معالم ألأمية الفكرية في آلعراق
- المطلب الثاني
مخارج الأمية الفكرية
إن خروج المسلمين من مرحلة التيه الحضاري يحتاج منهم إلى ضرورة تجفيف منابع الأمية الفكرية وبناء الجسور القوية بينهم وبين دينهم الذي يمتلك من القوة الذاتية ما لو استوعبوه وأحسنوا توظيفه لامتلكوا العالم خلال عقود قليلة من الزمن، وسنحاول في هذا البحث المختصر أن نضع بعض القوانين التي تدلنا على طريق الخروج من هذا التيه.
5 أسلمة العلوم الوضعية وعصرنة العلوم الشرعية:
نستطيع ابتداءً التسليم تماماً بما قاله د.عبدالحميد أبوسليمان حول«أن مستقبل الأمة رهين بما يحدث من تغيير وتنمية للأجيال القادمة وبنائها النفسي والفكري ،وهو حقل مفتوح أمام الأمة وأمام هذا الجيل فبقدر مايوضع في نفوس الناشئة من قوة وطاقة ،ومن رؤية الدائب على أسلمة المعرفة ،والاستفادة منها في تحقيق العبودية باداء أمانة الاستخلاف عن الله في عمارة الأرض.
ولما كان العالم يشهد انفجاراً معرفياً ضخماً في مختلف حقول المعرفة ،ولما كانت معظم هذه المعارف ثمرة ثقافات وحضارات ذات جذور غربية بما فيها من وثنية وعلمانية وخرافة ،فإن أسلمة المعرفة تتقدم لكي تكون احدى واجبات الساعة في الساحة الفكرية.
وقد ظهر في ساحة الفكر الاسلامي تيار عريض وكامل ويمثله المعهد العالمي للفكر الاسلامي يدعو ويعمل من أجل تحقيق هدف اسلامية المعرفة ،حتى تأخذ العلوم التقنية خصوصاً دورها في تنظيم وتفعيل طاقات المسلمين البشرية والمادية والطبيعية«45».
لقد تواتر لدى المسلمين أن أول الآيات القرآنية نزولاً هي«اقرأ باسم ربك الذي خلق ،خلق الانسان من علق ،اقرأ وربك الاكرام ،الذي علم بالقلم ،علم الانسان مالم يعلم» «العقل:15».
وتشير هذه الآيات بوضوح إلى وجوب ارتباط القراءة باسم الله ،وإذا كان تعلم معظم العلوم المرتبطة بصناعة الحياة ،من الفرائض الكفائية ،فإنها يجب أن تكون باسم الله الخالق ،يقول القرضاوي:«ومعنى أنها باسمه سبحانه ،أنها باذنه وبأمره ،وأنها موجهة إليه ،موصولة به ،فليست باسم صنم يعبد ،ولاطاغوت يطاع ،ولابشر يعظم من دون الله فهي قراءة مؤمنة بالله خالصة له مقيدة باحكامه»«46».
إن دراستنا للعلوم الوضعية ،سواء كانت مادية أم انسانية ،ينبغي أن تنتظم ضمن مقاصد الاسلام بحيث يشعر الدارس عند قراءاته ،مهما تباينت التخصصات أنها تسير في ذات الطريق وفق ذات المنهج ،ولما كانت أكثر العلوم بعد انتقال دورة الحضارة إلى الغرب ،قد أصيبت بكثير من الدخن والدخل ،وتأثرت بالمنظومات الفكرية الغربية ،فإن من أوجب الواجبات الاسلامية في جهاد الفكر ،الاتجاه نحو«اسلمة المعرفة».
وفي مقابل اسلمة المعرفة ،تشتد الحجة لتثوير القرآن والسنة من أجل تأصيل الرؤية الاسلامية لكثير من الموضوعات المستجدة ،مع الاستفادة من الثروات المعرفية والكنوز التراثية بعد غربلتها وتمييز الغث من الثمين فيها ،واستبعاد ماذهب زمانه ،وتجديد مابلي مصطلحه وعنوانه.
وفي هذا السياق لابد من قيام العلماء الثقاة باعادة قراءة السنة للتفريق بين ماورد فيها للتشريع وماليس للتشريع ،وماكان للتشريع العام والتشريع الخاص ،أو للتشريع الدائم والتشريع العارض«47».
ولابد من بيان المنهج التربوي النبوي وتفعيله في تعليم وتربية الشباب ،وقد حاول عديدون القيام بذلك ونجحوا إلى حد كبير وعلى رأسهم الدكتور/القرضاوي في كثير من كتبه وخاصة كتابه«الرسول والعلم».
وعندما ألقى د.القرضاوي على سبيل المثال نظرة فاحصة على مدى مراعاة الرسول«صلى الله عليه وسلم» لمفردة تربوية واحدة وهي مراعاة الفروق الفردية بين الناس ،وجد ثروة ضخمة ،فقد كان «صلي الله عليه وسلم» يعدد وصاياه باختلاف الاشخاص الذين طلبوا منه الوصية ،واختلفت اجوبته وفتاواه عن السؤال الواحد باختلاف احوال السائلين ،واختلفت مواقفه وسلوكه باختلاف الاشخاص الذين تعامل معهم ،واختلفت اوامره وتكليفاته باختلاف من يكلفهم من الاشخاص بما يراعي قدراتهم وظروفهم ،وكان يقبل من بعض الافراد مالايقبله من غيرهم«48» ،وهذا يؤكد أن في ثقافتنا كل مكونات «الطائرة» التي ستقلع بنا نحو الحضارة ،وماعلينا إلا البحث عنها بتؤودة ،وقراءتها بفقه ،وتجميعها بنشاط ،وتركيبها بحكمة.
ومن خلال معرفتنا بالساحة الفكرية في بلداننا الاسلامية وماتتجاذبها من أفكار مستدعاة من أعماق التاريخ«التراث» ومستجلبة من أعماق الجغرافيا«التغريب» ،يمكننا القول إن هذه البيئة لاتمكن الفرد في الغالب من الوصول إلى أنماط التفكير الابداعية التي تطور فاعلية الفرد ،فانماط التفكير التي تلقى قبولاً ورواجاً هي المرتبطة بالتفكير العياني القائم على المحسوسات والتفكير الذاتي أوالخرافي ،وفي مقابل ذلك تتعرض انواع التفكير الابداعي للتنميط ،وهي التفكير المجرد والناقد والتفكير العلمي الموضوعي والتفكير الابتكاري.
وفي ظل هذه الانماط التفكيرية يحرص الفرد على الاحتفاظ بأكبر قدر من المعلومات ،لكنه لايستفيد منها في الوصول إلى حلول للمشكلة الجديدة التي تواجهه ،ولادراك العلاقات بين كثير من الاشياء التجريدية ،فضلاً عن التنبؤ بالعلاقات الممكنة بين المتغيرات أوالتحكم بها لتوجه المستقبل.
وفي هذه الانماط من التفكير يصبح الفرد مجرد اناء يتقبل بتسليم مايصب فيه ومن هنا تتولد القابلية في مجتمعاتنا الاسلامية لتقليد السلف تقليداً أعمى بدون غربلة«الاغتراب التاريخي» بدعوى الاصالة ،أو التقليد الغربي في خيره وشره«الاغتراب الجغرافي» بزعم المعاصرة ،وهذا يؤكد ضرورة العمل من أجل اصلاح مناهج التفكير في بلداننا ،وهذا موضوع الفقرة التالية.
ثالثاً: اصلاح مناهج التفكير:
يؤكد كثير من المفكرين والعلماء الذين جمعوا بين الفقه والفكر وبين قراءة الواقع والخبرة بالعصر ،أن الأمة الاسلامية تعاني من أزمة فكرية حادة ،وأنه لاخروج منها إلا باصلاح مناهج التفكير القائمة ،ومن الأمور المطلوبة على عجل في هذه الجهة مايلي:
1 وقف المد التقليدي في الفكر الاسلامي:
يمكن تعريف الفكر الاسلامي في عمومه باختصار على أنه خلاصة التفاعل بين النصوص والواقع من جهة وبين الشخص من جهة أخرى ،وعليه فإن هذا النتاج القائم يميل في غالبه إلى تعميق التقاليد البالية ويحرص على تنميط وقولبة الافكار والاشخاص كما تنمط الاشياء ،ويزيد من مساحات الانفعال على حساب الفعل ،والعاطفة على حساب العقل ،ويخلط بين الدين والتدين ،أي بين العقيدة والفكر وكذلك بين الشريعة والفقه.
وللتأكد من مدى اتساع مساحات العاطفة قام الباحث بما يشبه الاستبيان بين أوساط شبابية مختلفة بما فيها طلاب الجامعة لقياس مدى تأثر وانجذاب هؤلاء الشباب إلى المفكرين والوعاظ ،حيث كنت اطرح على الحضور سؤالاً يتعلق بشخصيتين من بعض البلدان ،احداها لخطيب والأخرى لمفكر ،وقد طرحت من مصر د.محمد عمارة وعبدالحميد كشك ،ومن السعودية: د.عبدالحميد أبوسيمان والمحيسني ،ومن الكويت: د.عبدالله فهد النفيسي وأحمد القطان ،وكانت النتيجة لصالح الخطباء بفارق هائل بين عدد الاصوات ،وهذا لايعني انتقاد الخطباء ،ولكن النقد موجه للجماهير التي لاتلتف حول المفكرين قدر التفافها حول الخطباء لأن المفكرين يناجون العقل بينما يدغدغ الخطباء العواطف.
إن العقل العربي بتركيبته الحالية يميل إلى تجميع المعلومات أكثر من استخدام التفكير المنهجي وبالتالي فإنه يضيع أوقاتاً كبيرة في تحصيل الكثير من المعلومات دون أن يتمكن من الاستفادة منها ،لضعف منهج التفكير.
ومن حقائق عالم الفكر أن هذه المعلومات قد تنتقم من صاحبها ،إن لم يعرف كيف يوظفها ،حيث يتوهم أنه بامتلاكه هذه المعلومات أصبح عالماً ،ولربما أصيب بتورم الذات ،ويمكن أن يصبح هذا الورم خبيثاً في جسد الأمة على المدى البعيد فيتخذ قرارات خاطئة بناء على هذه المعلومات المكدسة التي لم يفرزها ويحولها إلى لبنات متينة في صرح منهج تفكيره المتكامل.
إن كثرة المعلومات غير المنظمة حول قضية محددة قد تعيق العقل وإن ضحالة الفكر تجعل المرء عاجزاً ،وإن كان قادراً على اطلاق مصفوفات من الالفاظ المنمقة «49».
ومن أجل أن نستطيع وقف ضخ الفكر التقليدي وحصاره ،يتوجب«على مفكري الأمة وعلمائها ومثقفيها أن يعيدوا إلى الفكر الاسلامي والرؤية الاسلامية اصالتها وشموليتها وفطريتها وواقعيتها ،وتخطي الظروف والتجارب والعثرات التاريخية التي سببت انحراف الفكر والرؤية الاسلامية ،وتفريغها من محتواها ،وتحويلها إلى شكليات وطقوس وشعارات سرابية لاتنتهي بالأمة على مر العقود والقرون إلى نتيجة أو جادة«50».
إن هذا الجهد المطلوب هو نفس ماتصدى له المجددون الكبار كابن القيم وابن تيمية وابن حزم وابن الجوزي والعز بن عبدالسلام والشاطبي والقرافي ،والشوكاني والدهلوي وابن عبدالوهاب وابن الوزير وابن الأمير وغيرهم ،فقد حملوا على التقليد ،وحاولوا اقتلاعه من الجذور وشنوا الغارة على الاوضاع التي تستضيفه ،وسفهوا مبررات ومعاذير المقلدين ونقضوا دعاواهم«51».
إن من أوجب الواجبات إعمال العقل وتوفير البيئات المناسبة لعمله ،وخاصة التأصيل الشرعي لهذه العملية بحيث ينظر إلى المفكر من قبل المجتمع أنه على ثغرة من ثغور هذا الدين، بل هو على أهم ثغوره ،لأنه هو الذي ينظم عملية حراسة هذه الثغور ،من حيث توزيع مجاميع المتخصصين عليها وتحديد الاولويات فيها ومدها بالافكار والوسائل والاساليب التي تعينها على تحقيق اهدافها بأعلى كفاءة ممكنة ،ومن ثم نؤكد على قضية اسلمة التخصصات الاجتماعية والتربوية والسياسية والاقتصادية والثقافية الأخرى ،واعادتها إلى منطلقاتها ،وتبصيرها بالمقاصد الاسلامية التي يجب على الجميع أن يغذ الخطى نحو تحقيقها ،بحيث تنتهي الانفصامات القائمة بين أوجه كثير من الحقائق الاسلامية مثل: الواجبات الفردية والواجبات الاجتماعية ،حقوق الله وحقوق الناس ،عمارة الدنيا ،والاستعداد للآخرة ،الأخذ بالاسباب والتوكل على الله ،التزام العقيدة«الايمان» وتطبيق الشريعة«العمل الصالح» الثبات على كليات «الدين» والمرونة في فرعيات «التدين».
2 حراسة جبهة الافكار:
مما تقدم ،اتضح أن جبهة الفكر شاغرة إلى حد كبير ،حيث لاينظر إليها كثير المتدينين على أنها من ثغور هذا الدين ،هذا إن لم ينظروا إليها بعين الشك والريبة ،وبسبب هذا الفراغ تسللت إلى عصرنا الكثير من الافكار البعيدة عنا زماناً أومكاناً ،إذ غرتنا أفكار من وراء «الحدود الجغرافية» ،وأسرتنا أفكار من وراء«القرون التاريخية» وهذه وتلك زادت من مآسينا لأنها جاءت بظروفها المغايرة لظروفنا بدون تهذيب أوتشذيب.
إن أفكار عهود التخلف والانحطاط ،وتيارات التغريب والاستعمار الثقافي ،قامت بادوار كبرى في تحطيم الافكار الوسطية التي خرجت من رحم هذه الأمة بما فيها من انشداد إلى الاصوال وانطلاق من هذا العصر ،وكانت النتيجة تشجيع الافكار العوجاء والعرجاء ،ولو عن طريق«الدعاية السوداء» 52» وبالتالي فإن هذه الجبهة بحاجة إلى جهود جبارة لسد ثغراتها وحراسة ثغورها.
وفي كتابه «الصراع الفكري في البلاد المستعمرة» أورد المفكر الجزائري مالك بن نبي قصة الافكار وكيف يقتلها المستعمر أويشوهها أويصادرها لنفسه بطريقة شيطانية ،أما بحرفها عن مسارها أو باستثمارها بطريقة خفية ،وكانت آخر عبارة سطرها في هذا الكتاب دعوة لحراسة جبهة الافكار ،حيث قال: «وكل مانتمناه هو أن تقوم في بلادنا رابطة من المثقفين لكشف هجمات الاستعمار على الجبهة الفكرية حتى لاتبقى الافكار معرضة لتلك الهجمات دون نجدة ولامدد«53».
وفي العقود الأخيرة ظهرت عدد من الجهات الاسلامية التي حاولت التصدي لهذا التحدي ،وقامت بجهود مشهودة ،ويأتي في مقدمتها المعهد العالمي للفكر الاسلامي الذي تأسس في 1981م في الولايات المتحدة الأمريكية وصارت له فروع في عدد من البلدان الاسلامية ،وله اصدارات ضخمة وفعاليات متعددة وكلها ينصب على هذه الجبهة ،وهناك مركز الدراسات والبحوث التابع لوزارة الاوقاف القطرية الذي أصدر سلسة من الكتيبات الجيدة في هذا المضمار ،وهناك الندوة العالمية للشباب الاسلامي في السعودية التي تبنت فعاليات ومؤتمرات عدة في هذا السياق اضافة إلى مصدرها لعشرات الكتب ذات الصلة بموضوعات شتى ومنها هذا الموضوع ،وهناك عدد من الاعلام الذين ساروا في ذات الدرب ،وعلى رأسهم: الدكتور/يوسف القرضاوي والشيخ محمد الغزالي والدكتور/عبدالكريم بكار ومازالت الحاجة ماسة إلى مزيد من الجهود الجديدة اضافة إلى توسيع دائرة المستفيدين من الانجازات السابقة.
في ساحة المعارك العسكرية يقولون «الهجوم أفضل وسيلة للدفاع» وكذلك هو الأمر في ساحة الصراع الفكري، إذ لابد من توسيع دائرة الوعي، فإن الوعي هو الذي ينقل العقيدة من دائرة التقليد إلى دائرة التجديد، أو من دائرة «الفكر إلى دائرة الفعل» بحيث توجد ثورة كبرى داخل الفرد تجعله فاعلاً في الحياة، ابتداء باكتشافه لذاته وطاقاته الكامنة ومواهبة المخبوءة، وتوظيفها لصالح الأهداف الكبرى التي ترسمها له عقيدته عندما يكون واعياً بها، يقول د. بكار: إن وعي كثير من المسلمين اليوم مغيب عن هذه الوظيفة الجوهرية للإيمان، وذلك بسبب سيطرة التقاليد والبرمجة البيئية على مفاهيمنا ومشاعرنا، حيث أن تناول معظم الناس لمسألة الإيمان والالتزام عامة يتم وفق ماهو سائد في مجتمعاتهم، مما يعني أن ملامسة جوهر الإيمان وحقيقته لن تتم إلا من خلال انتفاضة كبرى للوعي، تعيد الأمور إلى نصابها «54».
3 توسيع مساحات التفكير:
منذ أن اغلقت ابواب الاجتهاد، والمجددون يجاهدون من أجل فتحها، حيث واجهوا تيارات تقليدية كثيرة، بل كان بعضهم يبدو كأنه يسبح عكس التيار، فتعرضوا لكثير من المصاعب والمحن، لكنهم لم يتوانوا عن بذل الجهد في دفع الأمة لتمزيق أغلال التقليد والثورة على آصار لجمود والتشدد.. ومن هؤلاء المجددين العظام ابن القيم الجوزية (ت/751ه)، فقد شن حرباً شعواء على التقليد والمقلدين، كما سبقت الإشارة، وفي كتابه القيم «إعلام الموقعين» بأجزائه الأربعة قام بدور كبير في هذا الشأن، ويكفي أن نشير إلى عنوان أحد فصوله «فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الازمنة والامكنة والاحوال والنيات والعوائد» «55»، وفي موضع آخر تحدث عن أن السياسة العادلة جزء من اجزاء الشريعة حتى ولو لم يأت بها نص، ونقل عن أبي الوفاء ابن عقيل ما يؤيد ذلك، وقال عن الذين جمدوا الشريعة عن استيعاب المتغيرات المرتبطة بمصالح الناس: هذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك في معترك صعب، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرؤوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد.. «56» وواصل بيانه لهذا الاتجاه الجامد الذي سببه الجهل، وكيف دفع الحكام إلى استحداث امور عادت بالشر على الناس، ثم قال: فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض، فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلة العقل، وأسفر صحبه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه ورضاه وأمره «57».
كلما تعمق الإنسان في دراسة حاضر أمته، مع إحاطته بمقاصد الإسلام يتأكد له أن الفكر بحاجة إلى إصلاح، حتى يصبح مؤهلاً لتغيير الواقع، من خلال تطويره لميادين المعرفة الشرعية، وأسلمته لميادين المعرفة الوضعية.
يقول ابن القيم: مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار، فإنها توجب التصورات، والتصورات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوع الفعل، وكثرة تكرارع تعطي العادة، فصلاح هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار، وفسادها بفسادها «58» ويؤيد هذه المعاني الراغب الأصفهاني بأسلوب آخر، من خلال مثل ضربه الحكماء لموقع القوى العقلية من بقية القوى والقدرات «59» ويؤكد أن فضل الإنسان على سائر الحيوانات بالقوى المفكرة، ثم يقول: فالإنسان يضارع الملك بقوة العلم والمنطق والفهم، ويضارع البهيمة بقوة الغذاء والنكاح فمن صرف همته كلها إلى تربية وبالعلم والعمل فخليق أن يلحق بأفق الملك.. ومن صرف همته كلها إلى تربية القوة الشهوية بإتباع اللذات البدنية يأكل كما تأكل الأنعام فخليق أن يلحق بأفق البهائم.. «60».
وفي هذا العصر، وبعد موجات عارمة من التقليد والجمود، اجتهد عدد من العلماء والمفكرين من أجل إيجاد (البوصلة الفكرية) التي تساعد أمتهم على الخروج من مرحلة التيه الحضاري، محاولين وضع معالم كبيرة لمشروع إصلاح مناهج الفكر وإسلامية المعرفة «61».
وهي واحدة من هذه المحاولات الجادة ألف الدكتور مالك بدري كتابه (التفكير من المشاهدة إلى الشهود) كدراسة نفسية معمقة لظاهرة التفكير في خلق السماوات والأرض من منظور نفسي إسلامي، جمع فيها بين الدراسات النفسية والمعارف الإسلامية، سائراً مع التفكير في مراحله المختلفة، ابتداء من بالمشاهدة الحسية، وانتهاء بالوصول إلى درجة (الشهود الصحيح) كما سماها ابن تيمية، وهي المرحلة التي يصبح أصحابها وليس في قلوبهم سوى محبة الله وإرادته وعبادته.. يشهدون المخلوقات قائمة بأمره، مدبرة بمشيئته، بل مستجيبة له قانتة له «62».
ومن خلال دراسة منجزات المدارس النفسية الغربية، وخاصة علم النفس المعرفي، ذهب إلى أنه لا عمل بدون نشاط فكري، وإلى أن استنتاجات علم النفس تؤكد صدق ما قرره الإسلام من أن التفكير في خلق الله هو العمود الفقري للإيمان الذي ينبثق عنه كل عمل خير «63».
ومما أثبته الكتاب وجود علاقة وثيقة بين التفكر «الإسلامي» والتأمل الارتقائي في علم النفس «الغربي» وهو في الأصل مأخوذ عن ديانة هندية قديمة، وعلاقتهما بالصحة النفسية، ثم دور الشخصية السوية من الناحية النفسية في التعافي من الأمراض الحسية، حتى أنه عكس المقولة المشهورة «العقل السليم في الجسم السليم» إلى «الجسم السليم في العقل السليم» «64».
وهذا يعني أن التفكير يمثل أهم المداخل لتنمية فاعلية الشخصية الإنسانية في كل الميادين، ومن ثم لابد من تنمية التفكير ذاته حتى يؤتي ثماره المرجوة.
4 تزكية التفكير (تهذيبه وتنميته):
يمتلك الإنسان مدارك عقلية عديدة، لو نجح في إعمالها جميعاً لأعطته فاعلية عجيبة أشبه (بالسوبرمان) أو بإعلانات الطاقة، وفي هذا السياق تحدث الراغب الأصفهاني عن هذا الأمر، مؤكداً أن الإنسان بتفعيل هذه المدارك يمكن أن توازي فعاليته عشرة من أمثاله «65».
ويمكن تعريف التنمية الفكرية الصحيحة بأنها (التي تساعد على إيجاد وضع اجتماعي وأخلاقي واقتصادي، يجعل الناس أقرب إلى الالتزام) «66»، وبدهي أن الالتزام بالمفهوم الإسلامي يجعل الإنسان في أعلى درجات الفاعلية وذروة سنام الصلاح والإصلاح.. ولكي نستطيع تنمية التفكير، لابد من ممارسة المهارات العقلية في: التحصيل، التفكير، ومهارات اكتشاف العلاقات، والمدخل كما هو واضح إتقان مهارات التحصيل وهي المهارات التالية: القراءة، الكتابة، الحفظ، الاستماع، صياغة السؤال، الحوار، تنمية الثروة اللغوية، البحث «67» ومنها يتضح أن العقل هدف ووسيلة.
والتفكير له انواع كثيرة «68» وكل نوع يحتاج إلى مهارات وتقنيات معينة من أجل تنميته «69».
وفي سياق تنمية التفكير وتوسيع دائرته، فإن هناك مهارات عديدة تحقق هذا الهدف وهي حسب أحد الباحثين مهارة الفهم، مهارة التأمل، مهارة حل المشكلات، مهارة الاستنباط، مهارة الاستقراء، مهارة الاستدلال، مهارة النقد، مهارة الإبداع «70».. ومن أجل امتلاك الإنسان القدرة على الحركة السريعة في مجال الأفكار، واكتشاف العلاقات بينها وهي التي تولد الإبداع لابد من امتلاك مهارات اكتشاف العلاقات اولاً وهي المهارات التالية: التجريد، التحليل، التنصيف، التلخيص، المقارنة «71».
الجدير بالذكر أن عملية تزكية التفكير، بما فيها من تهذيب وتنمية، عملية ضرورية حتى لمن بلغوا في الفكر شأوا بعيداً، خاصة في جانب التهذيب، من أجل تقويم ما اعوج، وتشذيب ما زاد وتطرف، وإنعاش ما ضمر، وإحياء ما مات.
يقول د. بكار: إن بنية طرحنا الكفري يحتاج دائماً إلى تجديد، حيث أن طبيعة اشتغال «الذهن» على المعلومات الواردة، ومحاولاته استخراج مستخلصات منها كثيراً ما تترك آثاراً ضارة على المبادئ العامة التي في حوزته وعلى منطقيته وطلاقة خياله.. وهذا يعني أن المزيد من الاعمال لقوانا الذهنية لا يعني إطراد تحسن مستوى تلك القوى بصورة عفوية، فالنكوص دائماً وارد، ولذا فإن من المهم جداً أن يظل وعينا متيقظاً للتغيرات التي تطرأ عليه، أي أن يحاول حماية نفسه من نفسه، ومن الوافدات الخارجية عليه «72».. هذا ما يحتاجه المفكر، من أجل استبعاد الغث من أفكاره، واستجلاب الثمين، وهذه العملية هي التي تمنح الإنسان نضجاً وحكمة كلما قطع من عمره سنوات إضافية، وهذا ما جعل المفكرين والفقهاء يغيرون آراءهم التي اشتهرت عنهم، والذين يقومون بهذه العملية هم الذين يكتب لهم الوصول إلى بر السلامة وشاطئ الأمان.
ونختم هذه الفقرة، بما يجب أن بدئ به في هذا المضمار وهي حقيقة «اقرأ» وأول كلمة هي «اقرأ» ولذلك فإن من الإعجاز التشريعي في القرآن أن تكون أول سورة هي «اقرأ» وأول أمر وتكليف هو «اقرأ» وهذا الأمر كان لمن تعهده الله في أرحام النساء وأصلاب الرجال، فكان خياراً من خيار، ثم بعد مولده أدبه ربه فأحسن تأديبه، فكيف بغيره، ولذلك فإن القراءة هي الخطوة الأولى في أي مشروع حضاري، وهنا لابد من فقه القراءة، فنعرف كيف ومتى نقرأ وماذا ولمن نقرأ، وخاصة في البدايات الأولى، عندما لم يكن الشخص قد امتلك جهاز المناعة الفكرية بعد.
رابعاً: إشاعة فقهي الشارع والواقع:
الطريق الموصل إلى «خير الله» المطلق وهو «الفقه في الدين» كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» «73»، الطريق إليه مسيج بسياجين: سياج فهم مراد الشارع فيما شرع، وسياج فهم الواقع الذي يراد تنزيل مراد الشارع عليه، ودراسة كل ما يحقق هذا الفهم «الفقه».
1 معايير الفقه الشرعي:
لكي يكون الإنسان فقيهاً، هناك معايير لقياس مدى تحقيق هذا الفقه، ومنها:
أ التركيز عند طلب العلم على الفهم وليس على الحفظ، بفتح المدارك العقلية عند التلقي والابتعاد عن التقليد والتأثر العاطفي البعيد عن المنطق، وإخضاع كل ما يقرأ، باستثناء كلام الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم للنقد «74».
ب اعتبار العلوم كلها، سواء كانت شرعية أم وضعية، شعباً توصل الإنسان إلى معرفة الله، ومعرفة الله تورث خشيته «75»، ولذلك ذكر القرآن مشهداً ينتمي اليوم إلى علم الجيولوجيا ثم ختمه بقوله تعالى «إنما يخشى الله من عباده العلماء» «فاطر: 28» وقد أسلفنا في ذكر بعض أقوال السلف الصالح التي تحصر العلم في الخشية من الله والرحمة بعباده، وطلب التيسير لهم في الآراء والفتاوى، ما لم يكن في ذلك إثم.
ج. ازدياد الإنسان نضوجاً في عقله، وتواضعاً في نفسه وسلوكه، بمعنى أن هناك علاقة واضحة بين زيادة العلم وزيادة الفكر (العقل ) والفعل (السلوك ).
وربما كان من حكمة الربط بين القراءة باسم الله في سورة العلق وبين قوله تعالى في ذات السورة " إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى" [العلق : 6، 7]، الإشارة إلى هذا المعنى، فالإنسان يوجد في تكوينه استعداد للطغيان، فهذا الطغيان الكامن لايطفو إلى السطح إلا عند وجود الجهل "إنه كان ظلوماً جهولاً " [الأحزاب : 72]. وهذه الصفة تتهذب بالعلم الذي يعرف الإنسان بقدره، فيستحي ويتواضع، ويدرك أن ما آتاه الله من العلم، ليس إلا قطرة من بحر ملكوته.
وأستطيع أن أزعم أن العلماء الذين ذمهم القرآن هم من هذا الصنف، وإن انتهى بهم هذا الانحراف المنهجي، الذي ركز على حفظ العلم لافقهه، انتهى بهم إلى التحريف والتبديل والانسلاخ عن آيات الله التي آتاهم إياها، بل وبيع هذه الآيات في مزاد الطغاة بعرض من الدنيا، قل أو كثر، ومن هذه الآيات قوله تعالى " إن الدين عندالله الإسلام ومااختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ماجاءهم العلم بغياً بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب" [آل عمران : 19]، وحتى غياب الإخلاص وهو عامل مهم في تقرير هذه النهاية، له دخل واضح بالفقه في الدين، فالفقه يورث معرفة الله، ومعرفة الله تورث الخشية، والخشية تدفع بالإنسان إلى الإخلاص.
د. الدراسة المنهجية، التي تنطلق من منهج واضح، هو عبودية الله الشاملة، بخلافته في عمارة أرضه، وذلك من خلال استيعاب توجيهات «آياته» القرآنية، في كيفية التعامل مع «آياته» الكونية والاجتماعية، استهداء في تحصيل الإيمان، واستثماراً في عمارة الحياة، وبالتالي فلامكان عند صاحب هذا المنهج للمعلومات المبعثرة، ولا للنظرات السطحية، ولا للقراءة الجزئية، ولا للدراسة النظرية التي لاترتبط بهدف ولاتتصل بواقع.
2- اتقان قراءة الواقع :
الواقع الذي يجب على المسلم فهمه حتى يكون فقيها، كل مايحيط به من مخلوقات وآيات، يحيث يجب أن «يتفكر» في الآيات الكونية و «يتبصر» في الآيات الاجتماعية، من حيث الجملة، ويحاول التغلغل في ثنايا الأوضاع التي هي مجال فكره وفعله بقدر المستطاع.
إن الذي يريد فهم الواقع واكتساب الفقه فيه، لابد أن ينطلق من المنهج المعرفي الكلي، ويحاول قراءة الأمور المرتبطة بالعصر من علوم وفنون وآداب وأعراف وعوائد وسياسات وأفكار وعلاقات ومشاكل وهموم.
يقول د. القرضاوي عن فقه الواقع بأنه مبني على دراسة الواقع المعيشي دراسة دقيقة مستوعبة لكل جوانب الموضوع، معتمدة على أصح المعلومات وأدق البيانات والإحصائيات «76»، وتدخل معرفة الآخر والخصوم ضمن متطلبات فقه الواقع.
إذاً، كل معلومة أو مفردة تتدخل في صناعة حياة المسلمين بأي قدر كان وفي أي اتجاه، لابد من اكتسابها حتى يكون الإنسان ملماً بفقه الواقع، ومالم يفعل ذلك فإنه سيظل يعاني من أمية فكرية، حيث يمكن ان يصدر أحكاماً عمياء أو عوراء، ويتخذ قرارات عرجاء أو عوجاء، وقد تزيد هذه الأمور المسلمين وبالاً، وهو يظن أنه يحسن صنعاً وأنه يتقرب بها إلى الله، وكلما زادت اعداد هؤلاء تحولوا إلى أدوات تشد المجتمع المسلم إلى الخلف، معيقين حركته نحو التقدم، مانعين اشلاءه من التوحد.. إن الذين يقعون بين التهويل والتهوين في التعامل مع كثير من الظواهر والخصوم، إنما هو ضحية ضحالة معرفتهم بالواقع، ولماكان الآخر ( الغرب خاصة ) حاضراً اليوم بقوة في تشكيل حاضرنا فإن معرفته بعيداً عن التهويل أو التهوين من اساسيات فقه الواقع.
يقول عمر عبيد حسنة : إن معرفة مناهج ومعارف «الآخر» وخططه التنموية والإفادة منها، وتجنب عثراتها، فرض حضاري، وإسهام إنساني، وتفاعل تنموي في العطاء والأخذ وبناء المشترك الإنساني " «77». وحتى بدون هذا الأمر، فإن عالمية الإسلام، تفرض على المسلمين ان يكونوا شهداء على الناس، ومن ضرورات هذه الشهادة المعرفة الدقيقة بهؤلاء.
3. استهداف الوصول إلى الحكمة :
لم يمدح الله شيئاً أعطاه للإنسان مثلما مدح الحكمة، فهي الخير كله، إذ يستطيع صاحبها أن يفهم «الأفكار» كماهي، ويضعها في موقعها المناسب من منظومته الفكرية، ويستطيع أن يضع «الأفعال» في مواضعها الصحيحة، فلايزيد ولاينقص، ولايتقدم ولايتأخر، وبهذا المنهج فإنه يجمع خيري الدنيا والآخرة، ولذلك قال تعالى عنها " يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً " [البقرة : 169].
إن إعمال الإنسان عقله في النصوص، وفق منهج متكامل، يكسبه الفقه الذي لايمنحه الله إلا لمن يريد به خيراً في دينه ودنياه " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين " «78».
وإن إعمال الإنسان عقله في قراءة الواقع بطريقة ممنهجة، تجعله خبيراً بالمفهوم الحضاري للخبرة " ولاينبئك مثل خبير " [فاطر : 14].
وهكذا، فإن تحصيل الإنسان لهذين الأمرين يعطيه جناحين يستطيع بواسطتهما الارتفاع إلى آفاق الحكمة، بحيث يكون مسدداً في فكره وفعله، وربما كان هذا المفهوم سبب اقتران الحكمة بالكتاب في آيات عدة في القرآن، وقد أشار إلى ذلك عدد كبير من علماء المسلمين ممن لم يفسروا الحكمة في هذه الآيات بالسنة النبوية.
الخاتمة
الأمية الفكرية مسافة تنشأ بين الشخص والنص، وفجوة بينه وبين الواقع، حيث يضيق في تحصيل الفقه في تعامله مع النصوص ومع الوقائع، ومن ثم يضيق دائرة العبودية في حسه، لتصبح أقرب إلى العلاقة بينه وبين الله، بينما تخرج كثير من اصول عمارة الحياة ومفردات التعامل مع الناس من هذه الدائرة.
وإذا كان ضيق دائرة العبودية سببه ضيق دائرة الفكر والفقه، فإن الخروج من هذا التيه مرهون بمعالجة العقل لكي يستطيع استيعاب عبودية الله في (محراب الحياة )، وإذا اتسع مفهوم العبادة فإنه سيشمل الحياة بالاستعمار، وسيسع الناس بالأخلاق، وشعب الإيمان بالأداء غير المنقوص، وسيستهدف العالم بالشهادة والبلاغ المبين.
ولن يتم هذا الأمر إلا بتوسيع مساحات المعرفة الربانية المبصرة التي لاتفرق بين العلوم الشرعية والعلوم الوضعية، فكلها علوم إسلامية، مع العمل الحثيث لإصلاح مناهج التفكير، بحيث يتم تفعيلها من أجل التعامل الأمثل مع ( النصوص الدينية ) وتنزيلها بحكمة على ( الوقائع الدنيوية ) في مسيرة نقدس فيها ( الثوابت ) وتجدد ( المتغيرات )، وينتهي الاشتباك فيها بين العقل والنقل، ويفرق بين الابتداع والإبداع، وكذلك بين التقليد والاتباع، وتكون عمارة الدنيا الطريق لعمارة الآخرة، وإقامة حقوق الناس ثمرة لإقامة حقوق الله وهذا الأمر لو حدث كفيل باشعال فاعلية المسلمين التي انطفأت، لتشرق من جديد، منيرة مجاهل الحياة ودروب الإنسان، ومحققة له الطمأنينة النفسية والأمن الاجتماعي والرفاه الاقتصادي والحرية السياسية.
ولما كان تغيير ما بالناس، نتيجة لتغيير ما بالأنفس، فإن إشعال فاعلية الأمة لايمكن أن يتم مالم يوقد الشباب شموع عقولهم، فهم أمل المستقبل وجيل النصر المنشود.
وأوصي في نهاية هذه الدراسة بأن يركز العلماء على الدراسات التي تعنى بتقوية الشوكة الفكرية، وتوفر مناهج التحصين والتفعيل للشباب، وتلملم المفردات المعرفية برؤى كلية، تؤسلم المعرفة الوضعية وتعصرن المعرفة الشرعية، تستدعي المفيد من التراث إلى قلب العصر، وتستجلب الحكمة من أي جهة كانت.
وأوصي بتفعيل التعلم الذاتي، واقترح في هذا السياق إلى جانب ماطرح في البحث أن يتبنى المفكرون والعلماء تأليف كتابين حول العلم والوقت، يوضح فيهما بشمول وجلاء منهج الإسلام، ودور كل قيمة منها في إقامة الحضارة الإسلامية والحضارات الأخرى، بحيث يوفران الدافعية للطالب لاستثمار وقته والاجتهاد في طلب العلم كفريضة إسلامية، مهما يكن موقعه وتخصصيه، وحيث يقرر كمتطلبين دراسيين في المستوى الأول من كل التخصصات العلمية والإنسانية في الجامعات.
الهوامش:
(44) ازمة العقل المسلم . ص 221
(45) انظر : د. طه العلواني : إصلاح الفكر الإسلامي ( معظم صفحات الكتاب ) ود. أبو سليمان : أزمة العقل المسلم : ص 211-216، 224-229
(46) الحياة الربانية والعلم : ص 69
(47) انظر : د. القرضاوي : السنة مصدراً للمعرفة والحضارة ط4 ( القاهرة : دار الشروق، 1426 -2005)، ص 12-18
(48) نفسه : ص 135-141
(49) أ. د. بكار : مدخل إلى التنمية المتكاملة : ص 118. وانظر : ص55، 56
(50)د. أبو سليمان : أزمة العقل المسلم : ص 222
(51 ) انظر مثلاً : ابن القيم : إعلام الموقعين : 2/ص 121-193
(52) الدعاية السوداء هي اسلوب استخباري غربي يعمد إلى فكرة أو جهة يريد الترويج لها، من خلال إعلان حملة إعلامية ضدها لتلميعها عند الخصوم بهذه الطريقة، كمافعل الغرب مع مصطفى كمال أتاتورك، ممادفع بالكثير من العلماء للوقوع في الفخ والتعاطف معه آنذاك، قبل أن تتضح الحقائق، ولكن بعد أن يكون الفأس قد وقع في الرأس.
(53) مالك بن نبي : الصراع الفكري في البلاد المستعمرة «دمشق : دار الفكر، 1405-1985)، ص 126.
(54) تجديد الوعي : ص 69
(55) إعلام الموقعين : 3/ص5
(56) المرجع السابق : 3/ص 306، 307
(57 ) نفسه : 4/ص 307
(58) الفوائد تحقيق : عصام الدين الصبابطي .ط1 ( القاهرة : دار الحديث، 1424- 2003)، ص 209.
(59) انظر : الذريعة إلى مكارم الشريعة : ص 81
(60 ) انظر : الذريعة إلى مكارم الشريعة : ص 86
(61) انظر مثلاً : د. طه جابر العلواني : اصلاح الفكر الإسلامي : ص 72،75
(62) الفكر من المشاهدة إلى الشهود - دراسة نفسية اسلامية ط2 (هيردن - امريكا : المعهد العالمي للفكر الإسلامي، المنصورة - مصر : دار الوفاء، 1413- 1992)، ص 13
(63) نفسه : ص25
(64) نفسه : ص 41-53
(65) الذريعة إلى مكارم الشريعة : ص88
(66) أ. د. بكار : مدخل إلى التنمية المتكاملة : ص 334
(67)د. عبدالرحمن المالكي : مهارات التربية الإسلامية : ص 67-95
( 68) حول أنواع التفكير انظر : د. عوض القرني : حتى لاتكون كلاً : ص 93 -96
(69) حول تقنيات أنواع التفكير . انظر : أ. د. بكار : مدخل إلى التنمية المتكاملة : ص 87-103
(70) د. عبدالرحمن المالكي : مهارات التربية الإسلامية : ص95 -118.
(71) نفسه : ص 119 -128
(72) تجديد الوعي : ص 48
(73) سبق تخريجه.
(74) انظر : د. القرضاوي : الحياة الربانية والعلم : ص 121-126 الشاطبي : الموافقات : 1/ص 42-44.
(75) راجع : الراغب الاصفهاني : الذريعة إلى مكارم الشريعة : ص 236-238، فهمي هويدي : التدين المنقوص : ص 190، 191.
(76) أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة ص 13 (بيروت : مؤسسة الرسالة، 1412-1992)،ص 30
(77) من تقديمه لكتاب : د. حسن بن ابراهيم الهنداوي : التعليم وإشكالية التنمية : ص 11.
(78) سبق تخريجه.
- المطلب الثاني
مخارج الأمية الفكرية
إن خروج المسلمين من مرحلة التيه الحضاري يحتاج منهم إلى ضرورة تجفيف منابع الأمية الفكرية وبناء الجسور القوية بينهم وبين دينهم الذي يمتلك من القوة الذاتية ما لو استوعبوه وأحسنوا توظيفه لامتلكوا العالم خلال عقود قليلة من الزمن، وسنحاول في هذا البحث المختصر أن نضع بعض القوانين التي تدلنا على طريق الخروج من هذا التيه.
5 أسلمة العلوم الوضعية وعصرنة العلوم الشرعية:
نستطيع ابتداءً التسليم تماماً بما قاله د.عبدالحميد أبوسليمان حول«أن مستقبل الأمة رهين بما يحدث من تغيير وتنمية للأجيال القادمة وبنائها النفسي والفكري ،وهو حقل مفتوح أمام الأمة وأمام هذا الجيل فبقدر مايوضع في نفوس الناشئة من قوة وطاقة ،ومن رؤية الدائب على أسلمة المعرفة ،والاستفادة منها في تحقيق العبودية باداء أمانة الاستخلاف عن الله في عمارة الأرض.
ولما كان العالم يشهد انفجاراً معرفياً ضخماً في مختلف حقول المعرفة ،ولما كانت معظم هذه المعارف ثمرة ثقافات وحضارات ذات جذور غربية بما فيها من وثنية وعلمانية وخرافة ،فإن أسلمة المعرفة تتقدم لكي تكون احدى واجبات الساعة في الساحة الفكرية.
وقد ظهر في ساحة الفكر الاسلامي تيار عريض وكامل ويمثله المعهد العالمي للفكر الاسلامي يدعو ويعمل من أجل تحقيق هدف اسلامية المعرفة ،حتى تأخذ العلوم التقنية خصوصاً دورها في تنظيم وتفعيل طاقات المسلمين البشرية والمادية والطبيعية«45».
لقد تواتر لدى المسلمين أن أول الآيات القرآنية نزولاً هي«اقرأ باسم ربك الذي خلق ،خلق الانسان من علق ،اقرأ وربك الاكرام ،الذي علم بالقلم ،علم الانسان مالم يعلم» «العقل:15».
وتشير هذه الآيات بوضوح إلى وجوب ارتباط القراءة باسم الله ،وإذا كان تعلم معظم العلوم المرتبطة بصناعة الحياة ،من الفرائض الكفائية ،فإنها يجب أن تكون باسم الله الخالق ،يقول القرضاوي:«ومعنى أنها باسمه سبحانه ،أنها باذنه وبأمره ،وأنها موجهة إليه ،موصولة به ،فليست باسم صنم يعبد ،ولاطاغوت يطاع ،ولابشر يعظم من دون الله فهي قراءة مؤمنة بالله خالصة له مقيدة باحكامه»«46».
إن دراستنا للعلوم الوضعية ،سواء كانت مادية أم انسانية ،ينبغي أن تنتظم ضمن مقاصد الاسلام بحيث يشعر الدارس عند قراءاته ،مهما تباينت التخصصات أنها تسير في ذات الطريق وفق ذات المنهج ،ولما كانت أكثر العلوم بعد انتقال دورة الحضارة إلى الغرب ،قد أصيبت بكثير من الدخن والدخل ،وتأثرت بالمنظومات الفكرية الغربية ،فإن من أوجب الواجبات الاسلامية في جهاد الفكر ،الاتجاه نحو«اسلمة المعرفة».
وفي مقابل اسلمة المعرفة ،تشتد الحجة لتثوير القرآن والسنة من أجل تأصيل الرؤية الاسلامية لكثير من الموضوعات المستجدة ،مع الاستفادة من الثروات المعرفية والكنوز التراثية بعد غربلتها وتمييز الغث من الثمين فيها ،واستبعاد ماذهب زمانه ،وتجديد مابلي مصطلحه وعنوانه.
وفي هذا السياق لابد من قيام العلماء الثقاة باعادة قراءة السنة للتفريق بين ماورد فيها للتشريع وماليس للتشريع ،وماكان للتشريع العام والتشريع الخاص ،أو للتشريع الدائم والتشريع العارض«47».
ولابد من بيان المنهج التربوي النبوي وتفعيله في تعليم وتربية الشباب ،وقد حاول عديدون القيام بذلك ونجحوا إلى حد كبير وعلى رأسهم الدكتور/القرضاوي في كثير من كتبه وخاصة كتابه«الرسول والعلم».
وعندما ألقى د.القرضاوي على سبيل المثال نظرة فاحصة على مدى مراعاة الرسول«صلى الله عليه وسلم» لمفردة تربوية واحدة وهي مراعاة الفروق الفردية بين الناس ،وجد ثروة ضخمة ،فقد كان «صلي الله عليه وسلم» يعدد وصاياه باختلاف الاشخاص الذين طلبوا منه الوصية ،واختلفت اجوبته وفتاواه عن السؤال الواحد باختلاف احوال السائلين ،واختلفت مواقفه وسلوكه باختلاف الاشخاص الذين تعامل معهم ،واختلفت اوامره وتكليفاته باختلاف من يكلفهم من الاشخاص بما يراعي قدراتهم وظروفهم ،وكان يقبل من بعض الافراد مالايقبله من غيرهم«48» ،وهذا يؤكد أن في ثقافتنا كل مكونات «الطائرة» التي ستقلع بنا نحو الحضارة ،وماعلينا إلا البحث عنها بتؤودة ،وقراءتها بفقه ،وتجميعها بنشاط ،وتركيبها بحكمة.
ومن خلال معرفتنا بالساحة الفكرية في بلداننا الاسلامية وماتتجاذبها من أفكار مستدعاة من أعماق التاريخ«التراث» ومستجلبة من أعماق الجغرافيا«التغريب» ،يمكننا القول إن هذه البيئة لاتمكن الفرد في الغالب من الوصول إلى أنماط التفكير الابداعية التي تطور فاعلية الفرد ،فانماط التفكير التي تلقى قبولاً ورواجاً هي المرتبطة بالتفكير العياني القائم على المحسوسات والتفكير الذاتي أوالخرافي ،وفي مقابل ذلك تتعرض انواع التفكير الابداعي للتنميط ،وهي التفكير المجرد والناقد والتفكير العلمي الموضوعي والتفكير الابتكاري.
وفي ظل هذه الانماط التفكيرية يحرص الفرد على الاحتفاظ بأكبر قدر من المعلومات ،لكنه لايستفيد منها في الوصول إلى حلول للمشكلة الجديدة التي تواجهه ،ولادراك العلاقات بين كثير من الاشياء التجريدية ،فضلاً عن التنبؤ بالعلاقات الممكنة بين المتغيرات أوالتحكم بها لتوجه المستقبل.
وفي هذه الانماط من التفكير يصبح الفرد مجرد اناء يتقبل بتسليم مايصب فيه ومن هنا تتولد القابلية في مجتمعاتنا الاسلامية لتقليد السلف تقليداً أعمى بدون غربلة«الاغتراب التاريخي» بدعوى الاصالة ،أو التقليد الغربي في خيره وشره«الاغتراب الجغرافي» بزعم المعاصرة ،وهذا يؤكد ضرورة العمل من أجل اصلاح مناهج التفكير في بلداننا ،وهذا موضوع الفقرة التالية.
ثالثاً: اصلاح مناهج التفكير:
يؤكد كثير من المفكرين والعلماء الذين جمعوا بين الفقه والفكر وبين قراءة الواقع والخبرة بالعصر ،أن الأمة الاسلامية تعاني من أزمة فكرية حادة ،وأنه لاخروج منها إلا باصلاح مناهج التفكير القائمة ،ومن الأمور المطلوبة على عجل في هذه الجهة مايلي:
1 وقف المد التقليدي في الفكر الاسلامي:
يمكن تعريف الفكر الاسلامي في عمومه باختصار على أنه خلاصة التفاعل بين النصوص والواقع من جهة وبين الشخص من جهة أخرى ،وعليه فإن هذا النتاج القائم يميل في غالبه إلى تعميق التقاليد البالية ويحرص على تنميط وقولبة الافكار والاشخاص كما تنمط الاشياء ،ويزيد من مساحات الانفعال على حساب الفعل ،والعاطفة على حساب العقل ،ويخلط بين الدين والتدين ،أي بين العقيدة والفكر وكذلك بين الشريعة والفقه.
وللتأكد من مدى اتساع مساحات العاطفة قام الباحث بما يشبه الاستبيان بين أوساط شبابية مختلفة بما فيها طلاب الجامعة لقياس مدى تأثر وانجذاب هؤلاء الشباب إلى المفكرين والوعاظ ،حيث كنت اطرح على الحضور سؤالاً يتعلق بشخصيتين من بعض البلدان ،احداها لخطيب والأخرى لمفكر ،وقد طرحت من مصر د.محمد عمارة وعبدالحميد كشك ،ومن السعودية: د.عبدالحميد أبوسيمان والمحيسني ،ومن الكويت: د.عبدالله فهد النفيسي وأحمد القطان ،وكانت النتيجة لصالح الخطباء بفارق هائل بين عدد الاصوات ،وهذا لايعني انتقاد الخطباء ،ولكن النقد موجه للجماهير التي لاتلتف حول المفكرين قدر التفافها حول الخطباء لأن المفكرين يناجون العقل بينما يدغدغ الخطباء العواطف.
إن العقل العربي بتركيبته الحالية يميل إلى تجميع المعلومات أكثر من استخدام التفكير المنهجي وبالتالي فإنه يضيع أوقاتاً كبيرة في تحصيل الكثير من المعلومات دون أن يتمكن من الاستفادة منها ،لضعف منهج التفكير.
ومن حقائق عالم الفكر أن هذه المعلومات قد تنتقم من صاحبها ،إن لم يعرف كيف يوظفها ،حيث يتوهم أنه بامتلاكه هذه المعلومات أصبح عالماً ،ولربما أصيب بتورم الذات ،ويمكن أن يصبح هذا الورم خبيثاً في جسد الأمة على المدى البعيد فيتخذ قرارات خاطئة بناء على هذه المعلومات المكدسة التي لم يفرزها ويحولها إلى لبنات متينة في صرح منهج تفكيره المتكامل.
إن كثرة المعلومات غير المنظمة حول قضية محددة قد تعيق العقل وإن ضحالة الفكر تجعل المرء عاجزاً ،وإن كان قادراً على اطلاق مصفوفات من الالفاظ المنمقة «49».
ومن أجل أن نستطيع وقف ضخ الفكر التقليدي وحصاره ،يتوجب«على مفكري الأمة وعلمائها ومثقفيها أن يعيدوا إلى الفكر الاسلامي والرؤية الاسلامية اصالتها وشموليتها وفطريتها وواقعيتها ،وتخطي الظروف والتجارب والعثرات التاريخية التي سببت انحراف الفكر والرؤية الاسلامية ،وتفريغها من محتواها ،وتحويلها إلى شكليات وطقوس وشعارات سرابية لاتنتهي بالأمة على مر العقود والقرون إلى نتيجة أو جادة«50».
إن هذا الجهد المطلوب هو نفس ماتصدى له المجددون الكبار كابن القيم وابن تيمية وابن حزم وابن الجوزي والعز بن عبدالسلام والشاطبي والقرافي ،والشوكاني والدهلوي وابن عبدالوهاب وابن الوزير وابن الأمير وغيرهم ،فقد حملوا على التقليد ،وحاولوا اقتلاعه من الجذور وشنوا الغارة على الاوضاع التي تستضيفه ،وسفهوا مبررات ومعاذير المقلدين ونقضوا دعاواهم«51».
إن من أوجب الواجبات إعمال العقل وتوفير البيئات المناسبة لعمله ،وخاصة التأصيل الشرعي لهذه العملية بحيث ينظر إلى المفكر من قبل المجتمع أنه على ثغرة من ثغور هذا الدين، بل هو على أهم ثغوره ،لأنه هو الذي ينظم عملية حراسة هذه الثغور ،من حيث توزيع مجاميع المتخصصين عليها وتحديد الاولويات فيها ومدها بالافكار والوسائل والاساليب التي تعينها على تحقيق اهدافها بأعلى كفاءة ممكنة ،ومن ثم نؤكد على قضية اسلمة التخصصات الاجتماعية والتربوية والسياسية والاقتصادية والثقافية الأخرى ،واعادتها إلى منطلقاتها ،وتبصيرها بالمقاصد الاسلامية التي يجب على الجميع أن يغذ الخطى نحو تحقيقها ،بحيث تنتهي الانفصامات القائمة بين أوجه كثير من الحقائق الاسلامية مثل: الواجبات الفردية والواجبات الاجتماعية ،حقوق الله وحقوق الناس ،عمارة الدنيا ،والاستعداد للآخرة ،الأخذ بالاسباب والتوكل على الله ،التزام العقيدة«الايمان» وتطبيق الشريعة«العمل الصالح» الثبات على كليات «الدين» والمرونة في فرعيات «التدين».
2 حراسة جبهة الافكار:
مما تقدم ،اتضح أن جبهة الفكر شاغرة إلى حد كبير ،حيث لاينظر إليها كثير المتدينين على أنها من ثغور هذا الدين ،هذا إن لم ينظروا إليها بعين الشك والريبة ،وبسبب هذا الفراغ تسللت إلى عصرنا الكثير من الافكار البعيدة عنا زماناً أومكاناً ،إذ غرتنا أفكار من وراء «الحدود الجغرافية» ،وأسرتنا أفكار من وراء«القرون التاريخية» وهذه وتلك زادت من مآسينا لأنها جاءت بظروفها المغايرة لظروفنا بدون تهذيب أوتشذيب.
إن أفكار عهود التخلف والانحطاط ،وتيارات التغريب والاستعمار الثقافي ،قامت بادوار كبرى في تحطيم الافكار الوسطية التي خرجت من رحم هذه الأمة بما فيها من انشداد إلى الاصوال وانطلاق من هذا العصر ،وكانت النتيجة تشجيع الافكار العوجاء والعرجاء ،ولو عن طريق«الدعاية السوداء» 52» وبالتالي فإن هذه الجبهة بحاجة إلى جهود جبارة لسد ثغراتها وحراسة ثغورها.
وفي كتابه «الصراع الفكري في البلاد المستعمرة» أورد المفكر الجزائري مالك بن نبي قصة الافكار وكيف يقتلها المستعمر أويشوهها أويصادرها لنفسه بطريقة شيطانية ،أما بحرفها عن مسارها أو باستثمارها بطريقة خفية ،وكانت آخر عبارة سطرها في هذا الكتاب دعوة لحراسة جبهة الافكار ،حيث قال: «وكل مانتمناه هو أن تقوم في بلادنا رابطة من المثقفين لكشف هجمات الاستعمار على الجبهة الفكرية حتى لاتبقى الافكار معرضة لتلك الهجمات دون نجدة ولامدد«53».
وفي العقود الأخيرة ظهرت عدد من الجهات الاسلامية التي حاولت التصدي لهذا التحدي ،وقامت بجهود مشهودة ،ويأتي في مقدمتها المعهد العالمي للفكر الاسلامي الذي تأسس في 1981م في الولايات المتحدة الأمريكية وصارت له فروع في عدد من البلدان الاسلامية ،وله اصدارات ضخمة وفعاليات متعددة وكلها ينصب على هذه الجبهة ،وهناك مركز الدراسات والبحوث التابع لوزارة الاوقاف القطرية الذي أصدر سلسة من الكتيبات الجيدة في هذا المضمار ،وهناك الندوة العالمية للشباب الاسلامي في السعودية التي تبنت فعاليات ومؤتمرات عدة في هذا السياق اضافة إلى مصدرها لعشرات الكتب ذات الصلة بموضوعات شتى ومنها هذا الموضوع ،وهناك عدد من الاعلام الذين ساروا في ذات الدرب ،وعلى رأسهم: الدكتور/يوسف القرضاوي والشيخ محمد الغزالي والدكتور/عبدالكريم بكار ومازالت الحاجة ماسة إلى مزيد من الجهود الجديدة اضافة إلى توسيع دائرة المستفيدين من الانجازات السابقة.
في ساحة المعارك العسكرية يقولون «الهجوم أفضل وسيلة للدفاع» وكذلك هو الأمر في ساحة الصراع الفكري، إذ لابد من توسيع دائرة الوعي، فإن الوعي هو الذي ينقل العقيدة من دائرة التقليد إلى دائرة التجديد، أو من دائرة «الفكر إلى دائرة الفعل» بحيث توجد ثورة كبرى داخل الفرد تجعله فاعلاً في الحياة، ابتداء باكتشافه لذاته وطاقاته الكامنة ومواهبة المخبوءة، وتوظيفها لصالح الأهداف الكبرى التي ترسمها له عقيدته عندما يكون واعياً بها، يقول د. بكار: إن وعي كثير من المسلمين اليوم مغيب عن هذه الوظيفة الجوهرية للإيمان، وذلك بسبب سيطرة التقاليد والبرمجة البيئية على مفاهيمنا ومشاعرنا، حيث أن تناول معظم الناس لمسألة الإيمان والالتزام عامة يتم وفق ماهو سائد في مجتمعاتهم، مما يعني أن ملامسة جوهر الإيمان وحقيقته لن تتم إلا من خلال انتفاضة كبرى للوعي، تعيد الأمور إلى نصابها «54».
3 توسيع مساحات التفكير:
منذ أن اغلقت ابواب الاجتهاد، والمجددون يجاهدون من أجل فتحها، حيث واجهوا تيارات تقليدية كثيرة، بل كان بعضهم يبدو كأنه يسبح عكس التيار، فتعرضوا لكثير من المصاعب والمحن، لكنهم لم يتوانوا عن بذل الجهد في دفع الأمة لتمزيق أغلال التقليد والثورة على آصار لجمود والتشدد.. ومن هؤلاء المجددين العظام ابن القيم الجوزية (ت/751ه)، فقد شن حرباً شعواء على التقليد والمقلدين، كما سبقت الإشارة، وفي كتابه القيم «إعلام الموقعين» بأجزائه الأربعة قام بدور كبير في هذا الشأن، ويكفي أن نشير إلى عنوان أحد فصوله «فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الازمنة والامكنة والاحوال والنيات والعوائد» «55»، وفي موضع آخر تحدث عن أن السياسة العادلة جزء من اجزاء الشريعة حتى ولو لم يأت بها نص، ونقل عن أبي الوفاء ابن عقيل ما يؤيد ذلك، وقال عن الذين جمدوا الشريعة عن استيعاب المتغيرات المرتبطة بمصالح الناس: هذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك في معترك صعب، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرؤوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد.. «56» وواصل بيانه لهذا الاتجاه الجامد الذي سببه الجهل، وكيف دفع الحكام إلى استحداث امور عادت بالشر على الناس، ثم قال: فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض، فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلة العقل، وأسفر صحبه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه ورضاه وأمره «57».
كلما تعمق الإنسان في دراسة حاضر أمته، مع إحاطته بمقاصد الإسلام يتأكد له أن الفكر بحاجة إلى إصلاح، حتى يصبح مؤهلاً لتغيير الواقع، من خلال تطويره لميادين المعرفة الشرعية، وأسلمته لميادين المعرفة الوضعية.
يقول ابن القيم: مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار، فإنها توجب التصورات، والتصورات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوع الفعل، وكثرة تكرارع تعطي العادة، فصلاح هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار، وفسادها بفسادها «58» ويؤيد هذه المعاني الراغب الأصفهاني بأسلوب آخر، من خلال مثل ضربه الحكماء لموقع القوى العقلية من بقية القوى والقدرات «59» ويؤكد أن فضل الإنسان على سائر الحيوانات بالقوى المفكرة، ثم يقول: فالإنسان يضارع الملك بقوة العلم والمنطق والفهم، ويضارع البهيمة بقوة الغذاء والنكاح فمن صرف همته كلها إلى تربية وبالعلم والعمل فخليق أن يلحق بأفق الملك.. ومن صرف همته كلها إلى تربية القوة الشهوية بإتباع اللذات البدنية يأكل كما تأكل الأنعام فخليق أن يلحق بأفق البهائم.. «60».
وفي هذا العصر، وبعد موجات عارمة من التقليد والجمود، اجتهد عدد من العلماء والمفكرين من أجل إيجاد (البوصلة الفكرية) التي تساعد أمتهم على الخروج من مرحلة التيه الحضاري، محاولين وضع معالم كبيرة لمشروع إصلاح مناهج الفكر وإسلامية المعرفة «61».
وهي واحدة من هذه المحاولات الجادة ألف الدكتور مالك بدري كتابه (التفكير من المشاهدة إلى الشهود) كدراسة نفسية معمقة لظاهرة التفكير في خلق السماوات والأرض من منظور نفسي إسلامي، جمع فيها بين الدراسات النفسية والمعارف الإسلامية، سائراً مع التفكير في مراحله المختلفة، ابتداء من بالمشاهدة الحسية، وانتهاء بالوصول إلى درجة (الشهود الصحيح) كما سماها ابن تيمية، وهي المرحلة التي يصبح أصحابها وليس في قلوبهم سوى محبة الله وإرادته وعبادته.. يشهدون المخلوقات قائمة بأمره، مدبرة بمشيئته، بل مستجيبة له قانتة له «62».
ومن خلال دراسة منجزات المدارس النفسية الغربية، وخاصة علم النفس المعرفي، ذهب إلى أنه لا عمل بدون نشاط فكري، وإلى أن استنتاجات علم النفس تؤكد صدق ما قرره الإسلام من أن التفكير في خلق الله هو العمود الفقري للإيمان الذي ينبثق عنه كل عمل خير «63».
ومما أثبته الكتاب وجود علاقة وثيقة بين التفكر «الإسلامي» والتأمل الارتقائي في علم النفس «الغربي» وهو في الأصل مأخوذ عن ديانة هندية قديمة، وعلاقتهما بالصحة النفسية، ثم دور الشخصية السوية من الناحية النفسية في التعافي من الأمراض الحسية، حتى أنه عكس المقولة المشهورة «العقل السليم في الجسم السليم» إلى «الجسم السليم في العقل السليم» «64».
وهذا يعني أن التفكير يمثل أهم المداخل لتنمية فاعلية الشخصية الإنسانية في كل الميادين، ومن ثم لابد من تنمية التفكير ذاته حتى يؤتي ثماره المرجوة.
4 تزكية التفكير (تهذيبه وتنميته):
يمتلك الإنسان مدارك عقلية عديدة، لو نجح في إعمالها جميعاً لأعطته فاعلية عجيبة أشبه (بالسوبرمان) أو بإعلانات الطاقة، وفي هذا السياق تحدث الراغب الأصفهاني عن هذا الأمر، مؤكداً أن الإنسان بتفعيل هذه المدارك يمكن أن توازي فعاليته عشرة من أمثاله «65».
ويمكن تعريف التنمية الفكرية الصحيحة بأنها (التي تساعد على إيجاد وضع اجتماعي وأخلاقي واقتصادي، يجعل الناس أقرب إلى الالتزام) «66»، وبدهي أن الالتزام بالمفهوم الإسلامي يجعل الإنسان في أعلى درجات الفاعلية وذروة سنام الصلاح والإصلاح.. ولكي نستطيع تنمية التفكير، لابد من ممارسة المهارات العقلية في: التحصيل، التفكير، ومهارات اكتشاف العلاقات، والمدخل كما هو واضح إتقان مهارات التحصيل وهي المهارات التالية: القراءة، الكتابة، الحفظ، الاستماع، صياغة السؤال، الحوار، تنمية الثروة اللغوية، البحث «67» ومنها يتضح أن العقل هدف ووسيلة.
والتفكير له انواع كثيرة «68» وكل نوع يحتاج إلى مهارات وتقنيات معينة من أجل تنميته «69».
وفي سياق تنمية التفكير وتوسيع دائرته، فإن هناك مهارات عديدة تحقق هذا الهدف وهي حسب أحد الباحثين مهارة الفهم، مهارة التأمل، مهارة حل المشكلات، مهارة الاستنباط، مهارة الاستقراء، مهارة الاستدلال، مهارة النقد، مهارة الإبداع «70».. ومن أجل امتلاك الإنسان القدرة على الحركة السريعة في مجال الأفكار، واكتشاف العلاقات بينها وهي التي تولد الإبداع لابد من امتلاك مهارات اكتشاف العلاقات اولاً وهي المهارات التالية: التجريد، التحليل، التنصيف، التلخيص، المقارنة «71».
الجدير بالذكر أن عملية تزكية التفكير، بما فيها من تهذيب وتنمية، عملية ضرورية حتى لمن بلغوا في الفكر شأوا بعيداً، خاصة في جانب التهذيب، من أجل تقويم ما اعوج، وتشذيب ما زاد وتطرف، وإنعاش ما ضمر، وإحياء ما مات.
يقول د. بكار: إن بنية طرحنا الكفري يحتاج دائماً إلى تجديد، حيث أن طبيعة اشتغال «الذهن» على المعلومات الواردة، ومحاولاته استخراج مستخلصات منها كثيراً ما تترك آثاراً ضارة على المبادئ العامة التي في حوزته وعلى منطقيته وطلاقة خياله.. وهذا يعني أن المزيد من الاعمال لقوانا الذهنية لا يعني إطراد تحسن مستوى تلك القوى بصورة عفوية، فالنكوص دائماً وارد، ولذا فإن من المهم جداً أن يظل وعينا متيقظاً للتغيرات التي تطرأ عليه، أي أن يحاول حماية نفسه من نفسه، ومن الوافدات الخارجية عليه «72».. هذا ما يحتاجه المفكر، من أجل استبعاد الغث من أفكاره، واستجلاب الثمين، وهذه العملية هي التي تمنح الإنسان نضجاً وحكمة كلما قطع من عمره سنوات إضافية، وهذا ما جعل المفكرين والفقهاء يغيرون آراءهم التي اشتهرت عنهم، والذين يقومون بهذه العملية هم الذين يكتب لهم الوصول إلى بر السلامة وشاطئ الأمان.
ونختم هذه الفقرة، بما يجب أن بدئ به في هذا المضمار وهي حقيقة «اقرأ» وأول كلمة هي «اقرأ» ولذلك فإن من الإعجاز التشريعي في القرآن أن تكون أول سورة هي «اقرأ» وأول أمر وتكليف هو «اقرأ» وهذا الأمر كان لمن تعهده الله في أرحام النساء وأصلاب الرجال، فكان خياراً من خيار، ثم بعد مولده أدبه ربه فأحسن تأديبه، فكيف بغيره، ولذلك فإن القراءة هي الخطوة الأولى في أي مشروع حضاري، وهنا لابد من فقه القراءة، فنعرف كيف ومتى نقرأ وماذا ولمن نقرأ، وخاصة في البدايات الأولى، عندما لم يكن الشخص قد امتلك جهاز المناعة الفكرية بعد.
رابعاً: إشاعة فقهي الشارع والواقع:
الطريق الموصل إلى «خير الله» المطلق وهو «الفقه في الدين» كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» «73»، الطريق إليه مسيج بسياجين: سياج فهم مراد الشارع فيما شرع، وسياج فهم الواقع الذي يراد تنزيل مراد الشارع عليه، ودراسة كل ما يحقق هذا الفهم «الفقه».
1 معايير الفقه الشرعي:
لكي يكون الإنسان فقيهاً، هناك معايير لقياس مدى تحقيق هذا الفقه، ومنها:
أ التركيز عند طلب العلم على الفهم وليس على الحفظ، بفتح المدارك العقلية عند التلقي والابتعاد عن التقليد والتأثر العاطفي البعيد عن المنطق، وإخضاع كل ما يقرأ، باستثناء كلام الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم للنقد «74».
ب اعتبار العلوم كلها، سواء كانت شرعية أم وضعية، شعباً توصل الإنسان إلى معرفة الله، ومعرفة الله تورث خشيته «75»، ولذلك ذكر القرآن مشهداً ينتمي اليوم إلى علم الجيولوجيا ثم ختمه بقوله تعالى «إنما يخشى الله من عباده العلماء» «فاطر: 28» وقد أسلفنا في ذكر بعض أقوال السلف الصالح التي تحصر العلم في الخشية من الله والرحمة بعباده، وطلب التيسير لهم في الآراء والفتاوى، ما لم يكن في ذلك إثم.
ج. ازدياد الإنسان نضوجاً في عقله، وتواضعاً في نفسه وسلوكه، بمعنى أن هناك علاقة واضحة بين زيادة العلم وزيادة الفكر (العقل ) والفعل (السلوك ).
وربما كان من حكمة الربط بين القراءة باسم الله في سورة العلق وبين قوله تعالى في ذات السورة " إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى" [العلق : 6، 7]، الإشارة إلى هذا المعنى، فالإنسان يوجد في تكوينه استعداد للطغيان، فهذا الطغيان الكامن لايطفو إلى السطح إلا عند وجود الجهل "إنه كان ظلوماً جهولاً " [الأحزاب : 72]. وهذه الصفة تتهذب بالعلم الذي يعرف الإنسان بقدره، فيستحي ويتواضع، ويدرك أن ما آتاه الله من العلم، ليس إلا قطرة من بحر ملكوته.
وأستطيع أن أزعم أن العلماء الذين ذمهم القرآن هم من هذا الصنف، وإن انتهى بهم هذا الانحراف المنهجي، الذي ركز على حفظ العلم لافقهه، انتهى بهم إلى التحريف والتبديل والانسلاخ عن آيات الله التي آتاهم إياها، بل وبيع هذه الآيات في مزاد الطغاة بعرض من الدنيا، قل أو كثر، ومن هذه الآيات قوله تعالى " إن الدين عندالله الإسلام ومااختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ماجاءهم العلم بغياً بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب" [آل عمران : 19]، وحتى غياب الإخلاص وهو عامل مهم في تقرير هذه النهاية، له دخل واضح بالفقه في الدين، فالفقه يورث معرفة الله، ومعرفة الله تورث الخشية، والخشية تدفع بالإنسان إلى الإخلاص.
د. الدراسة المنهجية، التي تنطلق من منهج واضح، هو عبودية الله الشاملة، بخلافته في عمارة أرضه، وذلك من خلال استيعاب توجيهات «آياته» القرآنية، في كيفية التعامل مع «آياته» الكونية والاجتماعية، استهداء في تحصيل الإيمان، واستثماراً في عمارة الحياة، وبالتالي فلامكان عند صاحب هذا المنهج للمعلومات المبعثرة، ولا للنظرات السطحية، ولا للقراءة الجزئية، ولا للدراسة النظرية التي لاترتبط بهدف ولاتتصل بواقع.
2- اتقان قراءة الواقع :
الواقع الذي يجب على المسلم فهمه حتى يكون فقيها، كل مايحيط به من مخلوقات وآيات، يحيث يجب أن «يتفكر» في الآيات الكونية و «يتبصر» في الآيات الاجتماعية، من حيث الجملة، ويحاول التغلغل في ثنايا الأوضاع التي هي مجال فكره وفعله بقدر المستطاع.
إن الذي يريد فهم الواقع واكتساب الفقه فيه، لابد أن ينطلق من المنهج المعرفي الكلي، ويحاول قراءة الأمور المرتبطة بالعصر من علوم وفنون وآداب وأعراف وعوائد وسياسات وأفكار وعلاقات ومشاكل وهموم.
يقول د. القرضاوي عن فقه الواقع بأنه مبني على دراسة الواقع المعيشي دراسة دقيقة مستوعبة لكل جوانب الموضوع، معتمدة على أصح المعلومات وأدق البيانات والإحصائيات «76»، وتدخل معرفة الآخر والخصوم ضمن متطلبات فقه الواقع.
إذاً، كل معلومة أو مفردة تتدخل في صناعة حياة المسلمين بأي قدر كان وفي أي اتجاه، لابد من اكتسابها حتى يكون الإنسان ملماً بفقه الواقع، ومالم يفعل ذلك فإنه سيظل يعاني من أمية فكرية، حيث يمكن ان يصدر أحكاماً عمياء أو عوراء، ويتخذ قرارات عرجاء أو عوجاء، وقد تزيد هذه الأمور المسلمين وبالاً، وهو يظن أنه يحسن صنعاً وأنه يتقرب بها إلى الله، وكلما زادت اعداد هؤلاء تحولوا إلى أدوات تشد المجتمع المسلم إلى الخلف، معيقين حركته نحو التقدم، مانعين اشلاءه من التوحد.. إن الذين يقعون بين التهويل والتهوين في التعامل مع كثير من الظواهر والخصوم، إنما هو ضحية ضحالة معرفتهم بالواقع، ولماكان الآخر ( الغرب خاصة ) حاضراً اليوم بقوة في تشكيل حاضرنا فإن معرفته بعيداً عن التهويل أو التهوين من اساسيات فقه الواقع.
يقول عمر عبيد حسنة : إن معرفة مناهج ومعارف «الآخر» وخططه التنموية والإفادة منها، وتجنب عثراتها، فرض حضاري، وإسهام إنساني، وتفاعل تنموي في العطاء والأخذ وبناء المشترك الإنساني " «77». وحتى بدون هذا الأمر، فإن عالمية الإسلام، تفرض على المسلمين ان يكونوا شهداء على الناس، ومن ضرورات هذه الشهادة المعرفة الدقيقة بهؤلاء.
3. استهداف الوصول إلى الحكمة :
لم يمدح الله شيئاً أعطاه للإنسان مثلما مدح الحكمة، فهي الخير كله، إذ يستطيع صاحبها أن يفهم «الأفكار» كماهي، ويضعها في موقعها المناسب من منظومته الفكرية، ويستطيع أن يضع «الأفعال» في مواضعها الصحيحة، فلايزيد ولاينقص، ولايتقدم ولايتأخر، وبهذا المنهج فإنه يجمع خيري الدنيا والآخرة، ولذلك قال تعالى عنها " يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً " [البقرة : 169].
إن إعمال الإنسان عقله في النصوص، وفق منهج متكامل، يكسبه الفقه الذي لايمنحه الله إلا لمن يريد به خيراً في دينه ودنياه " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين " «78».
وإن إعمال الإنسان عقله في قراءة الواقع بطريقة ممنهجة، تجعله خبيراً بالمفهوم الحضاري للخبرة " ولاينبئك مثل خبير " [فاطر : 14].
وهكذا، فإن تحصيل الإنسان لهذين الأمرين يعطيه جناحين يستطيع بواسطتهما الارتفاع إلى آفاق الحكمة، بحيث يكون مسدداً في فكره وفعله، وربما كان هذا المفهوم سبب اقتران الحكمة بالكتاب في آيات عدة في القرآن، وقد أشار إلى ذلك عدد كبير من علماء المسلمين ممن لم يفسروا الحكمة في هذه الآيات بالسنة النبوية.
الخاتمة
الأمية الفكرية مسافة تنشأ بين الشخص والنص، وفجوة بينه وبين الواقع، حيث يضيق في تحصيل الفقه في تعامله مع النصوص ومع الوقائع، ومن ثم يضيق دائرة العبودية في حسه، لتصبح أقرب إلى العلاقة بينه وبين الله، بينما تخرج كثير من اصول عمارة الحياة ومفردات التعامل مع الناس من هذه الدائرة.
وإذا كان ضيق دائرة العبودية سببه ضيق دائرة الفكر والفقه، فإن الخروج من هذا التيه مرهون بمعالجة العقل لكي يستطيع استيعاب عبودية الله في (محراب الحياة )، وإذا اتسع مفهوم العبادة فإنه سيشمل الحياة بالاستعمار، وسيسع الناس بالأخلاق، وشعب الإيمان بالأداء غير المنقوص، وسيستهدف العالم بالشهادة والبلاغ المبين.
ولن يتم هذا الأمر إلا بتوسيع مساحات المعرفة الربانية المبصرة التي لاتفرق بين العلوم الشرعية والعلوم الوضعية، فكلها علوم إسلامية، مع العمل الحثيث لإصلاح مناهج التفكير، بحيث يتم تفعيلها من أجل التعامل الأمثل مع ( النصوص الدينية ) وتنزيلها بحكمة على ( الوقائع الدنيوية ) في مسيرة نقدس فيها ( الثوابت ) وتجدد ( المتغيرات )، وينتهي الاشتباك فيها بين العقل والنقل، ويفرق بين الابتداع والإبداع، وكذلك بين التقليد والاتباع، وتكون عمارة الدنيا الطريق لعمارة الآخرة، وإقامة حقوق الناس ثمرة لإقامة حقوق الله وهذا الأمر لو حدث كفيل باشعال فاعلية المسلمين التي انطفأت، لتشرق من جديد، منيرة مجاهل الحياة ودروب الإنسان، ومحققة له الطمأنينة النفسية والأمن الاجتماعي والرفاه الاقتصادي والحرية السياسية.
ولما كان تغيير ما بالناس، نتيجة لتغيير ما بالأنفس، فإن إشعال فاعلية الأمة لايمكن أن يتم مالم يوقد الشباب شموع عقولهم، فهم أمل المستقبل وجيل النصر المنشود.
وأوصي في نهاية هذه الدراسة بأن يركز العلماء على الدراسات التي تعنى بتقوية الشوكة الفكرية، وتوفر مناهج التحصين والتفعيل للشباب، وتلملم المفردات المعرفية برؤى كلية، تؤسلم المعرفة الوضعية وتعصرن المعرفة الشرعية، تستدعي المفيد من التراث إلى قلب العصر، وتستجلب الحكمة من أي جهة كانت.
وأوصي بتفعيل التعلم الذاتي، واقترح في هذا السياق إلى جانب ماطرح في البحث أن يتبنى المفكرون والعلماء تأليف كتابين حول العلم والوقت، يوضح فيهما بشمول وجلاء منهج الإسلام، ودور كل قيمة منها في إقامة الحضارة الإسلامية والحضارات الأخرى، بحيث يوفران الدافعية للطالب لاستثمار وقته والاجتهاد في طلب العلم كفريضة إسلامية، مهما يكن موقعه وتخصصيه، وحيث يقرر كمتطلبين دراسيين في المستوى الأول من كل التخصصات العلمية والإنسانية في الجامعات.
الهوامش:
(44) ازمة العقل المسلم . ص 221
(45) انظر : د. طه العلواني : إصلاح الفكر الإسلامي ( معظم صفحات الكتاب ) ود. أبو سليمان : أزمة العقل المسلم : ص 211-216، 224-229
(46) الحياة الربانية والعلم : ص 69
(47) انظر : د. القرضاوي : السنة مصدراً للمعرفة والحضارة ط4 ( القاهرة : دار الشروق، 1426 -2005)، ص 12-18
(48) نفسه : ص 135-141
(49) أ. د. بكار : مدخل إلى التنمية المتكاملة : ص 118. وانظر : ص55، 56
(50)د. أبو سليمان : أزمة العقل المسلم : ص 222
(51 ) انظر مثلاً : ابن القيم : إعلام الموقعين : 2/ص 121-193
(52) الدعاية السوداء هي اسلوب استخباري غربي يعمد إلى فكرة أو جهة يريد الترويج لها، من خلال إعلان حملة إعلامية ضدها لتلميعها عند الخصوم بهذه الطريقة، كمافعل الغرب مع مصطفى كمال أتاتورك، ممادفع بالكثير من العلماء للوقوع في الفخ والتعاطف معه آنذاك، قبل أن تتضح الحقائق، ولكن بعد أن يكون الفأس قد وقع في الرأس.
(53) مالك بن نبي : الصراع الفكري في البلاد المستعمرة «دمشق : دار الفكر، 1405-1985)، ص 126.
(54) تجديد الوعي : ص 69
(55) إعلام الموقعين : 3/ص5
(56) المرجع السابق : 3/ص 306، 307
(57 ) نفسه : 4/ص 307
(58) الفوائد تحقيق : عصام الدين الصبابطي .ط1 ( القاهرة : دار الحديث، 1424- 2003)، ص 209.
(59) انظر : الذريعة إلى مكارم الشريعة : ص 81
(60 ) انظر : الذريعة إلى مكارم الشريعة : ص 86
(61) انظر مثلاً : د. طه جابر العلواني : اصلاح الفكر الإسلامي : ص 72،75
(62) الفكر من المشاهدة إلى الشهود - دراسة نفسية اسلامية ط2 (هيردن - امريكا : المعهد العالمي للفكر الإسلامي، المنصورة - مصر : دار الوفاء، 1413- 1992)، ص 13
(63) نفسه : ص25
(64) نفسه : ص 41-53
(65) الذريعة إلى مكارم الشريعة : ص88
(66) أ. د. بكار : مدخل إلى التنمية المتكاملة : ص 334
(67)د. عبدالرحمن المالكي : مهارات التربية الإسلامية : ص 67-95
( 68) حول أنواع التفكير انظر : د. عوض القرني : حتى لاتكون كلاً : ص 93 -96
(69) حول تقنيات أنواع التفكير . انظر : أ. د. بكار : مدخل إلى التنمية المتكاملة : ص 87-103
(70) د. عبدالرحمن المالكي : مهارات التربية الإسلامية : ص95 -118.
(71) نفسه : ص 119 -128
(72) تجديد الوعي : ص 48
(73) سبق تخريجه.
(74) انظر : د. القرضاوي : الحياة الربانية والعلم : ص 121-126 الشاطبي : الموافقات : 1/ص 42-44.
(75) راجع : الراغب الاصفهاني : الذريعة إلى مكارم الشريعة : ص 236-238، فهمي هويدي : التدين المنقوص : ص 190، 191.
(76) أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة ص 13 (بيروت : مؤسسة الرسالة، 1412-1992)،ص 30
(77) من تقديمه لكتاب : د. حسن بن ابراهيم الهنداوي : التعليم وإشكالية التنمية : ص 11.
(78) سبق تخريجه.
No comments:
Post a Comment