل سَيَقِتِلُ آلقومُ إخوتكَ و أوّلهم قمر آلكونين أبا آلفضل ألعبّاس.
قال آلحُسين: لقد عرفتُ هذا .. فقد أخبرني للتّو أبي, و كأنهُ يُواسيني, و تَعَهّدَ بأنْ يكونَ أخي ألعبّاس من خيرةِ ألأصلاب قويّاً شهماً ليدافع عني في تلك آلواقعة آلداميّة.
فقال تعالى: نعم و هو كذلك.
ثمّ قال تعالى: يا شُبير (حُسين) عَلَيّ أنْ أُخبركَ بشئ مَهيب و إنْ كانَ يحزّ في نفسي قوله؛ لكنّي أنا الله ألمَلكُ آلحقّ آلمُبين .. و عليّ بيانه و هو:
إنّ فصول ألمحنة لا تكتمل حتّى يستشهد أصغر جنديّ معكَ لتكون واقعة ألطّف و هو إبنك الرضيع عبد الله.
هنا نَظرَ شُبير (الحُسين) و قد تمالك وجوده آلمقدس شيئاً من آلتّوجس و آلتّرقب قائلاً: يا إلهي أ وَ يكونُ ذلك حقّاً؟
لأنّ آلطفل بكلّ ألمقايّس و الأحوال لا ذنبَ و لا جناح عليه؟
قال تعالى: إيّ و عزّتي و جلالي, بلْ إنّ أعوان ألشّيطان سيُقطّعُونَ جَسَدَكَ إرباً إرباً و سَيَسْبُونَ حَرَمَك و عيالك, و سَيَلْقونَ منْ بعدكَ آلكثير من آلأذي و آلغربة و آلذّلة؟
لأنّ تلك آلشّهادة ستَفْصَح عن ألحقّ في كلّ آلكون, و هي العَلَمُ آلذي سَتَرْفَعَها منْ بَعدكَ أُختك زينب لتثبيت خلافتي في آلسّماوات و آلأرض و لو بعد حين.
قال آلحُسين (ع) رضاً برضاك صبراً على قضائك لا معبودَ سواك .. إقضِ ما أنتَ قاضٍ, ستَجِدُني إنْ شاء الله من آلصّابرين.
و هكذا قضى الله أمراً كان مقضيا!
فصول ألمأساة:
سلام على روحكِ ألطّاهرة يا أمّاه .. و أنا أعيدُ ذكراكِ مع عاشوراء ألحسين (ع) .. ما زالت همساتك الحزينة تُراودني, و دموعك تتلئلأ لناظري .. يا مَنْ علّمتيني حُبّ الحُسين .. ذلك آلحُبّ ألحزين .. ألذي سَكَنَ قلبي و كبر معي, ليصير قدري ألّذي إحتواني بلا إختيار, حتى أسال مدامعي, و أقْرَحَ جفوني, و كم لطمتُ على رأسي و صدري و لعنت آلظالمين ألذين فصلوا ذلك آلرأس ألشّريف ألمقدس عن جسده الطاهر أيّام عاشوراء من كلّ سنة.
تصوّرت طويلاً أنّ تلك المأساة وقعتْ مرةً لتخلد أبداً مع آلتأريخ لنعيد ذكراها في موسم مُحرّم ألحرام من كلّ عام و كفى ! و هكذا تعاملنا مع تلك آلقضيّة الكبيرة بلّ ألسّر ألأعظم الذي كان سبباً لحفظ الأسلام على آلأقل في آلأطار الفكري .. و كثيراً ما سألتُ أصحاب المنابر من آلمُعمّمين الذين كانوا يأتوننا من آلنّجف ألأشرف خلال آلستينيات و بداية ألسّبعينات من القرن الماضي لأحياء "موسم" عاشوراء سنويّاً بالطرق ألتقليديّة ألتي إعتادوا عليها حتى يومنا هذا - سألتهم عن معنى و سَبَبِ تكرار مقولة؛ {يا ليتنا كنّا معكم فنفوز فوزاً عظيماً؟}.
و هل نحن الآن خسرنا .. لأننا لم ندرك ألواقعة؟
لكن دون جواب!
لتتحوّل أكبر قضيّة في آلكون بسبب ذلك آلتّعاطي ألخاطئ و آلمُستمر لحدّ الآن مع مرور الزمن؛ إلى مُجرّد مراسم روتينيّة حتّى تَحكّمَ في توجيهها ألطّغاة ألحاكمين و حتّى ألمُعَمّمين لمآربهم و مواقعهم و جيوبهم, مُسْتغلين عواطف ألنّاس ألغرائزية و حُبّهم الفطري و بساطتهم و أندفاعهم نحو آلحُسين (ع)!
كان بيتنا ألقديم أيّأم زمان يتحوّل إلى مأتمٍ و عزاءٍ لأكثر من عشرة أيام ليكون ملتقىً لجميع أهل محلّتنا نُوزّع خلالهُ ألدّارجين و آلشّاي و الطعام و آلسّكائر, ثم تعود الحياة لمجاريها بمجرد إنتهاء عشاء الليلة الحادية عشر من شهرِ محرّم الحرام, و التي سُميت بعشاء آلغرباء - كفصلٍ أخير لفاجعة كربلاء!
و قد يتذكّر ألكثير من آلأخوة ألمُحبّين كيف إنّ رجال ألأمن كانوا يجبرون ألقائمين على تلك آلمآتم و آلحُسينيّات لِتمجيد ألطّاغية ألمقبور صدام ألذي قتل أحفاد الحسين(ع) هو آلآخر و منع ألشّباب دون سنّ ألثّامنة عشر في بغداد و آلمُحافظات من المشاركة في مراسم العزاء رغم تقليديتها و سلبياتها .. بحُجّة ألحفاظ على هدوء و نظم ألمكان و قدسيّة ألمراسيم.
و هكذا تعاطينا مع أكبر قضيّة في آلوجود بحدود ذلك آلأطار ألتّقليدي, حتّى سنّ ألسّادسة عشرة على تلك آلوتيرة سنويّاً, و لم نكنْ نعي حقيقة شهادة الحسين (ع) و أبعاد رسالته ألعظيمة!
و تلك آلنّهضة ألفاصلة بين خط ألكفر و خط ألإيمان ..
بين آلحقّ و آلباطل ..
بين ألحريّة و آلعبوديّة ..
بين آلتّكبر و آلتّواضع ..
بكل معانيها آلتي ما تزال غامضة في آلحوزات و آلأكاديميات و الأوساط العراقيّة و آلعربيّة و حتّى الأسلاميّة رغم مرور ألقرون عليها.
لذلك إسْتمرّ آلطواغيت بإستغلال ألأنسان مستخدمين ذلك آلنّهج ألتقليدي لأستحمار آلناس و تخديرهم للتسلط عليهم إلى أبعد مدىً مُمْكن, بينما كان يفترض بآلنظام الأسلامي - كونهُ شاملاً و كاملاً لجميع مناحي الحياة - أنْ يتقدّم على بقيّة الأنظمة الوضعية التي كرّست الفساد و الظلم و الأستغلال في آلأرض!
إنّها قضيّة حياة و موت ..
فإمّا أنْ نكونَ مع آلحُسين أو لا نكون ..
و وآلله حين وَعَيْتُ موقف ألحُسين (ع) بفضل ألله؛ رأيتهُ و كأنّه يعيش معنا حيّاً, و لا يتحسّس ذلك إلاّ الأنسان المُؤمن ألصّدوق, ألّذي عاهد الله على آلحقّ و لم يُتاجر بدم ألحسين كما يفعل أهل المنابر و عديمي ألضمير!
حيث تتكرّر تفاصيل عاشوراء معنا كلّ يوم, عبر مواقفنا في الحياة .. بل في كلّ ساعة من خلال تعاملنا و تعاطينا مع مبادئ نهضة الحسين (ع) و تأثيره في واقعنا العملي, و لستُ مبالغاً إنْ قلتُ: كلّ لحظة من لحظات حياتنا و في تفاصيل تحركنا و معيشتنا و صدقنا مع آلآخرين .. و آلذي لا يتحقّق هذا آلمستوى في قلب الانسان ما لم يَقتلَ ذاته!
فآلثّبات على آلحقّ بالصدق مع آلذات في زمن ألدّجل و آلكذب و آلتزوير رغم ما يُكلّفنا هو:
موقفٌ حُسيني بإمتياز!
و تحمّل أذى آلآخرين (ألزوجة \ ألزوج) و آلحفاظ على سلامة و أمن أجواء ألعائلة و المُقرّبين لتنشئة جيل صالح واعي موقفٌ بطوليّ و شجاع!
و مُداراة ألنّاس و آلسّعي لخدمتهم و آلتّواضع لهم, خصوصاً للمُحتاجين و آلمرضى و أهل ألفكر منهم .. هو موقفٌ بطوليّ مُتقدّم يَدُلّ على كثرة ألثمر ألّذي جناهُ فاعله لأيمانه ألصّادق و آلعميق بقضيّة ألحسين(ع)!
و تعديل نظرتنا للمرأة و آلتّعامل معها أخلاقياً و إنسانياً, كما تعامل معها آلحسين (ع) و ذبّ عنها حتى و هو في أصعب و أشدّ ألمواقف حراجةً يوم عاشوراء .. يُمثّل قمّة ألتمسك و آلثبات على آلمبادئ ألّتي ضحّى بنفسه (ع) من أجلها!
و إنّ حفظ صلة ألرّحم, و آلدّفاع عن ألمظلومين .. حيثما كانوا و بمجرّد سماعنا للظليمة و محاولتنا لأسترداد ذلك آلحقّ المُضيّع بكُلّ ألوسائل و الأساليب ألمُمْكنة.. ثمّ آلسّعي لتغيّر ألمُنكر و إبداله بآلمعروف
و الحكم بما أنزل الله تعالى بين آلعباد هو إيثارٌ لا يرقى لمستواهُ شئ!
و آلصّبر على آلطّاعة و آلمعصية عند تعرضنا لهما ..
و طلب ألعلم للأصلاح لا للتظاهر و آلفخر .. هي غاية رسالة الحسين (ع)!
و لا تقلّ عن شهادة و موقف أصحاب ألحُسين (ع) ..
بل عنْ شهادة و موقف ألحسين (ع) نفسه .. مع فارق ألعصمة و درجة آلأيثار, و لا تَعِيَها إلاّ أذنٌ واعية.
فيا شيعة ألحُسين .. إنّ إمامنا آلمظلوم لم يستشهد لمآرب آنيّة؛ أو بسبب مواقف عسكرية؛ أو خلافات سياسيّة؛ أو ضغوطاً إقتصاديّة بحتة كانت وليدة وقتها؛ كما تصوّر آلخطباء و "آلعلماء" و " المراجع" ألتّقليديّون للأسف ..
و لا طمعاً بآلخلافة كهدف ..
إلاّ لإقامة ألعدل بين آلناس ..
و لا للتّظاهر بالعصمة و السّيادة و الأمامة إلاّ كونها حقٌ إلهيّ لا دخلَ و لا حقّ للبشر فيها من ناخِبينّ و وجهاء و شيوخ و أحزاب و غيرها ..
و إنّ شهادته (ع) كانت علامةً و إنذارٌ لمسألتين أساسيتين يمكننا حصرهما بآلتالي :
ألأولى:
وعي فلسفة و غاية أحكام ألأسلام و تطبيقاتها في واقعنا ألمعاش على المستوى الشخصي و الأجتماعي.
ألثّانية:
رفض ألظالمين و آلمتسلطين بالمحاصصة و الأكثرية و الأقلية و الدّيمقراطية و التكنوقراطية و الملكية و الليبرالية و المصالحة و الوطنية و آلمهادنة و التكتلات و آلتشاورات, فجميعها ليس فقط لا تعبر عن حقييقة ألعدالة و روح ألأسلام ألحُسينيّ .. بلْ تُدلّلُ معالمها و وقائعها آلّتي شهدنا عليها؛ على ألوان الأنتهازية و آلتكبر و التسلط و آلتّلاعب بحقوق و أموال ألنّاس عموماً و الفقراء ألمستضعفين خصوصاً لصالح طبقة ألأثرياء و آلأرستقراطيين بدعم و إسناد من آلليبراليين ألدّيمقراطيين و أصحاب الجاه و الخطوط المائلة.
أمّا مسألة الأرتباط بالمُستكبرين فهذا موضوع لا مجال له في قاموس ألشّرفاء و مُحبيّ ألحُسين (ع), حتى لو أقاموا ألمراثي و آلعزاء, أو تبرّعوا بشئ من المال, بل يُعتبر إصطفافاً مع آلظلم رغم كلّ المُدّعيات التي قد يدّعونها كالانتساب للشهداء أو لشيعة الحسين (ع) أو للحسين (ع) نفسه نسبيّاً, فذلك كلّه لا يؤدي سوى لتكريس مأساة الحسين (ع) و إدامتها.
حيث يستحيل أنْ يكون أمثال هؤلاء ألحاكمون و آلمُعمّمون؛ إنسانييون و منصفون في تعاملهم مع حقوق و كرامة ألأكثرية ألمُستضعفة من آلنّاس بسبب تناقض مواقفهم و لقمة ألحرام ألتي تغلغلت في خلاياهم, و آلأموال ألحرام ألّتي إستثمروها بأسمائهم و بأسماء ذويهم و مُقربيهم, و آلأهمّ من كلّ هذا هو؛
عدم إمتلاكهم لرأيهم بسبب تحكّم ألقوى ألكبرى بقضاياهم ألمصيرية و سكوتهم عن ذلك من أجل مصالحهم.
كلّ هذا لأنّ مفهوم ألسّياسة و آلحكم في فكر ألأحزاب ألسّياسية ألوضعيّة و حتّى ألدّينية ألّتي لا ترتبط بولاية ألفقيه في دولنا هو؛
أنْ تَهدم وطنك و تسرق الناس لتبني بيتك و عشيرتك و حزبك!
و كلّنا شاهدين أليوم على أمثلةٍ واقعيّةٍ واضحةٍ في إثنان و عشرين دولة عربيّة مسلمة بالأضافة إلى ثلاثين دولة إسلامية أخرى في بقاع الأرض!
بإستثناء ألدّولة الأسلامية في إيران .. ألّتي تتحكّم بقضاياها ألمصيرية و كرامة أرضها و شعبها وليّ ألفقيه ألذي ورث ألفقاهة من مدرسة ألحسين و أهل بيته(ع) بأمرٍ من آلأمام ألحجّة(عج) بحسب ألتوقيع ألمباشر عنه و الذي ورد فيه:
{من كان من آلفقهاء صائناً لدينه مخالفاً لهواه مُطيعاً لأمر مولاه فعلى العوام أن يُقلدوه].
و آلجّدير بآلملاحظة أنّ إمامنا آلحجة المعصوم(ع) لم يُحدّد ألجنسيّة للمتصدي ألفقيه, و نرجو من آلعرب ألأنتباه لذلك.
ألأمام ألحسين (ع) كما الأمام علي (ع) أرادا الحريّة و العدل و آلرّفاه و آلمُساواة بين آلنّاس, كونهم كأسنان المشط متساوين في الخلق و الأنسانية و الحقوق و لا فرق بين عالم و أمي و عامل و فلاح و تاجر و كاسب و رئيس و مرؤس و مسيحي و مسلم, لذلك فالحُسينيّ أبداً لا يُوافق و لا يُوالي ألظّالمين ألذين يتعاملون بالطبقيّة و الحزبيّة و المحسوبيّة و المنسوبيّة رغم إنّ شعاراتهم و دين دولهم قد تكون الأسلام في آلظاهر - كما هو حال عراقنا اليوم و جميع الدّول العربية – لكن ذلك لكمّ الأفواه و إسكات صوت دعاة ألحقّ ألذين يُريدون تطبيق أحكام الإسلام تحت عباءة ألمرجعيّة ألصّالحة ألممتدة من ولاية ائمة الحقّ من أهل بيت الرّسول (ص).
و هكذا فُعِلَ بعد آلسّقوط بأهل ألعراق ألذين كان أكثرهم يتلّهفُ - خصوصاً ألدّعاة الواعيين - لتطبيق هدف و سرّ ثورة الأمام الحسين(ع) - كي يكون الأسلام دين الدولة بحق .. أحكاماً و تطبيقات و ليس بالشكل و الشعار و الأدّعاء فقط, بل من خلال تفاصيل البنود و المواصفات التي ترد في مواد الدستور الثابت و من خلال سلوك و حياة و أخلاق المتصدين, خصوصاً فيما يتعلق بشخصيّة و مواصفات الحاكم و القائمين على السلطات الثلاث أو آلأربع (القضاء, ألأجراء, ألتشريع, ألأعلام) و نوع العلاقة بينها و بين وليّ الفقيه و صيغ العمل بينهما, و موقع الأنتخابات و مواصفات المُنْتَخَبين و المشرفين على الدوائر و الوزارات بالأضافة إلى القائد العام للنظام الجمهوري ألأسلاميّ ألجّديد, و الذي من المُفترض حسب مفهوم آلأمام ألحسين (ع) أن يكون للمعصوم في زمن الحضور و لوليّ ألفقيه ألذي يمثل ألأمام المعصوم في زمن الغيبة, لكنْ لمْ يحصلْ حتّى أقلّ منْ هذا في عراق الحُسين (ع).
و آلغريب أنّ ألمرجعيّة نفسها مع إحترامنا لها رجعتْ إلى عادتها آلقديمة بينما أثبتتْ ألأمّة وفائها و إستعدادها للتّضحية و آلوقوف بجانبها رغم كل سلبياتها و على آلرّغم من جهلها الواضح برسالة ألحسين(ع) .. مُضافاً لها ألمواقف ألظاهرية ألأيجابيّة للكثير من المسؤولين في النظام الجديد و زياراتهم المنتظمة لها, لكنها – أي ألمرجعيّة - إكتفتْ في بداية ألسّقوط بإصدار مجموعة من الفتاوى الإنشائيّة ألعمومية ألتي إنحصرت مضامينها في (ضبط النفس وحرمة قتل المسلم و آلصبر و التأنّي في المواقف التي قد تُتّخذْ) و كان أسوء فتوىً حين أفتَتْ بآلقول:
[لو أنّ آلسّنة ذبحوا نصف شيعة ألعراق فأنّني لن أفتي بقتالهم]!؟
و لم تتعرّض مرجعيّتنا ألعتيدة أيضاً لا من بعيد و لا من قريب؛ في رأيها و موقفها إلى تفاصيل القوانين و الأحكام المصيرية و المواقف ألشّرعيّة من آلأحداث و المحن ألمصيريّة ألتي تعرّض لها البلاد؛ من خلال أهمّ بنود ألقانون ألأساسيّ؛ كأمور القضاء و الولاية و الفدرالية و حقوق و كرامة الناس و التي هي الأهمّ و فوق كلّ شئ.
لذلك بقتْ ألكتل السّياسية في الحكومة نفسها تعمل برأيها لتتأرجح بحسب هواها و تراوح مكانها في إصدار ألقوانين و إنتخاب و تشكيل الحكومة و إنتخاب المتصدين فيها, خصوصاُ خلال أزمة ألأنتخابات لعام 2010 .. و ما تزال ألأمور تسري بين المحاصصة و الاغلبية و التكنوقراط و هيمنة القوى الكبرى و آلتدخلات ألأقليمية!
و المرجعية ألدينية لم تكن فقط ساكتة؛ بل قفلت أخيراً أبوابها و أعلنتْ مقاطعتها للحكومة و للمجتمع العراقي, و لم تُحرّك ساكناً لأنّ حقوقها و رواتبها كانت مُستمرّة و مضمونة من قبل ألمُمولين من أمريكا و أوربا, ممّا سبّبت ضياع المليارات (أكثر من سبعين مليار دولار) من أموال فقراء الأمة, لتذهب أكثرها في جيوب أعضاء البرلمان و الحكومة و أقطاب ألأحزاب ألسياسية التي ليس فقط لم تقدم ما كان مأمولاً منها بل سببت تدمير العراق, في مقابل تلك الأموال الحرام الكثيرة مع إحترامنا لبعض المخلصين.
كما إنّ ألمرجعيّة التي تدّعي إمتثالها لخط ألحسين (ع)؛ لم تتّخذْ موقفاً واضحاً و إلى الآن و لم تتدخل و لم تنطق بحرف مقابل ما يتعرض له كرامة البلاد و العباد في بلد الحسين (ع) إلى الإهانة و الظلم و الفساد بسبب أهواء المتسلطين و التدخلات الأجنيبة و عوامل الضغط الخارجي و الدّولي و الاقليمي, لتُثبتْ بذلك أنها لم تحكم بما أنزل الله ..
[و منْ لمْ يحكم بما أنزل الله فأؤلئك؛
- هم الكافرون ..
- هم الظالمون ..
- هم الفاسقون](المائدة : 44 و 45 و 47).
لقد إتّخذ ألمصلحون الثائرون أمثال ألأمام الخميني (رض) و الشهيد ألمظلوم الفيلسوف محمد باقر الصدر (قدس) و معهم الآلاف من المؤمنين ألرّساليين و المفكرين و العلماء الذين إستشهدوا -إتخذوا الولاية سبيلاً و نهجاً في الحياة بإعتبارها صمام الأمان لإجراء العدالة و آلأصلاح, و هي آلأوْلى و المُقدَمة على كلّ العبادات ألتّقليدية الأخرى حسب الرواية المشهورة عن الأمام الصادق(ع):
[بُني الأسلام على خمس؛ على الصوم والصلاة والحج والخمس والولاية و ما نودي بشئ مثلما الولاية].
يعني في حالة عدم تَحَكّم الولاية(ولاية ألفقيه في عصر الغيبة هذه) في حياتنا الأجتماعية بكلّ تفصيل فلا أهميّة و لا معنى و لا إعتبار للصّوم و الصّلاة و الحج و الخمس و العبادات الشخصية و المراثي الحسينية و غيرها.
كما أن حديث زرارة(رض) و حديث أبي خديحة(رض) ألمشهورتان و المقبولتان لدى جميع ألعلماء - هما ألحَكمُ ألفصل بين خطابنا و بين خطاب الآخرين من الذين إتّخذوا الأسلام شكلاً بلا مضمون, و شعاراً بلا تطبيق؛ ليكون غطاءاً لمآربهم و شهواتهم و أنانيتهم و تحزّبهم و نهبهم للحقوق للأسف, خارج ولاية المرجعية ألدينية المباشرة لأدراة و توجيه عملهم بما يرضى الله تعالى لضمان سيرهم على خطى آلحسين (ع), كي يُحصروا بموقفهم هذا جهلاً أو تجاهلاً مبادئ ألدّين ألأسلامي ألف سنة أُخر بين جدران المساجد و بيوت الحوزة التقليديّة التي أكل عليها الدهر و شرب.
بالطبع هذا الخطاب ألتقليدي للمرجعيّة ألدينيّة قد أفرح بآلضّمن - من باب تحصيل حاصل - إخواننا (ألدّعاة)(3) عموماً و آلعلمانيين خصوصاً كي تتفرغ ألسّاحة لهم تماماً ليفعلوا الحلال و الحرام كيفما شاؤوا و حسب أهوائهم و مصالحهم, بعيداً عن ألرّقابة ألشرعية ألألهية ألمتمثلة بمرجع تقيّ شجاع مقتدر فوق رؤوسهم ليحكم بينهم بالحق كوليّ للفقيه, يُوجه و يُحاسب المسؤولين وأعضاء الحكومة و كلّ من تُسول له نفسه مباشرةً أو عن طريق مُمثّلين أتقياء في كلّ المؤسسات و الوزارات و الهيئات العليا في الدولة لخدمة الناس بما يضمن كرامتهم و عيشهم.
أنه لَمِنَ المُؤسف جدّاً جدّاً أنْ يُسنّ دستوراً لعراق الحسين عليه السلام مكوناً من أكثر من مائة و خمسين بنداً لتحديد مصير الأمة المنكوبة فيه و هو لا يحتوي على بندٍ إسلاميّ واحد .. و المصيبة الكبرى و التناقض الفاضح هو التصويت على أنّ الدّين الرّسمي للدولة هو الأسلام كما فعل الشاه المقبور و قادة الدول الأسلامية والعربية و صدام المجرم من قبل!
إن ما ورد في مقالنا هو إمتثالٌ لخطاب الأمام ألحسين (ع) و موقفه .. ذلك آلخطاب ألذي لا يَعِي و لا يرعى علماء المسلمين التقليديون من مضمونه و موقفه - جهلاً أو جُبناً أو تثاقلاً- سوى ما يُوافق مصالحهم و فتاواهم و يُؤمّن مصادر رزقهم و حياتهم في إطار ألعبادات و آلمعاملات ألشّخصية بحدودها الضيّقة.
ليبقى المسلمين ألموالين من شيعة أهل آلبيت(ع) بسببهم مُشرّدين و مُشتّتين في العراق و دول الخليج بشكل خاص بحيث يكون وضعهم جاهزاً لكلّ الأحتمالات و آلمحن لاستمرار تسلّط المتكبريّن و المجرمين و آلأنتهازيين عليهم.
أمّا إخواننا ألسُّنة .. فمعظمهم ليس فقط لا يعرفون أصل ألقصّة إلى آلآن مع تفاصيلها!
أو آلفرق بين آلأمام ألحُسين بن علي (ع) ألمظلوم و بين يزيد بن معاوية ألظّالم!
بلْ ألمُصيبة و ألأمرّ من كلّ هذا يقولون :
[ سيّدنا يزيد قتلَ سيّدنا آلحُسين ].
و إنّ آلمُتشدّدين منهم و الذين أعمى الله قلوبهم؛ كآلطالبان يقولون:
[ سيّدنا يزيد بن معاوية ألمظلوم ألغير معروفٌ حقّهُ مظلومٌ من قبل ألمذهب ألشيعي لأنّه إجتهد في قتل الحسين فأخطأ ].
و آلأمرّ ألأمرّ إنّ آلمجرمين منهم كالوهابية يقولون:
[ بأن آلحسين بن علي قتل لأنه خرج عن طاعة خليفة ألمسلمين يزيد ].
و لهذا فأنّنا مع هذا آلوضع ألمتخلّف و آلمأساوي؛
إنْ لم نعي ثم نُجسّد مبادئ ألحسين (ع) ألأصلاحية بعد معرفة حقيقتهِ قبل كل شيئ؛
فأنّ المأساة ستستمر على آلبشريّة بين جفاء آلشيعة و ظلم السّنة.
و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عن رابطة الكتاب و المثقّفين ألمغتربيــــــن
عزيز الخزرجي
azez24_7@yahoo.ca
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة / 30.
(2) لمعرفة ألأسرار ألخفيّة لخلق آلأنسان و آلوجود, راجع ألحلقة الثالثة في الجزء الثاني من كتابنا: "أسفارٌ في أسرار ألوجود".
(3) ألحقيقة نحن نُعَذّر ألدّعاة .. فحين يهرع ألنُّجيفي و آلهاشمي و المُطلقي و الضاري و أقطاب حثالات السّنة البدو إلى أحضان الغرب و الشرق و العربان و الوهابيين و يتوسلون إليهم بأنّهم على إستعداد لفعل أي شيئ مقابل ألحصول على كرسي للحكم مرة أخرى!
من هنا نعطي ألحقّ للأسلاميين و للدّعاة الممسوخين, ألذين أخذو جانباً من آلحكم بالدّيمقراطية ألتي شرّعها القانون ألذي إرتضاه الخصم أيضاً .. بيد إن ألشيعة في هذا الوسط على غبائهم, قد أثبتوا أنّهم أكثر إنصافاً و قرباً من الحقّ و الأنسانية من غيرهم, و يستطيع المراقب أن يرى بأنّ معظم ألمناصب و الوزارات بيد ألسّنة سواءاً العرب أو الأكراد, بمعنى أكثر من ثلثي ألحكومة بيد السنة و الثلث آلآخر بيد الشيعة, بينما نسبة الشيعة إلى السنة في العراق بحدود 75%.
Wednesday, March 05, 2025
خطة ترامب في العراق نقطة الأنطلاق لعالم جديد :
خطة ترامب:”التغيير القادم في العراق” بداية تشكيل العالم الجديد!
#أولا:
أن أكبر النكبات التي أصابت العراق والمنطقة هي نكبة النظام السياسي الهجين والغريب والفاشل والتبعي الذي ولد في العراق مابعد عام ٢٠٠٣ ( اي بعد رحيل نظام صدام حسين) والذي قهقر العراق كدولة ومجتمع ومؤسسات وتأثير في المنطقة . لأن هذا النظام السياسي الذي ولد في بغداد عام ٢٠٠٣ لا مثيل له في المنطقة والعالم” وبالفعل نظام هجين ” واجهته ثنائية استبدادية ” دينية وسياسية” ولد من رحمها الإقطاع السياسي والوصفات الطائفية ونشر الجهل والخرافة وعبادة الأصنام وسرقة ثروات البلاد واصول الدولة بقيادة ( مجموعة جهلة وفاشلين وعملاء، ومجاميع مرضى بالأحقاد وكراهية العراق والعراقيين وكراهية العروبة، ويكرهون البناء والسلام، وعشاق الفساد والدونية وثقافة العنف والترهيب ) … ولهذا يكرهه الرئيس الاميركي دونالد ترامب ويعتبره أحد جرائم بوش الابن وبايدن والرئيس اوباما .وقال عنه ترامب ( العراق اصبح مصنع ل الأرهاب بظل هذا النظام السياسي في العراق ). ولهذا لم يتعامل مع قيادات هذا النظام في ولايته الاولى ( بحيث زار قاعدة الاسد في العراق واحتقر الجميع ولم يرسل عليهم ) اما اوباما فلم يزر العراق أصلا .ولا يحبذ التعامل مع هذا النظام بولايته الثانية بل باتَ من الداعمين للتغيير في العراق ودعم ولادة نظام عراقي وطني قوي !
#ثانيا :
لذا فإن التغيير السياسي في العراق أصبح حتمياً وبدعم المجتمع الدولي هذه المرة. وتقرر كل شيء للقيام بذلك . لانهم يعتبرونه عار على المنطقة و النظام العالمي والمجتمع الدولي. وعار على الولايات المتحدة لأنها أسست ودعمت ولازالت تدعم هكذا نظام سياسي ( فاشل وفاسد وفاشي ويدعم الأرهاب من وجهة نظر المجتمع الدولي ) .والقرار بالتغيير في العراق تقرر قبل وصول الرئيس ترامب لولاية ثانية . ولو كان الفوز من نصيب المرشحة “كمالا هاريس ” ايضا كان التغيير في العراق مقرر ومنتهي. ولكن الرئيس ترامب وعند استلامه طلب التريث ( قليلا ) لانه يريد التغيير في العراق مفتاحاً للتغيير الأكبر والأشمل في المنطقة والعالم . ولهذا تأخر التغيير في العراق لبعض الوقت .ولكن الزلزال قادم بنسبة ٩٩٪ !
#ثالثا:-
ان التغيير السياسي في العراق مسالة وقت ومثلما اكدنا أعلاه . ولكن الرئيس ترامب يريده مفتاح التغيير في ايران والمنطقة والعالم . ولهذا وضع استراتيجية محكمة تتكون من مرحلتين :
١-مرحلة” الاستراتيجية الآنية “
٢- ومرحلة ” الاستراتيجية متوسطة المدى “
ومن خلال هاتين الاستراتيجيتين يطمح الرئيس ترامب لتحقيق هدفين و هما:-
١-الهدف الاول:-الحصول على جائزة نوبل للسلام
٢-الهدف الثاني:- كتابة تاريخ جديد للولايات المتحدة
والهدف الاول :-قد يكون بعيد الان “ولكن هناك ادوات ناعمة تعمل على ذلك ” وقد تاخذ منحى اخر وفجأه تكون قريبه جداً وتكون من نصيب الرئيس دونالد ترامب .
اما الهدف الثاني :- فكتابة التاريخ راسخة في ذهن وعقل الرئيس ترامب و لديه خطط علنيه وخطط خفيه نوه عنها بصوره غير مباشرة ،ومنها زلات لسان ترامب السابقة في مقابلات تلفزيونية قبل دخوله عالم السياسة الحقيقي واستلامه السلطة التنفيذية.
وبالفعل أخذ ترامب يتكلم عن كندا و جرينلاند وقناة بنما وهذه جميعها واضحه للعيان.و لكن لم يتكلم عن خططه الاستراتيجية الخفيه!!!
#رابعا:-
ولكن ماهي خططه الخفية او الاستراتيجية متوسطة المدى ؟
*الجواب:-
١-أن احد اهم الخطط التي ينوي الرئيس ترامب تنفيدها هي الاستيلاء على مضيق هرمز ومضيق باب المندب. وهي الخطط المدعومة بقوة من بريطانيا وإسرائيل ودول اخرى .ونحم نعرف ان مضيق هرمز تحت السيطره الإيرانية الفارسية، وباب المندب تحت سيطرة المليشيات اليمنية التي تتحكم بها إيران .
٢-ومن هنا أمام إيران اختيارين لاثالث لهما:-
*أ:-اما الاستغناء عن برنامجها الصاروخي والنووي وحل الحرس والاستغناء عن المليشيات والاحزاب في العراق واليمن والتنازل عن مضيق هرمز بموجب اتفاق!
*ب:-او الضربة المدمرة والتي ستنهي البرنامج النووي والصاروخي والاستيلاء على هرمز، بالاضافه الى تقسيم دولة فارس الى دويلات حسب القوميات (البلوشيه والعربيه والكرديه والاذريه والفارسيه) وعلى اساس الاديان والمذاهب ايضاً .وستكون نهاية دولة ما يسمى ايران!
#نقطة نظام !
اما في العراق فسيكون تحصيل حاصل القضاء على المليشيات وقادتها والاحزاب الاسلامية الموالية لإيران بضربات انتقائيه وانزالات للقبض عليهم وانهاء وجودهم وقوتهم. لا سيما بعد القضاء على الحرس الثوري الايراني !
#خامساً:-
لماذا هرمز وباب المندب؟
#الجواب:-
١-فحين الهيمنة على مضيق هرمز سوف يتحكم ترامب ب 60% من صادرات البترول العالمية. وحينها لن تستطيع الصين استيراد برميل واحد بدون موافقة الولايات المتحده. بالإضافة الى انه ستكون هنالك جباية ورسوم على مرور السفن والناقلات تحت بند حماية المضيق وتسهيل مرورها!
٢-اما الهيمنة على ” باب المندب” فسوف تعطي الرئيس ترامب امكانية التحكم بقناة السويس ويكون شريك مع مصر. ويستطيع خنقها بالاضافة لقطع الطريق على خطوط الملاحة والتجارة الصينيه مع اوربا وبالاضافة ايضاً ستكون هناك جباية الرسوم العالية باشراف أميركي !
#سادساً :-
١-وبهذا يستطيع ترامب التحكم ب 80% من الخطوط الملاحية والطاقة والتجارة العالمية.ولهذا سعى ترامب قبل تنفيذ هذه الخطط بالذهاب إلى التقارب مع القيادة الروسية والعمل على ايقاف الحرب مع أوكرانيا مقابل احتفاظ روسيا بالاراضي التي استولت عليها، والنأي بنفسها عن الصين ليتم خنقها اقتصادياً.واعطاء ظهرها لإيران . ووافقت القيادة الروسية لا بل صرح الرئيس الروسي بانه ستعقد اتفاقية مع واشنطن بوجود ترامب بالسماح لواشنطن بالحصول على المعادن النادرة التي تحتاج اليها امريكا في الأراضي الروسية ( ويبدو هي مكافأة من الرئيس بوتين إلى الرئيس ترامب )
٢-اما المفاجأة الكبرى فهي اقناع كوريا الشمالية بضغط روسي بالنأي بنفسها عن الصين ودخولها في معسكر روسيا الذي هو يتماشى مع سياسة واستراتيجية ترامب !
٣-اما الصين:- فنعتقد إذا شعرت بانها ستكون وحيدة ومعزولة فانها قد تتهور وتحتل جزيرة تايوان لتحريك المياه الراكدة ومحاولة آشعال حرب عالمية ثالثة وبشعار عليَّ وعلى اعدائي . وان حدثت هذه الحرب العالمية الثالثة فالرئيس ترامب جمّد اقوى حلفاء الصين وكسبهم استباقيا . وبالتالي ستكون حرب خاطفة وخسائرها قليلة. او ربما تخرج امريكا من الجزيرة أصلا !
#الخلاصة :
هذا هو الذي جعل الرئيس الاوكراني وبدعم أوربي ليرفض خطة سلام ترامب في أوكرانيا ” وحدث على اثرها التلاسن بين ترامب وزيلينسكي ” فهي ورطة وقع بها زلينسكي بتخطيط أوربي .والسبب لان هناك خوف أوربي من استراتيجيات ترامب التي وردت بسياق هذا المقال وخوفا ان تكون خانعة لأملاءات واشنطن وترامب وعليها دفع الرسوم مقابل ماتحتاج اليه عبر مضيق هرمز وباب المندب ومنطقة الشرق الأوسط … الخ !
#همسة :
هل عرفتم الآن اهمية وقيمة وموقع العراق ؟ فهو قطب الرحى في منطقة الشرق الأوسط . وفيه عشرات الأوراق الاستراتيجية التي يفترض استخدامها لصالح العراق. ولكن بما ان النظام السياسي وحكوماته المتعاقبة فاشلة وتابعه لإيران فبقيت خانعة وبيضها في السلة الايرانية فكرهها الشعب العراقي والمنطقة والعالم فتقرر تغيير هذا النظام الفاشل والفاسد في العراق !
Tuesday, March 04, 2025
حاسبوا المسبّبين الشيعة قبل خنجر السّنة :
حاسبوا المسببين ألشيعة قبل خنجر السّنة :
نعم .. ولا تعتبوا على الخنجر أو ورور أو مشعل أو مشعان و برزان و غيرهم .. فقد كان الخنجر من قبل خادماً و "راعياً" عند عدي صدام المجرمَيّن المقبورين ؛ لذا إعتبوا على آلشياطيين حسن العامري و نوري المالكي و عرّابهم الجاهل غالب الشابندر و باقي الفاسدين و مَنْ حولهم من المتحاصصين و المرتزقة الذين تسبّبوا في تنمّر و بروز الخنجر و المشعل و البرزان بعد توسطهم و آلسّماح لهم لدخول آلعملية السياسية الفاسدة أساساً بقيادة الأطار التفليشي الذي لا يعرف عضواً منهم فلسفة القانون و آلهدف من الحكم و حقيقة الله, لهذا ليس فقط لم يؤسسوا دولة محترمة؛ بل سوّدوا وجه إيران المهضومة أمام العالم بتصرفاتهم الصبيانية وسرقاتهم المليارية, و آخرها عندما فعلوا ذلك بتكريم المجرميّن و غيرهم من بوابات الفساد المشرعنة؛ إنما فعلوا ذلك ظناً منهم لتهدئة الأمور على حساب حقوق و دماء الشعب المستضعف و شهدائهم الأبرار كآلصدر و قبضة الهدى و آلهم و صحبهم الكرام, ليُحطّموا بغبائهم و مكرهم الشيطاني كرامة و حقوق الشعب العراقي و سيادته, حيث وظّفوا حتى أبناء الفاسدين كمستشارين و معاونين للحكومة السودانية كإبن الخنجر و إبن مشعان و غيرهم من دعاة الخيانة الفاسدين !؟
عزيز الخزرجي
https://vt.tiktok.com/ZSM9CAcWW/
الذنب ذنب الجميع
الذنب ذنب الجميع:
ما ذنب الأطفال الذين يولدون تحت نيران الحروب وأصوات المدافع ؟ ما ذنب الأطفال الذين يعيشون و يترعرعون مع الحرمان والدموع والأمراض ونقص الغذاء والدواء ؟ ما ذنب الأطفال الذين تتشبع عقولهم منذ نعومة أظفارهم بأفكار الكراهية والحقد والإنتقام ؟ هل قدرهم بالحياة أن يعيشوا ما تبقى من أعمارهم معاقي الأذهان يدفعون ثمن نشأتهم الخاطئة التي لم يكونوا هم سبب فيها ، هؤلاء هم غالبية أطفال شعوب المنطقة إما حروب أو حرمان أو غسيل أدمغة ، وعندما يكبرون سيقعون حتماً بأحضان الجريمة أو يصبحون قطيعاً تقاد من قبل هذه الجهة أو تلك أو مشاريع للموت أو كما يسمونه الشهادة أو إرهابيون أو يحيون حياة بلا طموح أو ضحايا لتجارة الجنس والمخدرات لأن ذلك هو كل ما تنتجه ظروف الحياة التي يعيشونها ، في الوقت الذي يصبح فيه أطفال المجتمعات الأخرى علماء ومفكرون وقادة وأكاديميون يتنعمون بحلاوة الحياة يتنقلون بين الكواكب يسبرون أغوار الفضاء ، فعندما نقارن تلك المجتمعات بمجتمعاتنا نلوم أنفسنا و نستحي من المقارنة ونظن بأن الأفضلية الفطرية التكوينية هي لهم وننسى البدايات السيئة التي عاشها أطفالنا الذين هم اليوم شباب هذه الأمة وأن تخلفهم وضياعهم اليوم هي نتيجة طبيعية لما عاشوه بالأمس . فلنتخيل هؤلاء الإرهابيون وهؤلاء القطيع المتخلف الذين صاروا الأغلبية المطلقة في المجتمع يتزوجون ويخلفون جيلاً جديداً كيف سيكون هذا الجيل الجديد وكيف يتربون ؟ بالتأكيد ستكون مناهج تربيتهم هو الحرص على السير بمسلك الآباء ، والسيء لا ينتج إلا الأسوأ ، هذه هي الطريقة العلمية التي يجب النظر بها إلى مآسي وتردي أوضاع مجتمعاتنا المبتلية بأفكار غير سليمة خارجة عن الواقع وقيادات عنيفة تريد إخضاع عقول الناس بالقوة وخاصة الأطفال لأفكار عقيمة فاشلة ، علينا أن ننظر لهذه الجراح بتمعن كي نكشف الحقائق المخفية عن الناس ونكشف لهم مسببات الموت الرخيص للإنسان في هذه الديار ونكشف لهم ماذا جلبت لنا ولأبنائنا تلك الدفعات من المصائب التي لا تنقطع سيولها الجارفة عن مجتمعاتنا ، كي يعرف الناس بأن القادة في ديارنا هم ليسوا الأكثر ذكاءاً وليسوا الأكثر أهلية للقيادة بل هم الأكثر دموية وتطرفاً وانحرافاً وجهلاً . جميع دول العالم تسعى لوضع خطط وبرامج علمية لمستقبل الطفل لأنه هو الأمل وهو المستقبل وهو طعم الحياة ، بينما أطفالنا بلا خطط ولا مناهج كالخراف تربى لتذبح في سبيل الأمة أو لعيون المبادىء والحزب و القائد ، فما نراه الأن من تفوق كبير للدول المتقدمة هو ثمرة أتعاب آباءهم وقاداتهم في بناء الطفل ، وما نراه من تخلف وضعف وضياع الطفل في مجتمعاتنا هو نتاج الظروف العصيبة التي عاشتها بفضل إصرار وتخلف من كانوا يدعون بأنهم رعاة هذه الأمة وشرفها ، هؤلاء الآباء والقادة المتخلفون يغررون الناس بالشعارات الفارغة ويفرضون وصايتهم في تربية الأبناء دون وجه حق ويستحوذون على عقول البسطاء والصغار بإجحاف ، فها هي أمامنا ثمرة أتعاب الشعوب التي قدست الطفل وأعطت له الأولوية في كل شيء ، وها هي ثمرة أفعال هؤلاء الباحثين عن المبادىء الفارغة المتخلفين المهملين مع أطفالهم ؟ . هذه المعادلة من الصعب جداً استيعابها ومعرفتها لمن كان السبب وراء كل هذا التردي والإنحلال ، فنفس جيل الأباء لم يكونوا يعرفون بأنهم أيضاً ضحايا أفكار عقيمة وظروف غامضة مرت عليهم ، هذا الطفل الذي يفقد أبوه في معارك التحرير وجبهات المقاومة كما يحلو لهم تسميتها ويعيش بلا أب سينشأ نشأة ناقصة ، سيعاني ويضطرب وينظر للمجتمع بأنه هو السبب ، ، فما بالك لو وجد عشرات الالاف مثل هذا الطفل في كل بيت في كل شارع في كل حي كيف سيصبح حال المجتمع ؟ فمن غير الصحيح اعتبار المجتمعات الغربية متفوقة بالفطرة فالناس سواسية بالخلقة ولكن الإهتمام والتربية الصحيحة والأجواء المثالية تعطي الفارق . ساداتنا وكبرائنا مازالوا ينظرون بحرص إلى حق الله وينظرون بحرص إلى حق الوطن وحق الحزب والقائد وينظرون بحرص إلى حق الأمة والمبادىء على إنها حقوق واجبة علينا الإيفاء بها ، ولا أحد منهم يستطيع أن ينظر إلى حق الأطفال في العيش الكريم والبناء القويم ولو بجزئية ، فبالنهاية الكل يدفعون فاتورة الويلات والالام التي تتساقط على رؤوس هؤلاء الصغار الأبرياء . لعلهم يدركون يوماً بأن أكبر جريمة إرتكبوها في حياتهم هي سلبهم إبتسامة وضحكات الأطفال عنوة وأمام مرأى التأريخ الذي سيلعنهم بلا رحمة ، فهم يقتلون أمة بأكملها بقتلهم إبتسامة الطفل ظناً منهم إنهم يرضون الرب !
و الذنب و السبب في كل تلك الجرائم التي كانت و مازالت قائمة وسط الأمم و الشعوب ؛ هو ذنب الجميع خصوصا الكبار و المسؤوليين و الأعلاميين الذين باعوا ضمائرهم بشكل خاص لأجل راتب حرام الذين لينشروا و يدعموا ذلك, و هؤلاء هم الذين أشار لهم وزير الاعلام الهتلري حين قال :
[إعطني إعلاما بلا ضمير؛ أعطيك شعباً بلا وهي].
فإنا لله و إنا إليه راجعون.
عزيز حميد مجيد
Sunday, March 02, 2025
هذا هو العراق بعد ربع قرن :
هذا هو العراق بعد ربع قرن!؟
بعد ربع قرن من تحكم "الأسلاميين و الوطنيين و القومجية" .. و بعد تعميق الفوارق الطبقيّة و الحقوقيّة و الأجتماعية و الرّواتب المليونيّة للمحافظين و المسؤوليين و الوزراء و النواب و ذيولهم المرتزقة .. مقابل جيوش الفقراء الذين صحتهم و تعليمهم و معيشة أكثرهم لا تتعدى الـ 150 ألف دينار, لا تكفيه لإسبوع؛ مع هذا الوضع الكارثيّ الظالم يتأمّل البعض مِمّن لم يدخل الحرام في بطنه ولم ينتمي للبعث أو الجيش و الأمن و المخابرات و فدائيّ صدام و هم بعدد الأصابع - هذا إن كان قد بقيَ منهم أحد للآن - يتأمّلون إستقرار و تحسن الوضع و شيوع العدالة و الأخلاق و القيم في عراق الجّهل و التكبر و الفساد و التبعيّة, حيث رفض الجميع بمن فيهم أكثر الأعلاميّين و أساتذة الجامعات و المراكز؛ بيان الحق العلويّ, حيث الأحزاب الإسلاميّة المتوزّرة نفاقاً صورة الصدر و إسم الدعوة و الوطنية و القومجية"التقدمية" المتحاصصة الفاسدة ما زالت تفعل و تنشر الفساد و بآلعمق للأسف بسرقة الأموال المليارية, لعلمهم بأنهم زائلون لا محال لأنّهم في مواجهة شعب ممزّق و مظلوم سيطر عليه كل قبائل الديلم, و لذلك سينتقم منهم عاجلاً لا آجلاً و بشكلٍ أسوء من الإنتخابات السابقة التي رفضوا حتى مجرد المشاركة فيها سوى المرتزقة آكلي السحت و الحرام, و هم أقل من 10% و الله الشاهد.
ولا أدري هل إن السيد مقتدى الصدر الذي ما زال يرفض شكل الحكم و فوانين الدستور ؛ سيقوم بتطبيق العدالة و تحقيق المساواة في الحقوق و المخصصات, إم إنه بعد فوزه المؤكد سيستمر على ما كان عليه السابقون في مسألة الحقوق و الرواتب, هذا مع إننا حدّدنا 10 نقاط كشروط لتطبيق العدالة و خلاص الشعب ممّا يعانيه على جميع الأصعدة و منها السكن و المعيشة و الصحة و التعليم و .. ولا يتحقق ذلك ما لم نغيير ثقافتنا الأسلامية و الوطنية و القومية من الجذور على أساس إن السياسة و الحكم وسيلة لتطبيق العدالة, و بآلذات المساواة في الحقوق و الرواتب و الأجور .. لا لاجل الثراء و إمتلاك الأراضي و القصور و الملايين على حساب الشعب و كما فهمها و فعلها قادة الشعوب و الفصائل و الأحزاب و المثقفين و الأعلاميين من خلفهم :
https://www.youtube.com/watch?v=W7XaGg0BpbQ
عزيز حميد مجيد
Saturday, March 01, 2025
من نتائج عصر ما بعد المعلومات :
من نتائج عصر ما بعد المعلومات: Post Facual Era
مع بدء الألفية الثالثة و ظهور (الفلسفة الكونيّة العزيزيّة) التي أصبحت من أشهر الفلسفات في العالم, حيث كثرت إستعمالاتها كمصطلح من قبل الفلاسفة و أساتذة الجامعات و المؤلفين البارزين في معظم بلاد العالم, و مع توسع (عصر ما بعد المعلومات) رافقه العنف و الحروب و النزاعات و غلاء الأسعار و التفكك الأسريّ و الأجتماعيّ و تسلط مجموعة حزبية صغيرة على مقدرات و منابع القدرة في العالم نتيجة الإنحطاط الرّوحي و تنمر الشيطان و قوّة الشهوة بسبب ضمور آلحُب و موت الفكر والبصيرة في أوساط الناس بسبب لقمة الحرام و سياس الأحزاب و الحكومات الأنتهازية و العميلة بقتل الوعي و الأخلاق و الثقافةو تسويف القيم ليسهل سرقة الناس و بآلتالي توسّع الطبقية, حتى وصل الحال بهم اليوم لئن تسعى ألدول العظمى و حلفائها لتغيير خارطة العالم بسهولة إنطلاقاً من منطقتنا و بآلذات من العراق بتعاون حكوماتنا الفاسدة معهم التي ساعدت على تدمير الثقافة و المفكرين لتحقيق ذلك, لكونها مصدر و منبع الطاقة للعالم, حيث تصدر يومياً بحدود 250 مليون برميل نفط للعالم!
لذلك قال رسول الله(ص) محذراً الناس :
[ثلاثة مجالستهم تُميت القلب؛ ألجلوس مع الأنذال و الحديث مع النساء، والجلوس مع الأغنياء], وقال (ص): [إذا غضب الله على أمة لم ينزل العذاب عليهم غلت أسعارها و قصرت أعمارها، ولم تربح تجارتها، ولم تزك ثمارها، ولم تغزر أنهارها وحبس عنها أمطارها، وسلط عليها أشرارها].
ولذلك كله أسباب, بيّنها(ص) أيضاً بقوله:
[إذا كثر الزنى بعدي كثر موت الفجأة, و إذا طفف المكيال أخذهم الله بالسنين والنقص، وإذا منعوا الزكاة؛ منعت الأرض بركاتها من الزرع و الثمار والمعادن، وإذا جاروا في الحكم؛ تعاونوا على الظلم والعدوان، و إذا نقضوا العهود؛ سلط الله عليهم عدوهم، وإذا قطعوا الأرحام؛ جعلت الأموال في أيدي الأشرار و إذا لم يأمروا بالمعروف و لم ينهوا عن المنكر و لم يتبعوا الأخيار من أهل بيتي؛ سلط الله عليهم شرارهم فيدعوا عند ذلك خيارهم فلا يستجاب لهم!].
و قد أشرنا لهذا المصير الخطير من خلال ألف و ألف مقالة و كتاب و حكمة, منذ أواسط السبعينات و للآن.
للتفاصيل؛ عبر الرابط التالي:
download book the post information era post facual era pdf - Noor Library
تغيير العالم يرتبط بتغيير النظام في العراق:
تغيير العالم يرتبط بتغيير النظام في العراق :
خطة ترامب لتغيير العالم: تعتمد على التغيير القادم في العراق" كبداية لتشكيل العالم الجديد!
و أول خطوة في ذلك التغيير هو تغيير النظام السياسي و محاكمة أو قتل الساسة الحاليين على الرغم من إستسلامهم الكامل لأمريكا:
#أولا:
أن أكبر النكبات التي أصابت العراق والمنطقة هي نكبة النظام السياسي الهجين والغريب والفاشل والتبعي الذي ولد في العراق مابعد عام ٢٠٠٣ ( اي بعد رحيل نظام صدام حسين) والذي قهقر العراق كدولة ومجتمع ومؤسسات وتأثير في المنطقة . لأن هذا النظام السياسي الذي ولد في بغداد عام ٢٠٠٣ لا مثيل له في المنطقة والعالم" وبالفعل نظام هجين " واجهته ثنائية استبدادية " دينية وسياسية" ولد من رحمها الإقطاع السياسي والوصفات الطائفية ونشر الجهل والخرافة وعبادة الأصنام وسرقة ثروات البلاد واصول الدولة بقيادة ( مجموعة جهلة وفاشلين وعملاء، ومجاميع مرضى بالأحقاد وكراهية العراق والعراقيين وكراهية العروبة، ويكرهون البناء والسلام، وعشاق الفساد والدونية وثقافة العنف والترهيب ) … ولهذا يكرهه الرئيس الاميركي دونالد ترامب ويعتبره أحد جرائم بوش الابن وبايدن والرئيس اوباما .وقال عنه ترامب ( العراق اصبح مصنع ل الأرهاب بظل هذا النظام السياسي في العراق ). ولهذا لم يتعامل مع قيادات هذا النظام في ولايته الاولى ( بحيث زار قاعدة الاسد في العراق واحتقر الجميع ولم يرسل عليهم ) اما اوباما فلم يزر العراق أصلا .ولا يحبذ التعامل مع هذا النظام بولايته الثانية بل باتَ من الداعمين للتغيير في العراق ودعم ولادة نظام عراقي وطني قوي !
#ثانيا :
لذا فإن التغيير السياسي في العراق أصبح حتمياً وبدعم المجتمع الدولي هذه المرة. وتقرر كل شيء للقيام بذلك . لانهم يعتبرونه عار على المنطقة و النظام العالمي والمجتمع الدولي. وعار على الولايات المتحدة لأنها أسست ودعمت ولازالت تدعم هكذا نظام سياسي ( فاشل وفاسد وفاشي ويدعم الأرهاب من وجهة نظر المجتمع الدولي ) .والقرار بالتغيير في العراق تقرر قبل وصول الرئيس ترامب لولاية ثانية . ولو كان الفوز من نصيب المرشحة "كمالا هاريس " ايضا كان التغيير في العراق مقرر ومنتهي. ولكن الرئيس ترامب وعند استلامه طلب التريث ( قليلا ) لانه يريد التغيير في العراق مفتاحاً للتغيير الأكبر والأشمل في المنطقة والعالم . ولهذا تأخر التغيير في العراق لبعض الوقت .ولكن الزلزال قادم بنسبة ٩٩٪ !
#ثالثا:-
ان التغيير السياسي في العراق مسالة وقت ومثلما اكدنا أعلاه . ولكن الرئيس ترامب يريده مفتاح التغيير في ايران والمنطقة والعالم . ولهذا وضع استراتيجية محكمة تتكون من مرحلتين :
١-مرحلة" الاستراتيجية الآنية "
٢- ومرحلة " الاستراتيجية متوسطة المدى "
ومن خلال هاتين الاستراتيجيتين يطمح الرئيس ترامب لتحقيق هدفين و هما:-
١-الهدف الاول:-الحصول على جائزة نوبل للسلام
٢-الهدف الثاني:- كتابة تاريخ جديد للولايات المتحدة
والهدف الاول :-قد يكون بعيد الان "ولكن هناك ادوات ناعمة تعمل على ذلك " وقد تاخذ منحى اخر وفجأه تكون قريبه جداً وتكون من نصيب الرئيس دونالد ترامب .
اما الهدف الثاني :- فكتابة التاريخ راسخة في ذهن وعقل الرئيس ترامب و لديه خطط علنيه وخطط خفيه نوه عنها بصوره غير مباشرة ،ومنها زلات لسان ترامب السابقة في مقابلات تلفزيونية قبل دخوله عالم السياسة الحقيقي واستلامه السلطة التنفيذية.
وبالفعل أخذ ترامب يتكلم عن كندا و جرينلاند وقناة بنما وهذه جميعها واضحه للعيان.و لكن لم يتكلم عن خططه الاستراتيجية الخفيه!!!
#رابعا:-
ولكن ماهي خططه الخفية او الاستراتيجية متوسطة المدى ؟
*الجواب:-
١-أن احد اهم الخطط التي ينوي الرئيس ترامب تنفيدها هي الاستيلاء على مضيق هرمز ومضيق باب المندب. وهي الخطط المدعومة بقوة من بريطانيا وإسرائيل ودول اخرى .ونحم نعرف ان مضيق هرمز تحت السيطره الإيرانية الفارسية، وباب المندب تحت سيطرة المليشيات اليمنية التي تتحكم بها إيران .
٢-ومن هنا أمام إيران اختيارين لاثالث لهما:-
*أ:-اما الاستغناء عن برنامجها الصاروخي والنووي وحل الحرس والاستغناء عن المليشيات والاحزاب في العراق واليمن والتنازل عن مضيق هرمز بموجب اتفاق!
*ب:-او الضربة المدمرة والتي ستنهي البرنامج النووي والصاروخي والاستيلاء على هرمز، بالاضافه الى تقسيم دولة فارس الى دويلات حسب القوميات (البلوشيه والعربيه والكرديه والاذريه والفارسيه) وعلى اساس الاديان والمذاهب ايضاً .وستكون نهاية دولة ما يسمى ايران!
#نقطة نظام !
اما في العراق فسيكون تحصيل حاصل القضاء على المليشيات وقادتها والاحزاب الاسلامية الموالية لإيران بضربات انتقائيه وانزالات للقبض عليهم وانهاء وجودهم وقوتهم. لا سيما بعد القضاء على الحرس الثوري الايراني !
#خامساً:-
لماذا هرمز وباب المندب؟
#الجواب:-
١-فحين الهيمنة على مضيق هرمز سوف يتحكم ترامب ب 60% من صادرات البترول العالمية. وحينها لن تستطيع الصين استيراد برميل واحد بدون موافقة الولايات المتحده. بالإضافة الى انه ستكون هنالك جباية ورسوم على مرور السفن والناقلات تحت بند حماية المضيق وتسهيل مرورها!
٢-اما الهيمنة على " باب المندب" فسوف تعطي الرئيس ترامب امكانية التحكم بقناة السويس ويكون شريك مع مصر. ويستطيع خنقها بالاضافة لقطع الطريق على خطوط الملاحة والتجارة الصينيه مع اوربا وبالاضافة ايضاً ستكون هناك جباية الرسوم العالية باشراف أميركي !
#سادساً :-
١-وبهذا يستطيع ترامب التحكم ب 80% من الخطوط الملاحية والطاقة والتجارة العالمية.ولهذا سعى ترامب قبل تنفيذ هذه الخطط بالذهاب إلى التقارب مع القيادة الروسية والعمل على ايقاف الحرب مع أوكرانيا مقابل احتفاظ روسيا بالاراضي التي استولت عليها، والنأي بنفسها عن الصين ليتم خنقها اقتصادياً.واعطاء ظهرها لإيران . ووافقت القيادة الروسية لا بل صرح الرئيس الروسي بانه ستعقد اتفاقية مع واشنطن بوجود ترامب بالسماح لواشنطن بالحصول على المعادن النادرة التي تحتاج اليها امريكا في الأراضي الروسية ( ويبدو هي مكافأة من الرئيس بوتين إلى الرئيس ترامب )
٢-اما المفاجأة الكبرى فهي اقناع كوريا الشمالية بضغط روسي بالنأي بنفسها عن الصين ودخولها في معسكر روسيا الذي هو يتماشى مع سياسة واستراتيجية ترامب !
٣-اما الصين:- فنعتقد إذا شعرت بانها ستكون وحيدة ومعزولة فانها قد تتهور وتحتل جزيرة تايوان لتحريك المياه الراكدة ومحاولة آشعال حرب عالمية ثالثة وبشعار عليَّ وعلى اعدائي . وان حدثت هذه الحرب العالمية الثالثة فالرئيس ترامب جمّد اقوى حلفاء الصين وكسبهم استباقيا . وبالتالي ستكون حرب خاطفة وخسائرها قليلة. او ربما تخرج امريكا من الجزيرة أصلا !
#الخلاصة :
هذا هو الذي جعل الرئيس الاوكراني وبدعم أوربي يرفض خطة سلام ترامب في أوكرانيا " وحدث على اثرها التلاسن بين ترامب وزيلينسكي " فهي ورطة وقع بها زلينسكي بتخطيط أوربي .والسبب لان هناك خوف أوربي من استراتيجيات ترامب التي وردت بسياق هذا المقال وخوفا ان تكون خانعة لأملاءات واشنطن وترامب وعليها دفع الرسوم مقابل ماتحتاج اليه عبر مضيق هرمز وباب المندب ومنطقة الشرق الأوسط … الخ !
#همسة :
هل عرفتم الآن اهمية وقيمة وموقع العراق ؟ فهو قطب الرحى في منطقة الشرق الأوسط . وفيه عشرات الأوراق الاستراتيجية التي يفترض استخدامها لصالح العراق. ولكن بما ان النظام السياسي وحكوماته المتعاقبة فاشلة وتابعه لإيران فبقيت خانعة وبيضها في السلة الايرانية فكرهها الشعب العراقي والمنطقة والعالم فتقرر تغيير هذا النظام الفاشل والفاسد في العراق !
Friday, February 28, 2025
لغة التبرير قتلتنا !
لغة التبرير دمرتنا :
منذ بداية السقوط و العراق هو هو ... لا تغيير نحو الأحسن ؛ بل تغيير نحو الأسوء مع إستحكام التسلط على العراق و بيع حتى خيرات المستقبل العائدة للأجيال القادمة بسبب فساد عقول و أفكار الساسة المتحزبيين المتحاصصين لتلك الحقوق التي لا تعود لهم و ليست من حقهم التصرف بها, و هكذا إلى جانب لغة التبرير الرائدة لتمرير فشلهم و عمالتهم و دنائتهم و قساوتهم ووو.... بسبب دينهم و دعوتهم الفاسدة التي لا حياة ولا برنامج و لا فكر حيّ فيها .. و هذا ما ناقشتهم عليه منذ بداية الثمانينات ثم في تسعينات القرن الماضي و بعد السقوط, و كل قادة التحاصص, و من بينهم جميع الذين صاروا رؤوساء وزراء و وزراء و مدراء و قضاة و أعضاء برلمان؛ و الذين تعصبتْ وجوههم و حقدوا علينا بجهلهم و كفرهم حين طالبتهم بوضع برامج لقيادة الحكومة العراقية – الصدامية - الساقطة حتماً مع بداية الألفية الثالثة على يد الحلفاء .. لكنهم تعجبوا و إنبهروا و هم يعرفوني بأني لا أساوم و ديني ليس كدينهم الذي حصروه لأجل البطن و ما تحته بقليل, لجهلهم بفلسفة الحكم ...!!؟
بل ديني هو دين عليّ و الحسين و محمد فوزي و حسين جلوغان و الصدر و أمثالهم من الذين إبتعد دعاة العار اليوم عنهم و عن نهجهم متنعمين و فرحين بآلرواتب و الصفقات الحرام التي يحصدونها من قوت الفقراء بقوة أسلحة مليشياتهم الفاسدة التي لا تعرف سوى الضغط على الزناد و الكذب و النفاق و التكبر ..
و في كل مرة كانت دعواتهم و تبريراتهم واحدة و مكررة تنحصر في : [... إننا لا نستطيع أن نبني العراق و لا نجلب الكهرباء ولا نبني المصانع ولا البيوت ولا الزراعة ولا و لا .. لأن أمريكا و الغرب لا تسمح لنا]!
أ لا لعنة الله على دينكم و على من علّمكم على هذا الفساد المركب المعجن بآلكذب و النفاق!
و هل أمريكا ترضى بسرقتكم لأموال العراق و تقديمها لبلاد الشام و غيرها!؟
و تلك الخطب و الدعوات هو ما سمعته حتى قبل فترة قصيرة عن لسان مُقرّب من المالكي و حزب الدعوة العار القائم اليوم على الكذب و النفاق و الدجل و لقمة الحرام و ليس حزب الدعوة الحقيقي الذي لم يبق منه أثر أو مقال أو عضو واحد شريف سوى إسمه كلافتة لتغرير الناس الفقراء بها بسبب القيادات المزورة و السطحية التي لا يعرف أثقفهم معنى الحقّ و الباطل و تعريف العدل و فلسفة الحكم و الحياة و الموت .. و منهم الجعفري و المالكي و الحنبلي و العبوسي و العسكري و الخزاعي و الرباعي و العماري و العمري و حتى المسكين العامري و معهم الخنجر و النجعر و الفنجر و المشعن و البرزن و أمثالهم من أولاد الحرام الذين باتوا لا يأكلون و لا يفتخرون إلا بالمحرم 100% ..
لقد جاؤوا لأجل السرقة و لسان حالهم التبريري الأعلامي هو :
[لا يسمحون لنا ببناء العراق .. !؟].
أما لسان حالهم الداخلي بينهم هو :
[لنبني خزينة حزبنا و مستقبل أطفالنا كي لا يسيطر علينا الفقر مرة أخرى]..
ثمّ نسألهم : [هل أمريكا و الغرب و دول المحيطة؛ يسمحون لكم بسرقة أموال الفقراء!؟].
ثمّ إنكم تدعون الدين و الدعوة .. فلماذا لا تسمعون صوت المرجعية العليا التي تعرف الحق أكثر منكم و من آجدادكم]؟
لقد سبق و أن قدمت لكم مقال مع فيلم فيديو عن (جردي النخل) و يسمونه بـ (سنجاب) كندي الأصل عرضته زمن حكومة المالكي ثمّ العبادي, كان مفاده؛ إنّ سنجاباً طيّباً .. و صاحب ضمير يعرف الحُبّ و الحرام و الحلال و الأنصاف و الولاية و يحسّ بالمسؤولية مقابل عائلته و قومه و شعبه و أرضه .. قد عزم على تنظيم إرواء غابته بطريقته الذكية الخاصة التي أبهرتني و العالم, ثم قلت لكم : أ لستم مثل هذا السنجاب!
حيث دعوت الطبقة السياسية المجرمة الإقتداء به لبناء العراق إن كانوا أولاد حلال كحيوان السنجاب ذاك .. و الآن أقدّم لكم فيدو آخر, لإمرأة شابه لا أعتقد بأنها جامعيّة أو مهندسة أو فنية أو أنهت الجامعة, ناهيك عن إنها مفكرة أو فيلسوفة ؛ لكنها قامت و بأدوات بسيطة جداً يمتلكها حتى (الفيترجي و فراش مدرسة أو أيّ مواطن عادي داخل كراج البيت) ؛ إستطاعت أن تصلح سيارة عاطلة تماماً خارجة عن العمل لوحدها و كذلك تصليح دراجة بخارية و أدوات ميكانيكية معقدة وغيرها... بإمكانيات بسيطة جداً جداً .. تدين كلّ حكوماتنا ليس الآن؛ بل عبر التأريخ و بشكل خاص الحكومات الحالية التي توالت علينا بدعم القوى الخارجية و التي تكشف نفاقهم و فسادهم العقلي و الأخلاقي و الإداري و الفنيّ .. بكونهم أصحاب كروش و دنابل و تنابل لم يقدموا بحياتهم خيرا أو يتعلموا مهنة فريدة بسبب ثقافتهم العائلية و الحزبية والعسكرية و السياسية سوى الكذب و النفاق و التكبر و التعالى على الحق واهل الحق, مع ملاحظة : [أن صناعة سيارة أعقد من تأسيس محطة كهربائة]!؟
ولا أطيل عليكم ولا أعرض أكثر من هذا الذي عرضته, سوى الفيدو أدناه الذي يدينهم بكل تفصيل كما أدانهم فيديو (السنجاب) الذي نشرته قبل عقدين تقريباً و الذي يكشف فسادهم و دجلهم و أميتهم الفكريّة و العقائديّة مع عوراتهم التي يشمئز منها حتى نساء الأمازون و ساكني غابات جنوب أمريكا الذين لا يمتلكون سوى الضمير و الوجدان و يشعرون بالمسؤلية تجاه بلادهم و قراهم .. أعرضها أمامكم عسى أن تكون حافزاً لإنقاذ العراق بعد معاقبة الطبقة السياسية و تقديمهم للمحاكم العادلة التي ننتظر إقامتها منذ عقدين, و التي تأملنا إقامتها من قبل السيد مقتدى الصدر الذي إدعى تخليصه للناس من الظلم و الفوارق الطبقية و الحقوقية والذي إن لم يقمها هذه المرة فسوف نحشرهم, بل و يحشرهم الشعب مع تلك العصابات التي حكمت بالمتحاصصة حتى مسخ الشيطان وجودهم, و الأمل بأهل القرى و الجبال و الوديان و المعدان قويّة لتحطيم عروشهم و حصونهم المرتزقة التي من خلالها يسرقون جيوب الفقراء مع سبق الأصرار مع إعترافهم أحيانا بفسادهم الأخلاقي و الإداري و الفني و المالي بلا فائدة لتخدير آلشعب الذي بات الموت و الحياة بآلنسبة له سيان !
إليكم الفيديو | Facebook الذي أبدعت إمرأة شابة في صناعة سيارة لوحدها!؟
https://www.facebook.com/100090046068259/videos/1339408563741545
عزيز حميد مجيد
ملاحظة : شاه إيران حين هرب بسبب الثورة الإسلامية - الأيرانية أخذ معه حفنة من تراب إيران, كان يشمها في أوقات تشوقه لأرضه, أما صدام البدوي الجرذ حين هرب أخذ معه 14 صندون من الدولارات التي حصدها من البنك المركزي بواسطة قصيّ, أما قادة المحاصصة(الدعوة العار) و كل من هرب بعد التقاعد أو الفرار و اللجوء لأوربا و كندا و أمريكا و غيرها ؛ خرج و معه الأموال(الكاش) الحرام التي سرقها من قوت الشعب مع كارتات البنوك كـ(آلكي كارد و الفيزا) ليدر الأموال منها !؟
فكيف لا يتحطم العراق و هذا التفكير المادي الصرف الذي تبرّا منه حتى الشيطان!؟
Wednesday, February 26, 2025
https://www.noor-book.com/publice/covers_cache_webp/2/2/6/5/7d53636a032656f46aaf5abc78837010.jpg.webp السياسة و الأخلاق ؛ مَنْ يَحكُم مَنْ؟ https://www.noor-book.com/en/ebooks-Alfylswf-Alkouni-Aziz-
https://www.noor-book.com/publice/covers_cache_webp/2/2/6/5/7d53636a032656f46aaf5abc78837010.jpg.webp
السياسة و الأخلاق ؛ مَنْ يَحكُم مَنْ؟
https://www.noor-book.com/en/ebooks-Alfylswf-Alkouni-Aziz-
Wednesday, February 19, 2025
أزمة العالم ثقافية : أزمة الأنتربولوجيا في الواقع الثقافي :
أزمة الواقع الثقافي ..........أو
أزمة الأنتربولوجيا في الواقع الثقافي :
مقدمة ..
في القرن الثامن عشر ، قال الفيلسوف الفرنسي “ فولتير “ بمقدورنا إحداث ثورة في العقول في ظرف سنتين الى ثلاثة إذا وجدت الى جانبي خمس أو ست من الفلاسفة ومطبعة . في إشارة منه الى أهمية ثنائية الفكر والنشر في إحداث تغيير إيجابي في المجتمع . نحن اليوم في القرن الحادي والعشرين حيث مخرجات الثورة الصناعية المتطورة ، وما نتج عنها من تقنية وبرامجيات عالية الدقة والسرعة . هيأت مساحة كبيرة للنشر ولحرية التعبير وسرعة وصول المعلومة ، بالإضافة الى ما يتوافر عليه العالم العربي الإسلامي من مفكرين وكتاب وأدباء ومثقفين .مع كل هذا لا تبدو مجتمعاتنا معافاة ، بسبب ظروف وتحولات خطيرة مرّت على البلاد في العقدين الأولين لبداية القرن الحالي ، لذلك نعتقد ظرورة دراسة الثقافة دراسة جديدة تأخذ بعين الإعتبار طبيعة المجتمع ، والطريقة التي يعيش بها المجتمع ، من أجل الحفاظ على المنظومة الإجتماعية من الأذى الذي يراد لها بسبب سوء استخدام التقنية الرقمية ، والحرية الشخصية ، وكثرة وسرعة النشر ، وظهور محتويات هابطة وتصريحات غير مسؤولة ، تمس المنظومة القيمية والأخلاقية والإنسانية والثقافية والدينية بصورة عامة.
ألبيان الكونيّ لفلاسفة ألعالم 2025م:
مسائل مصيرية طُرحت من قبل أسياد الفكر و أساطين العلم و الفلسفة من النّخبة المُميّزة؛ كما كل عام لهداية الطليعة و نجاة الناس بنشر الفكر والوعي و آفاق المستقبل لتقليل العنف والحروب والصراعات على الأقل بعد إختلاط الحقّ مع الباطل وتمرّد الحكومات على حقوق الناس, لأن فلسفة الحكم باتت عند آلجميع هي لضرب الرواتب الحصص حيث ما أمكن ..
لذا سعينا و سهرنا و جاهدنا كثيراً للتمهيد إلى آلعدالة آلتي تتطلب أول ما تتطلب, إتحاد المثقفيّن و الأعلاميين مع آلمفكرين وهكذا مع الفلاسفة الذين هم صمام الأمان لتحديد خارطة الطريق لمسار السلام و السعادة للعالم عبر (الهيئة العليا لفلاسفة ألأمم المتحدة) و التي نأمل بتأسيسها عاجلاً , لترشيد أسس النظام العالمي و تحديد القوانين العادلة لإتمام المهمة الكونيّة – الأنسانية بأفضل وجه – لتلافي وقوع الظلم لأنقاذ الناس من وطأة الحكومات و الأحزاب القائمة بجميع مسمّياتها, فليس بمقدور من يمتلك مجرد شهادة جامعيّة أو حزباً سياسيّاً أو حكومة مركزية أن يصبح رئيسا أو مسؤولاً أو حتى عضو برلمان أو وزير أو رئيس ناجح بنظر حسب عقله الصغير طبقا لمصالحه بآلدرجة الأولى, بل لا بُدّ و أنْ يكون صاحب ضمير و مثقف أكاديمياً و دينياً بإعتباره عرق دساس يتدخل في تفاصيل الحياة , و يا ليته يكن مُفكرأً أو فيلسوفاً صاحب نظريّة كما أكّد أفلاطون و أرسطو في جمهورياتهم و إلاّ فهو الفساد والجّهل الذي سيبقى و يستمر لتدمير العالم لأنّ:
[ألجّهل أصل كلّ شرّ] فما يجري في بلادنا و العالم سببه الجّهل و قلّة الوعي و الطامة الكبرى أن الناس أو ربما أنصاف المثقفين يعتبرون كل من تخرج من معهد أو جامعة هو القادر على إدارة المؤسسات و الحكومات و من هنا يبدأ الفساد الأكبر , لأن الشهداة هي لأجل معرفة إختصاص أو مهنة لأداء عمل معيّن لأدامة الحياة!
و سبب هذا التفكير الساذج و البسيط هو؛ عزوف الناس عن القراءة و الوعي, خصوصاً (بعد ما رأوا"الناس" المُدّعين قد تركوا العمل بما علموا), و إن إنتشار الجّهل و الطبقية يتزايد مع إستمرار تسلط الأشرار و الطواغيب على مقدّرات البلاد و آلعباد فتتفاقم الأحداث و الظلامات و تتعقد الحياة و تنتشر الفوضى و الحروب و العنف و الشقاء ليواجه العالم أزمات حقيقيّة كما هو الحال اليوم, حيث تشير الأحصاآت إلى إنّ 200 مليون هربوا من 135 دولة بحثاً عن الدواء و الغذاء و العيش الأمن, مع وجود مليار من البشر يعيشون في خط الفقر و تحته, بينما خيرات الدّنيا الحالية تكفي لإشباع ثلاثة أضعاف نفوس العالم.
ألحلّ الجذري لهذه المعضلة القائمة و المستعصيّة لها مخرج واحد, هو : نشر ألفكر و المعايير الفلسفيّة الكونيّة إلى جانب (الأصول ألإبراهيميّة العشرة) التي وردت في الكتب السماوية الرئيسية الثلاث؛ القرآن و الإنجيل و التواراة كأساس لتحديد القوانين العادلة المطلوبة لتحقيق المساواة بين الجدميع لتلافي نشوء الطبقيّة و بغير ذلك؛ فإنّ الشّعوب ليس فقط لا تُحقّق ألحدّ الأدنى من فلسفة وجودها و سعادتها؛ بل ستُواجه المردودات السّلبية - العكسيّة و ألوان الشقاء و البلاء, و ممّا يزيد الطين بلّة هي المنابر التقليديّة و الأعلامية الأهلية و الحكوميّة المحدودة, لخدمة أهدافها الشخصية و العائلية و الحزبية و المذهبية الخاصة التي أدّت إلى تشويه ألقيم و الوعي لعموم الناس لينتقل العالم من سيئ إلى أسوء, رغم التطور التكنولوجي و النانوي والذكاء الصناعي, فآلبيان الكوني لهذه السنة المباركة يحث ‘لى إيجاد المشتركات الدينية التي سيحل الكثير من المشاكل الخلافية و يغني العمل المشترك في مواجهات تيارات الإلحاد و الفساد.
لأن إلتقاء العقل عبر الفلسفة الكونيّة العزيزية؛
مع النقل عبر الوصايا الإبراهيمية العشرة؛ هو السبيل الوحيد لخلاص العالم من الظلم و الفساد و الطبقية .. للتفاصيل عبر :
تحميل كتاب بيان الفلاسفة لعام 2025 - إستقراء للماضي وآفاق المستقبل pdf تأليف عزيز حميد الخزرجي - فولة بوك
تحميل كتاب البيان الكوني لسنة 2025م pdf - مكتبة نور
علم الأنتربولوجيا :
قبل دراسة الثقافة و دورها في عملية البناء و الرقي الحضاري ؛ لا بد من دراسة طبيعة الأنسان و التطورات الإنثربولية التي مرّ بها , كي يتسنى لنا الأتكاء على قاعدة رصينة تؤمن نتائج بحثنا لمعرفة الطبيعة الأساسية لدور الثقافة في الحياة .
الأنثروبولوجيا في العصر القديم
.
يجمع معظم علماء الاجتماع والأنثربولوجيا، على أنّ الرحلة التي قام بها المصريون القدماء في عام 1493 قبل الميلاد إلى بلاد بونت (الصومال حالياً)بهدف التبادل التجاري، تعدّ من أقدم الرحلات التاريخية في التعارف بين الشعوب. وقد كانت الرحلة مؤلّفة من خمسة مراكب، على متن كلّ منها /31/ راكباً، وذلك بهدف تسويق بضائعهم النفيسة التي شملت البخور والعطور .ونتج عن هذه الرحلة اتصال المصريين القدماء بأقزام أفريقيا. وتأكيداً لإقامة علاقات معهم فيما بعد، فقد صوّرت النقوش في معبد الدير البحري، استقبال ملك وملكة بلاد / بونت / لمبعوث مصري .
1-عند الإغريق (اليونانيين القدماء ):
يعدّ المؤرخ الإغريقي (اليوناني) هيرودوتس ، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، وكان رحالة محبّاً للأسفار، أول من صوّر أحلام الشعوب وعاداتهم وطرح فكرة وجود تنوّع وفوارق فيما بينها، من حيث النواحي السلالية والثقافية واللغوية والدينية. ولذلك، يعتبره معظم مؤرّخي الأنثربولوجيا الباحث الأنثروبولوجي الأوّل في التاريخ .
فهو أول من قام بجمع معلومات وصفيّة دقيقة عن عدد كبير من الشعوب غير الأوروبية (حوالي خمسين شعباً )، حيث تناول بالتفصيل تقاليدهم وعاداتهم، وملامحهم الجسميّة وأصولهم السلالية إضافة إلى أنّه قدّم وصفاً دقيقاً لمصر وأحوالها وشعبها، وهو قائل العبارة الشهيرة : “مصر هبة النيل ” .
وممّا يقوله في عادات المصريين القدماء : ” إنّه في غير المصريين، يطلق كهنة الآلهة شعورهم، أمّا في مصر فيحلقونها. ويقضي العرف عند سائر الشعوب، بأن يحلق أقارب المصاب رؤوسهم في أثناء الحداد، ولكن المصريين إذا نزلت بساحتهم محنة الموت، فإنّهم يطلقون شعر الرأس واللحية .
وأمّا عن المقارنة بين بعض العادات الإغريقية والليبية، فيقول : ” يبدو أنّ ثوب أثينا ودرعها وتماثيلها، نقلها الإغريق عن النساء الليبيات. غير أنّ لباس الليبيات جلدي، وأنّ عذبات دروعهن المصنوعة من جلد الماعز ليست ثعابين، بل هي مصنوعة من سيور جلد الحيوان. وأما ما عدا ذلك، فإنّ الثوب والدرع في الحاليتين سواء .. ومن الليبيين تعلّم الإغريق كيف يقودون العربات ذات الخيول الأربعة .
واستناداً إلى هذه الإسهامات المبكرة والجادة، يعتقد الكثيرون من علماء الأنثروبولوجيا، أنّ منهج هيرودوتس في وصف ثقافات الشعوب وحياتهم وبعض نظمهم الاجتماعية، ينطوي على بعض أساسيات المنهج (الأثنوجرافي) المتعارف عليه في العصر الحاضر باسم (علم الشعوب) .
وكذلك نجد أنّ أرسطو (348- 322 ق.م) كان من أوائل الذين وضعوا بعض أوليات الفكر التطوّري للكائنات الحيّة، وذلك من خلال ملاحظاته وتأمّلاته في التركيبات البيولوجية وتطوّرها في الحيوان .. كما ينسب إليه أيضاً، توجيه الفكر نحو وصف نشأة الحكومات وتحليل أشكالها وأفضلها، الأمر الذي يعتبر مساهمة مبدئية وهامة في دراسة النظم الاجتماعية والإنسانية.
إنّ الدارس أعمال الفلاسفة اليونانيين يصل إلى معلومة طريفة وذات صلة بالفكر الأنثروبولوجي، وهي: أنّ اليونانيين أخذوا الكثير من الحضارات التي سبقتهم، حيث امتزجت فلسفتهم بالحضارة المصرية القديمة، وتمخّض عنها ما يعرف باسم ” الحضارة الهيليلنية ” تلك الحضارة التي سادت وازدهرت في القرون الثلاثة السابقة للميلاد.
وعلى الرغم من هذا الطابع الفلسفي الذي يناقض – إلى حدّ ما – ما تتّجه إليه الدراسات الأنثروبولوجية والسوسيولوجية (علم الاجتماع)من دراسة ما هو قائم، لا ما يجب أن تكون عليه الأحوال الاجتماعية والثقافية، فإنّ فضل الفكر الفلسفي اليوناني، ولا سيّما عند كبار فلاسفتهم، لا يمكن التقليل من شأنه أبداً.
2- عند الرومان :
امتدّ عصر الإمبراطورية الرومانية حوالي ستة قرون، تابع خلالها الرومان ما طرحه اليونانيون من مسائل وأفكار حول بناء المجتمعات الإنسانية وطبيعتها، وتفسير التباين والاختلاف فيما بينها.. ولكنّهم لم يأخذوا بالنماذج المثالية/ المجرّدة للحياة الإنسانية، بل وجّهوا دراساتهم نحو الواقع الملموس والمحسوس. ومع ذلك، لا يجد الأنثروبولوجيون في الفكر الروماني ما يمكن اعتباره كإسهامات أصيلة في نشأة علم مستقلّ لدراسة الشعوب وثقافاتهم، أو تقاليد راسخة لمثل هذه الدراسات .
ولكن، يمكن أن يستثنى من ذلك، أشعار / كاروس لوكرتيوس / التي احتوت على بعض الأفكار الاجتماعية الهامة. فقد تناول موضوعات عدّة عرضها في ستة أبواب رئيسة، ضمنّها أفكاره ونظرياته عن المادة وحركة الأجرام السماوية وشكلها، وتكوين العالم .. وخصّص الباب السادس لعرض فكرتي : التطوّر والتقدّم، حيث تحدّث عن الإنسان الأوّل والعقد الاجتماعي، ونظامي الملكية والحكومة، ونشأة اللغة، إضافة إلى مناقشة العادات والتقاليد والفنون والأزياء والموسيقى .
وقد رأى بعض الأنثروبولوجيين، أنّ /لوكرتيوس / استطاع أن يتصوّر مسار البشرية في عصور حجرية ثمّ برونزية، ثمّ حديدية .. بينما رأى بعضهم الآخر في فكر لوكرتيوس، تطابقاً مع فكر لويس مورجان ,أحد أعلام الأنثروبولوجيا في القرن التاسع عشر. وذلك من حيث رؤية التقدّم والانتقال من مرحلة إلى أخرى، في إطار حدوث طفرات مادية، وإن كان مردّها في النهاية إلى عمليات وابتكارات عقلية .
وإذا استثنينا أشعار / لوكرتيوس / هذه وما احتوتها من أفكار تتعلّق بطبيعة الكون ونشأة الإنسان وتطوّره، فإنّه من الصعوبة بمكان أن تنسب نشأة علم الأنثروبولوجيا إلى الفكر الروماني القديم، كما هي الحال عند الإغريقيين .
وعلى الرغم من أنّ الرومان اهتموا بالواقع، من حيث ربط السلالات البشرية بإمكانية التقدّم الاجتماعي والحركة الحضارية، فقد وجدوا في أنفسهم امتيازاً وأفضلية على الشعوب الأخرى. فكان الروماني فوق غيره بحكم القانون، حتى أنّ الرومان إذا أرادوا أن يرفعوا من قدر إنسان أو شأن سلالة، أصدرت الدولة قراراً بمنح الجنسية الرومانية لأي منهما ويبدو أنّ هذا الاتجاه العنصري، وجد في معظم الحضارات القديمة، ولا سيّما الحضارات الشرقية : الإغريقية والرومانية والصينية .
3-عند الصينيين القدماء:
يعتقد بعض المؤرّخين، ولا سيّما الأنثروبولوجيون منهم، أنّه على الرغم من اهتمام الصينيين القدماء بالحضارة الرومانية وتقديرها، فلم يجدوا فيها ما ينافس حضارتهم.
كان الصينيون القدماء يشعرون بالأمن والهدوء داخل حدود بلادهم، وكانوا مكتفين ذاتياً من الناحية الاقتصادية المعاشية، حتى أن تجارتهم الخارجية انحصرت فقط في تبادل السلع والمنافع، من دون أن يكون لها تأثيرات ثقافية عميقة. فلم يعبأ الصينيون في القديم بالثقافات الأخرى خارج حدودهم، ومع ذلك، لم يخلُ تاريخهم من بعض الكتابات الوصفية لعادات الجماعات البربرية، والتي كانت تتّسم بالازدراء والاحتقار.
وهذا الاتّجاه نابع من نظرة الصينيين القدماء العنصرية، إذ كانوا يعتقدون – كالرومان – أنّهم أفضل الخلق، وأنّه لا وجود لأيّة حضارة أو فضيلة خارج جنسهم، بل كانوا يرون أنّهم لا يحتاجون إلى غيرهم في شيء .. ولكي يؤكّد ملوكهم هذا الواقع، أقاموا ” سور الصين العظيم ” حتى لا تدنّس أرضهم بأقدام الآخرين.
ولذلك، اهتمّ فلاسفة الصين القدماء، بالأخلاق وشؤون المجتمعات البشرية، من خلال الاتجاهات الواقعية العملية في دراسة أمور الحياة الإنسانية ومعالجتها، لأنّ معرفة الأنماط السلوكية التي ترتبط بالبناء الاجتماعي، في أي مجتمع، تسهم في تقديم الدليل الواضح على التراث الثقافي لهذا المجتمع، والذي يكشف بالتالي عن طرائق التعامل فيما بينهم من جهة، ويحدّد أفضل الطرائق للتعامل معهم من جهة أخرى. وهذا ما يفيد الباحثين في العلوم الأخرى، ولا سيّما تلك التي تعنى بالإنسان.
شارك هذا الموضوع:
• انقر للمشاركة على فيسبوك (فتح في نافذة جديدة)
• اضغط للمشاركة على تويتر (فتح في نافذة جديدة)
• اضغط لتشارك على LinkedIn (فتح في نافذة جديدة)
• اضغط للمشاركة على Pocket (فتح في نافذة جديدة)
• انقر للمشاركة على Telegram (فتح في نافذة جديدة)
• انقر للمشاركة على WhatsApp (فتح في نافذة جديدة)
• النقر لإرسال رابط عبر البريد الإلكتروني إلى صديق (فتح في نافذة جديدة)
• اضغط للطباعة (فتح في نافذة جديدة)
•
التصنيفاتتياراتالوسومأنثروبولوجيا, تاريخ, تيارات
حوار مع أرنست غيلنر : “الخروج من الهامش”
الباحث في الأنثروبولوجيا الأستاذ سليم درنوني لـ ” كراس الثقافة “:” الأنثروبولوجيا تبحث عن المعنى وليس عن بناء الحقيقة”
رأي واحد حول “الأنثروبولوجيا في العصر القديم”
1.
SONIA
2012-11-20 الساعة 11:40 م
– العصور الوسطى في أوربا :
يذكر المؤرّخون أنّه في هذه العصور الوسطى (المظلمة) تدهور التفكير العقلاني، وأدينت أيّة أفكار تخالف التعاليم المسيحيّة، أو ما تقدّمه الكنيسة من تفسيرات للكون والحياة الإنسانية، سواء في منشئها أو في مآلها. ولكن إلى جانب ذلك، كانت مراكز أخرى وجّهت منطلقات المعرفة، وحدّدت طبيعة الحضارة الغربية في تلك العصور، كبلاط الملوك مثلاً، الذي كان يضمّ في العادة، فئات من المثقفين كرجال الإدارة والسياسة والشعراء. (فهيم، 1986، ص 50)
يضاف إلى ذلك التوسّع في دراسة القانون (جامعة بولونيا) ودراسة الفلسفة واللاهوت (جامعة باريس) ممّا كانت لـه آثار واضحة في الحياة الأوربية العامة (السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية) ومهّد بالتالي للنهضة التي شهدتها أوروبا بعد هذه العصور .
لقد ظهرت في هذه المرحلة محاولات عدّة للكتابة عن بعض الشعوب، إلاّ أنّها اتّسمت – غالباً- بالوصف التخيّلي، بعيدة عن المشاهدة المباشرة على أرض الواقع. مثال ذلك، ما قام به الأسقف / إسيدور Isidore / الذي عاش ما بين (560- 636) حيث أعدّ في القرن السابع الميلادي موسوعة عن المعرفة، وأشار فيها إلى بعض تقاليد الشعوب المجاورة وعاداتهم، ولكن بطريقة وصفية عفوية، تتّسم بالسطحية والتحيّز.
وممّا ذكره، أنّ قرب الشعوب من أوربا أو بعدها عنها، يحدّد درجة تقدّمها، فكلّما كانت المسافة بعيدة، كان الانحطاط والتهور الحضاري مؤكّدا لتلك الشعوب. ووصف الناس الذين يعيشون في أماكن نائية، بأنّهم من سلالات غريبة الخَلق، حيث تبدو وجوههم بلا أنوف .
وقد ظلّت تلك المعلومات سائدة وشائعة حتى القرن الثالث عشر، حيث ظهرت موسوعة أخرى أعدّها الفرنسي / باتولو ماكوس Batholo Macus/، والتي حظيت بشعبية كبيرة، على الرغم من أنّها لم تختلف كثيراً عن سابقتها في الاعتماد على الخيال .( المرجع السابق، ص 52)
2- العصور الوسطى عند العرب :
وتمتدّ من منتصف القرن السابع الميلادي، وحتى نهاية القرن الرابع عشر تقريباّ. حيث بدأ الإسلام في الانتشار، وبدأت معه بوادر الحضارة العربية الإسلامية آنذاك بالتكوين والازدهار. وقد تضمّنت هذه الحضارة : الآداب والأخلاق والفلسفة والمنطق، كما كانت ذات تأثيرات خاصة في الحياة السياسية والاجتماعية والعلاقات الدولية .( Darnell,1978, p.259)
وقد اقتضت الأوضاع الجديدة التي أحدثتها الفتوحات العربية الإسلامية، الاهتمام بدراسة أحوال الناس في البلاد المفتوحة وسبل إدارتها، حيث أصبح ذلك من ضرورات التنظيم والحكم .
ولذلك، برز العرب في وضع المعاجم الجغرافية، كمعجم (البلدان) لياقوت الحموي. وكذلك إعداد الموسوعات الكبيرة التي بلغت ذروتها في القرن الثامن الهجري (الرابع عشر ميلادي) مثل ” مسالك الأمصار ” لإبن فضل الله العمري، و ” نهاية الأرب في فنون العرب ” للنويري .
وإلى جانب اهتمّام هذه الكتب الموسوعية بشؤون العمران ، فقد تميّزت مادتها بالاعتماد على المشاهدة والخبرة الشخصيّة، وهذا ما جعلها مادة خصبة من ناحية المنهج الأنثروبولوجي في دراسة الشعوب والثقافات الإنسانية .
وهناك من تخصّص في وصف إقليم واحد مثل/ البيروني/ الذي عاش ما بين (362 – 440 هجرية) ووضع كتاباً عن الهند بعنوان ” تحرير ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة ” .وصف فيه المجتمع الهندي بما فيه من نظم دينية واجتماعية وأنماط ثقافية. واهتمّ أيضاً بمقارنة تلك النظم والسلوكيات الثقافية، بمثيلاتها عند اليونان والعرب والفرس. وأبرز البيروني في هذا الكتاب، حقيقة أنّ الدين يؤدّي الدور الرئيس في تكبيل الحياة الهندية، وتوجيه سلوك الأفراد والجماعات، وصياغة القيم والمعتقدات .( فهيم، 1986، ص54)
كما كانت لرحلات ابن بطوطة وكتاباته خصائص ذات طابع أنثروبولوجي، برزت في اهتمامه بالناس ووصف حياتهم اليومية، وطابع شخصياتهم وأنماط سلوكاتهم وقيمهم وتقاليدهم. فمّما كتبه في استحسان أفعال أهل السودان : ” فمن أفعالهم قلّة الظلم، فهم أبعد الناس عنه وسلطانهم لا يسامح أحداً في شيء منه. ومنها شمول الأمن في بلادهم، فلا يخاف المسافر فيها ولا المقيم من سارق ولا غاضب. ومنها عدم تعرّضهم لمال من يموت في بلادهم من البيضان (البيض والأجانب) ولو كان القناطير المقنطرة. وإنّما يتركونه بيد ثقة من البيضان، حتى يأخذه مستحقّه. (ابن بطوطة، 1968، ص 672)
أمّا كتاب ابن خلدون ” العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر ” فقد نال شهرة كبيرة وواسعة بسبب مقدّمته الرئيسة وعنوانها : ” في العمران وذكر ما يعرض فيه من العوارض الذاتية من الملك والسلطان، والكسب والمعاش والمصانع والعلوم، وما لذلك من العلل والأسباب “. وتعتبر هذه المقدّمة عملاّ أصيلاً في تسجيل الحياة الاجتماعية لشعوب شمال أفريقيا، ولا سيّما العادات والتقاليد والعلاقات الاجتماعية، إلى جانب بعض المحاولات النظرية لتفسير كلّ ما رآه من أنظمة اجتماعية مختلفة. وقد شكّلت موضوعات هذه المقدّمة – فيما بعد – اهتماماً رئيسياً في الدراسات الأنثروبولوجية.
ومن أهمّ الموضوعات التي تناولها ابن خلدون في مقدّمته، والتي لها صلة باهتمامات الأنثروبولوجيا، هي تلك العلاقة بين البيئة الجغرافية والظواهر الاجتماعية. فقد ردّ ابن خلدون – استناداً إلى تلك الدعامة – اختلاف البشر في ألوانهم وأمزجتهم النفسيّة وصفاتهم الجسمية والخلَقية، إلى البيئة الجغرافية التي اعتبرها أيضاً عاملاً هاماً في تحديد المستوى الحضاري للمجتمعات الإنسانية. (ابن خلدون، ج1، 1966، ص 291) كما تناول ابن خلدون في مقدّمته أيضاً، مسألة قيام الدول وتطوّرها وأحوالها، وبلور نظرية (دورة العمران) بين البداوة والحضارة على أساس المماثلة بين حياة الجماعة البشرية وحياة الكائن الحي.
وقد سيطرت هذه الفكرة على أذهان علماء الاجتماع في الشرق والغرب – على حدّ سواء – في العصور الوسطى .. حيث اعتبر ابن خلدون أن التطوّر هو سنّة الحياة الاجتماعية، وهو الأساس الذي تستند إليه دراسة الظواهر الاجتماعية.
يقول في ذلك : ” إنّ أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم، لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقرّ، وإنّما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال. وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول. (المرجع السابق، ص 252) فعمر الدول عند ابن خلدون كعمر الكائن البشري، تبدأ بالولادة وتنمو إلى الشباب والنضج والكمال، ثمّ تكبر وتهرم وتتلاشى إلى الزوال .
لقد أرسى ابن خلدون الأسس المنهجية لدراسة المجتمعات البشرية، ودورة الحضارات التي تمرّ بها، فكان بذلك، أسبق من علماء الاجتماع في أوروبا. ولذلك، يرى بعض الكتّاب والمؤرّخين، أن ابن خلدون يعتبر المؤسّس الحقيقي لعلم الاجتماع، بينما يرى بعضهم الآخر، ولا سيّما علماء الأنثروبولوجيا البريطانيون، في مقدّمة ابن خلدون بعضاً من موضوعات الأنثروبولوجيا الاجتماعية ومناهجها .وفي أمريكا، أشار /جون هونجيمان / أيضاً في كتابه ” تاريخ الفكر الأنثروبولوجي ” إلى أنّ ابن خلدون تناول بعض الأفكار ذات الصلة بنظرية / مارفين هاريس / عـن ” المادية الثقافية –Cultural Materialism ” ونجد أنّ / هاريس / ذاته، يذكر أنّ ابن خلدون ومن قبله الإدريسي، قدّما أفكاراً ومواد ساعدت في بلورة نظرية الحتمية الجغرافية، التي سادت إباّن القرن الثامن عشر .(( Anderson , 1984 , p.112
واستناداّ إلى ما تقدّم يمكن القول : إنّ الفلاسفة والمفكّرين العرب أسهموا بفاعلية – خلال العصور الوسطى- في معالجة كثير من الظواهر الاجتماعية التي يمكن أن تدخل في الاهتمامات الأنثروبولوجية، ولا سيّما التنوّع الثقافي (الحضاري) بين الشعوب، سواء بدراسة خصائص ثقافة أو حضارة بذاتها، أو بمقارنتها مع ثقافة أخرى. ولكن على الرغم من اعتبارها مصادر للمادة الأثنوجرافية التي درست (أسلوب الحياة في مجتمع معيّن وخلال فترة زمنية محدّدة) ولا سيّما العادات والقيم وأنماط الحياة، فإنّ الأنثروبولوجيا التي تبلورت في أواخر القرن التاسع عشر كعلم جديد معترف به، لم تكن ذات صلة تذكر بهذه الدراسات، ولا بغيرها من الدراسات (اليونانية والرومانية) القديمة .
ثالثاً- الأنثروبولوجيا في عصر النهضة الأوروبية
يتّفق المؤرّخون على أنّ عصر النهضة في أوربا، بدأ في نهاية القرن الرابع عشر الميلادي، حيث شرع الأوروبيون بعملية دراسة انتقائية للعلوم والمعارف الإغريقية والعربية ، مترافقة بحركة ريادية نشطة للاستكشافات الجغرافية. وتبع ذلك الانتقال من المنهج الفلسفي إلى المنهج العلمي التجريبي، في دراسة الظواهر الطبيعية والاجتماعية، والذي تبلور وتكامل في القرن السابع عشر .
إنّ هذه التغيّرات مجتمعة أدّت إلى ترسيخ عصر النهضة أو ما سمّي (عصر التنوير) وأسهمت بالتالي في بلورة الانثربولوجيا في نهاية القرن التاسع عشر، كعلم يدرس تطوّر الحضارة البشرية في إطارها العام وعبر التاريخ الإنساني. الأمر الذي استلزم توافر الموضوعات الوصفية عن ثقافات الشعوب وحضاراتها، في أوروبا وخارجها، من أجل المقارنات، والتعرّف إلى أساليب حياة هذه الشعوب وترتيبها بحسب مراحل تطوريّة معيّنة، بحيث يضع ذلك أساساً لنشأة علم الأنثروبولوجيا .
لعلّ أهمّ رحلة أو( رحلات) استكشافيّة مشهورة أثّرت في علم الأنثروبولوجيا، ما قام بها / كريستوف كولومبوس /إلى القارة الأمريكيـة ما بين (1492- 1502) حيث زخرت مذكّراته عن مشاهداته واحتكاكاته بسكان العالم الجديد، بالكثير من المعلومات والمعارف عن أساليب حياة تلك الشعوب وعاداتها وتقاليدها، اتّسمت بالموضوعية نتيجة للمشاهدة المباشرة .
وممّا قاله في وصف سكان جزر الكاريبيان في المحيط الأطلسي : ” إنّ أهل تلك الجزركلّهم عراة تماماً، الرجال منهم والنساء، كما ولدتهم أمَّهاتهم. ومع ذلك، فثمّة بعض النساء اللواتي يغطين عورتهنّ بورق الشجر، أو قطعة من نسيج الألياف تصنع لهذا الغرض. ليست لديهم أسلحة ومواد من الحديد أو الصلب وهم لا يصلحون لاستخدامها على أيّة حال. ولا يرجع السبب في ذلك إلىضعف أجسادهم، وإنّما إلى كونهم خجلون ومسالمون بشكل يثير الإعجاب.. ” Oswalt , 1972,p. 10) )
وكتب في وصفه لسكان أمريكا الأصليين : ” إنّهم يتمتّعون بحسن الخَلق والخُلُق، وقوّة البنية الجسدية. كما أنّهم يشعرون بحرية التصرّف فيما يمتلكون، إلى حدّ أنّهم لا يتردّدون في إعطاء من يقصدهم أيّاً من ممتلكاتهم، علاوة على أنّهم يتقاسمون ما عندهم برضى وسرور ..” (Boorstin,1983, p.628)
وهكذا كان لرحلات كولومبس واكتشافه العالم الجديد (أمريكا) عام 1492أثرها الكبير في إدخال أوروبا حقبة جديدة، وفي تغيير النظرة إلى الإنسان عامة، والإنسان الأوروبي خاصة، ممّا أثّر بالتالي في الفكر الأنثروبولوجي. وذلك، لأنّ هذه الاكتشافات الجغرافية / الاجتماعية وما تبعها من معرفة سكان هذه الأرض بميزاتهم وأنماط حياتهم، أظهرت بوضوح تنوّع الجنس البشري، وأثارت كثيراً من المسائل والدراسات حول قضايا النشوء والتطوّر عند الكائنات البشرية.
لقد تميّز عصر النهضة الأوربية، بظاهرة كان لها تأثير في توليد نظريات جديدة عن العالم والإنسان، وهي أنّ المفكّرين اتفقوا، على الرغم من تباين وجهات نظرهم، على مناهضة فلسفة العصور الوسطى اللاهوتية، التي أعاقت فضول العقل الإنساني إلى معرفة أصول الأشياء ومصادرها، وتكوين الطبيعة وقوانينها، وصفات الإنسان الجسدية والعقلية والأخلاقية. (فهيم، 1986،
ص86)
وظهر نتيجة لهذا الموقف الجديد اتّجاه لدراسة الإنسان، عرف بالمذهب الإنساني (العلمي) اقتضى دراسة الماضي من أجل فهم الحاضر، حيث اتّجهت دراسة الطبيعة الإنسانية وفهم ماهيتها وأبعادها وفق المراحل التاريخية/ التطوّرية للإنسان .
وقد تبلور هذا الاتّجاه (المذهب) العلمي في الدراسات التجريبية والرياضية، التي ظهرت في أعمال بعض علماء القرن السابع عشر، من أمثال: فرانسيس بيكون F.Becon (1561-1626) ورينيه ديكارت R.Decartes
(1596-1650) واسحق نيوتن I. Newton (1642-1727)، وغيرهم. حيث أصبحت النظرة الجديدة للإنسان عل أنّه ظاهرة طبيعية، ويمكن دراسته من خلال البحث العلمي والمنهج التجريبي، ومعرفة القوانين التي تحكم مسيرة التطوّر الإنساني والتقدّم الاجتماعي .وهذا ما أسهم في تشكيل المنطلقات النظرية للفكر الاجتماعي، وأدّى بصورة تدريجية إلى بلورة البدايات النظرية للأنثروبولوجيا، خلال عصر التنوير .
أمّا بالنسبة للدراسات الأثنوجرافية (دراسة أسلوب الحياة والعادات والتقاليد) والدراسات الأثنولوجية (دراسة مقارنة لأساليب الحياة للوصول إلى نظرية النظم الاجتماعية )، والدراسات الأنثروبولوجية الاجتماعية، فثمةّ أعمال كثيرة قام بها العديد من العلماء .
وقد تكون محاولة الرحالة الإسباني (جوزيه آكوستا J. Acosta) في القرن السادس عشر، لربط ملاحظاته الشخصيّة عن السكان الأصليين في العالم الجديد ببعض الأفكار النظرية، المحاولة الأولى لتدوين المادة الأثنوجرافية والتنظير بشأنها.
فقد افترض آكوستا أنّ الهنود الحمر كانوا قد نزحوا أصلاً من آسيا إلى أمريكا، وبذلك فسّر اختلاف حضاراتهم عن تلك التي كانت سائدة في أوروبا حينذاك. وقدّم آكوستا أيضاً افتراضاً آخر حول تطوّر الحضارة الإنسانية عبر مراحل معيّنة، معتمداً في تصنيفه على أساس معرفة الشعوب القراءة والكتابة.
وقد وقفت أوروبا في أعلى الترتيب، وأتت بعدها الصين في المرتبة الثانية لمعرفتها الكتابة، بينما جاءت المكسيك في مرتبة أدنى من ذلك .. وصنّفت المجتمعات الأخرى بدرجات متباينة في المواقع الأدنى من هذا الترتيب. Darnell,1978,p.81)) وربّما شكّل هذا التصنيف أساساً استند إليه الأنثروبولوجيون – فيما بعد- للتمييز بين المجتمعات .
وظهر إلى جانب آكوستا / الإسباني في الدراسة الأثنوجرافية عن الشعوب البدائية، عالم الاجتماع الفرنسي، ميشيل دي مونتاني M.De. Montaigne الذي عاش ما بين (1532-1592) وأجرى مقابلات مع مجموعات من السكان الأصليين في أمريكا المكتشفة، والذين أحضرهم بعض المكتشفين إلى أوربا. وبعد إن جمع منهم المعلومات عن العادات والتقاليد السائدة في موطنهم الأصلي، خرج بالمقولة التالية : ” إنّه لكي يفهم العالم فهماً جيّداً، لا بدّ من دراسة التنوّع الحضاري للمجتمعات البشرية واستقصاء أسباب هذا التنوّع ” ويكون بذلك قد طرح فكرة (النسبية الأخلاقية).
وممّا قاله في هذا الإطار ما كتبه في مقاله الشهير عن ” أكلة لحوم البشر ” وجاء فيه : ” يبدو أنّ ليس لدينا أي معيار للحقيقة والصواب، إلاّ في إطار ما نجده سائداً من آراء وعادات على الأرض التي نعيش عليها (أوروبا)، حيث نعتقد بوجود أكمل الديانات، وأكثر الطرائق فاعلية في الحصول على الأشياء .
إنّ هؤلاء الناس (أكلة لحوم البشر) فطريون / طبيعيون، مثل الفاكهة البريّة. فقد بقوا على حالهم البسيطة، كما شكّلتهم الطبيعة بطريقتها الخاصة، وتحكّمت فيهم قوانينها وسيّرتهم .” Leach,1982,p.67)) ومن هذه الرؤية، لاقى كتابه الشهير ” المقالات ” الصادر عام 1579، اهتماماً كبيراً لدى مؤرخي الفكر الأوروبي عامة، والفكر الفرنسي خاصة .
ويأتي القرن الثامن عشر، ليحمل معه كتابات جان جاك روسو J.J. Rossow، التي احتلّت أهميّة كبيرة لدى مؤرّخي علم الأنثروبولوجيا، وذلك بالنظر لما تضمنته في دراستها الأثنوجرافية للشعوب المكتشفة (المجتمعات البدائية) مقارنة مع المجتمعات الغربية / الأوروبية .
لقد تميّزت وجهة النظر الأنثروبولوجية عند روسّو بالتجرّد والموضوعية، حيث تجلّى ذلك في نقد بعض القيم والجوانب الثقافية في مجتمعه الفرنسي، مقابل استحسان بعض الطرائق الحياتية في المجتمعات الأخرى. وفي هذا الإطار، يعدّ كتابه ” العقد الاجتماعي” من البواكير الأولى للفكر الأنثروبولوجي.
وكان إلى جانب روسّو، البارون دي مونتسكييه، الذي وضع كتاب (روح القوانين) وأوضح فيه فكرة الترابط الوظيفي بين القوانين والعادات والتقاليد والبيئة. وسادت هذه الفكرة الترابطية في أعمال الأنثروبولوجين في أوائل القرن العشرين، ولا
سيّما عند الأنثروبولوجيين الإنجليز، حيث انتقل اهتمام مونتسكييه بدراسة النظم السياسية، وتأثير المناخ على نوعيّة الحضارة أو الثقافة – فيما بعد – إلى الكتابات الأنثروبولوجية، وشكّل مجالاً واسعاً للدراسات الأنثروبولوجية Darnell,1978, p.87)).
أمّا في ألمانيا، فقد تبلور الفكر في عصر التنوير، عن التفوّق العنصري والنزعة القوميّة الشوفينيّة (التعصبيّة ). وظهر ذلك واضحاً في كتابات كلّ من / جورج هيجل (1770-1831) وجوهان فخته (1762-1814)، حيث جعلا الشعب الألماني، الشعب الأمثل والأنقى بين شعوب العالم .
أمّا كتابات جوهان هيردر (1744-1803) فجاءت لتعزّز فكرة التمايز بين السلالات البشرية من ناحية التركيب الجسمي، والتفاوت فيما بينها بمدى التأثّر بمظاهر المدنية، وفي تمثّلها لمقوّمات الحضارة. وعلى هذا الأساس، يذهب هيردر إلى أنّ ثمّة سلالات بشرية خلقت للرقي، وسلالات أخرى قضي عليها بالتأخّر والانحطاط .( الخشاب، 1970، ص375 ).
لكن هذا الاتجاه العنصري في الدراسات الأنثربولوجية، واجه انتقادات كبيرة في بداية القرن العشرين ، حيث برزت فكرة أنّه لا يجوز أن تتّخذ اللغة كأساس أو دليل على الانتماء إلى أصل سلالي واحد، وأنّ العلاقة بين الجنس البشري واللغة، لا يجوز أن تكون أساساً لتقسيم الشعوب الإنسانية إلى سلالات متمايزة. وقد نقض ذلك ودحضه، فيما بعد، الفكر الأنثروبولوجي القائم على المشاهدة الواقعية، والدراسة الميدانية المقارنة لمجتمعات الشعوب الأخرى .
وهنا يمكن القول : إنّ الأنثروبولوجيا المتحرّرة التي ظهرت اتّجاهاتها وقضاياها الانسانية، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، تجد – ولا شكّ – في الكتابات الفرنسية في عصر التنوير، جذوراً أو أصولاً نظرية لمنطلقاتها الفكرية .( فهيم، 1986، ص101).
وتأسيساً على ما تقدّم، يمكن القول : إنّ الفكر الأنثروبولوجي الذي ساد أوروبا في عصر التنوير، وتجلّى في كتابات العديد من الفلاسفة والباحثين والمؤرّخين، شكّل الملامح النظرية الأولى لعلم الأنثروبولوجيا، الذي بدأ يستقل بذاته مع بدايات القرن العشرين، ويتبلور بمنطلقاته وأهدافه في النصف الثاني من القرن ذاته.
الكتاب كائن حي ..
في الجاهلية وقبل مجيء الإسلام . كانت البضائع الصينية متوفرة في أسواق مكة ، وكان أبو سفيان يرعى الأدب والأدباء ويكرم الشعراء ويحضر وغيره من سادات مكة مهرجانات الشعر . كانت الصناعة رائجة ، وقوافل التجار تحمل من بلاد الأرض مختلف السلع . وكان عدد الآلهة يزداد كلما إزدادت مواردهم ، حتى صار حول الكعبة اكثر من ثلاثمائة صنم . كانت الطبقية هي السائدة ، والمال هو الحاكم ، والعصبية هي دين القوم . لقد إعتاد الناس آنذاك على قبول الواقع الإجتماعي والإقتصادي حيث السادة والعبيد ، الأغنياء والفقراء . ومن يدخل مكة لا يكاد يكتشف ان هناك ظلماً وظلاماً ، وما كان لغير الراسخين في العلم ان يتنبأوا بأن الأرض تنتظر منقذاً بات ظهوره ضرورة حتمية اقتضتها إرادة الخالق ، فكان محمد بن عبد الله رسول الدعوة الى الإنسانية عن طريق التوحيد .
كانت الأعراف الإجتماعية تملي على الأبناء طاعة آبائهم ، فما كان “ للصادق الأمين “ أن يجمع الناس حوله في ذلك الوقت لولا فسحة الوعي التي كان عليها بعضهم . أما أغلبية أبناء المجتمع فكانوا مستسلمين لإرادة العرف الإجتماعي السائد ، إذ هم تبع آبائهم وأسيادهم الذين وجدوا في عبادة رب واحد ما يتقاطع مع توسع التجارة وإزدهار الصناعة ودوام النفوذ والسيادة . لذلك عرض سادة مكة ، المال والجاه على النبي الجديد من أجل ان يترك لهم حياتهم تسير على ما هي عليه .
كانت الكلمة هي المادة الخام التي استخدمها النبي الخاتم في مشروعه الرسالي المتضمن صناعة وعي ذاتي في الفرد والمجتمع يحمله على تغيير واقعه الى ما ينبغي أن يكون عليه كوجود إنساني لا كتواجد بشري ، ففي عبارة ( أفلا ينظرون ) التي جاءت في سياق آيات قرآنية ، دعوة إلهية للناس لكي يستخدموا التفكير الموضوعي في تعاطيهم مع الطرح الجديد في ضوء الواقع الذي كانوا يظنونه آمناً بوجود تلك الأصنام في الكعبة وفي بيوتهم . الوعي هو الذي حث الذات الإنسانية في ( سميّة ) و ( ياسر) بعدما أظهرا قلقهما وخوفهما حال سقوط الصنم الى الأرض في حركة غير مقصودة من ولدهما عمار وهو يحاول ان يطمئنهما على حاله بعد علمهما بأنه يلتقي بالنبي الجديد . سرعان ما تحول ذلك القلق والخوف الى باعث للتامل ودعوة الى إسترجاع الأحداث حين اخبرهما ( عمار ) ان هذا الصنم لا يضر ولا ينفع ، والكلمات التي جاء بها النبي محمد فيها من الطاقة الروحية ما يشجع على قبول الفكرة . هكذا تهيأت للذاكرة أجواء العودة بـ ( سميّة) الى الوراء لتقف عند مشهد وأد أبيها لأختها ، وما خلفه ذلك الفعل اللاإنساني من الم مزمن في نفسها لم يغادرها برغم السنين ، ولم تتمكن وهي بقرب الألهة من ان تشعر بالأمان ، فأستمدت من إستقرار نفس ولدها ( عمار ) وهو يذكر كلمات الله ، طاقة حركتها وزوجها لإستنهاض وعيهما الذاتي .
وعندما اصبح ( عمار ) في مواجهة مع سادة مكة ، دعوه الى التعقل والى استخدام المنطق الذي يظنونه في جانب تخلي عمار عن اتّباعه الدين الجديد ، واتسعت دائرة الوعي الإنساني حين أمر ( أمية بن خلف ) عبده ( بلال ) بجلد ( عمار) بالسوط ، فكان إمتناع ( بلال ) عن تنفيذ الأمر إيذاناً ببدء مرحلة التعذيب الجسدي البشع ، تلك المرحلة التي كان اهون خطواتها هي هلاك جسم ذلك العبد ، لكن رحمة الله شاءت ان ينجو بعرض قدمه ( ابو بكر ) الى ( أمية ) ، فكانت حياة بلال مقابل 100 دينار .
مات ( ياسر ) وماتت زوجته ( سمية ) ميتة بشعة أُرغم ( عمار ) على حضورها في مشهد تعذيب علني أدّاه سادة مكة . ترك ذلك المشهد أثره العميق في نفس ( عمار ) .
فمثلما كانت قوة العضلة غالبة في ذلك الوقت الذي لم تصل فيه قوة الكلمة الى ما يكفيها من قدرة على المواجهة ، كانت معادلة التوازن تدّخر شخص ( حمزة ) ليوظف قوته البدنية المشهود له بها ، في الدفاع عن كلمة العدل والحق ، ودعم حرية الكلام والتعبير .
( كيف نقاتل رجلاً لا ندرك سر قوته ) هذا ما قاله أبو سفيان حين قاس بعين رؤيته المادية إمكانات محمد التي تفتقر الى المال والسلاح والرجال الأشداء ، فالذين يتبعون الدين الجديد هم من العبيد والفقراء ، ومع كل صنوف التعذيب والتنكيل والقتل والقمع كانوا يصمدون ويزدادون . لا يفرطون بالكلمة التي خاطبهم بها نبيهم بوحي الله ، حتى عندما حمل روع المشهد الأليم ( عمار) الى ذكر ( هبل ) بخير ، كانت كلمة النبي الخاتم أكبر من مجرد تهدأة للنفس وتطييب للخاطر ومواساة على الفاجعة . لقد كانت تكريماً ووعداً إلهياً بأعلى مرتبة في الجنة .
“ محمد إنسان ، ونحن لا نركع إلا لله “ . هكذا وجد جعفر بن أبي طالب طريقه الجديد في الحياة ، فوظف رؤيته الجديدة في حضرة ملك الحبشة حين أمر بالسلاسل لتقييده ومن جاء معه من مكة . فأنبرى مخاطباً الملك بثنائية الدين والعدالة ، حين قال له ان نبينا ارسلنا اليك لأنك ملك عادل ، ولأنك من أهل الكتاب .
وجد الملك في قول جعفر ما يحمله على الإصغاء اليه ، فوجد كلامه مقنعاً ملزماً له ، فمنحهم حق اللجوء والإقامة في المدينة . هكذا مثلت الكلمة شرارة الثورة العظيمة التي زلزلت المجتمع في ذلك الوقت . وكأي تغيير لم تخل أحداث تلك المرحلة من وقوع ضحايا وخسائر بالأرواح والممتلكات . فكان الصبر رافد النبي في دعوته التي كلفته وفاة زوجته وعمه في عام الأحزان ، وكلف أتباعه إغترابهم عن عوائلهم وفقدانهم أموالهم وأعمالهم . لكن تنمية الذات والعمل من أجل لحظة وعي ذاتي في كل شخص كان مشروعاً إستحق كل ذلك العطاء وكل تلك القرابين التي أفصح عنها قوله صلى الله عليه واله ( ما أوذي نبي مثلما اوذيت ) . وبينما كانت الحروب الأهلية متوقعة في تلك الظروف وكان متوقعاً توسعها كلما اتسعت دائرة الدعوة الى الدين الجديد ، كان الإسلام يرى نواة دولة انسانية جديدة في طريق انشطارها محدثة بركاناً وجدانياً ، إيمانياً ، إنسانياً ، أدهش سادة مكة لما اقتحم رجالهم بيت النبي ليلاً ، فإذا بـ ( علي بن ابي طالب ) ينام مكان رسول الإنسانية ليفتديه بنفسه حين دبر العقل التسلطي القرشي مكيدة قتل النبي بيد جماعية يضيع معها دمه بين القبائل . كان الصدق رفيق خطوات الدعوة الإيمانية الجديدة في تدابيرها وهو يكفي علياً خطر الموت المحتمل على أيدي القوم وهم يتعجلون الإنتقام ، لقد كان الله معه يسمع ويرى لأنه يحب الصادقين ، هذا هو سرّ قوة الدين الجديد التي حيرت أبا سفيان ومن معه .
كانت الدفوف التي استقبل بها المسلمون نبيهم في المدينة إيذاناً بدخول المجتمع لأول مرّة مرحلة التصويت الحر لحكومة جديدة دستورها الكتاب المبين ، يتحركون بهديه الى ما يرتقي بهم ويحفظ لهم كرامتهم وامنهم وحريتهم وحقهم في العيش في مجتمع عادل ، هو اليوم وبعد أكثر من الف عام ينادي بكتاب الله دستوراً . لكن الكتاب لم يعد كائناً حياً حين اكتفت أنظمة الحكم المعاصرة بوجوده للتبرك والعمل به في حدود لا تشمل كل مفاصل حياة الناس اليومية ، الأمر الذي دفع بالناس في ظل ظروف الدولة الجديدة الى هجر القرآن ، ثم العزوف عن القراءة ، ثم دخل فارق التطور الكبير بين المجتمع العربي والمجتمع الغربي أو الأوربي على خط جذب الناس الى الكلمة العلمية ، المادية البحتة الخالية أحياناً من الروح التي حركت مجتمع الأمس قبل أكثر من الف عام . شيئاً فشيئاً تحولت آلهة الأمس الحجرية الى آلهة بشرية في زمن الرياء والنفاق والمصالح المادية والصراعات والنزاعات التي كادت تفتك بالبلاد وترجع بها الى زمن السبي والظلم والظلام ، ليس باسم اللات وهبل ، ولكن باسم الله هذه المرة . انه الإستغراق في المادة بعيداً عن الروح ، الامر الذي من شأنه ان يقود المجتمع المعاصر الى جاهلية وثنية بشرية بتقينة رقمية وبأدوات معاصرة غير التي كان يستخدمها مجتمع الأمس . ان تفعيل المشروع المحمدي الإنساني يقتضي منا اليوم ان نتفاعل مع الكتاب ككائن حي ، لا مجرد كلمات في صفحات كتاب على رفوف مكتبة لا نقصدها إلا في أوقات معدودة ولحاجات محدودة بسبب عزوف كثير من الناس عن القراءة ، حتى ممن يتخرجون من الجامعات . الذين إذا قرأوا فإنهم لا يقرأون إلا كتباً في مجالات تخصصاتهم التطبيقية فقط . أما عوام الناس فقد استسلموا لروتين الحياة وتعقيداتها وانغمسوا في طلب العيش فأقصروا وجودهم على تأمين احتياجاتهم من مأكل وملبس ومسكن وتكاثر .
الثقافة المحلية وعصر التقنية ..
يرى بعض المثقفين المعجبين والمتأثرين بعصر التقنية والثقافات الغربية ، ان ثقافاتهم المحلية ليس بمقدورها مواكبة المشاريع الثقافية العالمية التي تمولها مشاريع الإقتصاد الصناعي والسياسي للدول الكبرى في العالم عبر شركات عابرة للقوميات ، وعبر مواقع التواصل الإجتماعي ، من خلال محركات البحث الالكتروني . لذا وجدوا في المرونة حاجة ضرورية تفرضها ظروف مرحلية محلية واقليمية وعالمية متعلقة بمستقبل الحياة على الارض وبمصير الإنسانية ، لذلك دعا نفر من المثقفين الى تكوين عقل ثقافي محلي بمواصفات عالمية عابرة للخصوصية ، وفي بعض الأحيان عابرة للقيم والمبادىء والمثل العليا للمجتمع .
لقد منحت أدوات التقنية للمثقف العربي الواناً من الحرية كان ولا يزال يفتقر إليها في مجتمعه ، فقد صار بمقدوره إنتاج ثقافته الخاصة بعد أن كان إنتاجها جماعياً .
الفردية الثقافية ..
اختلف المثقفون حول الفردية الثقافية ،. منهم من يراها تهدد وحدة المجتمع ، خصوصاً عندما تكون متأثرة بالتغريب الثقافي . ومنهم من يراها تعزز مركزية الذات ، وتزيد في حرية التعبير ، وحرية الإبداع التي يحتاجها العقل العربي المقيد بالمصادر والآراء القديمة والموروث الثقافي عموماً .
لا يرى بعض المثقفين ، في التغريب الثقافي خطراً على حاضر بلدانهم العربية بموروثها الثقافي في ظل النظام العالمي الجديد الذي لا معنى فيه لحياة أي مجتمع بعيداً عن التأثر بثقافات المجتمعات الأخرى حول العالم والتأثير فيها . بينما يعتقد المثقف المحافظ ان الأمر يحتمل كل الخطورة ما دامت معادلة الأقوى في أجندات النظام العالمي لم تغادر بعدها المادي عددياً وعسكرياً وإقتصادياً فهي المعادلة التي لا تزال غالبة على طبيعة المشهد العالمي في كل المجالات تقريباً ، وان الدول الكبرى التي استعمرت بلداننا في السابق ، هي نفسها من يقود العالم اليوم بعد أن أجرت تحديثاً على بعض المفاهيم كالإستعمار والإحتلال . فصار الحديث عن الغزو الثقافي ، وعن إحتلال العقول ، والهيمنة الرقمية العالمية ، والتغريب الثقافي وأمركة العالم وثقافة القطب الواحد .
المثقف والتطور ..
لا تزال لكلمة “ تطور “ جاذبيتها الشديدة التي تشد اليها كل باحث عن واقع أفضل وحال أحسن وحياة أجمل .
بإسم التطور خرجنا من عباءة الماضي وانفتحنا على العالم. وبإسم التطور وسّعنا علاقاتنا التجارية والثقافية والدبلوماسية مع بلدان العالم . وبإسم التطور خرجنا الى صناديق الإقتراع نحمل السلام بدل السلاح بحثاً عن ممثلين صادقين عنا في السلطة . وبإسم التطور ارتضينا الاختراق الالكتروني لخصوصياتنا عندما وفرت لنا بعض شركات الإنتاج الرقمي امكانية الكسب المالي بالترويج لصفحاتنا الشخصية بمنشوراتها ومعروضاتها ومن بينها شؤوننا الشخصية وحياتنا العائلية.
يُعتقد ان المساحة الكبيرة للحرية التي وفرتها التقنية الرقمية المتطورة في مجال النشر وإبداء الرأي ، تعدّ من إيجابيات عصر التقنية . لكنهم قد لا يعلمون ان القائمين على مشاريع التطور التقني يستثمرون في الثقافة لصالح اجنداتهم الخاصة ، فهم يوفرون للكاتب والمفكر سبل التواصل ونشر المقالات والكتب والأراء ويقدمون له عروضاً للشهرة ، وفي الوقت نفسه ، يستخدمون ظهوره الإعلامي وصوره الشخصية ومقاطع الفديو التي يتحدث فيها ، كسلاح خطير يوجهونه اليه متى ما اراد ان يواجه بأخلاق ثقافته ووعي حريته ومبادىء مهنته ، عروضاً وأفكاراً ومخططات يتم الترويج لها هنا وهناك ، يراها تهدد أو تضرب البنية التحتية لمنظومة القيم والأخلاق والدين والإنسانية . فيعمدون عبر تقنيات برمجية متطورة الى إنتاج مقاطع فديو يظهر فيها ذلك المثقف وهو يتحدث بالضد من طروحاته ومنهجيته العلمية والأخلاقية والدينية ، وقد يظهرونه في أوضاع مخلة بالأدب أو يجرون على لسانه آراء تضر بالسلامة الفكرية أو تطعن في الدين والقيم والموروث الأخلاقي .
الثقافة وعصر التقنية ..
عصر التقنية المتطورة ، بما يوفره من حق شخصي في إمتلاك أجهزة الموبايل والحاسوب والإنترنت . وبما يوفره من حرية وسهولة في إستخدام وسائل التواصل الإجتماعي ، والمواقع الألكترونية. يوفر في رأي بعض المثقفين فرصة ركوب أمواج ثقافات الدول المتطورة بما يحقق أو يدفع بإتجاه اللحاق بركب العالم ثقافياً وإجتماعياً وإقتصادياً ، من خلال التدفق الهائل للبيانات والمعلومات وسرعة الحصول عليها ودقة نتائج البحث الألكتروني التي يراها بعض المثقفين تغني رصيدهم الثقافي وتجربتهم الإبداعية .
منذ بدايات القرن الواحد والعشرين ، كثر في العالم العربي حملة الشهادات العليا وحملة الألقاب الرسمية و الإجتماعية ، وهيمنت الثقافة الشعبية على مشاهد الحياة اليومية للناس قياساً بثقافة النخبة. ربما لقلة العطاء الفكري والثقافي للنخب الثقافية ، وربما لغزارته في الجانب النظري البعيد عن واقع حال المجتمع الذي يُراد ان يتأثر بفكر المثقفين بما يدفعه الى تغيير واقعه الى ما ينبغي ان يكون عليه . وربما لافتقاره الى علاقة تواصل مؤثرة بالمتلقي ، تجعل من ذلك العطاء الفكري العملي موضع تفاعل الناس ، فقد نجد كثيراً من البحوث الأكاديمية المهمة التي تصب في معالجة الواقع ، لكنها حبيسة رفوف المكتبات ومكاتب المسؤولين الذين لا يجدون في تنفيذها ما يخدم توجهاتهم في إدارة البلاد .
التثقيف الافتراضي ..
كما أتاح العالم الافتراضي إمكانية تأسيس أكاديميات افتراضية ومراكز أبحاث وكليات ومعاهد للدراسة عن بعد ، وسّعت مساحة اللقاء الثقافي والمعرفي وأعطت للكتاب الألكتروني حضوراً أثّر في حركة الكتاب الورقي فقلّ الإقبال عليه أمام وفرة المكتبات الألكترونية المجانية التي تعرض عنوانات متنوعة وكثيرة يمكن قراءتها عبر الشاشة أو نقل نسخة منها إلى الحاسوب الشخصي ، فضلاً عن مكتبات بيع الكتب الكترونياً بأسعار هي الأقل مقارنة بكلفة شرائها مطبوعة بصيغة كتاب ورقي .
انشطة ثقافية الكترونية ..
التغطية المستمرة والبث المتواصل للإنترنت على مدار الساعة حفز كثيرين على الظهور في مواقع التواصل الإجتماعي وغرف الدردشة والملتقيات والصالونات والمجموعات الثقافية والإخبارية والتجارية . ثم جاء وباء كورونا ليدعم هذا الحافز ويوسعه ، فلم يتوقف النشاط الثقافي والتواصل الإجتماعي بسبب العزلة التي فرضتها شروط السلامة من الوباء ، فقد ظهرت منتديات ومجالس ثقافية الكترونية تلقى فيها المحاضرات بالصوت والصورة الحية تارة ، والمسجلة تارة أخرى ، وكان لرابطة مجالس بغداد الثقافية دور مميز في تحريك الوسط الثقافي في أجواء الحظر حيث التنسيق بين الأعضاء عبر المجموعة الالكترونية للرابطة وتحديد وقت ويوم لشخصية ثقافية تختارها الإدارة لتلقي محاضرة يختارها المحاضر ويرسلها على شكل بصمات صوتية الى المجموعة ، تعقبها مداخلات واسئلة . تمخض عن هذا الدور ، كتاب “ ثقافتنا في زمن الكورونا “ الذي جمع فيه رئيس الرابطة الاستاذ صادق الربيعي كل المحاضرات الثقافية التي القيت افتراضياً وطبع على شكل كتاب ورقي ضخم .
عمد بعض القائمين على الأنشطة الثقافية الإلكترونية الى تقديم ” شهادة مشاركة ” باسم كل من يسجل حضوره الالكتروني في المنصة التي تلقى من عليها المحاضرة الثقافية . فضلاً عن ” شهادة شكر ” و” درع الإبداع والتميز ” .
بعض الآراء ثمنت تلك المبادرات وعدتها تشجيعية ومحفزة ، وبعضها رأت فيها أنشطة قائمة على أساس مشترك بين المظهر الإجتماعي والجوهر الثقافي ، فتقديم شهادة مشاركة لمجرد دخول الشخص وتسجيله في المنصة يحفز كثيرين على تلك الخطوة من أجل الحصول على تلك الشهادة التي ترسل اليه الكترونياً فيقوم المشترك بنشرها على حسابه الخاص كي يحصل على الإجايات وكلمات الثناء على نشاطه الثقافي هذا .
الثقافة والتزييف العميق ..
هكذا نصبح أمام تعريفات جديدة للحرية والأخلاق والثقافة في عصر التقنية . تعريفات تسمح لكل من يلتزم بثقافة المشاريع الإستثمارية العالمية أن يصبح شخصية إجتماعية ، أو شخصية مؤثرة ، أو شخصية عالمية , ما دام يتمدد بتفكيره ضمن حدود المنتج العالمي لمفهوم الحرية التقنية الرقمية المؤرشفة والمؤدلجة . ، من ذلك ما نسمعه ونشاهده هنا وهناك من ظهور اشخاص بلا محتوى ثقافي رصين وهم يملأون الشاشات ويشغلون اوقات البث ، يحتفى بهم في محافل ثقافية تم الإعداد لها في إطار سياسي اقتصادي . وقتذاك سيشعر المثقف الحقيقي ان الثقافة من حيث هي رسالة وعي إنساني أخلاقي إيجابي ، تشكل عبئاً يثقل كاهله حد كسر الظهر ان هو أصرّ على حملها في عصر الشاشات الملونة والنفوس الملوثة .
أدرك أصحاب الوعي هذا الخطر المحدق بمستقبل الثقافة الإنسانية . كما أدركوا ان الأعمال العظيمة التي خدمت الانسانية عبر التاريخ لن تكون بعيدة عن متناول يد مشاريع الإستثمار وبرامج التقنية المتطورة والذكاء الإصطناعي غداً ، فبعد ان يمر وقت على ظهور جيل أو جيلين من الشباب الذين لا يعرفون غير الإنترنت مصدراً لمعلوماتهم ومعارفهم وثقافاتهم ، ستأخذ مخططات ومشاريع الثقافة العالمية من تلك الأعمال العظيمة واولئك الأبطال والمفكرين والمثقفين ما تستفيده في برامج الكترونية عالية الدقة كـ “ تقنية التزييف العميق “ مثلاً ، حيث يعاد إنتاج حديث نبوي أو رأي شرعي جاء على لسان عالم جليل القدر عظيم الأثر عند أتباعه ومريديه ومقلديه . أو إعادة صياغة حكمة أو وجهة نظر لفيلسوف أو مفكر أو كاتب مشهود له بالكتابة الجادة والأمانة العلمية وبقوة الشخصية وسلامتها . أو إعادة كتابة حدث أو مجموعة من أحداث التاريخ . بحيث تقدم هذه الأعمال والأقوال والأحداث الى الأجيال الشابة المثقفة الكترونياً بعد أن يضاف اليها او يحذف منها أو يغير كامل محتواها بما يتوافق مع ما تقتضيه أجندات أصحاب المشاريع العابرة للقيم والإنسانية . فيتوهم اولئك الشباب انهم على إتصال بتاريخهم ، فيبنون على هذا الإتصال الموهوم ثقافاتهم الجديدة .
غالباً ما تأتي مشاريع تزييف الحقائق من أجل صناعة قوالب جديدة للثقافة ينتج عنها جيل مثقف مستهلك لا يسمح لابداعه أن يتجاوز المدة المحددة لصلاحية الثقافة الإستهلاكية ، واذا حصل وأراد ان ينتج ثقافته الخاصة فإن السوق العالمية ستحذر المستهليكن منها كونها غير صالحة وغير آمنة ، ولن يكون بوسع المستهلكين سوى تقبل تلك الإدعاءات لأنهم سيكونون في وضع لا يسمح لهم بالتمييز بين المزيف والحقيقي من المنتجات والأفكار والثقافات ومصادر التاريخ .
بين الإغتراب والتغريب ..
برغم أعداد الإصدارات التي تعلن عنها دور النشر ومعارض الكتب ، لا تزال الثقافة في غربة عن واقع وطبيعة وطريقة حياة الناس . إما لمهنية وحرفية وتجارية طابع كثير من تلك المطبوعات او لإفتقارها الى لغة مرنة مشتركة بين الكاتب والقارىء . بعض الكتاب يستخدمون تعبيرات غامضة بهدف التشويق أو بهدف تكوين إنطباع أولي لدى القارىء عن علو كعب الكاتب ، فكلما احتاج القارىء الى وقت أطول لفهم مقصد الكاتب دلّ ذلك – كما يتوهم بعضهم – على المهارة والعمق الثقافي والبعد الفكري للكاتب .
في كتابه “ قضايا الفكر في الأدب المعاصر “ المطبوع سنة 1959م يقول : وديع فلسطين” في صفحة 128 ( وعليه فقد ازدحمت السوق بأطنان من الكتب وناءت الذاكرة بحفظ أسماء الكتاب الجدد . ولكن اذا استصفينا حصيلة كل هذا النتاج لم ننته إلا الى قليل من الدسم في محيط من الغثاثة والفجاجة وهوان التفكير…
وقد أحسن الباحث والمحق المصري محمد عبد المنعم خفاجي تصوير هذه الحال فقال : ان القرّاء يقعون فريسة لذوي المواهب الضيئلة والأهواء الصغيرة من محترفي الأدب .. مما أدى الى ظهور الآلاف من الكتب والقصص التافهة التي تؤثر في عقول الشباب ونفوسهم تأثيراً ضاراً سيئاً ذا اثر محزن في حاضرنا الفكري والثقافي ، وتؤدي الى انحطاط مستوى الروح الادبي والعلمي في اوساطنا المثقفة..)
على مواقع التواصل الإجتماعي وبدافع حرية التعبير وحرية انشاء صفحة شخصية ، ينشر بعضهم ما يسمونه قصيدة أو مقالة قصيرة أو خاطرة ، لا يكاد يفهم منها شيئاً . الغريب في الأمر إن اصدقاء الناشر يثنون عليه بـ “ احسنت النشر “ ، “ شكراً لحرفك الجميل “ ، “ روعة “ فتوهم بعضهم انه على خير حين غاب النقد الحقيقي وحلت محله المجاملات الإجتماعية في كثير من الأحيان .
تقارير ثقافية ..
حسب تقرير التنمية البشرية لعام 2003 الصادر عن اليونسكو ان كل 80 شخصاً عربياً يقرأون كتاباً واحداً في السنة ، بينما يقرأ المواطن الاوربي الواحد حوالي 35 كتاباً في السنة .
وفي تقرير التنمية الثقافية للعام 2011 الصادر عن مؤسسة الفكر العربي ان المواطن العربي يقرأ بمعدل 6 دقائق سنوياً ، بينما يقرأ المواطن الاوربي بمعدل 200 ساعة سنوياً
وبحسب تقرير اليونسكو فإن الدول العربية انتجت عام 1991 6500 كتاباً بالمقارنة مع امريكا الشمالية التي انتجت 102 الف كتاب و 42 الف كتاب في امريكا اللاتينية والكاريبي .
وحسب تقرير التنمية الثقافية فإن الكتب الثقافية العامة التي تنشر سنوياً في العالم العربي لا تزيد عن 5000 عنواناً وفي امريكا يصدر سنوياً حوالي 300 الف عنوان .
قد تساعد هذه الأرقام في الكشف عن الفارق الثقافي بين الشرق والغرب ، فعدد النسخ المطبوعة من الكتاب الواحد في الشرق لا تزيد عن خمسة الاف نسخة ، بينما يصل الى خمسين الف نسخة للكتاب الواحد في الغرب .
الكتاب الورقي وتقنية الطباعة ..
بعد ان وفرّت التقنية المتطورة أجهزة طباعة تتيح للكاتب والمؤلف طبع عدد محدود من كتابه بما يتلائم ومقدرته المالية من جهة ، وحركة الإقبال على الكتاب الورقي من جهة اخرى . وجد بعض الكتاب ذلك محفزاً لمضاعفة جهودهم وتقديم اكبر عدد ممكن من المؤلفات ، التي عدّها بعضهم مؤشراً على غزارة ثقافة الكاتب ، بينما كانت موضع إنتقاد آخرين ، خصوصاً عندما تحمل تلك الكتب عناوين ومضامين لا تخدم الواقع ولا تتحرك به في طريق النهضة ، ولعل بعضها يفتقر الى أبسط مقومات النص السليم ، الأمر الذي حمل بعض المعنيين على وصف هذه المرحلة بالمظلمة ثقافياً أو الفقيرة ثقافياً ، لا من حيث الإمكانات المادية والتقنية وكثرة المطبوعات . بل من حيث قلة عدد القرّاء وكثرة عدد الفقراء في مجتمع ما بعد التغيير السياسي والإقتصادي والأمني في العالم العربي ، والسماحية العالية التي توفرها شبكة الإنترنت للراغبين بكتابة بحث أو رسالة أو تأليف كتاب دون بذل جهد فكري أو حتى جهد عضلي . فقد أعدّت بعض شركات الإنتاج الألكتروني برامج وتطبيقات تتيح للمستخدم إعداد رسالة جامعية أو بحث أكاديمي أو تأليف كتاب في مجال من مجالات المعرفة والعلوم الإنسانية ، منها تطبيق chatGpt الذي يقدم خدمات متقدمة في مجال تأليف الكتب . يكفي أن يكتب المستخدم عنواناً لكتابه المرتقب فيتولى التطبيق تنفيذ المهمة ويتيح التطبيق للمستخدم تحديد عدد فصول الكتاب وفقراته وقصر وطول المادة المكتوبة وعدد صفحات الكتاب ويتولى موقع آخر تصميم غلاف مناسب للكتاب . بالنتيجة يصبح بمقدور المستخدم أن ينجز عشرات الكتب سنوياً ما بين طبعها ورقياً وبين الإقتصار على نشرها الكترونياً والترويج لها بواسطة إعلانات الكترونية ممولة .
هكذا تجعلنا بدايات القرن الواحد والعشرين على موعد مع عدد كبير من الأسماء التي تبحث لنفسها عن مكان في عالم الثقافة بحكم غزارة إنتاجها من مؤلفات ومقالات لم تكتب فيها شيئاً ، ولم تبذل فيها جهداً فكرياً .
في مستقبل عصر التقنية المتطورة سيكثر الكتاب والمؤلفون ، وسيقل الثوّار والمبدعون . وستصبح الثقافة لوناً الكترونياً رقمياً يسهم في ترقيع لوحة الحياة التي ترسمها مشاريع الذكاء الإصطناعي .
الكتاب والتسويق ..
تواجهنا في الحديث عن الدور المهم لدور النشر في حركة الثقافة مشكلة التوجه التجاري للعاملين في كثير من المطابع لأنه يحملهم دائما على طبع الكتب التجارية التي تستهلك وقت القارىء وقد يندم على ذلك الوقت الذي امضاه في قراءة هذه الكتب كما قال وديع فلسطين في حديثه عن المشكلة قبل اكثر من خمسين عاما في كتابه ( قضايا في الفكر) . تجذب الكتب التجارية الشباب اليها لأنها تخاطب رغباتهم في النجاح والثراء والتميز والحب بلغة مباشرة مقتصرة على لون محدد من الوان تلك الرغبات . لعلنا نستطيع معالجة هذه المشكلة بدخول المثقف على خط العمل في مشاريع الطباعة حيث تمتزج في شخصية المثقف ثنائية النشاط الثقافي والتجاري معاً مما ينتج عنه مطبوعات هادفة اكثر من تلك التي ينحصر انتاجها في الربح المالي فقط .
كثير من القراء الشباب يفضلون قراءة الكتب الأجنبية المترجمة الى العربية . ويستشهد كثير من الكتاب والباحثين العرب في كتاباتهم وابحاثهم ومحاضراتهم بكتّاب وباحثين وعلماء أجانب أكثر من العرب في مجال البحث نفسه .
لا يزال الكاتب والباحث العربي عموماً والعراقي بشكل خاص يؤدي كل الأدوار بنفسه في رحلة تأليفه الكتاب ، إذ لا يزال الجو الثقافي جواً مقصوراً على صاحبه لا يكاد يجد من يشاركه فيه حتى من افراد عائلته ومقربيه ، إلا من أوتي حظاً منهم ، لذا نتوجع كلما رحل كاتب وعالم الى العالم الآخر وقام ابناؤه ببيع مكتبته أو إهدائها الى جهة ما ، ثم تطور الألم مؤخراً وصار الكاتب يتبرع بمكتبته في أواخر حياته الى مكتبة عامة أو جهة ثقافية معينة ، وهو لا شك مؤشر مؤلم على إبتعاد نفوس وعقول المقربين من الكاتب والعالم والمفكر عن روح الثقافة . لأن الكاتب لم يوفق في نقل تلك الروح الى أحدهم ، فكان إقدامه شخصياً على إهداء مكتبته ، إجراء يشعر معه انه يتجاوز الألم الذي ينتابه وهو يرى مكتبة صديق له قد بيعت أو تخلص منها ابناؤه بأي طريقة بعد مفارقته الحياة . وأضيفت الى دراما إهداء المكتبات الخاصة بعض التلحيظات التي تجمل المشهد وتطيب النفس نوعاً ما حين يعلن على العامة خبر إهداء العالم الفلاني والمفكر الفلاني والكاتب الفلاني مكتبته مع صور جميلة توثق ذلك ، وقيام الجهة المستلمة للمكتبة بوضع إسمه على المكتبة كما هو حاصل في دار الكتب والمكتبات العامة والمراكز الثقافية .
ينقل الكاتب المصري “ وديع فلسطين” في كتابه “ قضايا الفكر في الأدب المعاصر “ جانباً من رسالة كتبها الكاتب المصري مصطفى صادق الرافعي المتوفي سنة 1937م الى صديقه الأديب المصري محمود ابو ريه المتوفي سنة 1970م يقول فيها:( ان الأدب يتيم بائس لا أب له ولا نصير ورحمم الله زماناً كان يجد فيه الأب والعم والخال وابن العم ) . وسواء كان عدم توفيق الكاتب في نقل روح الثقافة الى أحد أبنائه ، سببه رؤيته المحدودة ، أو ضعف همته على التوفيق بين عالمه الثقافي وجوه الأسري الإجتماعي ، أو ان أدوات الزمان قد تغيرت وجاء تيار جارف أخذ الأولاد بعيداً عن الشاطئ الذي حط عنده الكاتب رحاله وألف أجواءه . فإن كل ذلك يؤشر عندي الى توقف تفاعل المثقف مع أدوات عصر أبنائه وإن كان يعيش إستخدامها معهم ، لكنه لم يوفق الى آلة ربط بين زمانه وزمانهم فتجد كثيراً من الأطباء والمهندسين والكفاءات المعرفية في المجتمع هم أبناء أدباء وكتاب ومفكرين ومؤلفين ، لكنهم في الأعم الأغلب ليسوا مثقفين كما هو حال آبائهم ، فهم مهنيون ، يؤمنون بالتخصص، أو هكذا وجدوا أنفسهم , وقد يبدو ذلك ملموساً في بعض المجالس الثقافية التي يحضرها أدباء وعلماء وأكاديميون تقدم بهم العمر ، كنت نادراً ما أرى أحدهم يرافقه إبنه أو إبنته ، وإن حصل فإنهم يحضرون بصفاتهم المهنية لا بصفات ثقافية ، وهو لا شك نوع من أنواع الخسارة التي نتجرعها على مضض . وبهذا الصدد يتوجب عليّ ومن باب العرفان بالجميل أن أذكر ان والدي الأديب الناقد والشاعر عدنان عبد النبي البلداوي كان يدعوني وأنا في مرحلة الدراسة المتوسطة الى الإستماع الى مقالة له قبل أن يبعث بها الى النشر ، ليس لمجرد الإستماع بل كان يغريني وانا في ذلك العمر برغبته الصادقة في معرفة رأيي فيما كتب ، وان كانت لي ملاحظات على مقالته . كان يأخذ برأيي ، ليس لكفاءتي طبعاً ، ولكن لبراعته . كانت تلك طريقة عبقرية ، اعترف بها اليوم وانا أتجاوز الخمسين عاماً من عمري وقد تحولت الى عاشق للكتاب . لقد أعدني بهذه الطريقة النفسية البديعة وشدني الى مكتبته التي احتفظ بها اليوم وقد نمت وكبرت معي ، وصارت جزءاً مني. ليس هذا وحسب بل انه شجعني على أن أدرس تخصصاً استطيع به تكوين نفسي مادياً وان لا أفارق الكتاب ، وفعلاً تخرجت في كلية الهندسة وانا أهوى الكتاب والكتابة ، وكان يقرأ كتاباتي الطفولية قراءة نقدية لم يشعرني أبداً انه كان يداعبني أو ( ياخذني على كد عقلي ) كما نقول في العراق . كان صادقاً معي في كل ملاحظة وتصويب ، وفوق كل هذا شجعني على نشر تلك الخواطر والكتابات فكانت أولى خطوات النشر لي في جريدة العراق وجريدة الراصد وانا في المرحلة الإعدادية .
في كتابه “ الأدب للشعب “ يطلب سلامة موسى من الأديب ( ان يكون له مقام المعلم المربي في المجتمع ، لا مقام المهرج ، وان تكون له رسالة كما لو كان نبياً ، وان يزيد حياة القارئ حيوية بالتعمق والفهم ، وان يوجد حوله مناخاً تستطيع الحريات ان تحيا فيه وتنمو وتنتصر … ).
الثقافة والتقنية الصناعية ..
كما إن التقنية الصناعية المتطورة قد أسهمت بشكل كبير في تسهيل إعداد وطبع ونشر الكتب ، فقد صار بمقدور الباحث والمؤلف والكاتب إصدار أعماله بكلفة مالية مقبولة مقابل أعداد محدودة من النسخ ، لكن المشكلة في عالمنا العربي لم تنته عند هذا الحل لأنها متعلقة بشكل كبير في عزوف الناس عن القراءة ، حتى عندما توفرت خدمة الكتاب الإلكتروني والنشر المجاني لملايين العنوانات في مكتبات إفتراضية تسهل عملية قراءة وتحميل الكتاب .
يدخل العامل الإقتصادي والعامل النفسي ليؤثرا بشكل فعال في عملية تفاعل الفرد العربي مع القراءة والكتاب ، فهناك ملايين المواطنين في عالمنا العربي الإسلامي يعيشون تحت خط الفقر . وصل عددهم الى عشرة ملايين شخص في العراق وحده .
يضاف الى ذلك الفوضى العامة التي ضربت البلاد في مجالات السياسة والأمن والصراعات المستمرة على السلطة ومكاسبها . هدّدت الإستقرار النفسي للفرد العربي عموماً ، والذي من شأنه أن يهبط بالمعنويات الى مستويات متدنية مخيفة ، بلغت عند بعض الشباب الى الإدمان والإنتحار والعنف . ودفعت بآخرين الى قبول ثقافة الواقع كما هو ، بلغة تفكير وتعبير عادية وصلت حد كتابة الكلمات بالكيفية التي تنطق بها ، فجاءت (لاكن) لتدل على ( لكن) و (لكي) لتعني ( لك) و (شكرن) بدلا عن ( شكرا) و ( بارك الله فيكي) بدلاً عن ( بارك الله فيكِ) ، وهكذا ..
الثقافة المرحلية ..
هكذا تسهم الأحداث المرحلية في تشكيل ثقافة مرحلية للمجتمع ، يتقبل فيها الفرد الشعر العامي على الشعر الفصيح ، و ثقافة الصورة على ثقافة النص ، وقراءة التعليقات على قراءة المحتوى ، وصارت الشهرة عند كثيرين من دلالات المعرفة والثقافة فظن كثير من المتثاقفين وهَم الإبداع الحقيقي وهم يتلقون عبارات ( متألق ، نص رائع ، يا لجمال حرفك ، انت قامة ادبية ، دام ابداعك ، …) غير منتبهين الى ان سبب ذلك هو إستفحال ظاهرة المجاملات الأدبية على جميع تفاصيل الواقع المأزوم والمثقل بكثير من المعاناة والإختناقات النفسية التي قيدت حركة النقد البناء ، خصوصاً عندما اخترقت بعض المفردات الأكترونية لغة الكتابة ، فصار إعتيادياً عند بعض المثقفين أن يضمّن حديثه ( تم بموافقة الأدمن ..) يريد بذلك المدير . ويبدأ أحدهم منشوره قائلاً : الأخوة في الكروب ) يريد بها المجموعة او التجمع.
المضامين الثقافية ..
اتسم طابع بعض الندوات والمجالس الثقافية التي تعقد هنا وهناك ، بإبتعاد موضوع المحاضرة أو الندوة عن قضايا الواقع . الأمر الذي جعل تلك المجالس تنغلق على نفسها ويقتصر حضورها على كبار السن من مثقفين واكاديمين ، فمن النادر ان تلمح وجود بعض الشباب في تلك المجالس الثقافية .
يبدو إن بعض المثقفين ، بتناولهم موضوعات لا صلة لها بالواقع يحاولون إيجاد متنفس لهم وهم يعيشون تحت ضغوطات كبيرة تسببت بها التغييرات التي طرأت على البلاد منذ بدايات القرن الواحد والعشرين ، التي لم يكن للمثقف دور حيوي فيها بعد ان خاطبت سياسة السلطة الجديدة ثقافة المجتمع الشعبية دون ثقافة النخبة ، واعتمدت كلياً على ثقافة المجتمع الشعبية بينما جاملت ثقافة النخبة . ذلك لأن ثقافة كثير من المتصدين للشأن السياسي ليست بالعمق الكافي الذي يجعل من الثقافة عندهم مشروع دولة ، وقد كشفت كثير من تصريحات وحوارات ولقاءات وخطب ومواقف السياسيين عن حدة الفقر الثقافي الذي هم عليه ، كما ان هناك سبباً آخر وهو إن الثقافة لم تزل مقتصرة على النخبة ، الأمر الذي جعل من الثقافة قضية خاصة أو لوناً أو مظهراً إجتماعياً يتسم به نفر من الناس ، فثقافة المجتمع شعبية بسيطة طبيعية غير متكلفة وهي تشكل نسبة كبيرة في البلاد ، بينما تصل ثقافة النخبة عند بعضهم الى درجات عالية من الدقة والتنظيم والتعقيد والنقد والجرأة وهو ما يعلل عزوف كثير من السياسيين عن مخاطبة النخب الثقافية ، بينما يتفننون في التقرب الى طبقات المجتمع الأخرى .
في نقد ثقافة الدولة :
الثقافة الإنسانية هي الثقافة التي يعوّل عليها الحفاظ على بنية المجتمع ، ذلك لقدرتها على حفظ القيم والمثل العليا والأخلاق بما يتوافق وطبيعة حياة المجتمع . فالانسان هو الكائن الحي الوحيد الذي لديه القدرة على إعطاء معنى لكل شيء ، وهو الوحيد القادر بثقافته الخاصة على أن يعطي فهماً لذلك المعنى .
إيماناً من أفلاطون بسيادة العقل فقد أعلى من شأن الفلاسفة والمفكرين في جمهوريته ، في حين حرص كثير من الحكام على مر التاريخ على إبقاء الجهل والفقر في المجتمع ضماناً لإخضاع الناس الى طاعتهم . فعندما تغيرت الأحوال بدخول الناس عصر التطور التقني وعصر البيانات والمعلومات ، تغيرت أدوات السلطة الحاكمة وبقي الهدف ذاته .
فقد إستبدل الفقر والجهل ، بالإستهلاك والثقافة المعلبة ، في جو من الفوضى والسرعة بدعوى اننا نعيش عصر التطور العلمي الهائل وعلينا أن نركض لكي نلحق بركب العالم المتطور . إذ لم يعد الفقر متوافقاً مع التطور الصناعي الذي يحتاج الى سوق ومستهلكين ضماناً لإستمراريته ، لذا جاءت مشاريع التمويل والقروض والتسهيلات المصرفية وزيادة مرتبات الموظفين . الإجراء الذي فهمه بعضهم على انه إنتعاش إقتصادي ومنجز حكومي . هو وان كان كذلك ، إلا انه ليس منجزاً خالصاً لمعنى الإنتعاش الإقتصادي وخدمة المجتمع لأهداف انسانية ، بل يراد به تهيئة وإعداد مجتمع كثير الإستهلاك ، يقضي كل وقته في العمل والتسوق ، حتى بدت قدرة الفرد على التسوق ومتابعة أحدث منتجات شركات الإنتاج وبضائع الأسواق مؤشراً على تحضره.
إننا نعيش عصر أمركة العالم ، وهو عصر لا يشغل السلطة فيه امر أكثر من جمع الأموال ، لذا تجد الكاميرات الذكية في الشوارع لرصد مخالفات الناس ، ولا تجدها داخل مؤسسات الدولة لرصد مخالفات الموظفين والمسؤولين ، فكثر الحديث عن الرشوة والفساد المالي والتزوير والإبتزاز وإغتصاب الحقوق داخل دوائر الدولة ، وكثر الحديث عن المعاناة والأمراض النفسية والملل وضنك العيش في أوساط المجتمع.
لم يعد الجهل متناسباً مع التدفق الهائل للبيانات والمعلومات ، ومساحة التواصل والإتصالات العابرة للحدود الجغرافية والقوميات واللغات ، فكانت الفردانية والحرية الشخصية في ظل ثنائية الفوضى والتسارع هي ثقافة المرحلة الجديدة ، وهناك مشروع ثقافة عالمية ينتجها النظام العالمي بالقوى الكبرى المتنفذة فيه ، يراد تمريره على جميع الناس من خلال حاجتهم المستمرة والمتواصلة الى إستخدام شبكة الإنترنت بما توفره هذه الشبكة من قوى جذب مغرية تشدّ المستخدم اليها وتجعله متسمراً أمام الشاشة ساعات قد لا يسعها عمر الليل عند بعض الشباب فتأكل من بعض ساعات نهارهم .
فكلما وفرت الحكومة خدمة إتصالات متميزة ومحكمة ، كلما ضمنت مساحات أكبر وفرصاً اكثر في البقاء في السلطة . فعندما يصل الفرد الى مرحلة لا يعود فيها قادراً على إنجاز مهامه أو بعض مهامه ، بعيداً عن إتصاله بشبكة الإنترنت ، أو لعله يشعر بالفشل أو العجز عن القيام بأي نشاط بدون ذلك الإتصال ، عندها يصبح جانبه مأموناً ما دام مهموماً بدوام إتصاله بالشبكة .
ينتهي الإنسان ويضيع الدين وتنهار الأخلاق في كل مجتمع فيه مسؤول فاشل ومواطن غافل.
الثقافة الرسمية :
في مؤسسات الدولة الثقافية لا يبدو العقل الثقافي الرسمي متفقاً في كثير من خطواته مع توجهات العقل الثقافي العام المستقل عن إرتباطاته الرسمية فيما يخص جوهر الثقافة ومشروع تمكين المجتمع ثقافياً . إذ يقتصر نشاط المؤسسة الثقافية الرسمية في كثير من الأحيان على النمط التقليدي الروتيني المتعلق بقص الأشرطة والحضور الشكلي المبرمج للمهرجانات والملتقيات والمعارض الفنية ومعرض الكتاب و .. و ..
كثيراً ما يستغرق النشاط الثقافي في مؤسسات الدولة كوزارة الثقافة وإتحاد الأدباء في البعد الإداري المصاب بعدوى روتين دوائر الدولة الأخرى . ان الفارق الوحيد الذي يبدو واضحاً بين اتحاد الأدباء كدائرة حكومية رسمية وبين أي دائرة خدمية أخرى هو ان الموظف في إتحاد الأدباء يستقبلك بعبارة “ تفضل أستاذ “ بينما يستقبلك الموظف في دائرة حكومية أخرى بعبارة “ تفضل أخي “ ويخضع المثقف كما المواطن البسيط للروتين الإداري الذي تختفي فيه كثير من ملامح أنسنة الوجود البشري ، ومما يوسف له أن تصاب ثقافة الدولة الرسمية بهذا الوباء ويصبح المثقف الحكومي ناقلاً لهذا الفيروس.
ترقين قيد مثقف :
في بداية هذا العام 2024م قصد مبنى إتحاد الأدباء والكتاب في بغداد أحد اساتذتنا من الأدباء والنقاد الذين مضى على إنتمائهم الى الاتحاد ما لا يقل عن ثلاثين عاماً . شاءت ظروف البلاد القاهرة في سنواتها العجاف حيث فترة الإرهاب ثم مرحلة الجهاد الكفائي ، مضافاً اليها ظروف الأديب الصحية وتقدمه بالعمر ، أن تحول دون مراجعته مبنى الإتحاد لغرض تجديد عضويته ، ولما تهيأ له الوقت والظرف المناسبين تفاجأ بأحد موظفي الإتحاد وهو يخبره ان إدارة الإتحاد قد رقنت قيده ، ولكي يعيد انتسابه عليه ان يتقدم بطلب جديد.
اندهشت كثيراً وتألمت وهو يحكي لي ما دار معه في صباح ذلك اليوم في مبنى الإتحاد وسألته هل قدمت طلباً جديداً ؟ قال : لشدة امتعاضي من سوء التصرف وسماجته ، اعتذرت عن كتابة الطلب كوني لا اتمكن من الكتابة وطلبت من الموظف ان يقوم بذلك بدلاً عني ، ثم غادرت المبنى.
تحت عنوان “ ترقين قيد مثقف “ نشرت على حسابي الخاص في الفيس بوك منتقداً هذا التصرف دون ذكر اسم الأديب نزولاً عند رغبته ، فكان من بين التعليقات على الموضوع الذي انهيته مستفهماً : هل في هذا الإجراء شيء من الثقافة ؟
تعليق قال صاحبه : بل قل هل في هذا الإجراء شيء من الأدب.
لا بد لي من الإشارة الى الحس الثقافي الإنساني الذي ابداه عدد من المثقفين ممن قراوا المنشور إذ عرض بعضهم مساعدته بالتدخل شخصياً لتسوية المسألة وطلبوا مني اسم ورقم هاتف الاستاذ المرقن قيده للتواصل معه من أجل إنصافه . مقابل هذه المواقف الإنسانية الثقافية .
كان موقف الموظف المثقف الرسمي الملوث بروتين الدولة الإداري ، فحين بعث أحد الأدباء بنسخة من المنشور الذي كتبته الى أحد المسؤولين في إدارة الإتحاد متسائلاً عن هذا التصرف أجابه برسالة صوتية ، بعث لي الأديب المتفضل نسخة منها قال فيها انه إجراء إعتيادي تتخذه الإدارة بسبب إنقطاع العضو الذي لا يُعلم إن كان مريضاً أو مسافراً أو ميتاً ، وهو إجراء مؤقت لا يقصد منه الإساءة الى العضو . ينتهي بمجرد إعادة تقديمه طلباً جديداً للإنتماء على وفق السياق الروتيني.
في حادثة أخرى ، قصد أحد الكتاب والمؤلفين مبنى الإتحاد لطلب الإنتساب ، فسأله الموظف عن عطائه الثقافي . أخبره الكاتب ان لديه مؤلفات في الفكر الإسلامي تجاوزت الخمسين كتاباً مطبوعاً. رد عليه الموظف : لا نريد كتباً في الفكر الإسلامي.
أ ليس لديك رواية أو قصة أو ديوان شعر أو كتاب في الأدب . قال له الكاتب : اليس هذا اتحاد الأدباء والكتاب ! قال له الموظف :
نحن نروج معاملات أصحاب الأعمال الأدبية والفنية . حصل هذا فعلاً مع احد الأصدقاء عام 2023م.
وفي لقاء مع شخصية ثقافية شغلت منصب رئيس إتحاد الأدباء والكتاب سنة 2021م ، أجرته احدى القنوات الفضائية سئل عن الإنجازات التي قدمها الإتحاد في عهده ، فكان من بين ما أجاب أن الإتحاد لم يطالب اعضاءه بدفع الإشتراك المالي كما كان متبعاً في العهد البائد.
يروي أحد الأدباء انه حين قصد مبنى الإتحاد سنة 2010م لتجديد هويته ، سأله الموظف عن تاريخ انتمائه الى الإتحاد ، فقال له سنة 1976م . نظر اليه الموظف وقال له مبتسماً : (انت واوي عتيك أستاذ).
لا حياة بدون ثقافة ..
ماذا يريد المثقف من وزارة الثقافة ومن اتحاد الأدباء والكتاب ؟
ماذا يريد المجتمع من الثقافة والمثقف ؟
هل الثقافة التي نبحث عنها هي صفة أصحاب الشهادات والمواقع الإجتماعية والقيادية والمهن العليا أم هي ثقافة المجتمع ؟
هل ما يتم تداوله عبر وسائل التواصل الإجتماعي وأجهزة الموبايل والحواسيب والإنترنت هي ثقافة عالمية أم غزو ثقافي ؟
لا يرى كثير من المثقفين ، معنى للحياة في أي مجتمع من دون ثقافة . فهي تمثل عندهم جوهر الحياة . عادة ما يصار الى تقسيم الثقافة الى ثقافة شعبية وأخرى راقية . يختلف علماء الإجتماع على مفهوم الثقافة من حيث كونها واحدة أم هي ثقافات مختلفة ، ويرى علماء إجتماع في تقسيم الثقافة الى نوعين : نوع مرتبط بالمنجز المادي كالإختراعات والصناعة؛
ونوع مرتبط بجوانب الشخصية المتعلقة بالسلوك والأخلاق والعواطف والقيم والمثل العليا.
الثقافة مفهوم أوسع مدى من إنتاجات المبدعين في مجالات الأدب والفن والمعرفة . فهي محتوى يضم قيم المجتمع وتراثه وأفكار الناس وإنتاجاتهم على إختلاف أعمالهم ومجالات معارفهم ومدياتها . ينتقل هذا المحتوى من جيل الى جيل آخر عبر الرابطة الإجتماعية التي تحكم علاقة أبناء المجتمع ببعضهم .
من هنا نشأت المخاوف إزاء مفهوم الثقافة الكونية أو عولمة الثقافة ، كونه مفهوماً يحمل معنى تذويب الثقافات المحلية ودمجها في ثقافة عالمية وهو ما قد يهدد الروح الإجتماعية التي تتحكم بآلية انتقال المحتوى الثقافي لمجتمع ما أو لبلد ما من جيل الى الجيل الذي يليه ، بحيث تفقد الثقافة المحلية خصوصيتها.
الثقافة وانثروبولوجيا المجتمع :
في كتابهما “ الثقافة عرض نقدي للمفاهيم والتعريفات” ذكر العالم في مجال الانثروبولوجيا الثقافية الامريكي الفريد كروبر Alfired Louis Krober ( 1876 – 1960) والعالم الامريكي كلايد كلاكهون Clyde Kluckhohn ( 1905 – 1960) . قدما قرابة 164 تعريفاً لمفهوم الثقافة . يرى “ كروبر” ان اول ظهور لكملة ثقافة كان في قاموس الماني عام 1793م.
يرى الانثروبولوجي الامريكي “ مالينوفسكس " ان الثقافة : " كل متكامل من الأدوات والسلع والأفكار والمعتقدات والأعراف لمختلف الفئات الاجتاعية".
أما “ الانثروبولوجي “ رادكليف براون “ فيقول عن الثقافة انها ( جملة اكتساب التقاليد الثقافية ، كما انها العملية التي تنتقل بها اللغة والمعتقدات والأفكار والأذواق الجمالية والمعرفة والمهارات).
في أنشطتنا الثقافية والإجتماعية اليوم ، أعمال أدبية وعلمية وفنية رائعة ، فيها من الإبداع ما يدعو الى الفخر ، وفيها من الهمّة ما يدعو الى الزهو ، وفيها من الأصالة ما يدعو الى التباهي . لكن واقعنا المأزوم بكثير من المشاكل الإجتماعية والتذبذبات الإقتصادية والإضطرابات الأمنية والصراعات السياسية ، يدعونا الى التساؤل عن غايتنا من الثقافة. وما إذا كان اللون التقليدي للثقافة لا يزال فعالاً في مثل مرحلتنا الحرجة التي نعيشها منذ مطلع القرن الواحد والعشرين . إننا بحاجة الى ثقافة تخاطب في المتلقي العقل والنفس والقلب معاً.
إننا بحاجة الى دور جديد للثقافة من خلال علم الإنسان ( الانثروبولوجيا) . دور نقدم فيه حلولاً تنقذ مجتمعاتنا من آثار الأعراض الجانبية لمخرجات عصر التقنية المتطورة بمنتجاتها الآلية فائقة السرعة ، عالية الدقة ، التي تسبب إستخدامها الخاطىء من قبل الناس في كثرة المشاكل الإجتماعية وإرتفاع معدلات الطلاق والإنتحار والإدمان والأمراض النفسية والعنف الأسري وجرائم القتل وحالات الغش والتزوير والإبتزاز والتسقيط الإعلامي والتشهير . ان من بين أهداف الثقافة حماية الناس البسطاء ممن يعيشون فقر التعليم وفقر المعيشة وفقر الرفاهية والجهل والمرض . لأن هؤلاء البسطاء عرضة لإستثمار ظروفهم من قبل تجار الأزمات لصالح فكرة معينة قد تضر بسلامة وجودهم . أو لصالح منفعة خاصة قد تفقدهم كرامتهم وحرية وجودهم وبناء انفسهم بعيداً عن أي تدخل خارجي.
لا معنى للحديث عن الثقافة دون الحديث عن المجتمع ، فالثقافة والمجتمع يشكلان أهمية تبلغ حدَّاً يتعذر معه الفصل بينهما ، وسواء أكان المجتمع هو الأساس أم الثقافة هي الأساس كما اختلف على ذلك نفر من العلماء ، فإننا نعتقد ان المجتمع هو الأساس وان الثقافة ضرورة حتمية لهذا الأساس لكي يستمر . ذهب مايكل كارذرس في كتابه ( لماذا ينفرد الانسان بالثقافة ؟) الصادر عام 1992م الى ان المجتمع أو العلاقات الإجتماعية هي الأساس وليست الثقافة ..
يرى “ هوجين “ ان المجتمع يعني العلاقات التي تربط ابناءه ، وان الثقافة هي سلوك اولئك الأفراد ، لذا فهو يرى ان الثقافة والمجتمع وجهان لشيء واحد.
إن تمكين المجتمع ثقافياً هو اليوم حاجة ملحة تفرضها التشوهات التي اخذت تنعطف بالمفاهيم العامة باتجاه التطرف والتحوير حين دخلت الأخلاق ودخل الفكر سوق العرض والطلب وحلّت لغة الجسم مكان لغة العقل ، ولحنت ألسنة المتكلمين بالعربية وصاروا الى اللهجة العامية أقرب من الفصحى في التعبير عن مواقفهم وعواطفهم ، واحتلت العامية مساحة كبيرة على لسان كثير من المثقفين في المحاضرات والندوات والمؤتمرات والمهرجانات الثقافية . ودخلت مشاكل البيئة والمناخ على خط الأزمات التي تكاد تعصف بالناس في مختلف أنحاء العالم بسبب إرتفاع معدلات البطالة ونسب التصحر والجفاف وإزدياد أعداد الفقراء حول العالم ، خصوصاً في عالمنا العربي والإسلامي .
carlton coon يقول الأمريكي كارلتون كون وهو أحد علماء الإنسان
( فموضوع دراسة الثقافة هام وهو اليوم أهم من الدراسة الذرية أو الآداب ، او الأعمال المصرفية العالية .
إن في دراسة الثقافة مفتاح كرامة النوع الإنساني ومساواته في المستقبل كما انها قد تهدينا الى سبيل الخروج من الحيرة التي اوقعنا فيها عصرنا ، عصر التقدم الآلي الفائق السرعة ..).
يقول إليوت ( اول ما اعنيه بالثقافة هو ما يعنيه الانثروبولوجيين : طريقة حياة شعب معين ، يعيش معاً في مكان واحد وهذه الثقافة تظهر في تنوعهم وفي نظامهم الإجتماعي وفي عاداتهم واعرافهم وفي دينهم ) .
في كتابه ( الثقافة البدائية ) الصادر سنة 1871م يقول إدوارد تايلور ( الثقافة هي ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والعقائد والفن والاخلاق والقانون وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الانسان بوصفه عضواً في المجتمع ).
واقع حال كثير من انشطة المثقفين اليوم تشير الى انهم اقرب الى الذاتية منهم الى الموضوعية في عطاءاتهم الثقافية واذا ما اخذنا بأن الموضعية هي عقلنة الواقع في حدود الإمكانات المتاحة من أجل الحفاظ على البناء الإجتماعي من التداعي لمنع المجتمع من الإستسلام للظروف المعاكسة التي تمر به وتدفع بابنائه الى قبول واقع جديد مختلف عن طبيعة وطريقة حياتهم ، فإننا نتساءل عن حدود الموضوعية الثقافية التي على المثقف في القرن الواحد والعشرين التمتع بها ؟
قد لا يسعنا القول إن بمقدور المثقف أن يكون موضوعياً أكثر منه ذاتياً ، لكننا نستطيع أن نقول إن بمقدور المثقف أن يوظف ذاتيته في خدمة الموضوعية الثقافية.
يقول سلامة موسى في كتابه “ مقالات ممنوعة “ ص17 ( الواقعية هي المعالجة الموضوعية التي تتفق وواقع الحال ، وليست المعالجة الذاتية التي تعتمد على الاغراض الشخصية . ولا يستطيع أحد منا أن يفصل الفصل التام بين ذاتيته الشخصية وما تحمل من أهواء وأغراض وبين واقع الحال في الأشياء والناس والمجتمع والفن .).
تتحرك المجاملات الإجتماعية في واقعنا الثقافي اليوم بنشاط أخذ يطغى على القيمة الحقيقية للمنجز الثقافي وللأثر الذي يمكن ان يحدثه في الواقع. .
فصل الثقافة عن جسم الدولة السياسي :
بصراحة : سيطرة السلطة على الثقافة هو بمثابة إعلان لموت الثقافة, حيث يجب أن يتحقق العكس تماماً ليمكننا القول بأن الثقافة حاكمة و فاعلة ..
منذ بدايات القرن الواحد والعشرين والعالم من حولنا يعيش تغييراً يراه بعضهم طبيعياً بحكم المنجزات العلمية والتطور الكبير في مجال الصناعة والتقنية الرقمية ومشاريع الذكاء الإصطناعي والحوسبة والروبوت . ويراه البعض الآخر تغييراً مقلقاً بسبب سلوكيات غريبة وخطيرة أخذت تظهر في ظل هذه التغييرات مدعومة بالدعوات والصيحات المتعالية المنادية بحرية المواقف والعواطف مع ما تقدمه التكنلوجيا المتطورة من أدوات تخدم الكشف عن هذه الحريات .
مع الأخذ بنظر الإعتبار التوجه العالمي لدعم تلك السلوكيات الشاذة والثقافات الغريبة بدعوى الحريات الشخصية .
ثم محاولات توفير حماية لتلك الحريات حول العالم . أخذت معاناة المثقف العربي في التزايد في المرحلة الراهنة التي يغلب عليها الفوضى والتفاهة والإنهيار الإخلاقي والفساد المالي والإداري وكثرة المشاكل الإجتماعية مع مطلع القرن الحالي وما يخبئه المستقبل من تهديد تراه بعض الرؤى المستقبلية واقعاً ما لم يحدث تغيير في النظام العالمي الذي لم يعد قادراً على تفادي ومواجهة ومعالجة مشكلات البيئة والمناخ والتصحر والمياه وإزدياد الطلب على الغذاء والطاقة وإزدياد عدد النفوس حول العالم وشحة الموارد الطبيعية وغيرها..
وسط هذه الأجواء المضطربة يقف المثقف مهموماً مشغولاً قلقاً ، فهو معني بالواقع من جانبين . كمواطن مفروض عليه تدبر شؤونه وكمثقف تملي عليه مسؤوليته الثقافية أن يجد مخرجاً لهذا الضيق.
لا يمكننا أن نتجاوز الكم الكبير من المقالات والكتب التي تتناول الواقع وتبحث في سبل معالجة أزماته ، كما لا يمكننا أن نتجاوز ازمتنا الحقيقية في ظل الإنموذج الأمريكي للديمقراطية المتمثلة في مشاريع تحوير المفاهيم وإلباسها ثياباً جديدة لا يجد المستخدم والمتلقي والمواطن بداً من مجاراتها ، خصوصاً وان التوجه العالمي الجديد في ظل التطور العلمي ومشاريع الذكاء الإصطناعي تبحث في توفير حلول مرضية تناسب واقع الحال وإن كانت لا تناسب الأصول والمنطق والقيم والمبادىء ، هكذا يعيش المثقف اليوم محنته الحقيقية التي لا أظنني أبالغ إذا قلت إنه يعيشها لأول مرة في تاريخ الثقافة الإنسانية.
تبنى بعض المثقفين دعوات فصل الدين عن الدولة كحل من الحلول التي يرتجى منها إخراج العالم العربي من أزماته وتحريك واقعه لإخراجه من دائرة التراجع والتأخر التي هو فيها . وبغض النظر عن دوافع تلك الدعوات وأهدافها ، فإن طبيعة المجتمع العربي طبيعة لا يغادرها الدين ، وأي جهود إصلاحية خلاف تلك الطبيعة لا تعطي نتائج مرضية ، ولعل إنحراف السلطة السياسية عن روح الدين كان من أهم أسباب الفجوة الآخذة بالإتساع مع مرور الوقت بين السلطة والمجتمع .
يبدو لي إن طرح فكرة فصل الثقافة عن جسم الدولة السياسي مع الإبقاء على تبعية المؤسسات الثقافية للدولة ، سيخرج المثقف الرسمي من عباءة السلطة السياسية التي طبعته بطابعها الروتيني التقليدي الذي لم يقدم جديداً للمجتمع في مجال تمكينه ثقافياً . بهده الدعوة يمكن للثقافة أن تعايش وعي الواقع وفهم ما ورائيات الطرح المباشر للإعلام الرسمي ، فعندما تصبح المؤسسة الثقافية مؤسسة إجتماعية يباشرها مثقف مسؤول تحمل الثقافة عنده بعداً رسالياً وهماً إنسانياً لا تأثير للمصالح والعلاقات السياسية والشخصية فيها ، فمن المؤكد إن طريقة حياة الناس ستتغير الى الأفضل؟
بفصل الثقافة عن جسم الدولة السياسي سيتحرر المثقف من روتين الأنشطة الشكلية الرسمية التي باتت عرفاً تقليدياً ينتهي مفعولها مع نهاية الفعالية ، وبهذا الخروج سنصل بالمثقف الى الناس في البيوت والأماكن العامة.
بفصل الثقافة عن جسم الدولة السياسي وإلحاقها بالمجتمع ، سيتمكن المثقف من تنمية الحس الجمعي للناس للإرتقاء به الى حد النهوض بالمسؤولية تجاه رموز وعلماء وشخصيات ثقافية واجتماعية ، قدّمت أعمالاً رائدة في مجال النمو الإيجابي لوعي الأمة ، اظطرتهم ظروفهم الصحية الى أن يكونوا في وضع يحتاجون فيه الى رعاية تفوق قدراتهم المادية ، ولطالما دفع كثير من هؤلاء حياتهم ثمناً لعدم إكتراث السلطة السياسية والمؤسسة الرسمية للثقافة لحالهم . كثيراً ما رأينا مشاهد مؤلمة وسمعنا أخباراً لا تسر عن شخصية ثقافية أفنت عمرها وهي تكتب وتطبع على نفقتها الخاصة وكانت في بعض الأحيان تقتطع من قوت عيالها ما تؤمن به ثمن طبع كتاب يرتجى منه تنمية حركة وعي الأمة ونهضة المجتمع وتحسين ذائقته الجمالية ونظرته الى الحياة . كثير من هؤلاء الكبار ماتوا وسط إهمال وإغفال المؤسسة الثقافية الرسمية التي لم تشعر بأدنى درجة من الإحساس بالمسؤولية الثقافية الإنسانية الوطنية تجاه رواد الثقافة في البلاد فلم تتورع عن ترقين قيد أديب كبير لأنه غاب عنهم إثني عشر عاماً بسبب ظروفه الصحية الخاصة وظروف البلاد السيئة . كم من أديب ناشد من على فراش المرض سلطة سياسية وثقافية . وكم سمعنا ذوي أحد العلماء وهم يناشدون السلطة لمساعدة والدهم العليل . وكم شاهدنا صوراً حية لشخصيات ثقافية وعلمية وفنية وهم على فراش المرض قد أهلمتهم سلطة الثقافة ونسيتهم المحافل التي كانوا يحاضرون فيها . ومن المؤسف ان وظف بعض السياسيين هذه الخصلة الملوثة في انفاس المتسلطين فعمدوا من باب الدعاية الإعلامية الى تقديم مساعدة مالية الى الفنان الفلاني والكاتب الفلاني لإجراء عملية جراحية له.
تأتي أهمية إثارة هذا الحس الجمعي في المجتمع في وقت أخذت فيه السلطة التافهة ترعى وتتبنى شخصيات هابطة أسهمت مواقع التواصل الإجتماعي في دفعهم الى الواجهة بحكم عدد الإعجابات التي حصلوا عليها وعدد المتابعين الكبير الذي عدّه بعضهم شهادة على اجتماعية هذه الشخصية وتأثيرها في الناس ، وقد سجل على بعض المسؤولين السياسيين ومثقفي السلطة تكريمهم لعدد من هذه الشخصيات الفاشلة ، ولكي لا تتساوى “ الكرعة وام شعر” كما يقول المثل العراقي فإننا ندعو الى فصل الثقافة عن جسم الدولة السياسي آخذين بنظر الإعتبار ما الحقته السياسات الفاشلة والإدارات الروتينية التقليدية للبلاد منذ أكثر من عشرين عاماً من بداية القرن الحالي.
يقول عبد الإله بلقزيز ان ( الثقافة أمست خارج حدود تعريفها وماهيتها الطبيعيين .
لن يعود في وسعنا حدّها بالقول انها تعبير عن تمثّل الناس لمحيطهم ، وتعبير عن نظام اجتماعهم المدني ، بل سيصبح مطروحاً علينا أن نفكر في معنى أن تنشأ في وعي الناس ثقافة أو قيم ثقافية لا تقوم صلة بينها وبين النظام الإجتماعي الذي ينتمون اليه ).
الثقافة في زمن الشاشات وشبكات التواصل الإجتماعي . هي في وضع أخطر مما هي عليه في حدود فتح مركز ثقافي هنا ، ومسرح وبيت للثقافة هناك. انه زمن صناعة الأحداث وفبركة التفاصيل . زمن يحتاج من المثقف دوراً أعمق وأخطر تصل خطورته حد التضحية بالنفس في سبيل إعادة يقظة وهي الجماهير التي شدّها العالم الإفتراضي وأغرتهم الوان الشاشات . تضحية تصل الى قول الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد:
علمتني مذ شراييني برت قلمي
كيف الأديب يلاقي موته حربا
وكيف يجعل من اعصابه نذراً
حيناً وحيناً نذوراً كلما وجبا
ولن يتحقق هذا الدور بوجود الثقافة ضمن جسم الدولة السياسي المصاب منذ أكثر من عشرين سنة بأورام خطيرة تكبر كلما مر عليها الزمن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عصر التقنية الرقمية وازمة الهوية الثقافية
نشر بتاريخ: 01 آذار/مارس 2024
يواجه مجتمعنا العربي اليوم إشكالية ثنائية العلاقة بين التراث والمعاصرة في وقت تبرز فيه أزمة الهوية بشكل واضح، فمن المشاهدة العيانية والمعايشة الحية لواقع الحياة اليومية لطبيعة المجتمع، يجد الباحث الانثروبولوجي تطلعاً ملحوظاً في عيون الناس لمشاهدة دور للثقافة في صياغة هوية جامعة من شأنها ان تعطي حراكاً لا يفرض أي شكل من اشكال القيود او الضوابط على الهويات الاخرى مثل هوية الوطن وهوية المعتقد وهوية العرق وهوية المهنة وهوية اللون وهوية الانتماء، بعد ان تعثرت جهود اغلب الهويات في الضلوع بهذه المهمة، فعلى الرغم من المشتركات الكثيرة والأساسية والمؤثرة في مجتمعاتنا العربية إلا انها لا تزال تعيش ازمة الهوية خصوصاً لدى الأجيال الشابة، إذ ان الماكنة العالمية للاقتصاد الصناعي تمكنت من احتواء كثير من الهويات وإعادة اصدارها بنسخ جديدة توافق تطلعات مشاريع النظام العالمي الجديد الذي قالت عنه تصريحات وآراء انه نظام يختلف عما كان عليه الحال قبل اجتياح وباء كورونا العالم، ومن حيث لم يعد بوسعنا اليوم ان نتحرك بمعزل عن العالم وعن دوره وربما تدخلاته بعد ان اجتذبت المشاريع العملاقة الناس اليها من مختلف اصقاع الارض حيث اختلاف اللغة والدين واللون والهوية الجغرافية والتاريخ، فظهرت الشركات العابرة للقوميات وتحرك المال ليدير هذا النظام الجديد، وفي ضوء هذه المستجدات المثيرة وجد الفرد العربي انه في حيرة من امره، فهو من ناحية عملية لم يعد يستغني عن مخرجات الثورة الصناعية والتقنية والعلمية والمعلوماتية، فقد صارت اجهزة الاتصال ووسائل التواصل والعالم الافتراضي من ضرورات حركة عجلة الحياة اليومية لابسط المستويات والامكانيات الثقافية والاجتماعية والمادية، ومن ناحية اخرى يجد الفرد على اختلاف المستوى التعليمي والثقافي انه مرتبط بالتراث والتاريخ والاسلاف ارتباطاً لا يشعر بالتوازن اذا تجاوزه او فرض عليه تجاوزه، وصارت المحنة كبيرة احتاجت الى هوية جديدة نستطيع بها تمثيل الواقع للنهوض به الى ما ينبغي ان يكون وتلك كانت رسالة الإمام علي عليه السلام في السلطة.
الموروث الثقافي وتغيّر المجتمع ..
يرى الفيلسوف الفرنسي فيليب هـ فينكس ان الحفاظ على الموروث الثقافي يأتي عن طريقين لا غنى لأحدهما عن الآخر، طريق حي يمثله الانسان، وطريق غير مباشر يمثله المتحف والكتاب والجريدة والمسرح وغيرها ولكي يحدث هذا التواصل بين الطريقين اقتضى تربية واعداد جيل من المتعلمين يستوعبون هذه الرسالة التعليمية وعدا ذلك قد يغدو المتحف مكاناً اثرياً جميلاً نستمتع بزيارته ونلتقط فيه الصور لننشرها على صفحاتنا في مواقع التواصل دون ان يكون لذلك اثره الحي في حركة واقعنا المنهك اليوم، ومن شأن هذا الخلل ان ينعكس سلباً على طبيعة الشخصية التي من المحتمل ان تتعرض للازدواج والتناقض وقد سجلت المشاهدات العملية وجود مثل هؤلاء الأشخاص.
التغير صفة اساسية من صفات المجتمع، يراد به التحولات التي تطرأ على البناء الاجتماعي، اي منظومة القيم والسلوكيات التي تربط ابناء المجتمع مع بعضهم.
يشتغل علماء الانثروبولوجيا وعلماء النفس والاجتماع والفلاسفة على موضوعة تغير المجتمع من اجل المزيد من العدالة الاجتماعية والرفاهية الاقتصادية، ولا يختلف مجتمع عن اخر من حيث طبيعة التغير لكن الاختلاف يكمن في درجة التغير والآثار الجانبية المترتبة على ذلك التغير، ففي عالمنا العربي والإسلامي عموماً والمجتمع العراقي بشكل خاص يواجه الناس مؤثرات تتفاوت درجات ضغطها على طبيعة المجتمع، منها ضغوطات داخلية تتمثل بالتغيير الذي حصل في سياسة وادارة واقتصاد البلاد، ومنها ضغوطات افرزها النظام العالمي الجديد ومشاريع الاقتصاد الصناعي السياسي للشركات الكبرى العابرة للقوميات، ومنها ما نتج عن الطبيعة مثل التصحر وشحة المياه والاوبئة وامراض الحروب، القت هذه الضغوطات بثقلها على طبيعة المجتمع الذي يتمتع بهوية ثقافية دينية وباتت تشكل خطراً حقيقياً على الهوية من حيث جهود بعض القوى في اعادة تشكيل العالم على وفق نظام جديد تندمج فيه المجتمعات المتأخرة والفقيرة والمتخلفة والعالم الثالث في النسيج العالمي الذي تقف وراء صياغته قوى هويتها الثقافية غير هوية تلك المجتمعات موضوع الدمج، وسط هذه الدوامة الكبيرة يجد الانسان انه يعيش ازمة قد تأخذ به الى التغريب الثقافي على حساب الهوية الذاتية ونمو الشخصية الذي يبدأ من ذات الشخص في اتفاق مع نفسه التي تبدي استعدادها لوعي الشخص بطبيعته وطباعه وبعلاقته بالمجتمع وحرصه على ان يكتسب هوية شخصية يصنعها ذاتياً تعطيه دوراً ايجابياً في المجتمع، وهذا الحرص والاستعداد المسبق يعطيان الشخص من خلال مراحل العمر والتجربة والخبرة والتعلم، هوية مستقلة لها بصمتها الحضورية في واقع الحياة الاجتماعية، بينما الذين ليس لديهم استعداد مسبق واتفاق مع الذات على وعي الطبيعة البشرية وطباعها وبناء الشخصية فإنهم غالباً ما يميلون الى اكتساب هوياتهم من خلال الوسط الاجتماعي الذي يعيشون فيه فيغلب عليهم ماهو غالب على ذلك المجتمع من قيم وسلوكيات يفرزها التيار الاقوى في مرحلة معينة من عمر المجتمع كالتي يعيشها في العقدين الاخيرين من بداية القرن الحادي والعشرين حيث الانفتاح على العالم بواسطة شبكة الاتصالات العالمية والدعوات الى الحرية الشخصية واحترام حقوق الرأي والتعبير والتفكير تصل احياناً حد التجاوز على الذوق العام الذي يعبر المجتمع من خلاله عن طبيعته وهويته.
ترى هل ان اخفاق المجتمع العربي اليوم في عقلنة العولمة راجعٌ الى ان المشاريع العالمية تستهدف علمنة تراث المجتمع الثقافي؟ ام ان المشكلة في ان المجتمع يريد ان يعيش خارج بيته بالأجواء نفسها التي يعيشها داخله، في الوقت الذي تريد منه العولمة ان يكون كما يريد في بيته وان يكون كما يراد منه خارجه، هي تريد منه ان يكون عربياً ومسلماً داخل بيته وتريد منه ان يكون مواطناً عالميا خارج بيته على وفق ما تعنيه العالمية من هيمنة الغرب الأقوى في مجال السياسة والاقتصاد والإدارة ..
لا نستطيع الجزم بأن الانسان يستطيع ان يكون على صورة واحدة لا تقبل المراجعة او التغيير، فما بين تاثيرات الظروف ومناخات النمو المعرفي وبين ان يدرك الانسان انه ذات وليس موضوعاً، سيتمكن من اكتشاف هويته وإثبات ذاته من خلال تجاربه الحياتية والخبرات التي يحصل عليها من تجاربه وتجارب الاخرين والرسائل الثقافية التي يستوحيها من التراث ممثلاً في المتاحف والاثار والكتب والصحف والمكتبات..
يفشل كثير من الناس في فرض هوياتهم الخاصة على الاخرين ويضطرون الى التنازل عنها ليتشبهوا بغيرهم من اجل تمشية الأمور وتجاوز العقبات، فقد يعيش بعض الناس وهم غير راضين عن حياتهم وادائهم مضطرين لقبول واقعهم المفروض عليهم والذي يتعذر عليهم مواجهته وتغييره، يرى الفيلسوف الالماني "هيجل" ان الوعي البشري محدود بالظرف الإجتماعي والحضاري الخاص بالبيئة التي يعيشها الإنسان.
يسلط علم الانسان الاجتماعي وعلم الانسان الثقافي الضوء على طبيعة احساس الفرد بنوع وجوده في الحياة، فالذي ينظر الى المتحف مثلا على انه مكان يحتوي على أشياء تشير الى طبيعة وثقافة مجتمع في مرحلة زمنية من مراحل التاريخ القديم والحديث لا تربطه به اكثر من رغبة الاطلاع والسياحة الثقافية التي ينتهي مفعولها بمغادرة المكان والتقاط الصور، اما الذي يرى في المتحف موضوعاً فإنه يمنح حاضره نظرة مستقبلية يرسم ملامحها من خلال معطيات يمده المتحف بها من خلال الرسالة التي تحملها موجوداته المادية والتي يترجمها الى لغة الواقع ليقارب بها بين الماضي والحاضر كي يتجاوز حالة الرضا الوهمي التي تخدعه بها عثرات الواقع المنهك المتأخر المأزوم..
ان الحد الأدنى من الأداء الثقافي يشتمل على بذل جهود مضاعفة تصل حد تكليف النفس اكثر من طاقتها للوصول بالمواطن الى حالة التوازن، لأن حالة التوازن تمنحه امكانية الالتفات الى الوراء والوقوف عند التراث واستحضاره، اما عندما يعيش الفرد حالة من القلق وفقدان او ضعف الثقة بالمحيط الذي يعيش فيه مع المقربين والآخرين، ومع السلطة ذاتها، فإن التراث لن يعدو كونه محطة استراحة تحتاجها النفس في اوقات معينة ومواقف معينة، في الوقت الذي ينبغي له ان يكون محطة يحتاجها حاضرنا كي نمر بالاتجاه الصحيح والمسار الآمن، فالتراث هو الماضي باحداثه وشخوصه وانتاجاته، وهذا كله رصيد من الخبرة يتحول الى ثروة عندما نستثمرها في حاضرنا على وفق معيار نقدي يعود علينا بالنفع في اجادة التصرف وحسن الاختيار وتحقيق الهوية، وما حالة الضياع أو ازمة الهوية التي تعيشها اجيال اليوم إلا لأنهم لم يجدوا من يصل بهم الى حالة التوازن، ولم يتمكنوا ذاتياً من تحقيق ذلك في زمن تكالبت فيه المشاكل والضغوطات والاغراءات والتهديدات وضرورات الحياة التي لم تعد كما في السابق، فاليوم صرنا من حيث ندري ولا ندري، ومن حيث نريد ولا نريد، ضمن نظام عالمي يتحرك فيه رأس المال ليدير مشاريع ضخمة عابرة للقوميات يعود نفعها على الجميع مع الاخذ بنظر الاعتبار ان القدر الاكبر من النفع يصب في صالح المنتجين ومالكي المشاريع، فهذه المشاريع وان كانت تسهم في تشغيل ابناء المجتمعات في مختلف انحاء العالم وعلى اختلاف اوضاعهم ولغاتهم والوانهم وميولهم واديانهم، إلا انها في النتيجة نمط من انماط التبعية المتطورة، وهي تبعية يرتضيها الناس لأنها في الحد الأدنى تخفف عنهم شعورهم بإالغاء الذات، مع انها تسعى وتهدف الى ذلك ولكن عن طريق لا ينتبه اليه كثير منا، وهو طريق الاقتصاد والمال والاعمال، الطريق الذي الغى فيه اشخاص كثيرون عبر التاريخ انفسهم من اجل مكتسباته المالية والمادية..
الهوية الثقافية وفلسفة التربية..
ينبغي ان تختلف نظرتنا الى المتحف اليوم عما كانت عليه بالأمس، بعد ان تخلّت المدرسة في زمن التقينة المتطورة والشخصية القلقة وازمة الهوية، عن اداء دورها في تحقيق الهدف من فلسفة التربية القائم على اعداد جيل من الابناء يعي اهمية حفظ الثقافة في جانبها المادي كالمتحف والجريدة والكتاب والمدونات، فلأسباب كثيرة لم تعد المدرسة اليوم قادرة على النهوض بالجانب التربوي للطبلة واقتصرت على الجانب المهني التعليمي في حدود لا تدعو كثيراً الى التفاؤل..
المدرسة في اعتقاد الفلاسفة التربويين، مكان يُراد من دخول الطالب او التلميذ اليه اعطاؤه دروساً عملية اجتماعية في حفظ التراث ونقل الثقافة الى ساحة التحضر كي يرتقي المجتمع الى ما ينبغي ان يكون ـ او على اقل تقدير لمنع اصابة المجتمع بالركود الذي يؤدي الى التخلف وبالتالي الانعزال عن العالم، بينما واقع الحال يفيد بأن الناس يعيشون ويتعبون في اعمالهم وحياتهم وهم باقون على ما هم عليه، وبالتأكيد ان جانب السلطة الحاكمة له بالغ الاهمية في وصول الحال الى هذا المستوى الذي لا يخدم حركة النهضة الثقافية في المجتمع، فقد نجد الصغير والكبير يحمل جهاز موبايل ويجيد استخدام الحاسوب ويعرف كيف يتنقل عبر العالم الافتراضي، لكنه قد يكون فاشلاً في معرفة نفسه، وفي معرفة هدفه، فكثير من الناس يعيشون حياتهم مستسلمين لفكرة ان وجودهم هو حصيلة تكوين اسري اقامته علاقة بيولوجية سيكولوجية بين الاب والام، وبالتالي فقد شكّل هذا الشعور أو هذا الاداراك التلقائي، احباطاً وتراجعاً، جعل الشخص يتعامل مع نفسه وجسمه كآلة يُراد لها ان تعمل وتنتج بغض النظر عن هدف ذلك العمل وقيمة ذلك الانتاج..
الثقافة هي روح المجتمع، ولكي لا تتجمد تلك الروح و يتحول المجتمع الى كتل بشرية وتجمعات تتحرك في دائرة الاحداث اليومية للحياة، فالمتحف احد ادوار واطوار الثقافة، والتربية هي الحقل الآمن لتدريب ابناء المجتمع على معرفة هوياتهم التي يهتدون اليها بواسطة الثقافة، ويأتي الدين ليشكل روح تلك الهوية، لذلك فالثقافة والهوية والدين والمجتمع رباعية مترابطة يقوم عليها بناء الشخصية وعندما نذكر الهوية الثقافية فنعني بذلك منظومة القيم والعادات والأخلاق والمعرفة والإبداع المهني والإبداع الفكري، ومن شأن هذا الترابط الرباعي بين الثقافة والهوية والدين والمجتمع تمكين الفرد من اكتشاف هويته التي توفر له مرونة عالية في التعامل مع الهويات الأخرى دون اضرار جانبية، بل ربما توفر له اجواء ايجابية من حرية الإستخدام الواعي لمخرجات العملية الصناعية الإقتصادية العالمية فقد نكون مضطرين اليوم الى عكس الية النظرية والنتيجة، فنبدأ من النتيجة كي نرجع الى الفكرة أو النظرية، فبعد أن تمكنت ونجحت الأجيال السابقة والى وقت قريب في حفظ التراث كانتاجات ثقافية وفشلنا في احتواء هدف تلك الإنتاجات عندما لم نعد نشعر ونحن نزور المتحف مثلا اننا نتواصل مع موجوداته كأنها فينا ومنا وليست جزءاً من ماضي نستذكره بعاطفة وفخر فنشعر بنشوة هي اقرب الى كونها جرعة مهدئة منها الى كونها محفزاً مقوياً، قد يكون من المفيد بالنسبة لنا اليوم ان ننطلق من المتحف لنصل الى فلسفة العلاقة الحيّة بين الماضي والحاضر مستخدمين لذلك ادوات التقنية الحديثة بدوافع من الهوية الثقافية الإجتماعية الدينية، وهذا هو دور القائمين على حفظ التراث وتنمية وصيانة وادارة المتاحف ..
باعتقادي ان الاهتمام بالمكان يأتي بالدرجة الثانية بعد الاهتمام بالانسان، لأن هدف الثقافة هو ايجاد اشخاص مؤهلين لحمل الرسالة التي تركها لنا السلف في المتاحف والكتب والمدونات والاثار والاخبار، ولكي نكون مؤهلين لحمل هذه الرسالة نحتاج الى قراءة مضمونها، والقراءة تحتاج الى لغة حيّة تضمن حصول التفاعل بين الماضي والحاضر، لكن الظروف غير المتوازنة اظطرت بعض الشباب الى ان يلغي نفسه قبالة شعوره بالارتياح في وسط يمضي بهم في طريق لا يبدو انه يصل بهم الى مكان آمن، ولأن الحاجة الى معرفة الذات حاجة ملحة وضرورية وبدونها تستحيل حياة الانسان وقد يصبح الانتحار حلاً للمشكلة كما يرى عالم النفس الدنماركي المريكي اريكسون، لقد لجأ بعض الشباب الى اكتشاف هوياتهم عن طريق الآخرين، ومن الخطورة بمكان ان يساء استخدام التقنية المتطورة بحيث يؤدي دوراً سلبياً في تدني قيمة الذات وتدني الذائقة والحس الواعي مما اسفر عن ظهور اشخاص بلا معنى او تافهين او اصحاب محتوى فارغ في واجهة المجتمع، والذي يدعو للأسف والى الشعور بالفشل ان يكون عدد الاعجابات والمشاهدات والتفاعلات والمتابعات التي يحظى بها مقطع فديو لهذا او ذاك معياراً في تقييم تلك الشخصية بغض النظر عن قيمة محتوى الفديو، يكفي انه نال استحسان واعجاب عدد كبير من المتابعين الذين شدتهم الآلة المتطورة اليها وفتحت امامهم نوافذ لصناعة هوياتهم من خلال العالم الرقمي والتقنية واعادة تكوينها بعيداً عن اللغة والدين والتراث قريباً من سوق السلعة وكان نتيجة ذلك ظهور شخصيات مضطربة قلقة مشوشة هي اقرب الى اللامعنى منها الى ابسط معاني الوجود الحي للنوع البشري، وتصل درجة الانهيار حدّها عندما تقترب من مفكرين ومثقفين يصنعون افكارهم في بيئة عربية ومجتمع اسلامي دون ان يكون لهذه الافكار صلة بواقع حياة مجتمعاتهم، بل لعلها تزيد في استغراق المجتمع في سوق السلعة ورقمنة المستهلك.. يمارس بعض دعاة الثقافة والتنوير اليوم انتقاداتهم لمنظومة قيم اجتماعية ومواريث تاريخية ومصادر دينية وعرضها على جمهور منهك يعيش حالة الضعف بسبب ضغوطات الاوضاع العامة في داخل البلاد وخارجها في عموم العالم تقريباً وهو ما قد يشكل خطراً يتهدد الهوية..
الهوية كيان مرن يتشكل ويتغير تبعاً للتحولات التي يمر بها الشخص او المجتمع، فالهوية ليست ثابتة ولأنها ليست كذلك يخشى على المجتمع العربي المسلم اليوم من ان تسهم هذه الاضطرابات والاخفاقات والاحباطات المتراكمة والمتكررة وكثرة المشاكل الاجتماعية والأسرية، في تكوين هوية مضطربة ثقافيا قد يعتادها المجتمع بسبب استمرار تراكم تلك الإضطرابات في ظل غياب حقيقي لإدارة قادرة على تلافيها، فلا يعود للكتاب معنى في حياة ابنائه إلا بمقدار ما تمليه الحاجة المادية للكتاب من حيث ان القراءة تسهم في تأهيل الشخص للحصول على موقع اجتماعي وظيفي وليس لأن القراءة تسهم في اكتشاف وتكوين الهوية التي يراها الفيلسوف الفرنسي ذو النزعة الروحية "لافل" انها تمنح صاحبها قدرة الإجابة الحاسمة عن اهم مشكلات الوجود الميتافيزيقية مثل : لماذا اعيش ؟ من انا ؟
و.. و.. و يرى عالم النفس الدانماركي "اريكسون" ان تحقيق الهوية امر حيوي وضرورة حتمية تستحيل بدونها رغبة الناس في الحياة ويرى ان يكون ميتاً افضل من ان يعيش بلا هوية.
يرى عالم الانسان البولندي "مالينوفسكي " ان ثقافة اي مجتمع تنشأ وتتطور في جو يتم فيه اشباع احتياجاته البيولوجية والنفسية التي يعمل على تلبيتها النظام الإجتماعي الذي ينظم ويحكم تبادل العلاقات بين ابناء المجتمع، فإذا تعرض ذلك النظام الإجتماعي الى ما يهدد سلامة بنائه من ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية وامنية فإن ما يدعو الى القلق والتشاؤم في بعض الأحيان هو ان تسهم تلك الإضطرابات والظروف المتذبذبة في ظهور ثقافة مرحلية خاصة بشريحة او طبقة وربما كل المجتمع، تشتمل على فهم جديد مختلف عن المألوف من مفاهيم مثل الكتاب والمتحف والمدرسة والجامعة، هناك من العلماء من يعتقد ان الثقافة مفهوم لا يقتصر على انتاجات المجتمع الحاضر وانها تجمع بين التجربة والخبرة المكتسبة عبر التاريخ ممثلة في مخرجات تلك المراحل الزمنية السابقة من كتب ومتاحف وآثار يضاف اليها التجارب الحية والحيوية لأبناء المجتمع في حاضره بما في ذلك الجانب النفسي والعاطفي والمعرفي والتعليمي، ولأن الانسان ينسى بحكم طبيعته البيولوجية فمن واقع المسؤولية الثقافية يستوجب ان يحدث حراكاً ثقافياً للوسط المثقف في اي مجتمع لإنعاش ذاكرة المجتمع وتقريب ماضي الآباء والأجداد اليهم باستخدام ادوات جديدة لا يشعر الناس معها انهم امام ماض جميل عليهم ان يسمعوا عنه وان يشاهدوا اثاره كجانب نظري تستوجبه احياناً ثقافة المجتمع المرحلية وحاجة الفرد الحياتية الى مصادر طاقة يستطيع بها التحرك في حياته اليومية على سبيل تمرير الوقت وتحقيق بعض المكتسبات المعاشية والحياتية التي لا تلامس الفهم العميق للثقافة..
ونحن نتحدث عن الهوية الثقافية للمجتمع علينا ان لا نغفل طبيعة هذا المجتمع والطريقة التي يعيش بها الناس، فليس من المفيد في الجانب العملي للبحث الانثروبولوجي ان نتناول ثقافة المجتمع عبر ازمنة مختلفة ونعمل على تكوين مقاربة بينها وبين ثقافة اليوم بمعزل عن الجوانب الاجتماعية والحياتية للمجتمع وللفرد وندعو الناس الى تقديس الموروث وتعظيم إرث الآباء والأجداد وتقييم انجازاتهم بينما هم يعيشون ظروف حياة مختلفة عن تلك التي قامت عليها ثقافة آبائهم واجدادهم.. ان الحل العملي المنهجي يقتضي اخذ ظروف وطريقة حياة الناس بنظر الاعتبار ودراستها دراسة وافية تعملل نتائجها على ايصال الناس الى حالة من التوافق بين المادي والمعنوي، البيولوجي والسيكولوجي في حياة كل فرد، فالثقافة كما يرى عالم الاجتماع البولندي مالينوفسكي وهو احد اهم علماء الانسان في القرن العشرين، يرى ان الثقافة تنشأ وتتطور في مجتمع بعد تلبية احتياجات افراده البيولوجية التي حددها في المأكل والملبس والزواج والسكن، من خلال تحقيق هذه الاحتياجات تتحقق حالة التوازن عند الفرد وتنعكس هذه الحالة من التوازن على المجتمع بالتالي، عندها تتشكل الهوية الثقافية المنبثقة من طبيعة ذلك المجتمع وعندها لا يغدو المتحف مكاناً تاريخياً أثرياً تأخذنا اقدامنا اليه متى استشعرنا سايكولوجيا حاجتنا الى الاستجمام والراحة والتمتع ..
يقتضي مشروع الهوية الثقافية البدء من واقع المجتمع والوقوف ملياً عند احتياجات ابنائه وان نوفر حلولاً جذرية للمشاكل الإجتماعية التي أخذت تكبر في بلادنا واخذت تهدد سلامة البناء الإجتماعي فيه، إننا مدعوون اليوم من واقع الوعي الثقافي ومن واقع الحرية المسؤولة ان نتبنى كمجتمع، كمنظمات ومؤسسات دينية وتربوية وثقافية وانسانية مستقلة رعاية هذا المشروع الذي تلتقي فيه سلامة الماضي بإستقرار الحاضر لضمان المستقبل، لا شك انها مهمة شاقة جداً خصوصاً واننا نعيش في زمن لم يعد بوسع اي مجتمع ان يعالج مشاكله بمعزل عن العالم او ان يعيش بمفرده دون ان ينظر في انجازات المجتمعات الاخرى كما يرى الانثروبولوجي الامريكي كارلتون كون.
ان غلبة التيار المادي الاقتصادي وهيمنة القرار السياسي دون الثقافي على طبيعة المشهد الحياتي لشعوب العالم يجعل بلداننا امام تحد خطير ومصيري لا يتيح امامنا اكثر من طريقين؛
إما اكتشاف هويتنا الخاصة التي لا نزال الى الآن وعلى الرغم من كثرة الإحباطات والمعوقات، نمتلك مقومات وادوات اكتشافها خصوصاً وان مجتمعاتنا العربية والإسلامية تتمتع بوجود حقيقتين اتفق عليها كثير من علماء النفس والإجتماع والانثروبولوجيا، هي انه ما من مجتمع إلا وله دين او هو يبحث له عن دين.
والحقيقة الثانية هي انه لا يوجد شخص في هذا الوجود ليس لديه شعور ديني، من خلال واقع حياة الناس الاجتماعية والثقافية يدرك الباحث الانثروبولوجي وجود هاتين الحقيقتين حاضرتين بحيوية وفاعلية في مفاصل حياة الناس على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم وميولهم واعتقاداتهم وثقافاتهم وهو ما يعد خميرة حيوية مهمة لاكتشاف الهوية الثقافية للمجتمع التي تمكنه من وضع بصمته الخاصة في المشهد الحياتي..
الطريق الثاني هو الاندماج بالنسيج العالمي الذي يحكمه التيار المادي بحكم تفوقه الصناعي والتقني والقبول بالتغريب الثقافي وهو ما يفرض على الناس هوية ثقافية جديدة تصنعها ثقافة الأقوى وهي ثقافة غربية بلغة غريبة عن طبيعة مجتمعاتنا خصوصاً العربية منها، وهو طريق في ايسر محطاته يعطي للفرد حرية ان يكون كما يريد داخل بيته او داخل مجتمعه، على ان يكون كما يراد منه عندما يخرج من بيته، وهو طريق يحكم على المجتمع بالتبعية، وفي هكذا جو تضطرب الثقافة ولا يعود فيه الكتاب او المتحف أو.. سوى نشاط اجتماعي اعتباري في اطار ثقافي هو اقرب الى التمني منه الى الواقع.
دور الشباب في صناعة الوعي
جاءت الشريعة الإسلامية لتنظم حياة الإنسان بشكل يشعر معه بهويته الشخصية ، ويحثّه على اكتشاف ذاته، وليس ما يجعله يرى نفسه مجرد رقم في هذا الوجود ، يشعره بصغر حجمه ، فتصغر في عينه الدنيا ويتسلل الضعف الى نفسه ، وينهار أمام ظروف معيشته وكثرة احباطاته وعجزه عن تحقيق أي نجاح يزوده بطاقة إيجابية ..
لقد أدّى التدين السياسي لأنظمة الحكم في عالمنا العربي الى هذه النتائج التي لا يشكّل فيها المواطن إلا رقماً في سجلات النفوس وصناديق الإقتراع ، وآلة تعمل لديمومة البقاء البشري في مجالي التغذية والتكاثر ، بلا مضمون روحي يعطيها جمالاً وأهمية ، فما بين حجم البطالة الكبير في صفوف الشباب الى نسب الطلاق المرتفعة ، الى كثرة أعداد الأرامل والأيتام بسبب سياسات الأنظمة وتعثرها وانحسار فرص العمل .. كل هذه السلبيات ضيّعت الطريق الطبيعي الصحيح على بعض الشباب فتاهوا في دروب الإلحاد والفوضى والإنتحار والعبث ، ما أبعدهم عن التدبّر والتفكير في انفسهم واكتشاف هوياتهم الشخصية وبناء الذات بناءً إيجابياً تزدهر معه الدنيا وتحلو ، فهي (حلوة خضرة) في قول رسول الله صلى الله عليه وآله الذي اورده اليعقوبي في تاريخه ( الدنيا حلوة خضرة والله مستعملكم فيها فانظروا كيف تعملون) ، وهي مهبط أولياء الله ومسجد ملائكته وهي الطريق الى الآخرة كما اخبرنا الإمام علي عليه السلام ولطالما دعا الناس ليتفقهوا ويتدبروا ويعقلوا دنياهم ليصحّحوا مساراتهم فيها كي يضمنوا سلامة الوصول في نهاية الطريق ..
ان شبابنا اليوم مدعوون الى إعادة النظر في واقعهم من حيث انهم يشكلون نبض حياة هذا الواقع وحكمة المستقبل ..
ان غياب وعي السلطة وافتقار العاملين فيها الى المسؤولية مكّن أدوات الفكر الهدّام من العمل بكثافة عبر القنوات الفضائية ووسائل التواصل الإجتماعي والأعمال الدرامية الهابطة والبرامج الترفيهية المبتذلة ، على إستهداف الشخصية العراقية خصوصاً والعربية بشكل عام ، تارة عن طريق استدرار عواطف الناس للتغرير بهم أو ابتزازهم أو الضحك عليهم أو إضحاكهم وتسليتهم ، تحت مسميات – كاميرا خفية ، برامج تسلية ، مسابقات وجوائز ينالها من يأكل اكثر عدد من حبات البرتقال أمام منافس له ، أو من يستطيع مدّ لسانه ليصل الى قطعة حلوى معلقة بالقرب منه ، أو .. أو ..
ان ثنائية الدين والدولة تؤثر تأثيراً بالغاً في حياة المجتمعات ، وما حالات التردّي والتدهور والإنهيار فيها إلاّ جرّاء اتساع الفجوة بين الدين والدولة ، فقد كانا - الدين والدولة - كياناً واحداً يمثلّه النبي القائد ، وما ان انقطع الوحي برحيل النبي عن الدنيا، وحصل ما حصل بعده ، واجه المجتمع ثنائية الدين والدولة واتساع الهوّة بينهما..
عاملان قادا كثيرين الى الإحباط ، هما قلّة وعي الجماهير وتلبّس الدولة بلباس الدين ، وهو ما جعل الشاب يقف مذهولاً ، متحيراً امام التناقض بين لسان الدولة وسياستها .. بين ظاهرها الإسلامي وباطنها المادّي ..
استخدمت السلطة في كثير من ممارساتها قوانين تخويفية أكثر منها تثقيفية ، انْ على مستوى فقه السلطة او سياسة النظام ، فحين اتسعت الفجوة بين الدين والدولة لجأ بعض المشتغلين في مجال الدين الى القبول بسلطة الحاكم الجائر المبسوطة يده النافذة قوّته ، مادام يسمح للمسلمين بممارسة طقوسهم وعباداتهم ، وهو ما جعل الهدف من الإسلام ينحرف تدريجياً عن الإنسان ، ليذهب باتجاه المحافظة على الوجود الشكلي للدين عبر أعداد المسلمين ، وليس عبر هوياتهم ، وهي حين تقوم بهذا ، فهي لاتظهر انها تدعو الى عزل الدين عن الدولة أو الى تهميش الدين وإحلال القانون الحديث مكانه ، بل هي تخترق كل ذلك باسم الدين وباسم التجديد في الدين والدعوة الى اعادة قراءة التراث بشكل معاصر .. وهي ليست دعوة صادقة في مضمونها بقدر ماهي لتمكين السلطة من توجيه الدين في المجتمع بما يخدم استمرارية وجودها في الإدارة وصناعة القرار ، وربما استخدمت هذه العناوين الكبيرة الجذاية لدّس افكارٍ ملوثة سيئة تُطرح ضمن سياقات الحرية الفكرية وتبادل الآراء والأفكار ليبدو الطرح مقبولاً لدى عموم الناس ، أو هو في موضع صمتهم لقلة وعيهم ومعرفتهم ، واذا مرّ وقت على هذا الصمت ، فإنه سيصبح نوعاً من الرضا عندما تطالعه الاجيال القادمة ، وقد بيّن عدي بن حاتم الطائي هذه الفكرة حين اقسم عليه معاوية ان يبدي رأيه بزمانه فقال له : عدل زمانكم هذا جور زمانٍ قد مضى وجور زمانكم هذا عدل زمان ما يأتي ... وهي إشارة واعية الى خطورة تغييب وعي الجماهير واطالة امد الظلم في حياة المجتمع دون موقف آني مضاد له ..
الناس في كثير من الأحيان يجاهدون أنفسهم ، فهم يرون واقعاً سيئاً ويعيشون أيّاماً غادرتها الرحمة والبركة وحلّت محلّها المادّية والأنانية ، ومع ذلك لا يزال المجتمع العربي المسلم يمتلك طاقة روحية تدفعه للمواجهة والتدخل بشكل متحضر ، إذ لا يزال الدين ينبض في وجدان الناس على الرغم من الهجمات المكثفة للفكر الهدّام ، سواء من أنظمة حكم أو من قوى أخرى مستفيدة من طمس معالم الهوية الشخصية للعربي المسلم والتي بدأت ملامحها تتشكل مع أول أسرة استحوذت على السلطة في العالم الإسلامي في عهد الأمويين، فقد ظهر تنظيم جديد لأمور القضاء وصار الخليفة يتدخل ، بل هو السلطة العليا في نفس القاضي.. واذا كان عليٌ عليه السلام قد عاب على القاضي مناداته له بأبي الحسن أمام خصمه اليهودي في قضية الدرع المشهورة ، فإن سطوة الحاكم فيما بعد جعلت القاضي ، وفي كثير من الأحيان ، يغازل في حكمه هوى الخليفة لينال رضاه ويتمتع بعطاياه .. وحاول العباسيون اول عهدهم جعل الشريعة الإسلامية مصدر القانون في الدولة ، لكنهم لم يحققوا تطابقاً بين القول والفعل ، ما جعل الفجوة تكبر بين الدين والدولة، وصار القضاء بيد السلطة تتصرف به وفق ما يضمن بقاءها ، فقد فرض أبو جعفر المنصور الإقامة الجبرية على أبي حنيفة النعمان لنشاطاته في دعم ثورة زيد بن علي بن الحسين ، ورفضه تولي منصب قاضي القضاة الذي عرضه عليه ، وكذا موقفه من احمد بن حنبل ، ومع كل هذا الإستهداف السياسي للدين من قبل السلطة يبدو انها تمكنت فقط في الجانب المرتبط بتسييس الناس لصالح بقائها وطاعتها بأي شكل يخدم ديمومة احتفاظها بالسلطة، فقد كتب المنصور الى الإمام جعفر الصادق يقول له: لم لا تغشانا كما يغشانا سائر الناس ؟ ، فأجابه الإمام: ليس لنا ما نخافك من اجله ، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له، ولا انت في نعمة فنهنئك ، ولا تراها نقمة فنعزيك بها، فما نصنع عندك ..
فكتب اليه المنصور: تصحبنا لتنصحنا..
فكان ردّ الإمام : من اراد الدنيا لا ينصحك ، ومن اراد الآخرة لا يصحبك..
حافظ الدين على حيويته في الجانب الإجتماعي الشخصي ، حاضراً في عقول ونفوس وتصرفات الناس ، يشغل مساحات واسعة في نطاق توافقه مع أعراف اجتماعية أخلاقية ، حتى عندما اخترق الإستعمار والإحتلال نسيج المجتمع وتطورت وسائل الاحتلال من العسكري الى السياسي الى الاقتصادي الى الثقافي ، الى احتلال العقول ، واحتلال الإرادة ، ومصادرة الهوية ، وتفريغ الشخصية من حتواها وإعادة تعبئتها بمحتوى صناعي بديل .. تارة باسم الإنفتاح واخرى باسم التطور والحداثة ، وأخرى باسم العالم الافتراضي والتقنيات الرقمية ، واخرى باسم القطب الواحد في العالم، وهو ما دفع انظمة السلطة في العالم العربي الإسلامي الى الإعتراف بتأثير الغرب وعملت على مجاراته لضمان الإحتفاظ بالمناصب والمكاسب ، مؤطرين هذا التناقض بأطر دبلوماسية يظهر فيها الرئيس الغربي مع نظيره الشرقي أمام الكاميرات ووسائل الإعلام على انهما نظيران يتبادلان سبل التعاون المشترك بين البلدين واقامة علاقات ثقافية وتجارية ومال الى ذلك ..
يظهر تأثير استهداف الشخصية في المجتمع واضحاً في طبقة الشباب من خلال توسيع فجوة فاعليتهم وتفاعلهم مع المجتمع بصناعة أزمات البطالة والإنحراف والإنحلال، أو الإسهام ولو يشكل غير مباشر في تفعيلها من خلال الإهمال وغياب بعد النظر ، ما أدّى الى تفشي بعض الظواهر السلبية وتصديرها على انها تقليعات حديثة للتفكير والأزياء ، حتى تدنت قيمة الذات وتغيرت معها السلوكيات والطباع والأذواق الى حدّ ما ، ففي احدى السنوات التي تلت سقوط داعش ، طرحت احدى دور عرض الأزياء ، ملابس وديكورات لداعش كزي يستخدمه الطلبة في حفلات التخرج الجامعية ، وأقدمت بعض المطاعم على عرض مأكولات بمسميات مثل (همبرغر لغم) ، و(سندويج رعب) ، وأخذ بعض الشباب يتقبل الأمر دون ان يترك ذلك أثراً سيئاً في شخصية الشاب ، ربما لأنه لم يعد يشعر بها في ظل ديمومة الظلم والفوضى وفقدان الأمل في وجود حل لهذه المشاكل ، فصار يطلب سندويج الرعب في المطعم مكتفياً بتبرير قبوله بالطعم اللذيذ للسندويج متجاوزاً الأثر اللفظي والمعنوي للكلمة في نفسه .. وفي احد الفديوهات على اليوتيوب ، يقدم احد المطاعم وجباته في أواني يشبه تصميمها مقاعد الحمامات.. وفي مقطع آخر كيكة معمولة على شكل طفل صغير ، ويأخذ احدهم السكينة ليبدأ بتقطيع -الطفل الكيكة- وتقديمها للضيوف وهم يشاهدون عملية التقطيع محتفلين فرحين بمناسبتهم .. ومقطع آخر يقدم تصميماً للكيك على شكل حذاء !!!
وأخذت حالات عنف غريبة تظهر داخل الأسرة وصلت في بعضها حدّ القتل مقابل أمر تافه لا يتجاوز القليل من المال أو لمجرد انفعال ، مثلما كنّا نستغرب ونحن نسمع الإرهابي في جلسات التحقيق عبر وسائل الإعلام حين يقول انه تقاضى اجراً في حدود 50 الف دينار او 50 دولاراً مقابل كل عملية قتل أو ذبح يرتكبها بحق مخطوف أو طفل أو امرأة أو أسير ، وبعضها يندرج ضمن السلوكيات البشرية الشاذة..
واسهم الدور الخطير للإعلام المضاد في إظهار هذه السلبيات والعمليات الإجرامية ، وربّما تضخيم احداثها ، لتبدو مرعبة في عيون واسماع الناس بحيث تترك فيهم احساساً بعدم الأمان يوثقه الدور البارد لإدارات البلاد في التعاطي مع هذه الأزمات والحالات الإجتماعية المستحدثة بفعل ما تعيشه البلاد في عهد الإحتلال الأمريكي ..
وكان للعالم الإفتراضي دوره وهو يفتح نوافذه عبر شاشات الآيباد والآيفون والحواسيب والموبايلات ، دون رقابة مسؤولة واعية من قبل الجهات الرسمية وكثير من الناس ، للأخذ بنظر الإعتبار اختلاف مستويات المتلقين حيث الطفل ، والمراهق ، والمرأة ، ومحدود المعرفة .. الى الحد الذي باتت فيه الحياة الجديدة مصدر قلق كبير لكثير من الآباء والأمهات الذين كانوا يتوقون لرؤية وجه جديد للبلاد ينعم فيه ابناؤهم بالحرية والتطور والإستقرار بعد ان انهكتهم سنوات الإنقلابات والمؤامرات والدكتاتورية ، فهم اليوم يعيشون عهد صناديق الإقتراع وحرية الكلام والتعبير لكن أدوات هذا العهد الجديد مخيفة مرعبة هددت سكينة الأسرة ، وصار الخطر قاب قوسين او ادنى منها ، ولعله دخل البيت على علم اهله به وجهلهم بمخاطره ، كونها تفرض نفسها من ضرورات الحياة اليوم ، فإن شكلاً من أشكال الأزمة ظهرت بين الآباء والأبناء ، وهو ما الجأ الأبناء الى الإغتراب المعنوي ، فالشاب يعيش مع اسرته في جوّ يظهرون فيه كأشخاص يجمعهم مكان واحد ، بعد ان كانت الأسرة ، ولا يزال كثير منها لحد الآن ، تعيش كأنها كيان واحد موزع في عدة أشخاص ، فالجميع يعيش حالة فرح ومرض وحزن احدهم ، والواحد منهم يعيش احساسه بالمسؤولية تجاه الجميع ..
واذا كانت هذه الأزمات قد جعلت الأهل في حالة قلق مزمن ، فإنها جعلت الشباب في حالة من الضعف واللاتوازن ، يقابلها الحاجة الداخلية الملحة عليه في اثبات ذاته وصناعة شخصيته .. أفرز هذا الصراع أشخاصاً انفعاليين ، سريعي التأثر ، لا يعطون لنصيحة الآخرين حضوراً في واقعهم ، يحملون في ذواتهم شيئاً من التمرد على الواقع الأسري والإجتماعي والديني والاخلاقي ، ما دفع البعض الى القيام بسلوكيات غريبة يحاول من خلالها اثبات ذاته ، والإيحاء لنفسه بأنها موضع انظار الآخرين دون الأخذ بنظر الإعتبار إيجابية أو سلبية تلك الأنظار ، فأصبح الشاب مقحماً في تفاصيل حياته بوضعيات معينة يفرضها واقع الحال من خلال مسميات عليه تقبلها ، فظهرت امواج من الملابس والأكلات وقصات الشعر والأفكار ، في بعضها خروج فاضح واضح على الذوق العام والحدود المألوفة للتعبير عن الأفكار والنوازع الداخلية والرغبات ، فصار الشاب يرتدي ثياباً ضيقة ويحمل أفكاراً ضيقة ويأكل ساندويجاً ملغوماً ويشترك في مجاميع الكترونية على مواقع التواصل الاجتماعي يتبادل الأحاديث مع آخرين عن العنف والإلحاد والهروب من الواقع والعيش في فضاء الأحلام والخيالات والامنيات الوردية، تاركين واقعهم تعبث به جهات وأشخاص لا يشغلهم سوى المصلحة الخاصة فردية كانت او جهوية ، ما أسفر عن سبعة ملايين عراقي يعيشون تحت خط الفقر و70% بطالة في صفوف الشباب واكثر من 160 الف حالة طلاق في السنة وارتفاع معدلات الأمية حتى 35% وكثرة الأمراض المفاجئة وتقلص حجم الحكومة الى الحد الذي دفع مرضى السرطان الى الخروج بتظاهرة يطالبون فيها بتوفير علاجهم في مستشفيات الدولة ، وامتد الإنحراف ليصل الى الأسرة في سلوكياتها ، فصرنا نسمع عن (حفلات الطلاق) و (الطلاق العاطفي) و (الغش الجماعي في الإمتحانات العامة ) ، وتغييب الإنسانية في المهن الطبية واستحواذ الأنانية والمادية على طريقة التعامل مع المريض من قبل بعض الأطباء والصيادلة ومختبرات التحليلات المرضية ..
هددت هذه الإشياء ركناً مهماً في الحياة وهو الثقة .. ثقة الشخص بنفسه وبمحيطه وبدينه وتاريخه ، ولعله تصدّع لدى البعض مما ادّى الى ظهور شخصية الشاب المنفعل ، قليل الحكمة ، سريع الاندفاع ، قليل الصبر ، قليل الخبرة ، غير جاد في حياته ، متحير ، غير مستقر ، تحتل المادية أجواء تفكيره ، فصرنا نسمع عن حيل وأساليب خطيرة تقوم بها الأسرة كي تضمن تفوق ابنها في الإمتحانات العامة من اجل الظفر بكلية من كليات التعيين المركزي ، وحيث فشل ادارات البلاد في احتواء الأزمات ومنع تحولها الى اوبئة وامراض مزمنة يعانيها المجتمع ويصارعها أو يألفها كما هو الحال مع البعض ..
مع كل هذا التهديد الخطير المحيط بالشباب ، لايزال في كثير من المشاهدات والتجارب متماسكاً صابراً يتلوى ويعاني حدّ الاختناق لكن دون ان يموت ..
ان الحديث عن مسؤولية وصول الحال الى هذه الدرجة من التدهور لا يكاد يخفى ، ولسنا نريد الوقوف عنده قدر ما نريد ان نعالج وندرك ما بين ايدينا خشية فوات الأوان ، ولأن التصحيح والإصلاح في خضم الفوضى التي نعيشها في البلاد يحتاج الى قوى كبرى وامكانات تفوق حدود الأمل والرغبة في العيش الآمن والسليم ، فإن الوعي هو السبيل الى النهضة التي يراد بها بناء البلاد ، فحين يصبح المجتمع على درجة عالية من الوعي سيتمكن من احتواء الأزمات ، والحيلولة دون ان تصبح اشكاليات تهدّد سلامته..
وحين يضع الشاب في اعتباره ان الدين يبحث عن الإنسان من حيث هو كيان وهوية ، ومن حيث هو وعي له بصمته الخاصة بكل شخص كما لبصمة ابهامه ، أكثر منه شخص يراد منه ممارسة طقوس وعبادات ، لا شك ان رؤية جديدة مشرقة ستشغل تفكيره ..
وحين يضع الشاب في اعتباره ان السياسة تنظر اليه كياناً فاعلاً مشاركاً حقيقياً في بناء الدولة ، وليس موضع استغفال اصحاب الأجندات الخاصة والمصالح العابرة للإنسانية والكرامة والحقوق.. لا شك ان رؤية جديدة مشرقة ستشغل تفكيره ، تأخذه بعيداً عن وساوس الاستغلال ، أو اليأس من تحقيق التغيير الإيجابي على مستوى الذات الشخصية وعلى مستوى المسؤولية الجماعية ..
وحين يضع الشاب في اعتباره ان العلم يصنع الحياة السعيدة ، ويذلل العقبات ، وليس وسيلة للحصول على الشهادة الجامعية الموقوفة على التعيين والوظيفة المجزية من حيث المرتب واعتبارات المظهر فقط ، بل هو للإرتقاء من مرحلة البشرية الى مرحلة الانسانية ، حيث التفكير والتأمل وصناعة الوعي .. حيث العقل مصدر التغيير الإيجابي في المجتمع والذي يحتاج الى التأمل الذي يوفر له اجواء التحكم بالأفكار والهواجس والخواطر التي تمر على الإنسان وتلح عليه حسب ظرفها الزماني والمكاني وطبيعة الحدث ..
ربما يخبرك التأمل انك سبب من أسباب المشاكل التي تعيشها ، واذا قبلت من عقلك بهذه النتيجة وفكّرت بها جيداً ستبدأ مرحلة التغيير الإيجابي معك خطواتها الأولى..
ان نوع التفكير يؤدي دوراً مهمّاً في صناعة الشخصية ، فالقبول بفكرة (الحظ والنصيب) والإستسلام لها ينتج شخصية غير قادرة على التغيير ، أو هي لا تبحث عنه ولا تفكر به ، أو تتحاشاه مع المتغيرات والظروف التي يتقبلها العقل كونها اكبر من قدرة مواجهتها أو التحكم بها ، لذا فالإستسلام لها مع بعض الحرص والحيطة من الوقوع في الأسوء سيكون هو حال تلك الشخصية ، أما العقل الذي يخبر صاحبه ان تجربته خاضعة لإرادته ، وانه يملك الإختيار ويملك تفعيل اختياره ، وانه لا يخوض تجربة ما ، لأنها مفروضة عليه ، أو وجد نفسه داخلها ، بل يخوضها لأنه يعرف ماذا يريد ان يستنتج من تلك التجربة ، مثل هكذا شخصية تفكّر بالتغيير الإيجابي كونه التجربة التي عليه خوضها للخروج من الإشكاليات والمشاكل التي يتعرض لها..
أن تكون رقيباً على أفكارك ، وان تكون انت من يصنعها ، فلن تكون كمن يبرر افعالاً سيئة صدرت عنه، بانّها جاءته من هنا وهناك ودارت في خلده فوجد نفسه منصاعاً لها ..
نعم قد يحدث هذا ، وهنا يأتي دور القلب ليسهم الى جانب العقل في معرفة قيمة ما نفكر به أو نتأمله من أفكار..
في حالات الغضب تجد افكارك وقراراتك لا تتفق مع افكارك وقراراتك في حالات الرضى ، مع ان العقل نفسه ، والقلب نفسه في الحالين ، فربّما اوكلت قرارك الى مشاعرك في لحضة غضب ، وربما اوكلتها الى عقلك في لحضة تأمل وراحة .. ولعل من مخاطر العيش فترة طويلة مع وجود الخطأ ، مع وجود الظلم ، مع وجود الباطل ، مع وجود الإنحراف ، يقسّم الانسان في داخله الى قسمين لا يتفقان مع بعضهما ، وهو ما يسمونه (انفصام الشخصية) أو (إزدواجية الشخصية) أو (إضطراب الشخصية) أو الشخصية غير السوية.. فقد ظهر هتلر على الرغم من قساوته ووحشيته بالقرب من الأطفال يقدم لهم اللعب ، وفعلها كثير من الحكّام في عالمنا العربي الإسلامي ممن وصفوا بالدكتاتورية والظلم ، وظنها البعض انسانية القائد التي لم يتخل عنها على الرغم من مسؤولياته وقساوة الظروف التي يواجهها وهو يزج بعشرات الآلاف من المقاتلين الى الموت المحقق في سوح قتال انتجتها عنجهيته ، أو تزمته ، أو محدودية تفكيره ، أو ولاءاته ، أو أفكار سيئة صاغها ذهنه في أجواء ملوثة .. وهنا يأتي دور العقل في نهي النفس عن الهوى ، وقد اعطى الإمام علي عليه السلام انموذجاً حيّاً لهذا النوع من الإنسان ، فقد كان يعيش اجواء الحرب بما تحتمله من تشنجات وانفعالات وشدّة واندفاع دون ان يخلع قلبه وعقله قبل نزول الميدان ، بل حملهما معه ليكونا معه وهو يخطو خطواته حتى اذا ما بصق عمر بن ود حال سقوطه ، انصرف عنه الإمام ولم يعاجله بضربة ، ثم عاد اليه بعد حين فقتله ..
لقد كان العقل والقلب في حالة اتخاذ قرار خلال هذه الخطوات التي مشى بها الإمام بعيداً عن ابن ودّ ، ولمّا سألوه كان جوابه يفصح عن قوة الشخصية وتوازنها في اجواء مشحونة بالإضطراب والشدّة ، فقال خشيت ان قتلته حينها ان اكون انتقمت لنفسي بينما انا خارج في سبيل الله ..
يعرف كلّ شخص نوع المشاعر التي يعيشها إزاء حدث ما أو فكرة ما ، ان كانت جيدة أو سيئة ، فالذي يرتضي النجاح بواسطة الغش هو يعلم انه يرتكب خطأً لكنّه يبرر فعله الخطأ هذا على انه سلوك مشاع في المجتمع ، مثلما نشمئز اليوم ونلعن ذلك السيئ الذي انتزع الأقراط من أذن طفلة في حدود السابعة من العمر في معسكر الحسين حتى اذا ما عوتب على قبح عمله برره بأن غيره كان سيفعل ذلك ان لم يكن فعلها هو .. هذه هي الخطورة التي نتحدث عنها والتي نواجهها اليوم ، فنحن نشكو من تعثر الحكومة في ادارة البلاد ، ونشهد احداثاً سيئة وافعالاً غريبة وسلوكيات مرفوضة لكن كثيرين يبررون لأنفسهم عجزهم عن تغيير الواقع أو استسلامهم للأمر المفروض ..
ان الإحباط واليأس والغضب والكره والأنانية تفقد الشخص شعوره بالسيطرة على تصرفاته ، فالأب الذي ضرب ابنته، وهي في عامها الدراسي الأول، ضرباً مبرّحاً لأنها لم تتعلم الكتابة كما يعلمها ، وماتت قبل وصولها المستشفى، انه يعيش الخطورة التي نتحدث عنها ، فهو يبدو سوياً الى ان حرّك بطء استجابة الطفلة ، القسم الثاني السيء في شخصيته والذي لا يتفق مع القسم الأول فيه ، فانهال عليها بالضرب دون وعي منه الى الحد الذي لم يعد يقوى على نهي نفسه عن الإستسلام لهذه الأفكار السلبية وبالتالي اصبح جسمه وحواسّه أدواتاً تنفذ إملاءات تلك المشاعر الخشنة والقسوة المفرطة والتي لا تستجيب لنداءات القسم الثاني بالدعوة الى المصالحة وتمالك النفس والسيطرة على الأعصاب ..
يغلب على كثير من هذه الأحداث غياب الحكمة بحيث تضطرب علاقة التناسب الطردي بين العقل والقلب ، فالفكرة الجيدة لا يصدر معها سلوك سيء ، والجمال لا يتوافق مع القبح ..
يحتاج بناء الذات الى الإيجابية في الأفكار والمشاعر ، الذات المنتجة الجذابة ، وليس الذات الباردة ، أو الذات الرقمية التي هي موضع تحرك وتحكم من قبل قوة خارجية.. ويحتاج قراراً داخلياً يصنعه الشخص في نفسه سواء كان إيجابياً أو سلبياً .. يتدخل في صناعة مثل هذا القرار مستوى الوعي الذي يصل اليه الشخص ومستوى الإدراك ..
أدت ظروف البلاد السياسية والاقتصادية الى فرض أو تهيئة أجواء التفكير السيء لدى كثيرين بسبب النتائج السلبية التي افرزتها مرحلة التغيير والفوضى التي جاء بها الإحتلال ومارستها أحزاب السلطة المنتخبة ، وبدا ذلك واضحاً في كلام بعض طلبة المراحل الدراسية المنتهية في تقرير تلفزيوني سئلوا فيه عن أسباب صعوبة الأسئلة الوزارية ، حين قالوا: انها عملية مدبّرة ومؤامرة تشترك فيها وزارة التربية ووزارة التعليم بتمويل من رؤوس اموال هدفها توسيع منافذ الكسب والربح بغض النظر عن الوسيلة ، فتقام مشاريع التعليم الأهلي والكليات الأهلية على خلفية شيوع فكرة انحسار فرص التعيين واقتصارها على بعض المهن ، ما يجعل الأهل ينفقون اموالاً طائلة لتعليم ابنائهم في مدارس وكليات اهلية ضماناً لحصولهم على احدى المؤهلات المضمونة التعيين حال تخرجهم ، ان تفكيراً سيئاً كهذا، وان كان واقعاً يعيشه المواطن اليوم ، من شأنه ان يؤسس مستقبلاً لأفكار مادية وانتهازية وانانية ، الأمر الذي يستدعي استحضار مناهج سيئة لتحقيق تلك الأفكار السيئة بعيداً عن المكاشفة .. في المستقبل لن تتوقف الجامعات عن تخريج الطلبة ، لكن نوعيات خطيرة من الإزدواجية ستنتشر في المجتمع ، تهدد سلامته وتضرب البراءة والعفوية والجمال الفطري للأخلاق في الصميم بشكل غير مباشر وربّما بشكل مباشر حتى ..
واليوم نشهد ظهور مثل هذه الأشباه البشرية ، فالطبيب الانتهازي لا يخبر مريضه بأنه يستغفله حين يطلب منه تحليلات لا علاقة لها بحالته المرضة ، كما انه لا يخبره انه على اتفاق تجاري مع الصيدلية حين يكتب له شامبو للشعر وهو مصاب بالتهابات جلدية ، لأن المذخر يحتفظ بكميات كبيرة من ذلك النوع من الشامبو واوشك تاريخ نفاذ الصلاحية على الاقتراب ، ولتفادي الضرر المالي ، استغفل المريض..
طبيب آخر لا يطلب اجوراً عالية ، لكنه يعمد الى التكرار الإلزامي للمراجعة ، وان كانت لا توجب ذلك ، لكن المريض لا يملك تقرير وجوب المراجعة من عدمها وان تحسنت حالته، وسيبدو الطبيب مثالاً رائعاً لو أخبر مريضه ان عليه ان يدفع اجرة المعاينة بين زيارة واخرى وليس في كل مرّة ... وهكذا ... ومع الأسف تجذب هذه الأفكار السيئة مثيلاتها ، وتضطر الآخرين في حقل العمل الى تقبلها على مضض مبررين افعالهم بأنها لا تدخل في إطار إيذاء المريض صحياً ، والأجور العالية واقع حال معمول به لدى كثير من العيادات والصيدليات والمذاخر والمستشفيات ما جعل هذا الوباء ينتقل الى اصحاب الأملاك فصار ايجار العيادة مكلفاً وايجار الصيدلية ملكفاً قياساً بمثيلاتها من الاماكن المشغولة لمهن اخرى مختلفة.. وشيئاً فشيئاً يجد المواطن نفسه أمام طبيب متعاطف مع حالته دون ان يقدم له العون وصيدلي متعاطف مع حالته دون ان يعطيه العلاج بكلفة أقل مما هو مطلوب ، سيصبح الكل محكوم ببعض ..
ومع كل هذه الأفكار السيئة والممارسات السلبية تشخص حالات على النقيض تماماً مما ذكرنا .. لكن المساحة التي يشغلها السوء اكبر من تلك التي يشغلها الخير ، لذا تشيع الاخبار السيئة على حساب الاخبار الجيدة ، إلا ان واقعنا يحفل بكثيرمن اصحاب الوعي الذين يتصدون من مواقع اعمالهم لهذا المدّ الخطير الذي يهدد الشخصية ..
الوعي هو البصمة التي لا يمكن تزييفها او استنساخها ، وبوجوده تتوفر سبل متعددة تخفف عن الانسان وطأة الضعف الذي يتعرض له ، إذ يسعفه بأفكار جيدة من قبيل الالتجاء الى شخص موثوق برجاحة عقله وسلامة تفكيره للإستئناس برأيه ، او من قبيل استذكار مواقف ايجابية مرّت تركت اثراً عميقاً في الذاكرة يستشف من اجوائها روح الصبر والتفاؤل .. أو من قبيل استحضار قول مأثور وحكمة بالغة من رصيد الذاكرة تسهم في اضافة لمسة مهمة على واقع الحال قد تخفف من وطأته أو ترشد الى تجاوز الأزمة .. أو من قبيل استحضار لحظات النجاح والفرح التي مرّت سابقاً وتقمصها من جديد لدفع النفس وتحفيزها لتجاوز حالة الوهن أو الأجواء السيئة التي تمر بها ..
ان افضل بيئة ينشأ فيها الوعي هي السلام ، وفكرة السلام تندرج ضمنها أفكار جيدة كالمحبة والتعاون والانسانية والخير والكرامة والإيثار والعفة والأخلاق الحميدة ..
يمرّ الانسان خلال حياته بمراحل متنوعة تحكمها ظروف صعبة تارة ومرنة اخرى ، وهذه بمجموعها تكوّن عنده افكاراً يتدخل الوعي لاستخلاص الجيد منها وصياغتها على شكل تجربة ونصيحة تكون عند حاجة الآخرين ان حاضراً أو مستقبلاً..
يختلف الشخص الواعي عن غيره في انه لا يحتاج المرور بتجربة جديدة كي يستخلص نفعها من ضررها ، فوعيه يؤهله للسير في احوال واخبار الماضين ما يجعله متمكناً من قراءة واقعه وفق ذلك الرصيد من خبرة الأقدمين فنسمع عن فلان انه توقع ان عاقبة هذا الأمر هي كذا ثم يصادق الواقع على توقعاته ، وهو ما يسمونه الحدس او قراءة ما بين السطور وبلسان العوام هو من (اهل البركة والكرامة) ، لأنه (يعرف صفو ذلك من كدره ونفعه من ضرره) وهي النتيجة التي استفادها الإمام علي عليه السلام من اطلاعه على اخبار السلف اطلاعاً وجد معه انه كأحدهم ، وهذا النمط المعرفي يمنح الحاضر امتداداً يتخطى به الأمس فلا يكون نسخة عنه كما هو حاله عند كثيرين ممن لا يتعلمون من تجربة حتى يقعوا فيها وان كان هناك من سبقهم الى مثلها وهؤلاء من يتساوى عندهم الامس واليوم ..
كثير من الناس لديهم الرغبة في التغيير ويبحثون عن الطريق التي يغيرون بها واقعهم الى الأفضل ولكن هذا الدافع وحده لا يصنع تغييراً ، انه بحاجة الى فكر التغيير ، فالطريقة الملائمة للتغيير تأتي بعد القناعة والإيمان بضرورة التغيير ..
في لقاء مع أكاديمي يعمل في مجال النقد الفني أشار الى واحدة من أفكار الإدارات السلبية حين انتقد نشاطاً إدارياً في إقامة جزرات وسطية مصممة لتكون مزهرة بالأوراد مسوّرة بسور سميك من الإسمنت يحول دون الوصول الى تلك الأوراد ، فكان تعليقه على ذلك ان من حق المواطن على الدولة ان يشعر بانجازاتها بلا حواجز ، وانه على الحكومة ان تتوقع من المواطن ان يعبث بتلك الأوراد وهذا مهم كي يتعرف عليها خارج بيته ، وعلى الجهات المعنية ان تعيد تأهيلها اكثر من مرّة حتى ينمو عند المواطن شعوره بضرورة محافظته عليها بنفس القدر الذي يحافظ به على اوراد حديقة بيته..
اذا امتلك الحالمون من الشباب وعياً كافياً ، فإنهم سيسهمون بشكل مميز في تغيير واقعهم وتحديثه ، وتنمية ثقافة مجتمعهم ، فالشخص الحالم هو بشكل او بآخر يريد أجواءً أو يبحث عن أجواءٍ أجمل من تلك التي يقدمها الواقع ، فهو يمتلك مشاعر جيدة وافكاراً جيدة لكنه يصطدم بالواقع السيء فيلجأ الى التخيل ليضع نفسه في أجواء جيدة ومواقف مفرحة ، فإذا تمتع بالوعي الإيجابي سيجد نفسه مندفعاً يمتلك الحافز لتحديث الواقع وتغيير السيء فيه الى خير يتناغم مع الأحلام الوردية والرومانسية التي يتخيلها ..
في كتاب امالي الطوسي ، يقول نبي الرحمة لأبي ذر (يا أبا ذر حاسب نفسك قبل ان تحاسب فإنه أهون لحسابك غداً ، وزن نفسك قبل ان توزن ..)
والحساب يأتي من طرح الإستفهامات ، كيف فعلت هذا ولماذا لم افعل كذا ولم لم اقل كذا وماذا سيكون لو انني فعلت كذا ..؟
وتأتي مرحلة اعطاء النفس قدرها بقوله زن نفسك ، ووزن النفس باعطائها قدرها الذي يتأتى من وعي الانسان بنفسه ، ولكي يجد طريقاً صحيحاً الى ذلك قال الإمام الكاظم عليه السلام:
(ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كل يوم ، فإن عمل خيراً استزاد الله منه وحمد الله عليه ، وان عمل شيئاً شراً استغفر الله وتاب اليه..) ، فأهل البيت هم القدوة في معايرة الافعال والسلوكيات ومدى اقترابها من افعال وسلوكياتهم عليهم السلام ، وتعتمد الدراسات النفسية على قاعدة محاسبة النفس في بناء الشخصية والنجاح ، اذ تفيد الدراسات بأن من عوامل واسرار النجاح ان تراجع ما حدث لك في يومك قبل ان تنام وتفكر بتلك الأحداث وتبحث عن التصرف الأفضل الذي كان ينبغي ولم يسعفك الوقت او التفكير للقيام به فاستبدله في ذاكرتك بالأفضل وفكّر بأنك ستقدم الأفضل اذا مرّ بك موقف كهذا ، ثم نم متوكلاً على الله سبحانه وتعالى وكلمة (منّا) في قول الإمام الكاظم عليه السلام هي من مفاتيح الارتقاء بالشخصية والوصول بها الى مواصفات ما كان يتمتع به اهل البيت عليهم السلام ، ثم تأتي مرحلة (الاستغفار) من الاهمية بمكان في اعادة ترتيب وتنظيم التفكير والاعمال والسلوكيات فقد يفكر البعض في عمل الخير ويستعد لذلك لكنه وبحكم محدودية معرفته واطلاعه وخبرته ووعيه قد لا يعرف ان ما يعتقده صحيحاً ، هو فعلاً كذلك .. ولعله سيستغرق وقتاً حتى يرى مصدراً موثوقاً يعتمده في اكتساب معرفته واطلاعه وتنمية خبرته ورسم ملامح ثقافته ..
يروى ان رجلاً سأل الإمام الصادق عليه السلام : ادعو فلا يستجاب لي ؟ فقال له الإمام لعلك لا تستغفر ..
استغفر الله كل يوم في اخره مئة مرّة مدّة سنة .. ويقال ان رسول الله صلى الله عليه واله ، كان يستغفر الله كل يوم سبعين او مئة مرّة .. ويقول المولى جل شأنه في سورة نوح : ( وقل استغفروا ربكم انه كان غفارا ، يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم باموال وبنين ويجعلك لكم انهارا) ..
الاستغفار في اللغة هو طلب المغفرة والعفو من الله سبحانه ، وهو كلمة السر التي تفتح للمرء نافذة الى تصليح اموره ، وقد لا يلق ذلك اهتماماً كبيراً لدى كثيرين ، لأنه مرتبط بأمور معنوية وروحية وايمانية ، بينما غلب على الانسان تيقنه بالأمور العينية والحسية والمادية ، لكن سياق الآية الكريمة يفصح عن كثير من المكافآت التي تنتظر المستفغر ..
ارتبط المال بأفكار سيئة عند كثير من الناس فهو مصدر الفتنة والمتعة والشر ، فبالمال باع عبيد الله بن العباس قيادته لجيش الإمام الحسن وتسبب في كسر همم المقاتلين ..
وبالمال ساهم عدد من العراقيين في دعم وجود القوات الامريكية ..
وبالمال غدرت زوجة الإمام الحسن ودسّت له السمّ ..
يقابل هذا ، تخلي زهير بن القين عن امواله واملاكه ليلتحق بركب الحسين مع علمه بأنه لن يرجع بعد انتهاء المعركة ..
قصص كثيرة ، منها المثير للدهشة ومنها المحزن .. منها الغريب والسيء والقبيح ، وفيها الإفراط والتجاوز و.. و..
استخدم المال كما في السابق ليكون سلاحاً فعالاً في تحطيم بنية المجتمع وسلامته ، فمثلما اشترى عبيد الله بن زياد سيوف فرسان قبيلة هاني بن عروة بالمال بعد ان كانوا مصدر تهديد له ولمن معه ، فتفرقوا على الرغم من مكانة هانئ في قومه ..
كذلك استخدم الاحتلال المال لشراء ذمم وارواح كثيرين بعد ان صدّرت لهم فكرة الدولة الإسلامية عبر أشخاص برمجت عقولهم على التكبير عند ذبح الأسرى والاطفال واغتصاب النساء وإقامة الحد الشرعي الذي اعتقدوه كما حدث بالأمس مع الخوارج ، وكما سوّق ابن زياد لجيش الشام ليلوث الجو العام في الكوفة فيستنشقه الضعفاء من اهلها فيحدثون ضوضاء تربك الخط العام وهو ما حصل..
كذلك حصل بعد اكثر من الف عام على ذلك التاريخ الدامي المظلم ، فقد كان خليفة دولة الخرافة يصلي بجنده ثم يمضون لقتل الناس وتهديم قبور الأنبياء والآثار وتغيير أخلاق الناس وإرغامهم على تقبل المنهج الجديد وتعليمهم القرآن بلغة السياط وجرّهم الى المساجد للصلاة ورجم المتأخرين عن حضورها ..
الحياة حلوة خضرة كما ذكرنا في حديث لنبي الرحمة ، وان يريد الشعب الحياة ، فهو بداية طرق الوعي في جو نقي وفطرة سليمة توجه هذه الإرادة باستحضار الأفكار الجيدة عن الحياة ، عندها ستكون مطالب الجماهير موضع استجابة القدر كما في قصيدة ابي تمام :.
اذا الشعب يوماً ارادد الحياة فلا بد ان يستجيب القدر
برزت الدوافع الانفعالية في كثير من تظاهرات الشارع العراقي وكانت آنية أو تراكمية اندفاعية ، وعلى الرغم من التقصير الواضح لادارات الحكومة إلا انها تمكنت من احتواء التظاهرات او الالتفاف عليها ، عن طريق الوعود او ارسال ممثلين عنها الى ساحات التظاهر والتعرف على مطالب المتظاهرين ورفعها في مذكرات رسمية الى الجهات المسؤولة للنظر فيها وتحقيقها ، هكذا ضاعت كثير من مطالب الجماهير وسجلت في دفاتر النسيان ، او وجدت في سلات المهملات في مكاتب كثير من المسؤولين كما صرح بعضهم ، فبقي الحال على ما هو عليه ، وربما يزيد الأمر سوءً ، فلعلنا نغفل فاعلية الزمن في ذلك ، فكلما مرّ الوقت على حالة سيئة في المجتمع غدت وضعاً اعتيادياً ، وهو غاية الخطورة ، ولعل رد فعل بعض المسؤولين البارد إزاء معاناة الناس هو اولى علامات تلك الخطورة ، فعندما تمر تظاهرة مرضى السرطان المطالبين بتوفير علاجهم في مستشفيات الدولة ، مروراً عاطفياً على مسمع ومرأى المعنيين واصحاب القرار بحيث تبقى الجهود متلكئة بطيئة في تجاوز هذا التقصير ، على وعي الناس ان يبدأ مفعوله ..
ان الفكرة الجيدة تجلب افكاراً جيدة اخرى داعمة لها ، وحضورها مطلوب من كلا الطرفين ، الجماهير والحكومة ، لكن المشهد العراقي لا يشير الى هذا الحضور ، فالعملية آخذة في اتجاه الفعل ورد الفعل ، كلما تجاهلت الحكومة تظاهرة واغفلت مطالب جماهيرها أو اهملتها أو تماهلت عنها ، او ارجأتها الى وقت بأعذار وتبريرات ، فإن التظاهرة اللاحقة شهدت مواقف عنف ابداها متظاهر هنا ومتظاهر هناك تجاه الحكومة ، الفاظ قاسية تنم عن غيظ كبير وبركان يكاد ينفجر بالناس ويفجر الوضع ، ظهرت بعض علائمه في التجاوز على ابنية تشغلها بعض دوائر الحكومة واحراقها ، قابلها استهجان مسؤول وتلفظه بالفاظ سيئة بحق متظاهرين هتفوا ضده ، ما يجعل الهوة تكبر بين المواطن والمسؤول ، لكن المهم في كل هذا الوضع السيء ان الجماهير لم تفقد فكرة الخير في داخل النفوس تجاه بعضهم وان ابدوا غيره تجاه الحكومة ، فقد سجلت الأحداث كثيراً من المواقف المشرفة الإنسانية قام بها مواطن تجاه آخر تناولت بعضها وسائل الإعلام ، على ان غير المعلن عنه كثير ، وهو ما يشجعنا على الخوض في موضوعة صناعة الوعي ، لإعتماده كثيراً على وجود مثل هذه الخصلة الجيدة.. لكي لا يتساوى يومنا بالأمس ، فنصبح مغبونين وفق قول الإمام علي عليه السلام ) من تساوى يوماه فهو مغبون)..
مغبون تعني مظلوم ، ولطالما كانت هذه الحالة موضع رفض الانسان في مختلف العصور والازمنة والعهود ، فقد كان الشعور بالظلم حافزاً قوياً دفع العبيد والفقراء للإلتفاف حول نبي الرحمة مع علمهم بضآلة قوتهم العددية والعضلية أمام قوة أسياد مكة ، لكنهم تحسسوا ذواتهم قرب النبي ، وشعروا انهم معه يكتشفون شخصياتهم التي كانت موضع ابتذال وإذلال اسيادهم ، فوقفوا الى جانب الدعوة ، فانقلبت الأمور وتغيرت الأحوال وسادت الكرامة ومكانة الإنسان على قوة المال وظلم المجتمع وغلبة الانا ..
ان وصف تساوي الأمس واليوم بالغبن فيه دعوة قوية للتفكير في الحاضر بوعي ، من اجل
تحديثه ..
نقد الواقع المعرفي و الأنتربولوجي في العراق :
إقصاء الدولة الوطنية في الجزائر لعلم الأنثروبولوجيا واهتمامها بعلم الاجتماع؛ لاعتقادها بخدمة الأنثروبولوجيا للحركة الاستعمارية، كما يتطرق إلى العلاقة بين العلمين في الماضي والحاضر، ومواضيع أخرى تطالعونها في هذا الحوار :
حاوره: نورالدين برقادي
• أين نحن من علم الأنثروبولوجيا في الجزائر ؟
• إن الأنثروبولوجيا في الجزائر لم تحض بنفس الاهتمام الذي حضي به علم الاجتماع إطلاقا. متهمة بأنها خدمت المشروع الاستعماري، فهي قد عاشت نكسة رسمية منذ المؤتمر الخامس والعشرين لعلم الاجتماع الذي انعقد سنة 1974 في العاصمة الجزائرية. ويكون علم الاجتماع قد تم تبنيه ليس لفضائله الخاصة فحسب، وإنما للاعتقاد بعذريته السياسية، واعتباره بديلا للإثنولوجيا المقصية. إن أعمال علماء الاجتماع الجزائريين يجب أن تكون وقتئذ ليس في خدمة الحقيقة الاجتماعية، لكن في مساعدة الدولة للقيام بمشاريع التنمية وبناء الوحدة الوطنية. وعلى أية حال إن الذي تطلبه الجزائر المستقلة من علم الاجتماع هو لعب اتجاه الدولة الوطنية نفس الدور الذي لعبته الإثنولوجيا اتجاه المشروع الاستعماري. من هذا المنطلق أقول إننا بعيدون كل البعد عن الدور المنوط بالعلوم الإنسانية والاجتماعية عموما وعن الدراسات الأنثروبولوجيا خصوصا. فهناك مدى بعيد يفصل بيننا وبين الأنثروبولوجيا الحقيقية التي سبقنا إليها الغرب وبعض الدول العربية التي أسست لها أقساما ومعاهد منذ الخمسينات والستينيات وقطعت في ذلك أشواطا كبيرة في السبعينيات والثمانينيات، وهو الوقت الذي أدرنا فيه بظهورنا للأنثروبولوجيا.
• ما الفرق بين علم الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع ؟
•
• علم الاجتماع يركّز في دراساته على المشكلات الاجتماعية في المجتمع الواحد، كما يدرس الطبقات الاجتماعية في هذا المجتمع أو ذاك من المجتمعات الحديثة، ويندر أن يدرس المجتمعات البدائية أو المنقرضة. بينما تركّز الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) في دراساتها، على المجتمعات البدائية / الأولية، وأيضاً المجتمعات المتحضّرة / المعاصرة.
ولكنّ دراسة الأنثروبولوجيا للمجتمعات الإنسانية، تتركّز في الغالب على: التقاليد والعادات والنظم، والعلاقات بين الناس، والأنماط السلوكية المختلفة، التي يمارسها شعب ما أو أمّة معيّنة. أي أنّ علم الأنثروبولوجيا الاجتماعية يدرس الحياة الاجتماعية (المجتمع ككلّ )، وينظر إليها نظرة شاملة، ويدرس البيئة العامة، والعائلة ونظم القرابة والدين، بينما تكون دراسة علم الاجتماع متخصّصة إلى حدّ بعيد. حيث يقتصر على دراسة ظواهر محدّدة أو مشكلات معيّنة، أو مشكلات قائمة بذاتها، كمشكلات: الأسرة والطلاق والجريمة، والبطالة والإدمان والانتحار …
وإذا كان ثمّة تباين أو اختلاف بين العلمين، فهو لا يتعدّى فهم الظواهر الاجتماعية وتفسيراتها، وفق أهداف كلّ منهما. فبينما نجد أنّ الباحث في علم الاجتماع، يعتمد على افتراضات نظرية لدراسة وضع المتغيرات الاجتماعية، ويحاول التحقّق منها من خلال المعلومات التي يجمعها بواسطة استبيان أو استمارة خاصة لذلك، نجد – في المقابل – أنّ الباحث الأنثروبولوجي، يعتمد تشخيص الظاهرة استناداً إلى فهم الواقع كما هو، ومن خلال الملاحظة المباشرة ومشاركة الأفراد في حياتهم العادية .
وبصورة موجزة ومختصرة نقول: الأنثروبولوجيا تبحث عما يوجد وراء أفعال الأشخاص. فهي لا تبحث عن الحقيقة، بل عن المعنى. بناء المعنى هو المهمّ وليس بناء الحقيقة. الأنثروبولوجيا تجعل الإنسان (الباحث الأنثروبولوجي) يشعر بأنه أقدر على إدراك ما وراء الكلمات والعبارات ومظاهر السلوك من معان خفية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هناك تخصص جديد يطفو على السطح وهو: السوسيو- أنثروبولوجيا الذي يزيل كل الحواجز والفوارق التي وضعت بين العلمين على الرغم مما يبدو أن هناك عددا كبيرا من علماء الاجتماع يهتمون بدراسة النظم الاجتماعية والبناء الاجتماعي، وأن هناك إلى جانب ذلك تيارا آخر قويا يجذب إليه عددا كبيرا من العلماء ويوجههم نحو دراسة الثقافة والتعرض لمشكلاتها، وما يقابل ذلك في الأنثروبولوجيا من انصراف بعض الانثروبولوجيين نحو دراسة النظم الاجتماعية، واتجاه البعض الآخر من علماء الأنثروبولوجيا نحو دراسة الثقافة، وأنه يمكن القول عموماً أن الاتجاه الثقافي يغلب على الدراسات الانثروبولوجية في أمريكا، بينما تميل الأنثروبولوجيا في بريطانيا ميلا شديداً نحو الدراسات البنائية. إلا أنه مع ذلك قد يكون من التعسف أن نحاول تقسيم العلم والعلماء وحتى العالم إلى مناطق محددة ونزعم أنه يسود فيها أحد الاتجاهين: الاتجاه البنائي أو الاتجاه الثقافي. فالواقع أن الاتجاهين يوجدان إلى جانب بعضهما البعض في كل دراسة. ولقد ساعدت جهود العلماء والباحثين في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا حديثاً في التغلب على هذا التقسيم، واستطاعوا ـ على سبيل المثال ـ التحديد الواضح لمفهوم الثقافة وما أثاره من مشكلات على تجاوز هذا التقسيم، خاصة وأن هذه الجهود قد أوضحت أن الثقافة تمتاز بالكلية والعمومية، وأنه لا يمكن فهم الثقافة وظواهرها بعيداً عن بناء الجماعة التي تظهر في إطارها.
كما أن الملابسات والظروف التي كانت مسئولة عن قيام هذين الاتجاهين وتبلورهما قد زالت. تلك الملابسات والظروف التي يتمثل بعضها في ما صاحب نشأة الأنثروبولوجيا في القرن التاسع عشر في كل من بريطانيا وأمريكا، ويتمثل بعضها الثاني في الاختلاف في تحديد موضوع الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع بين أصحاب المدخل الاجتماعي البنائي والمدخل الثقافي لدراسة المجتمع. إذ كانت الأنثروبولوجيا في أولى عهدها في بريطانيا تتجه إلى دراسة المجتمع البدائي في أفريقيا حيث توجد معظم مستعمراتها، وهي قبائل تعيش كل منها في شبه عزلة اجتماعية واقتصادية لظروفها الجغرافية، بحيث تؤلف القبيلة في ذاتها مجتمعا متميزا ومستقلا عن غيره، مما جعل الباحث يقصر دراسته على مجتمع واحد، وينظر إليه كوحدة متكاملة ويلاحظ النظم الاجتماعية التي تسوده، أو يدرس البناء الاجتماعي في تكامله وتمايزه. وكانت الأنثروبولوجيا في أمريكا تهتم بدراسة قبائل الهنود الحمر التي كانت تتبعثر وتنتشر وتسمح بالاختلاط والاتصال بين جماعاتها، وتتداخل ثقافاتها. ومن هنا انصرف العلماء نحو دراسة ثقافات هذه القبائل بدلا من دراسة البناء الاجتماعي لها. وإن كان هذا الاهتمام المتباين بين الأنثروبولوجيا البريطانية والأمريكية قد انعكس على الأنثروبولوجيا عامة، وأدى إلى الاختلاف في تحديد موضوعها لفترة من الزمن إلا انه عندما أدرك العلماء أن التفرقة بين المجتمع والثقافة كانت دائماً مسألة صعبة وشائكة، بدأوا في التخلي عنها خاصة بعدما أدركوا أن الاثنين هما في الحقيقة مظهران مختلفان لشيء واحد، أو تجريدان مختلفان لوجود واقعي واحد.
قديما، كان العالم يتّصف بالموسوعاتية (مؤرخ، شاعر، فلكي..)، ثم تدريجيا ظهر التخصص وبعده الميكرو تخصص، هل يمكن للباحث الانثروبولوجي أن ينجز دراساته دون معرفة بالعلوم المتّصلة بتخصصه مثل: علم الاجتماع، التاريخ، الفلسفة، علم النفس، الهندسة المعمارية، علم الآثار..الخ.
سيدي الكريم. أقول لك أني كنت في السابق أقول أن الذي يميّز الفيلسوف أو دارس الفلسفة هو أن الفلسفة تتميز بالموسوعية، فأنت ملزم على اكتساح مجمل المجالات العلمية والمعرفية لتكوين نظرة كلية شاملة عن الكون والإنسان والحياة…لكنها في كثير من جوانبها نظرة مجردة. هكذا وبعد أن درست الأنثروبولوجيا وتخصصت فيها وجدت فيها ما يشبه الفلسفة إلى حد بعيد، غير أن ما يميزها عن الفلسفة هو أنها تتخلى عن الطابع التجريدي وتتشبث بالميدان. فما يميزها هو الميدان.
• كيف يمكن أن نستفيد من الدراسات الإنسانية ( الاجتماعية، التاريخية، النفسية، الانثروبولوجية..) التي أنجزت من طرف الباحثين الفرنسيين، وذلك منذ مطلع القرن التاسع عشر ؟
• دعنا نوضّح أمرا مهما للغاية. حينَ اتصل الأوربيون عن طريق التجارة والتبشير والاستعمار بالشعوب الأخرى المسماة (بدائية)، نشأت الحاجة إلى فهم هذه الشعوب بقدر ما تقتضيهِ مصلحة الأوربيين في حكم الشعوب واستغلالها، وفي حالاتٍ نادرة جداً بقدر ما تقتضيهِ مساعدة تلكَ الشعوب وأعانتها على اللحاق بقافلة المدنية الحديثة. فنشأ فرعٌ جديدٌ من الأنثروبولوجيا يدرس مشاكل الاتصال والتواصل مع تلكَ الشعوب البدائية ومعضلات إدارتها وتصريف شؤونها ووجوه تحسينها. ويُدعى هذا الفرع ” الأنثروبولوجيا التطبيقية “.
وقد تطورَ هذا الفرع ” الأنثروبولوجيا التطبيقية ” كثيراً ، خاصة مُنذ الحرب العالمية الثانية، وتنوّعت مجالاتهُ بتطور أقسام الأنثروبولوجيا وفروعها، إذ انهُ يمثل الجانب التطبيقي لهذهِ الأقسام والفروع، ولا يعد فرعاً مُستقلاً عنها وإنما هو الأداة الرئيسة لتطبيق نتائج بحوث كل فروع الأنثروبولوجيا والتي تجد طموحاتها لخدمة الإنسان والمُجتمع. وقد شملت تطبيقاتهُ مجالات كثيرة أهمها:
التربية والتعليم، التحضّر والسُكان، التنمية الاجتماعية والاقتصادية؛ خاصة تنمية المُجتمعات المحلية، المجالات الطبية والصحة العامّة، والنفسية، الإعلام والاتصال وبرامج الإذاعة والتلفزيون، التأليف الروائي والمسرحي، والفن، ومجال الفلكلور ” التراث الشعبي”، والمتاحف الاثنولوجية، إضافة إلى المجالات الصناعيّة، والعسكرية والحرب النفسية، السياسة ومُشكلات الإدارة والحكم، الجريمة والسجون….الخ.
ومن تطور هذا القسم (الأنثروبولوجيا التطبيقية) وازدياد البحوث فيهِ ظهرت فروع حديثة للانثروبولوجـيا الحضارية والاجتماعية حيث أختص كل فرع منها بمجال معين مما ورد أعلاه. وحتى نكون موضوعيين لقد ساعدتنا الدراسات التي أنجزتها الأنثروبولوجيا الفرنسية والأنجلوسكسونية عن المجتمعات المغاربية على فهم أنفسنا وذواتنا، إذ تحتوي هذه الدراسات على مادة إثنوغرافية هامة يمكن لنا أن نستغلها لإعادة بناء صورة حقيقية عن شخصيتنا الحضارية. فقط ما يستوجبه الأمر هو تحديد الهدف بدقة فيما إذا كان مرادنا إحداث القطيعة أم الاستمرارية.
• هل مناهج البحث العلمي المطبقة في الدراسات الإنسانية حيادية؛ بحكم أنها نتاج ثقافة وسياقات معينة ؟
• تعتبر مشكلة الموضوعية من بين المشاكل الإبستيملوجية الأساسية في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، واعتبرت الموضوعية علامة على قدرة هذه العلوم على التحرر من هيمنة الأنساق الفلسفية التأملية، وتجرد الباحث من ذاتيته وحمولتها القيمية وأحكامها ومواقفها القبلية اللاواعية، وإدراك الوقائع كما هي بما تستلزمه من ابعاد للمعتقدات والآراء الذاتية، والتعامل معها كأشياء وانساق تقع دون تدخل الذات. وإذا كان هذا النوع من الموضوعية قد تم تحقيقه في إطار العلوم الطبيعية وذلك لاستقلال المواضيع عن ذات العالم ولاعتبارها مواضيع شيئية، بل وعرفت الموضوعية نوعا من التعديل والاكتشافات الميكروفيزيائية فإن الموضوعية في إطار العلوم الإنسانية والاجتماعية مسألة جد معقدة. لكن طالما أنها ترتبط بالميدان فإن قدرا كبيرا من الموضوعية سيتحقق مهما كان الأمر.
• استطاعت الشقيقة المغرب أن تقطع أشواطا هامة في تطوير عديد العلوم الإنسانية، وهناك من يتوقع أن تتحول الرباط إلى حاضرة ثقافية بديلة لبيروت والقاهرة، ماهي الإستراتيجية التي اتبعتها المغرب لتحقيق هذه النهضة العلمية والثقافية ؟
• تتمثل الإستراتيجية في أنها تحاول خلق مجمعات لغوية تنافس تلك الموجودة في المشرق، تكون بمثابة قاعدة أساسية تنطلق من حركة الترجمة ووضع المصطلح، وكذا حركة البحث المستفيض خاصة في مجال الدراسات الاجتماعية والإنسانية.
• هناك من ينتقص من أهمية وضرورة العلوم الإنسانية في تطور الأمم، هل يمكن أن نتطور بالعلوم التجريبية فقط ؟
• بالتأكيد لا. لهذا يجب علينا البحث عن سبب تعثر العلوم الإنسانية والاجتماعية في جامعاتنا ؟
المطّلع على تاريخ العلوم الإنسانية والاجتماعية في الوطن العربي يكتشف أنها تعاني من هيمنة ثقافة الشارع السياسي العربي ورموزه الفكرية، إذ بلغت تلك الهيمنة حدا دفعت إغراءاتها بعض الباحثين في هذه التخصصات إلى مغادرة أسوار الأكاديميات والانتقال إلى الشارع السياسي وأصبحوا بنتيجتها في مواقع منافسة ليس للزعامات السياسية وحسب وإنما حتى لكتاب الأعمدة الصحفية. وكان وراء هذا النزوح، من الأسوار إلى الشوارع، إما إرضاء لدوافع ذاتية صادقة بتأدية الأكاديمي لدوره في المجتمع باعتباره مثقفا، أو للضغوطات المتتالية عليه من قبل الشارع ورموزه بالتخلي عن عزلته، كأكاديمي، والمبادرة بلعب دور المثقف النهضوي. وهكذا وفي غضون عقود متتالية لم يعد للعلوم الإنسانية والاجتماعية في الوطن العربي من دور تقوم به سوى انتقاء ما يصلح من أطروحاتها ورموزها العلمية وتوظيفها في الصراعات.
لقد أوجدت هذه الظروف التاريخية أوضاعا مواتية لمستويات متدنية من الباحثين في العلوم الإنسانية والاجتماعية لمواصلة الكتابة والبحث في هذه الميادين، ولكن بشروط ومواصفات أصبحت عادة ما تتسم بالضعف والابتذال. الأمر الذي جعل معاهد وأقسام العلوم الإنسانية والاجتماعية ومعظم جامعات الوطن العربي تظهر بمظهر الضعف مقارنة بغيرها من معاهد وأقسام العلوم والتكنولوجيا. وأمام غياب عدد من الباحثين المتميزين وانشغالهم بالشأن السياسي العام في الشارع الثقافي، وتوجه فريق آخر للاستفادة من الظروف المواتية في بيئات البحث العلمي في الأكاديميات ومراكز البحث في الغرب، استطاعت فئة أخرى لا تريد أن تجهد نفسها عناء البحث العلمي، إنتاج أبحاث ودراسات اتسمت بالسطحية والابتذال لتحقيق أغراض بعيدة تماما عن أهداف العلم.
لقد ترتب على تلك الأوضاع أن عانت العلوم الإنسانية والاجتماعية وميادينها المتعددة من ظروف غاية في السلبية، ولعل نصيب الأنثروبولوجيا، باعتبارها أيضا ميدانا حديثا من ميادين هذه العلوم ، كان الأعظم مقارنة ببقية الميادين.
• تناولت في رسالة الماجستير موضوع ” الخيمـة: أدواتها وقيمها الرمزية بين الماضي والحاضر دراسة أنثروبولوجية في الزيبان وجنوب الأوراس”، وقد ارتبطت الخيمة بالترحال والرعي، هل يمكن بناء الحضارة دون الانتقال من حياة الترحال إلى حياة الاستقرار ؟
• الترحال عقيدة راسخة في حياة البدو الرحل، إنه نمط من أنماط الحياة فيه لا يستقر الناس في مكان واحد وثابت. بل يتنقلون من مكان إلى آخر في المناطق الصحراوية بحثا عن المراعي والماء لبهائمهم. يتم الترحال في أماكن محددة وفي كثير من الأحيان في مسار سنوي ثابت.
هكذا تحتّم حياة الترحال الدائم أن تكون الجماعة البدوية خفيفة الحركة، كي تتمكن من مواجهة كافة الظروف الصعبة والمتغيرة التي تواجهها أثناء ترحالها، وخفّة الحركة هذه تستدعي أن تكون الجماعة البدوية بسيطة في مسكنها وملبسها ومعداتها.
بناء على هذا نجد أن الترحال والتنقل الدائم أو الموسمي يعبر بصورة أو بأخرى عن مفهوم الاستقرار في الحياة البدوية، فتعبير «استقرار» هو ذلك الذي لا يوحي بالتغير الشامل في نمط الحياة البدوية، ثم إن البدو مستقرون فعلا حسب نمط معيشتهم الخاصة، وذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار كما يقول « د.محمد السويدي » تصورهم للمكان، فالمدى الجغرافي الذي يمارس فيه البدو هذا الاستقرار أفسح بكثير مما يتصور سكان القرى والمدن.
بناء على هذا نجد أن الخيمة وما ارتبط بها هي جزء من حضارة الإنسان من الناحية المادية وما ارتبط بها من قيم رمزية يمثل الجانب الثقافي.
• الخيمة فضاء اجتماعي وثقافي، فيم تتمثل ثقافة هذا الفضاء ؟
• تحكم المجتمع البدوي منظومة قيّم تشكل بتعبير « بيير بورديو»: (رأسماله الرمزي والاجتماعي) والذي يشير إلى مجموعة القيّم أو المعايير غير الرسمية والتي تشترك فيها مجموعة من الناس وتسمح بإعطاء هذا المجتمع مميزات وخصائص تشكل القاعدة الأساسية لهويته، وتعتبر في الوقت ذاته المعايير التي تنبني عليها رؤى هذا المجتمع نحو الكون والحياة.
وعلى كل ألخّص لك قيّم فضاء الخيمة فيما يلي:
ـ فضاء الخيمة رمز للتواضع والحشمة والحرمة.
ـ الخيمة فضاء مميز للتعبير عن قيم الجود والكرم.
ـ الخيمة رمز العزة والشجاعة والحرية.
ـ الخيمة رمز الانتماء والهوية.
هل هذه الثقافة في تطور أم في جمود ؟
بل هي في تحول مستمر.
• لمّا نتحدث عن الخيمة كثيرا ما نتذكر القبيلة، وتاريخيا ظهرت القبيلة قبل ظهور الدولة، كانثروبولوجي، كيف تفسّر عودة سلطة القبيلة بالجزائر في زمن العولمة، أي ما بعد الدولة الوطنية ؟
• الناس إذا اعتادوا على قيّم معينة فترة طويلة من الزمن صعب عليهم أن يتركوها دفعة واحدة بمجرد تغيير ظروفهم. من أهم خصائص الحضارة الحديثة، والتي تعامل الفرد حسب كفاءته وصفاته الخاصة به، ولا أهمية لانتمائه القبلي، من حيث علاقته بقيم الكرم والشرف والنخوة والثأر والضيافة وحق الجيرة والزاد والملح وما شابه ذلك.
إن الحضارة الحديثة أحدثت صراعاً بين ما حملته إلى البوادي والمناطق الحضرية التي يقطنها البدو المتحضرين من مبدأ الفردية، وما تم توارثه من القيم البدوية المضادة له، وهذا الصراع كثيرا ما يؤدي إلى صراع نفسي، لاسيما عند البدو المتحضرين، فكثيراً ما يجد هؤلاء أنفسهم في صراع، فيما يجب عليهم الأخذ به وفق مبادئ المساواة والعدالة والديمقراطية، التي جاءت بها الحضارة الحديثة، وبين أن يجدوا أنفسهم مضطرين إلى الاستجابة لقيّم النخوة والشهامة وعزة النفس والأنفة وحق الجيرة والقرابة والعشيرة والزاد والملح التي نشأوا عليها في محيطهم المحلي.
نشر هذا الحوار في جريدة النصر بناريخ: 06 أفريل 2010 وفي مجلة Batna info عدد شهر جويلية 2010
كما يمكنكم الإطلاع على أبحاث الأستاذ سليم درنوني من خلال موقعه www.dernounisalim.com
شارك هذا الموضوع:
• انقر للمشاركة على فيسبوك (فتح في نافذة جديدة)
• اضغط للمشاركة على تويتر (فتح في نافذة جديدة)
• اضغط لتشارك على LinkedIn (فتح في نافذة جديدة)
• اضغط للمشاركة على Pocket (فتح في نافذة جديدة)
• انقر للمشاركة على Telegram (فتح في نافذة جديدة)
• انقر للمشاركة على WhatsApp (فتح في نافذة جديدة)
• النقر لإرسال رابط عبر البريد الإلكتروني إلى صديق (فتح في نافذة جديدة)
• اضغط للطباعة (فتح في نافذة جديدة)
•
Subscribe to:
Posts (Atom)