Tuesday, January 23, 2024

لماذا تركت العراق؟

دروس من مدرسة الأمام عليّ(ع): في ذكرى ولادتهِ المَيمونةِ في [١٣] رجب الأَصب؛ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) خِطابٌ وسلوكٌ في ذكرى ولادتهِ المَيمونةِ في [١٣] رجب الأَصب؛ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) خِطابٌ وسلوكٌ [الجُزءُ الأَوَّلُ] برأيي فإِنَّ واحدةً من جوانبِ عظمةِ شخصيَّةِ أَميرِ المُؤمنينَ الإِمام علي بن أَبي طالبٍ (ع) المسكوتُ عنها، هو قدرتهُ النَّادرة والفريدة على تشخيصِ التَّحديَّاتِ بدقَّةٍ وتحديدِها في الزَّمانِ والمكانِ من جهةٍ، ومواجهتِها وعدمِ التهَرُّبِ منها بطريقةِ الإِستبدالِ مثلاً أَو التَّغافُلِ والإِنشغالِ عنها بذريعةٍ أَو بأُخرى، بالثَّانويَّاتِ أَو بالتَّوافهِ من الأُمورِ من جهةٍ ثانيةٍ، وثباتِ الشخصيَّةِ على القِيَمِ والمبادئِ وعدم التغيُّر والتبدُّل بحِجَجِ [الغايةِ تُبرِّر الوسِيلة] مثلاً من جهةٍ ثالثةٍ. ولقد علَّمنا (ع) كيف نُحدِّد الأَولويَّاتِ وكيفَ نستعدَّ لكُلٍ أَولويَّةٍ، نفسيّاً ومعنويّاً وماديّاً، لنكونَ على استعدادٍ باستمرارٍ للتَّعامُلِ معها بِلا ضعفٍ أَو هوانٍ أَو حتَّى تكبُّرٍ وسطَوةٍ. لقد ظلَّ (ع) خطابهُ يتطابق معَ سلُوكهِ وسلوكهُ معَ خطابهِ في كُلِّ الظُّروفِ والتحدِّياتِ والمُنعطفاتِ وفي كُلِّ المواقعِ التي شغلَها مهما عظُمت خطورتَها أَو سهُلَ مِراسها، وهذا من مواطنِ الصِّدقِ كما وصفَهُ (ع) بقولهِ {فَلَمَّا رَأَى اللَّه صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ وأَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصْرَ حَتَّى اسْتَقَرَّ الإِسْلَامُ مُلْقِياً جِرَانَه ومُتَبَوِّئاً أَوْطَانَه} إِنَّهُ علَّمنا كيفَ نُحوِّلُ الشِّعارَ إِلى سلُوكٍ، والخِطابَ إِلى مشرُوعٍ، والكلامَ إِلى فعلٍ. ليسَ هذا فحسْب وإِنَّما علَّمنا أَن لا يكونَ لكلامِنا فضلٌ على سلوكِنا ولتنظيراتِنا وخطاباتِنا فضلٌ على إِلتزاماتِنا. يقولُ (ع) يصفُ صاحب الإِيمان {الإِيمَانُ أَنْ تُؤْثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ عَلَى الْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ وأَلَّا يَكُونَ فِي حَدِيثِكَ فَضْلٌ عَنْ عَمَلِكَ وأَنْ تَتَّقِيَ اللَّه فِي حَدِيثِ غَيْرِكَ}. ولمَّا كانَ (ع) هوَ الإِيمانُ كلُّهُ كما وصفهُ رسولُ الله (ص) في يومِ الخندقِ عندما برزَ لعدوِّ الله عمرُو بن ودِّ العامري، لذلكَ لم نلحظ أَبداً فضلاً لحديثهِ عن عملهِ وسلوكهِ وعلى كُلِّ المُستويات، وهوَ القائِلُ (ع) {أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي واللَّه مَا أَحُثُّكُمْ عَلَى طَاعَةٍ إِلَّا وأَسْبِقُكُمْ إِلَيْهَا ولَا أَنْهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَةٍ إِلَّا وأَتَنَاهَى قَبْلَكُمْ عَنْهَا} فهوَ القُدوة والأُسوة والنُّموذج في الخطابِ والسُّلوكِ، وفي الكلامِ والعملِ، لم يُحرِّض ثُمَّ يتخلَّف ولم يُشجِّع الآخرينَ بحماسةٍ مُنقطعةٍ ثُمَّ يجلِسُ على التلِّ يتفرَّج!. إِنَّ قاعدةَ التَّطابُقِ هذهِ هي المِعيار الوحيد الذي حدَّدهُ لنا الإِمام (ع) لتمييزِ الصَّادقِ من الكاذبِ، والمُؤمنِ من المُنافق، والمُضحِّي من أَجلِ الآخرين مِمَّن يُضحِّي بالآخرين من أَجلِ نفسهِ!. إِنَّ عليّاً (ع) صاحبُ القِيمِ والمناقبِ والمبادئِ هو نفسهُ لم يتغيَّر في كُلِّ الظُّروفِ والأَحوالِ مهما قسَت عليهِ أَو ثُنيت لهُ الوِسادة. فلم تُغيِّرهُ العَناوين ولم تُؤَثِّر على قراراتهِ المناصب والمواقِع أَبداً. ومن أَجلِ أَن يكونَ كذلكَ رفضَ رفضاً قاطعاً أَن يلتفَّ حولهُ الذُّيولُ والأَبواقُ والإِمَّعات والمُصفِّقُونَ، فكانَ (ع) صارِماً في رفضِ كُلِّ مظاهر القداسةِ المُزيَّفةِ والتَّعظيمِ المُصطَنعِ وعبادةِ الشخصيَّةِ ومُحاولاتِ صِناعةِ الدِّيكتاتور والصَّنميَّة فلقد قَالَ (ع) وقَدْ لَقِيَه عِنْدَ مَسِيرِه إِلَى الشَّامِ دَهَاقِينُ الأَنْبَارِ فَتَرَجَّلُوا لَه واشْتَدُّوا بَيْنَ يَدَيْه فَقَالَ؛ مَا هَذَا الَّذِي صَنَعْتُمُوه؟ فَقَالُوا؛ خُلُقٌ مِنَّا نُعَظِّمُ بِه أُمَرَاءَنَا فَقَالَ؛ واللَّه مَا يَنْتَفِعُ بِهَذَا أُمَرَاؤُكُمْ! وإِنَّكُمْ لَتَشُقُّونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ وتَشْقَوْنَ بِه فِي آخِرَتِكُمْ، ومَا أَخْسَرَ الْمَشَقَّةَ وَرَاءَهَا الْعِقَابُ وأَرْبَحَ الدَّعَةَ مَعَهَا الأَمَانُ مِنَ النَّارِ!}. حتَّى السُّلطة والحُكم والإِمرة لم يشأ أَن يمنَحها ذرَّةً من القُدسيَّةِ المُزيَّفة والهالةِ المُصطنَعةِ حتَّى لا تتغوَّل فتتحوَّل من وسيلةٍ طاهِرةٍ إِلى هدفٍ قذِرٍ يتقاتلُ عليها الرِّجال فتُذَلَّ أَسماءٌ وتسيلَ بسببِها الدِّماءُ وتُنتَهكُ الأَعراضُ، ومن أَداةٍ لإِقامةِ الحقِّ والعدلِ إِلى آلةٍ للبطش والتجبُّرِ والإِستبدادِ، فقالَ (ع) مرَّةً {أَمَا والَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْ لَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ ومَا أَخَذَ اللَّه عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ ولَا سَغَبِ مَظْلُومٍ لأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا ولَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا ولأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِه أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ!}. ويقولُ عَبْدُ اللَّه بْنُ عَبَّاسِ؛ دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) بِذِي قَارٍ وهُوَ يَخْصِفُ نَعْلَه فَقَالَ لِي؛ مَا قِيمَةُ هَذَا النَّعْلِ؟ فَقُلْتُ؛ لَا قِيمَةَ لَهَا! فَقَالَ (ع)؛ واللَّه لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ إِلَّا أَنْ أُقِيمَ حَقّاً أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلًا. وهوَ القائِلُ {أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ حَقّاً عَلَى الْوَالِي أَلَّا يُغَيِّرَهُ عَلَى رَعِيَّتِه فَضْلٌ نَالَهُ ولَا طَوْلٌ خُصَّ بِه وأَنْ يَزِيدَهُ مَا قَسَمَ اللَّه لَه مِنْ نِعَمِهِ دُنُوّاً مِنْ عِبَادِه وعَطْفاً عَلَى إِخْوَانِه} وقولهُ في عهدهِ للأَشترِ {وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ والْمَحَبَّةَ لَهُمْ واللُّطْفَ بِهِمْ ولَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ}. وعندما أَرادهُ النَّاسٌ للخلافةِ بعدَ مقتلِ عُثمان، لم يُبدِ ما يبدو من [الرِّجال] المُتهالكُونَ على السُّلطةِ فهوَ لم يُصَانِعُ ولَا يُضَارِعُ ولَا يَتَّبِعُ الْمَطَامِعَ، وإِنَّما قالَ ما يُعبِّرُ عن المبدأ والأَخلاق والثِّقةِ بالنَّفسِ واليقينِ بالمنهجِ والزُّهدِ بالسُّلطةِ والتَّعامُلِ معها بمسؤُوليَّةٍ وصدقٍ. فلقد قالَ (ع) {دَعُونِي والْتَمِسُوا غَيْرِي فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَه وُجُوهٌ وأَلْوَانٌ لَا تَقُومُ لَه الْقُلُوبُ ولَا تَثْبُتُ عَلَيْه الْعُقُولُ وإِنَّ الآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ والْمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ واعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ ولَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وعَتْبِ الْعَاتِبِ وإِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ ولَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ وأَطْوَعُكُمْ لِمَنْ وَلَّيْتُمُوه أَمْرَكُمْ وأَنَا لَكُمْ وَزِيراً خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيراً!}. رفضَ أَن يتمسكَنَ ليتمكَّن! ورفضَ أَن يسترضي أَحداً على حسابِ مبادئهِ ليضمِنَ الخلافة ثمَّ بعدَ ذلكَ [لكُلِّ حادثٍ حديثٍ]!. كانَ واضِحٌ قبلَ أَن يُستَخلفَ وعندَ استِخلافهِ وبعدَ أَن استُخلِفَ! رافضاً أَن يشترِطَ عليهِ أَحدٌ شيئاً على حسابِ الحقِّ والعدلِ والإِنصافِ. في ذكرى ولادتهِ المَيمونةِ في [١٣] رجب الأَصب؛ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) تحطِيمُ القُدسيَّةِ المُزيَّفة [الجُزءُ الثَّاني] كانَ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) يسعى جاهداً، وبكُلِّ سبُلِ المعرفةِ، لتحطيمِ الحجُبِ والجدُرِ والسُّدود التي تضعَها السُّلطة بينَ الحاكمِ والرعيَّة لرسمِ هالةٍ من القَداسةِ المُزيَّفةِ وكأَنَّ الحاكِم نِصفُ إِلهٍ أَو أَنَّهُ ظِلُّ الله في الأَرضِ فتمنحهُ من الأَلقابِ مالا يُعَدُّ ولا يُحصى! لتحميهِ من الرَّقابةِ والنَّقدِ ورُبما الإِزاحةِ عن السُّلطةِ إِذا ظلَّ مُصِرّاً على خطئهِ بحقِّ الأُمَّة أَو على فسادهِ وفشلهِ، فكتبَ لعاملهِ إِبن عبَّاس يوصِيه {سَعِ النَّاسَ بِوَجْهِكَ ومَجْلِسِكَ وحُكْمِكَ وإِيَّاكَ والْغَضَبَ فَإِنَّهُ طَيْرَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ واعْلَمْ أَنَّ مَا قَرَّبَكَ مِنَ اللَّه يُبَاعِدُكَ مِنَ النَّارِ ومَا بَاعَدَكَ مِنَ اللَّه يُقَرِّبُكَ مِنَ النَّارِ}. كما كتبَ للأَشترِ في عهدهِ لمَّا ولَّاهُ مِصر {واجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيه شَخْصَكَ وتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً فَتَتَوَاضَعُ فِيه لِلَّه الَّذِي خَلَقَكَ وتُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وشُرَطِكَ حَتَّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه (ص) يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ «لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لَا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّه مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ » ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ مِنْهُمْ والْعِيَّ ونَحِّ عَنْهُمُ الضِّيقَ والأَنَفَ يَبْسُطِ اللَّه عَلَيْكَ بِذَلِكَ أَكْنَافَ رَحْمَتِه ويُوجِبْ لَكَ ثَوَابَ طَاعَتِه وأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَ هَنِيئاً وامْنَعْ فِي إِجْمَالٍ وإِعْذَارٍ!}. ولقد سعى (ع) لإِسقاطِ ظاهِرةِ الإِكتفاءِ بالأَلقابِ والنَّياشينِ [الفخمةِ] التي يتستَّر بها الحاكِم كرصيدٍ يكفيهِ للإِستمرارِ في السُّلطةِ من دونِ إِنجازٍ فيقُولُ {أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ولَا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِه الدَّهْرِ أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ! فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلَافِهَا وتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا أَوْ أُتْرَكَ سُدًى أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلَالَةِ أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِيقَ الْمَتَاهَةِ!}. وكانَ (ع) يُكرِّر على مسامعِ الرعيَّة ليُكرِّس في ذهنِها فلسَفة السُّلطة فلا يظُننَّ أَحدٌ أَنَّها مغنَمٌ أَو ميزةٌ تُميِّز الحاكِم عن غيرهِ قائِلاً {الذَّلِيلُ عِنْدِي عَزِيزٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ لَه والْقَوِيُّ عِنْدِي ضَعِيفٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْه}. كما أَنَّهُ (ع) كانَ يكرهُ أَن يرى الذينَ يلتفُّونَ مِن حولهِ جيشٌ من الجهَلةِ والأُميِّين والمُغفَّلينَ والمُطبِّلينَ والإِمَّعاتِ والذُّيُولِ والنَّفعيِّينَ و [المِهوال] والقافلينَ! ممَّن {لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} حتَّى أَنَّهُ كانَ يعيبُ على أَهلِ الشَّامِ كَونَهُم ضحايا الجهل والتَّضليلِ قائلاً {أَلَا وإِنَّ مُعَاوِيَةَ قَادَ لُمَةً مِنَ الْغُوَاةِ وعَمَّسَ عَلَيْهِمُ الْخَبَرَ حَتَّى جَعَلُوا نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَ الْمَنِيَّةِ}. فكانَ (ع) يحرصُ على أَن تكونَ المعلومة الصَّحيحة والصَّادقة في مُتناوَلِ اليدِ يصِلُ لها ويحصلُ عليها كُلُّ مَن يسعى إِليها ليبني موقِفهُ السَّليم من الأَحداث والتطوُّراتِ فلا يُستَغفلُ أَو يُضلَّلُ فيُركَبُ ظهرهُ أَو يُحلَبُ ضرعهُ! قائلاً {أَلَا وإِنَّ لَكُمْ عِنْدِي أَلَّا أَحْتَجِزَ دُونَكُمْ سِرّاً إِلَّا فِي حَرْبٍ ولَا أَطْوِيَ دُونَكُمْ أَمْراً إِلَّا فِي حُكْمٍ ولَا أُؤَخِّرَ لَكُمْ حَقّاً عَنْ مَحَلِّه ولَا أَقِفَ بِه دُونَ مَقْطَعِه وأَنْ تَكُونُوا عِنْدِي فِي الْحَقِّ سَوَاءً فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ وَجَبَتْ لِلَّه عَلَيْكُمُ النِّعْمَةُ ولِي عَلَيْكُمُ الطَّاعَةُ وأَلَّا تَنْكُصُوا عَنْ دَعْوَةٍ ولَا تُفَرِّطُوا فِي صَلَاحٍ وأَنْ تَخُوضُوا الْغَمَرَاتِ إِلَى الْحَقِّ فَإِنْ أَنْتُمْ لَمْ تَسْتَقِيمُوا لِي عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِمَّنِ اعْوَجَّ مِنْكُمْ ثُمَّ أُعْظِمُ لَه الْعُقُوبَةَ ولَا يَجِدُ عِنْدِي فِيهَا رُخْصَةً فَخُذُوا هَذَا مِنْ أُمَرَائِكُمْ وأَعْطُوهُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ مَا يُصْلِحُ اللَّه بِه أَمْرَكُمْ}. ولقد حدَّدَ لنا أَميرُ المُؤمنينَ (ع) مقوِّمات النَّجاح لنتجنَّبَ عوامل الفشَل، وعلى المُستويَينِ؛ مُستوى الفَرد ومُستوى الجَماعة، وأَهمَّها؛ أَوَّلاً؛ الإِلتزام بقاعدةِ [الرَّجل المُناسب في المكانِ المُناسب] قائِلاً في عهدهِ للأَشترِ لمَّا ولَّاهُ مِصر {ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً ولَا تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وأَثَرَةً فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ والْخِيَانَةِ وتَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ والْحَيَاءِ}. ويضيفُ (ع) مُذكِّراً بأَهمِّ وأَبرزِ الصِّفاتِ التي يجب أَن يتحلَّى بها [المسؤُول] لتصدُقَ عليهِ القاعدة {ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ مِمَّنْ لَا تَضِيقُ بِه الأُمُورُ ولَا تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ ولَا يَتَمَادَى فِي الزَّلَّةِ ولَا يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْءِ إِلَى الْحَقِّ إِذَا عَرَفَه ولَا تُشْرِفُ نَفْسُه عَلَى طَمَعٍ ولَا يَكْتَفِي بِأَدْنَى فَهْمٍ دُونَ أَقْصَاه وأَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ وآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ وأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ وأَصْبَرَهُمْ عَلَى تَكَشُّفِ الأُمُورِ وأَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْمِ مِمَّنْ لَا يَزْدَهِيه إِطْرَاءٌ ولَا يَسْتَمِيلُه إِغْرَاءٌ}. وهي وصفةٌ دقيقةٌ وعظيمةٌ مزجَ فيها (ع) الصِّفات الماديَّة والمعنويَّة والنفسيَّة المطلُوبة التي تُنتج الشخصيَّة المسؤُولة القادِرة على الإِنجازِ والنَّجاحِ كُلٌّ حسبَ موقعهِ وصلاحيَّاتهِ وواجباتهِ. هي وصفةٌ سحريَّةٌ تصنعُ [رجلَ الدَّولة] القادِر على القِيادة، وبعكسِها صفاتٌ تُنتِجُ [رَجل السُّلطة والنُّفوذ] على حسابِ الدَّولةِ والمُجتمعِ!. ثانياً؛ عدم المُساواة بينَ النَّاجحِ والفاشلِ، بينَ النَّزيهِ والفاسدِ، بينَ الذي يتميَّز بالتَّحلِّي بروحِ المسؤُوليَّة واللَّاأُبالي المُتهاون، بينَ الحريصِ على كُلِّ ما يكونُ مسؤُولاً عنهُ من مالٍ وعِقارٍ ومصالح، خاصَّةً ما تخصُّ الدَّولة وبينَ العابثِ بها غَير المُكترِث بالصَّالحِ العام! وهذهِ واحدةٌ من أَخطر الأَمراض التي تُصابُ بها الأُمم فتنتهي بها إِلى الفشَل، ولذلكَ حذَّر منهُ القرآن الكريم بقولهِ {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} فربطَ بين بخسِ النَّاس أَشياءهُم والفسادِ في الأَرضِ. يقولُ (ع) في عهدهِ للأَشترِ {ولَا يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ والْمُسِيءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَزْهِيداً لأَهْلِ الإِحْسَانِ فِي الإِحْسَانِ وتَدْرِيباً لأَهْلِ الإِسَاءَةِ عَلَى الإِسَاءَةِ وأَلْزِمْ كُلاًّ مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَه}. وأَسوأُ من ذلكَ عندما تسرِق جُهدَ زيدٍ النَّاجح وتسجِّلهُ باسمِ عمرُو الفاشِل، مُحاباةً أَو لعلاقاتٍ ومصالِحَ خاصَّة تربُطك بهِ! أَو أَن تُصادر إِنجازات الآخرين لتُسجِّلها باسمِكَ، فتِلكَ هي اللُّصوصيَّة بأَقبحِ عناوينِها. يقولُ (ع) {ثُمَّ اعْرِفْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا أَبْلَى ولَا تَضُمَّنَّ بَلَاءَ امْرِئٍ إِلَى غَيْرِه ولَا تُقَصِّرَنَّ بِه دُونَ غَايَةِ بَلَائِه ولَا يَدْعُوَنَّكَ شَرَفُ امْرِئٍ إِلَى أَنْ تُعْظِمَ مِنْ بَلَائِه مَا كَانَ صَغِيراً ولَا ضَعَةُ امْرِئٍ إِلَى أَنْ تَسْتَصْغِرَ مِنْ بَلَائِه مَا كَانَ عَظِيماً}. ألجزء الثالث : [الجُزءُ الثَّالث والأَخير] أَميرُ المُؤمنينَ (ع) خارِطةُ الطَّريقِ لمدِّ جسُورِ الثِّقةِ [الجُزءُ الثَّالث] ثالِثُ مُقوِّماتِ النَّجاحِ؛ التَّدقيقُ في اختيارِ المُستشارِ والبِطانة، فقبلَ أَن تستشيرَ أَحداً لأَيِّ أَمرٍ كانَ، شخصيّاً كانَ أَو عامّاً، يلزمكَ أَن تُدقِّق في هويَّة المُستشار وخلفيتهِ وسجلِّهِ الإِستشاري ورجاحةِ عقلهِ وشجاعتهِ في الإِدلاءِ بأَفضلِ آرائهِ ورُآهُ خاصَّةً إِذا كنتَ مُصمِّمٌ على الإِلتزامِ برأيهِ، فاستشارةٌ واحدةٌ قد تأخذكَ إِلى الهاويةِ أَو إِلى القمَّةِ، ولذلكَ لا ينبغي لعاقلٍ أَن يستشيرَ كُلَّ مَن هبَّ ودبَّ وكأَنَّهُ يريدُ أَن يُسقِطَ الواجبِ عن نفسهِ أَو أَنَّهُ يُريدُ سدَّ ذرائعَ لومِ النَّاس وقطعِ أَلسنتهِم. إِنَّ المُستشارَ شريكُكَ في النَّجاحِ والفشلِ فانظُر لِمَن تمنحهُ ثقتكَ قبل أَن تختارهُ شريكٌ لكَ بالإِستشارةِ! ليكُونَ قدرَ الإِمكانِ مصداقٌ لوصفِ أَميرِ المُؤمنينَ (ع) عندما أَوصى لولدهِ الحسَن السِّبطِ (ع) بقَولهِ {فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ نَخِيلَهُ وتَوَخَّيْتُ لَكَ جَمِيلَهُ وصَرَفْتُ عَنْكَ مَجْهُولَهُ}. إِنَّكَ تُشارِكهُ عقلهُ كما يقُولُ (ع) {مَنْ شَاوَرَ الرِّجَالَ شَارَكَهَا فِي عُقُولِهَا} فانظُر أَيَّ نَوعٍ من العقُولِ تُشارك؟!. يقولُ (ع) {ولَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلًا يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ ويَعِدُكَ الْفَقْرَ ولَا جَبَاناً يُضْعِفُكَ عَنِ الأُمُورِ ولَا حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَه بِالْجَوْرِ فَإِنَّ الْبُخْلَ والْجُبْنَ والْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّه}. واحذر أَن تبني علاقاتكَ مع البِطانة على قاعدةِ الطَّمع، فمثلُ هؤُلاء المستشارينَ سيبيعُونَ لكَ آراءهُم بمعسُولِ الكلامِ لإِرضائكَ وليسَ لمُساعدتِكَ في اتِّخاذِ القرارِ السَّليمِ وتوسيعِ آفاقِ تفكيرِكَ، وأَنَّ استشارتهُم حسبَ الطَّلب وبما يُساوي قيمة الدَّفع، وأَنَّ مثلَ هؤُلاء لا ينفعونكَ في شيءٍ أَبداً فهُم أَسوأُ أَنواع البِطانة. يقولُ (ع) {ثُمَّ إِنَّ لِلْوَالِي خَاصَّةً وبِطَانَةً فِيهِمُ اسْتِئْثَارٌ وتَطَاوُلٌ وقِلَّةُ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ فَاحْسِمْ مَادَّةَ أُولَئِكَ بِقَطْعِ أَسْبَابِ تِلْكَ الأَحْوَالِ ولَا تُقْطِعَنَّ لأَحَدٍ مِنْ حَاشِيَتِكَ وحَامَّتِكَ قَطِيعَةً ولَا يَطْمَعَنَّ مِنْكَ فِي اعْتِقَادِ عُقْدَةٍ تضُرُّ بِمَنْ يَلِيهَا مِنَ النَّاسِ فِي شِرْبٍ أَوْ عَمَلٍ مُشْتَرَكٍ يَحْمِلُونَ مَئُونَتَه عَلَى غَيْرِهِمْ فَيَكُونَ مَهْنَأُ ذَلِكَ لَهُمْ دُونَكَ وعَيْبُه عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ}. ولقد رسمَ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) خارطةَ طريقٍ مُهمَّةٍ لبناءِ مُجتمعٍ قويٍّ ومُتماسك تعتمِدُ على مُقوِّمَينِ أَساسيَّينِ هُما حجَر الزَّاوية في البناءِ؛ الأَوَّل؛ هوَ التَّكافُل الإِجتماعي للقضاءِ أَو على الأَقلِّ لتقليصِ فَجوَة الطبقيَّة الإِجتماعيَّة التي تُقسِّم المُجتمع إِلى فِئتَينِ، غنيَّةٌ تتمتَّع بكُلِّ الخَيرات التي سخَّرها الله تعالى لعبادهِ، وفقيرةٌ لا تتمتَّع بشيءٍ منها. إِنَّ قُوَّة المُجتمع وتماسكهُ تتناسب تناسُباً عكسيّاً مع حجمِ الطبقيَّة فكُلَّما تقلَّص حجمُ المساحةِ كلَّما اشتدَّ تماسُك المُجتمع والعكسُ هوَ الصَّحيح فكُلَّما اتَّسعت كُلَّما ضعُفَ تماسُك المُجتمع وانهارَت دعائِمهُ. وهوَ (ع) أَوَّل من شرَّع قانون شبكة الحِماية الإِجتماعيَّة، عندما كتبَ في عهدهِ للأَشتر {ثُمَّ اللَّه اللَّه فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لَا حِيلَةَ لَهُمْ مِنَ الْمَسَاكِينِ والْمُحْتَاجِينَ وأَهْلِ الْبُؤْسَى والزَّمْنَى فَإِنَّ فِي هَذِه الطَّبَقَةِ قَانِعاً ومُعْتَرّاً واحْفَظِ لِلَّه مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّه فِيهِمْ واجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِكِ وقِسْماً مِنْ غَلَّاتِ صَوَافِي الإِسْلَامِ فِي كُلِّ بَلَدٍ فَإِنَّ لِلأَقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلأَدْنَى وكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّه ولَا يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ فَإِنَّكَ لَا تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِكَ التَّافِه لإِحْكَامِكَ الْكَثِيرَ الْمُهِمَّ فَلَا تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ ولَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ وتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لَا يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُه الْعُيُونُ وتَحْقِرُه الرِّجَالُ فَفَرِّغْ لأُولَئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ والتَّوَاضُعِ فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِمْ بِالإِعْذَارِ إِلَى اللَّه يَوْمَ تَلْقَاه فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ بَيْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَى الإِنْصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ وكُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَى اللَّه فِي تَأْدِيَةِ حَقِّه إِلَيْه وتَعَهَّدْ أَهْلَ الْيُتْمِ وذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ مِمَّنْ لَا حِيلَةَ لَه ولَا يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَه وذَلِكَ عَلَى الْوُلَاةِ ثَقِيلٌ والْحَقُّ كُلُّه ثَقِيلٌ وقَدْ يُخَفِّفُه اللَّه عَلَى أَقْوَامٍ طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ ووَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللَّه لَهُمْ}. الثَّاني؛ هوَ تشييدِ جسُور الثِّقة بينَ الدَّولة ومُؤَسَّساتها من جهةٍ والمُجتمعِ من جهةٍ أُخرى، أَي بينَ الرَّاعي والرعيَّة، فكُلَّما كانت العِلاقة بينهُما سليمةً وصحيحةً لا يشوبها الشَّك والشُّبهة والتَّنافُر والتَّباعُد والقطيعَة، كُلَّما قوِيت أَركان الدَّولة واستقرَّ المُجتمع الذي سيُدافع عنها ويحميها فتتمَظهر قيمَة المُواطنة والرُّوح الوطنيَّة بشَكلٍ واضحٍ وراسخٍ. وإٍنَّ من أَبرزِ أَدوات بناءِ هذهِ الجسُور هي الشفافيَّة والوضُوح والصَّراحة والصِّدق التي يجب أَن تتعاملَ بها الدَّولة ومُؤَسَّساتِها معَ الرَّأي العام، فلا تكذِب عليهِ ولا تخدعهُ ولا تُضلِّلهُ ولا تتستَّر على فسادِها وفشلِها بالذُّبابِ الإِليكتروني الذي شُغلهُ قلب الحقائِق وتغييرِ الوقائعِ. يقولُ (ع) {وإِنْ ظَنَّتِ الرَّعِيَّةُ بِكَ حَيْفاً فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ واعْدِلْ عَنْكَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِكَ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ رِيَاضَةً مِنْكَ لِنَفْسِكَ ورِفْقاً بِرَعِيَّتِكَ وإِعْذَاراً تَبْلُغُ بِه حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ عَلَى الْحَقِّ}. كما أَنَّ استئثارَ الحاكِم وعشيرتهِ ومُحازبيه وبِطانتهِ بكلِّ ما النَّاسُ فيهِ أُسوَةٌ مثلَ فُرص التَّعليم والعمَل والصحَّة والأَمن وخَيرات البِلاد وإِمكانيَّاتِ الدَّولة وكُلَّ ما سخَّرهُ الله تعالى لعبادهِ، لا يُساهِمُ في مدِّ جسورِ الثِّقةِ تلكَ ولا يُساهِمُ في استقرارِ الدَّولةِ، ولذلكَ حذَّرَ (ع) مالكاً من ذلكَ بقَولهِ في عهدهِ لهُ {وإِيَّاكَ والِاسْتِئْثَارَ بِمَا النَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ}. أَمَّا إِذا كانَ المسؤُولُ بمثلِ النُّموذج التَّالي الذي يصفهُ لنا أَميرُ المُؤمنينَ (ع) فبالتَّأكيدِ لا يمكنُ بهِ بناءَ جسُور الثِّقة بينَ الحاكمِ والمحكُومِ وبالتَّالي لا يُمكنُ أَن نتصوَّرَ بوجُودهِ [دَولةً] قويَّةً ومُتماسِكةً. يصفُ (ع) هذا النُّموذج السيِّء من الحُكَّامِ والمسؤُولينَ بقولهِ {عَجَباً لِابْنِ النَّابِغَةِ! يَزْعُمُ لأَهْلِ الشَّامِ أَنَّ فِيَّ دُعَابَةً وأَنِّي امْرُؤٌ تِلْعَابَةٌ أُعَافِسُ وأُمَارِسُ! لَقَدْ قَالَ بَاطِلًا ونَطَقَ آثِماً, أَمَا وشَرُّ الْقَوْلِ الْكَذِبُ، إِنَّه لَيَقُولُ فَيَكْذِبُ و يَعِدُ فَيُخْلِفُ ويُسْأَلُ فَيَبْخَلُ ويَسْأَلُ فَيُلْحِفُ ويَخُونُ الْعَهْدَ ويَقْطَعُ الإِلَّ فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْحَرْبِ فَأَيُّ زَاجِرٍ وآمِرٍ هُوَ! مَا لَمْ تَأْخُذِ السُّيُوفُ مَآخِذَهَا فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَانَ أَكْبَرُ مَكِيدَتِه أَنْ يَمْنَحَ الْقَرْمَ سَبَّتَه! أَمَا واللَّه إِنِّي لَيَمْنَعُنِي مِنَ اللَّعِبِ ذِكْرُ الْمَوْتِ وإِنَّه لَيَمْنَعُه مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ نِسْيَانُ الآخِرَةِ إِنَّه لَمْ يُبَايِعْ مُعَاوِيَةَ حَتَّى شَرَطَ أَنْ يُؤْتِيَه أَتِيَّةً ويَرْضَخَ لَه عَلَى تَرْكِ الدِّينِ رَضِيخَةً}. بِئسَ النُّموذج القَبيح.

دروس من مدرسة الأمام عليّ(ع) :

دروس من مدرسة الأمام عليّ(ع): في ذكرى ولادتهِ المَيمونةِ في [١٣] رجب الأَصب؛ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) خِطابٌ وسلوكٌ في ذكرى ولادتهِ المَيمونةِ في [١٣] رجب الأَصب؛ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) خِطابٌ وسلوكٌ [الجُزءُ الأَوَّلُ] برأيي فإِنَّ واحدةً من جوانبِ عظمةِ شخصيَّةِ أَميرِ المُؤمنينَ الإِمام علي بن أَبي طالبٍ (ع) المسكوتُ عنها، هو قدرتهُ النَّادرة والفريدة على تشخيصِ التَّحديَّاتِ بدقَّةٍ وتحديدِها في الزَّمانِ والمكانِ من جهةٍ، ومواجهتِها وعدمِ التهَرُّبِ منها بطريقةِ الإِستبدالِ مثلاً أَو التَّغافُلِ والإِنشغالِ عنها بذريعةٍ أَو بأُخرى، بالثَّانويَّاتِ أَو بالتَّوافهِ من الأُمورِ من جهةٍ ثانيةٍ، وثباتِ الشخصيَّةِ على القِيَمِ والمبادئِ وعدم التغيُّر والتبدُّل بحِجَجِ [الغايةِ تُبرِّر الوسِيلة] مثلاً من جهةٍ ثالثةٍ. ولقد علَّمنا (ع) كيف نُحدِّد الأَولويَّاتِ وكيفَ نستعدَّ لكُلٍ أَولويَّةٍ، نفسيّاً ومعنويّاً وماديّاً، لنكونَ على استعدادٍ باستمرارٍ للتَّعامُلِ معها بِلا ضعفٍ أَو هوانٍ أَو حتَّى تكبُّرٍ وسطَوةٍ. لقد ظلَّ (ع) خطابهُ يتطابق معَ سلُوكهِ وسلوكهُ معَ خطابهِ في كُلِّ الظُّروفِ والتحدِّياتِ والمُنعطفاتِ وفي كُلِّ المواقعِ التي شغلَها مهما عظُمت خطورتَها أَو سهُلَ مِراسها، وهذا من مواطنِ الصِّدقِ كما وصفَهُ (ع) بقولهِ {فَلَمَّا رَأَى اللَّه صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ وأَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصْرَ حَتَّى اسْتَقَرَّ الإِسْلَامُ مُلْقِياً جِرَانَه ومُتَبَوِّئاً أَوْطَانَه} إِنَّهُ علَّمنا كيفَ نُحوِّلُ الشِّعارَ إِلى سلُوكٍ، والخِطابَ إِلى مشرُوعٍ، والكلامَ إِلى فعلٍ. ليسَ هذا فحسْب وإِنَّما علَّمنا أَن لا يكونَ لكلامِنا فضلٌ على سلوكِنا ولتنظيراتِنا وخطاباتِنا فضلٌ على إِلتزاماتِنا. يقولُ (ع) يصفُ صاحب الإِيمان {الإِيمَانُ أَنْ تُؤْثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ عَلَى الْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ وأَلَّا يَكُونَ فِي حَدِيثِكَ فَضْلٌ عَنْ عَمَلِكَ وأَنْ تَتَّقِيَ اللَّه فِي حَدِيثِ غَيْرِكَ}. ولمَّا كانَ (ع) هوَ الإِيمانُ كلُّهُ كما وصفهُ رسولُ الله (ص) في يومِ الخندقِ عندما برزَ لعدوِّ الله عمرُو بن ودِّ العامري، لذلكَ لم نلحظ أَبداً فضلاً لحديثهِ عن عملهِ وسلوكهِ وعلى كُلِّ المُستويات، وهوَ القائِلُ (ع) {أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي واللَّه مَا أَحُثُّكُمْ عَلَى طَاعَةٍ إِلَّا وأَسْبِقُكُمْ إِلَيْهَا ولَا أَنْهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَةٍ إِلَّا وأَتَنَاهَى قَبْلَكُمْ عَنْهَا} فهوَ القُدوة والأُسوة والنُّموذج في الخطابِ والسُّلوكِ، وفي الكلامِ والعملِ، لم يُحرِّض ثُمَّ يتخلَّف ولم يُشجِّع الآخرينَ بحماسةٍ مُنقطعةٍ ثُمَّ يجلِسُ على التلِّ يتفرَّج!. إِنَّ قاعدةَ التَّطابُقِ هذهِ هي المِعيار الوحيد الذي حدَّدهُ لنا الإِمام (ع) لتمييزِ الصَّادقِ من الكاذبِ، والمُؤمنِ من المُنافق، والمُضحِّي من أَجلِ الآخرين مِمَّن يُضحِّي بالآخرين من أَجلِ نفسهِ!. إِنَّ عليّاً (ع) صاحبُ القِيمِ والمناقبِ والمبادئِ هو نفسهُ لم يتغيَّر في كُلِّ الظُّروفِ والأَحوالِ مهما قسَت عليهِ أَو ثُنيت لهُ الوِسادة. فلم تُغيِّرهُ العَناوين ولم تُؤَثِّر على قراراتهِ المناصب والمواقِع أَبداً. ومن أَجلِ أَن يكونَ كذلكَ رفضَ رفضاً قاطعاً أَن يلتفَّ حولهُ الذُّيولُ والأَبواقُ والإِمَّعات والمُصفِّقُونَ، فكانَ (ع) صارِماً في رفضِ كُلِّ مظاهر القداسةِ المُزيَّفةِ والتَّعظيمِ المُصطَنعِ وعبادةِ الشخصيَّةِ ومُحاولاتِ صِناعةِ الدِّيكتاتور والصَّنميَّة فلقد قَالَ (ع) وقَدْ لَقِيَه عِنْدَ مَسِيرِه إِلَى الشَّامِ دَهَاقِينُ الأَنْبَارِ فَتَرَجَّلُوا لَه واشْتَدُّوا بَيْنَ يَدَيْه فَقَالَ؛ مَا هَذَا الَّذِي صَنَعْتُمُوه؟ فَقَالُوا؛ خُلُقٌ مِنَّا نُعَظِّمُ بِه أُمَرَاءَنَا فَقَالَ؛ واللَّه مَا يَنْتَفِعُ بِهَذَا أُمَرَاؤُكُمْ! وإِنَّكُمْ لَتَشُقُّونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ وتَشْقَوْنَ بِه فِي آخِرَتِكُمْ، ومَا أَخْسَرَ الْمَشَقَّةَ وَرَاءَهَا الْعِقَابُ وأَرْبَحَ الدَّعَةَ مَعَهَا الأَمَانُ مِنَ النَّارِ!}. حتَّى السُّلطة والحُكم والإِمرة لم يشأ أَن يمنَحها ذرَّةً من القُدسيَّةِ المُزيَّفة والهالةِ المُصطنَعةِ حتَّى لا تتغوَّل فتتحوَّل من وسيلةٍ طاهِرةٍ إِلى هدفٍ قذِرٍ يتقاتلُ عليها الرِّجال فتُذَلَّ أَسماءٌ وتسيلَ بسببِها الدِّماءُ وتُنتَهكُ الأَعراضُ، ومن أَداةٍ لإِقامةِ الحقِّ والعدلِ إِلى آلةٍ للبطش والتجبُّرِ والإِستبدادِ، فقالَ (ع) مرَّةً {أَمَا والَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْ لَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ ومَا أَخَذَ اللَّه عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ ولَا سَغَبِ مَظْلُومٍ لأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا ولَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا ولأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِه أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ!}. ويقولُ عَبْدُ اللَّه بْنُ عَبَّاسِ؛ دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) بِذِي قَارٍ وهُوَ يَخْصِفُ نَعْلَه فَقَالَ لِي؛ مَا قِيمَةُ هَذَا النَّعْلِ؟ فَقُلْتُ؛ لَا قِيمَةَ لَهَا! فَقَالَ (ع)؛ واللَّه لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ إِلَّا أَنْ أُقِيمَ حَقّاً أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلًا. وهوَ القائِلُ {أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ حَقّاً عَلَى الْوَالِي أَلَّا يُغَيِّرَهُ عَلَى رَعِيَّتِه فَضْلٌ نَالَهُ ولَا طَوْلٌ خُصَّ بِه وأَنْ يَزِيدَهُ مَا قَسَمَ اللَّه لَه مِنْ نِعَمِهِ دُنُوّاً مِنْ عِبَادِه وعَطْفاً عَلَى إِخْوَانِه} وقولهُ في عهدهِ للأَشترِ {وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ والْمَحَبَّةَ لَهُمْ واللُّطْفَ بِهِمْ ولَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ}. وعندما أَرادهُ النَّاسٌ للخلافةِ بعدَ مقتلِ عُثمان، لم يُبدِ ما يبدو من [الرِّجال] المُتهالكُونَ على السُّلطةِ فهوَ لم يُصَانِعُ ولَا يُضَارِعُ ولَا يَتَّبِعُ الْمَطَامِعَ، وإِنَّما قالَ ما يُعبِّرُ عن المبدأ والأَخلاق والثِّقةِ بالنَّفسِ واليقينِ بالمنهجِ والزُّهدِ بالسُّلطةِ والتَّعامُلِ معها بمسؤُوليَّةٍ وصدقٍ. فلقد قالَ (ع) {دَعُونِي والْتَمِسُوا غَيْرِي فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَه وُجُوهٌ وأَلْوَانٌ لَا تَقُومُ لَه الْقُلُوبُ ولَا تَثْبُتُ عَلَيْه الْعُقُولُ وإِنَّ الآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ والْمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ واعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ ولَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وعَتْبِ الْعَاتِبِ وإِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ ولَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ وأَطْوَعُكُمْ لِمَنْ وَلَّيْتُمُوه أَمْرَكُمْ وأَنَا لَكُمْ وَزِيراً خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيراً!}. رفضَ أَن يتمسكَنَ ليتمكَّن! ورفضَ أَن يسترضي أَحداً على حسابِ مبادئهِ ليضمِنَ الخلافة ثمَّ بعدَ ذلكَ [لكُلِّ حادثٍ حديثٍ]!. كانَ واضِحٌ قبلَ أَن يُستَخلفَ وعندَ استِخلافهِ وبعدَ أَن استُخلِفَ! رافضاً أَن يشترِطَ عليهِ أَحدٌ شيئاً على حسابِ الحقِّ والعدلِ والإِنصافِ. في ذكرى ولادتهِ المَيمونةِ في [١٣] رجب الأَصب؛ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) تحطِيمُ القُدسيَّةِ المُزيَّفة [الجُزءُ الثَّاني] كانَ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) يسعى جاهداً، وبكُلِّ سبُلِ المعرفةِ، لتحطيمِ الحجُبِ والجدُرِ والسُّدود التي تضعَها السُّلطة بينَ الحاكمِ والرعيَّة لرسمِ هالةٍ من القَداسةِ المُزيَّفةِ وكأَنَّ الحاكِم نِصفُ إِلهٍ أَو أَنَّهُ ظِلُّ الله في الأَرضِ فتمنحهُ من الأَلقابِ مالا يُعَدُّ ولا يُحصى! لتحميهِ من الرَّقابةِ والنَّقدِ ورُبما الإِزاحةِ عن السُّلطةِ إِذا ظلَّ مُصِرّاً على خطئهِ بحقِّ الأُمَّة أَو على فسادهِ وفشلهِ، فكتبَ لعاملهِ إِبن عبَّاس يوصِيه {سَعِ النَّاسَ بِوَجْهِكَ ومَجْلِسِكَ وحُكْمِكَ وإِيَّاكَ والْغَضَبَ فَإِنَّهُ طَيْرَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ واعْلَمْ أَنَّ مَا قَرَّبَكَ مِنَ اللَّه يُبَاعِدُكَ مِنَ النَّارِ ومَا بَاعَدَكَ مِنَ اللَّه يُقَرِّبُكَ مِنَ النَّارِ}. كما كتبَ للأَشترِ في عهدهِ لمَّا ولَّاهُ مِصر {واجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيه شَخْصَكَ وتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً فَتَتَوَاضَعُ فِيه لِلَّه الَّذِي خَلَقَكَ وتُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وشُرَطِكَ حَتَّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه (ص) يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ «لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لَا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّه مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ » ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ مِنْهُمْ والْعِيَّ ونَحِّ عَنْهُمُ الضِّيقَ والأَنَفَ يَبْسُطِ اللَّه عَلَيْكَ بِذَلِكَ أَكْنَافَ رَحْمَتِه ويُوجِبْ لَكَ ثَوَابَ طَاعَتِه وأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَ هَنِيئاً وامْنَعْ فِي إِجْمَالٍ وإِعْذَارٍ!}. ولقد سعى (ع) لإِسقاطِ ظاهِرةِ الإِكتفاءِ بالأَلقابِ والنَّياشينِ [الفخمةِ] التي يتستَّر بها الحاكِم كرصيدٍ يكفيهِ للإِستمرارِ في السُّلطةِ من دونِ إِنجازٍ فيقُولُ {أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ولَا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِه الدَّهْرِ أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ! فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلَافِهَا وتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا أَوْ أُتْرَكَ سُدًى أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلَالَةِ أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِيقَ الْمَتَاهَةِ!}. وكانَ (ع) يُكرِّر على مسامعِ الرعيَّة ليُكرِّس في ذهنِها فلسَفة السُّلطة فلا يظُننَّ أَحدٌ أَنَّها مغنَمٌ أَو ميزةٌ تُميِّز الحاكِم عن غيرهِ قائِلاً {الذَّلِيلُ عِنْدِي عَزِيزٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ لَه والْقَوِيُّ عِنْدِي ضَعِيفٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْه}. كما أَنَّهُ (ع) كانَ يكرهُ أَن يرى الذينَ يلتفُّونَ مِن حولهِ جيشٌ من الجهَلةِ والأُميِّين والمُغفَّلينَ والمُطبِّلينَ والإِمَّعاتِ والذُّيُولِ والنَّفعيِّينَ و [المِهوال] والقافلينَ! ممَّن {لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} حتَّى أَنَّهُ كانَ يعيبُ على أَهلِ الشَّامِ كَونَهُم ضحايا الجهل والتَّضليلِ قائلاً {أَلَا وإِنَّ مُعَاوِيَةَ قَادَ لُمَةً مِنَ الْغُوَاةِ وعَمَّسَ عَلَيْهِمُ الْخَبَرَ حَتَّى جَعَلُوا نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَ الْمَنِيَّةِ}. فكانَ (ع) يحرصُ على أَن تكونَ المعلومة الصَّحيحة والصَّادقة في مُتناوَلِ اليدِ يصِلُ لها ويحصلُ عليها كُلُّ مَن يسعى إِليها ليبني موقِفهُ السَّليم من الأَحداث والتطوُّراتِ فلا يُستَغفلُ أَو يُضلَّلُ فيُركَبُ ظهرهُ أَو يُحلَبُ ضرعهُ! قائلاً {أَلَا وإِنَّ لَكُمْ عِنْدِي أَلَّا أَحْتَجِزَ دُونَكُمْ سِرّاً إِلَّا فِي حَرْبٍ ولَا أَطْوِيَ دُونَكُمْ أَمْراً إِلَّا فِي حُكْمٍ ولَا أُؤَخِّرَ لَكُمْ حَقّاً عَنْ مَحَلِّه ولَا أَقِفَ بِه دُونَ مَقْطَعِه وأَنْ تَكُونُوا عِنْدِي فِي الْحَقِّ سَوَاءً فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ وَجَبَتْ لِلَّه عَلَيْكُمُ النِّعْمَةُ ولِي عَلَيْكُمُ الطَّاعَةُ وأَلَّا تَنْكُصُوا عَنْ دَعْوَةٍ ولَا تُفَرِّطُوا فِي صَلَاحٍ وأَنْ تَخُوضُوا الْغَمَرَاتِ إِلَى الْحَقِّ فَإِنْ أَنْتُمْ لَمْ تَسْتَقِيمُوا لِي عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِمَّنِ اعْوَجَّ مِنْكُمْ ثُمَّ أُعْظِمُ لَه الْعُقُوبَةَ ولَا يَجِدُ عِنْدِي فِيهَا رُخْصَةً فَخُذُوا هَذَا مِنْ أُمَرَائِكُمْ وأَعْطُوهُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ مَا يُصْلِحُ اللَّه بِه أَمْرَكُمْ}. ولقد حدَّدَ لنا أَميرُ المُؤمنينَ (ع) مقوِّمات النَّجاح لنتجنَّبَ عوامل الفشَل، وعلى المُستويَينِ؛ مُستوى الفَرد ومُستوى الجَماعة، وأَهمَّها؛ أَوَّلاً؛ الإِلتزام بقاعدةِ [الرَّجل المُناسب في المكانِ المُناسب] قائِلاً في عهدهِ للأَشترِ لمَّا ولَّاهُ مِصر {ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً ولَا تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وأَثَرَةً فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ والْخِيَانَةِ وتَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ والْحَيَاءِ}. ويضيفُ (ع) مُذكِّراً بأَهمِّ وأَبرزِ الصِّفاتِ التي يجب أَن يتحلَّى بها [المسؤُول] لتصدُقَ عليهِ القاعدة {ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ مِمَّنْ لَا تَضِيقُ بِه الأُمُورُ ولَا تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ ولَا يَتَمَادَى فِي الزَّلَّةِ ولَا يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْءِ إِلَى الْحَقِّ إِذَا عَرَفَه ولَا تُشْرِفُ نَفْسُه عَلَى طَمَعٍ ولَا يَكْتَفِي بِأَدْنَى فَهْمٍ دُونَ أَقْصَاه وأَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ وآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ وأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ وأَصْبَرَهُمْ عَلَى تَكَشُّفِ الأُمُورِ وأَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْمِ مِمَّنْ لَا يَزْدَهِيه إِطْرَاءٌ ولَا يَسْتَمِيلُه إِغْرَاءٌ}. وهي وصفةٌ دقيقةٌ وعظيمةٌ مزجَ فيها (ع) الصِّفات الماديَّة والمعنويَّة والنفسيَّة المطلُوبة التي تُنتج الشخصيَّة المسؤُولة القادِرة على الإِنجازِ والنَّجاحِ كُلٌّ حسبَ موقعهِ وصلاحيَّاتهِ وواجباتهِ. هي وصفةٌ سحريَّةٌ تصنعُ [رجلَ الدَّولة] القادِر على القِيادة، وبعكسِها صفاتٌ تُنتِجُ [رَجل السُّلطة والنُّفوذ] على حسابِ الدَّولةِ والمُجتمعِ!. ثانياً؛ عدم المُساواة بينَ النَّاجحِ والفاشلِ، بينَ النَّزيهِ والفاسدِ، بينَ الذي يتميَّز بالتَّحلِّي بروحِ المسؤُوليَّة واللَّاأُبالي المُتهاون، بينَ الحريصِ على كُلِّ ما يكونُ مسؤُولاً عنهُ من مالٍ وعِقارٍ ومصالح، خاصَّةً ما تخصُّ الدَّولة وبينَ العابثِ بها غَير المُكترِث بالصَّالحِ العام! وهذهِ واحدةٌ من أَخطر الأَمراض التي تُصابُ بها الأُمم فتنتهي بها إِلى الفشَل، ولذلكَ حذَّر منهُ القرآن الكريم بقولهِ {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} فربطَ بين بخسِ النَّاس أَشياءهُم والفسادِ في الأَرضِ. يقولُ (ع) في عهدهِ للأَشترِ {ولَا يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ والْمُسِيءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَزْهِيداً لأَهْلِ الإِحْسَانِ فِي الإِحْسَانِ وتَدْرِيباً لأَهْلِ الإِسَاءَةِ عَلَى الإِسَاءَةِ وأَلْزِمْ كُلاًّ مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَه}. وأَسوأُ من ذلكَ عندما تسرِق جُهدَ زيدٍ النَّاجح وتسجِّلهُ باسمِ عمرُو الفاشِل، مُحاباةً أَو لعلاقاتٍ ومصالِحَ خاصَّة تربُطك بهِ! أَو أَن تُصادر إِنجازات الآخرين لتُسجِّلها باسمِكَ، فتِلكَ هي اللُّصوصيَّة بأَقبحِ عناوينِها. يقولُ (ع) {ثُمَّ اعْرِفْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا أَبْلَى ولَا تَضُمَّنَّ بَلَاءَ امْرِئٍ إِلَى غَيْرِه ولَا تُقَصِّرَنَّ بِه دُونَ غَايَةِ بَلَائِه ولَا يَدْعُوَنَّكَ شَرَفُ امْرِئٍ إِلَى أَنْ تُعْظِمَ مِنْ بَلَائِه مَا كَانَ صَغِيراً ولَا ضَعَةُ امْرِئٍ إِلَى أَنْ تَسْتَصْغِرَ مِنْ بَلَائِه مَا كَانَ عَظِيماً}. ألجزء الثالث : [الجُزءُ الثَّالث والأَخير] أَميرُ المُؤمنينَ (ع) خارِطةُ الطَّريقِ لمدِّ جسُورِ الثِّقةِ [الجُزءُ الثَّالث] ثالِثُ مُقوِّماتِ النَّجاحِ؛ التَّدقيقُ في اختيارِ المُستشارِ والبِطانة، فقبلَ أَن تستشيرَ أَحداً لأَيِّ أَمرٍ كانَ، شخصيّاً كانَ أَو عامّاً، يلزمكَ أَن تُدقِّق في هويَّة المُستشار وخلفيتهِ وسجلِّهِ الإِستشاري ورجاحةِ عقلهِ وشجاعتهِ في الإِدلاءِ بأَفضلِ آرائهِ ورُآهُ خاصَّةً إِذا كنتَ مُصمِّمٌ على الإِلتزامِ برأيهِ، فاستشارةٌ واحدةٌ قد تأخذكَ إِلى الهاويةِ أَو إِلى القمَّةِ، ولذلكَ لا ينبغي لعاقلٍ أَن يستشيرَ كُلَّ مَن هبَّ ودبَّ وكأَنَّهُ يريدُ أَن يُسقِطَ الواجبِ عن نفسهِ أَو أَنَّهُ يُريدُ سدَّ ذرائعَ لومِ النَّاس وقطعِ أَلسنتهِم. إِنَّ المُستشارَ شريكُكَ في النَّجاحِ والفشلِ فانظُر لِمَن تمنحهُ ثقتكَ قبل أَن تختارهُ شريكٌ لكَ بالإِستشارةِ! ليكُونَ قدرَ الإِمكانِ مصداقٌ لوصفِ أَميرِ المُؤمنينَ (ع) عندما أَوصى لولدهِ الحسَن السِّبطِ (ع) بقَولهِ {فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ نَخِيلَهُ وتَوَخَّيْتُ لَكَ جَمِيلَهُ وصَرَفْتُ عَنْكَ مَجْهُولَهُ}. إِنَّكَ تُشارِكهُ عقلهُ كما يقُولُ (ع) {مَنْ شَاوَرَ الرِّجَالَ شَارَكَهَا فِي عُقُولِهَا} فانظُر أَيَّ نَوعٍ من العقُولِ تُشارك؟!. يقولُ (ع) {ولَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلًا يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ ويَعِدُكَ الْفَقْرَ ولَا جَبَاناً يُضْعِفُكَ عَنِ الأُمُورِ ولَا حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَه بِالْجَوْرِ فَإِنَّ الْبُخْلَ والْجُبْنَ والْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّه}. واحذر أَن تبني علاقاتكَ مع البِطانة على قاعدةِ الطَّمع، فمثلُ هؤُلاء المستشارينَ سيبيعُونَ لكَ آراءهُم بمعسُولِ الكلامِ لإِرضائكَ وليسَ لمُساعدتِكَ في اتِّخاذِ القرارِ السَّليمِ وتوسيعِ آفاقِ تفكيرِكَ، وأَنَّ استشارتهُم حسبَ الطَّلب وبما يُساوي قيمة الدَّفع، وأَنَّ مثلَ هؤُلاء لا ينفعونكَ في شيءٍ أَبداً فهُم أَسوأُ أَنواع البِطانة. يقولُ (ع) {ثُمَّ إِنَّ لِلْوَالِي خَاصَّةً وبِطَانَةً فِيهِمُ اسْتِئْثَارٌ وتَطَاوُلٌ وقِلَّةُ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ فَاحْسِمْ مَادَّةَ أُولَئِكَ بِقَطْعِ أَسْبَابِ تِلْكَ الأَحْوَالِ ولَا تُقْطِعَنَّ لأَحَدٍ مِنْ حَاشِيَتِكَ وحَامَّتِكَ قَطِيعَةً ولَا يَطْمَعَنَّ مِنْكَ فِي اعْتِقَادِ عُقْدَةٍ تضُرُّ بِمَنْ يَلِيهَا مِنَ النَّاسِ فِي شِرْبٍ أَوْ عَمَلٍ مُشْتَرَكٍ يَحْمِلُونَ مَئُونَتَه عَلَى غَيْرِهِمْ فَيَكُونَ مَهْنَأُ ذَلِكَ لَهُمْ دُونَكَ وعَيْبُه عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ}. ولقد رسمَ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) خارطةَ طريقٍ مُهمَّةٍ لبناءِ مُجتمعٍ قويٍّ ومُتماسك تعتمِدُ على مُقوِّمَينِ أَساسيَّينِ هُما حجَر الزَّاوية في البناءِ؛ الأَوَّل؛ هوَ التَّكافُل الإِجتماعي للقضاءِ أَو على الأَقلِّ لتقليصِ فَجوَة الطبقيَّة الإِجتماعيَّة التي تُقسِّم المُجتمع إِلى فِئتَينِ، غنيَّةٌ تتمتَّع بكُلِّ الخَيرات التي سخَّرها الله تعالى لعبادهِ، وفقيرةٌ لا تتمتَّع بشيءٍ منها. إِنَّ قُوَّة المُجتمع وتماسكهُ تتناسب تناسُباً عكسيّاً مع حجمِ الطبقيَّة فكُلَّما تقلَّص حجمُ المساحةِ كلَّما اشتدَّ تماسُك المُجتمع والعكسُ هوَ الصَّحيح فكُلَّما اتَّسعت كُلَّما ضعُفَ تماسُك المُجتمع وانهارَت دعائِمهُ. وهوَ (ع) أَوَّل من شرَّع قانون شبكة الحِماية الإِجتماعيَّة، عندما كتبَ في عهدهِ للأَشتر {ثُمَّ اللَّه اللَّه فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لَا حِيلَةَ لَهُمْ مِنَ الْمَسَاكِينِ والْمُحْتَاجِينَ وأَهْلِ الْبُؤْسَى والزَّمْنَى فَإِنَّ فِي هَذِه الطَّبَقَةِ قَانِعاً ومُعْتَرّاً واحْفَظِ لِلَّه مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّه فِيهِمْ واجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِكِ وقِسْماً مِنْ غَلَّاتِ صَوَافِي الإِسْلَامِ فِي كُلِّ بَلَدٍ فَإِنَّ لِلأَقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلأَدْنَى وكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّه ولَا يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ فَإِنَّكَ لَا تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِكَ التَّافِه لإِحْكَامِكَ الْكَثِيرَ الْمُهِمَّ فَلَا تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ ولَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ وتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لَا يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُه الْعُيُونُ وتَحْقِرُه الرِّجَالُ فَفَرِّغْ لأُولَئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ والتَّوَاضُعِ فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِمْ بِالإِعْذَارِ إِلَى اللَّه يَوْمَ تَلْقَاه فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ بَيْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَى الإِنْصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ وكُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَى اللَّه فِي تَأْدِيَةِ حَقِّه إِلَيْه وتَعَهَّدْ أَهْلَ الْيُتْمِ وذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ مِمَّنْ لَا حِيلَةَ لَه ولَا يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَه وذَلِكَ عَلَى الْوُلَاةِ ثَقِيلٌ والْحَقُّ كُلُّه ثَقِيلٌ وقَدْ يُخَفِّفُه اللَّه عَلَى أَقْوَامٍ طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ ووَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللَّه لَهُمْ}. الثَّاني؛ هوَ تشييدِ جسُور الثِّقة بينَ الدَّولة ومُؤَسَّساتها من جهةٍ والمُجتمعِ من جهةٍ أُخرى، أَي بينَ الرَّاعي والرعيَّة، فكُلَّما كانت العِلاقة بينهُما سليمةً وصحيحةً لا يشوبها الشَّك والشُّبهة والتَّنافُر والتَّباعُد والقطيعَة، كُلَّما قوِيت أَركان الدَّولة واستقرَّ المُجتمع الذي سيُدافع عنها ويحميها فتتمَظهر قيمَة المُواطنة والرُّوح الوطنيَّة بشَكلٍ واضحٍ وراسخٍ. وإٍنَّ من أَبرزِ أَدوات بناءِ هذهِ الجسُور هي الشفافيَّة والوضُوح والصَّراحة والصِّدق التي يجب أَن تتعاملَ بها الدَّولة ومُؤَسَّساتِها معَ الرَّأي العام، فلا تكذِب عليهِ ولا تخدعهُ ولا تُضلِّلهُ ولا تتستَّر على فسادِها وفشلِها بالذُّبابِ الإِليكتروني الذي شُغلهُ قلب الحقائِق وتغييرِ الوقائعِ. يقولُ (ع) {وإِنْ ظَنَّتِ الرَّعِيَّةُ بِكَ حَيْفاً فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ واعْدِلْ عَنْكَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِكَ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ رِيَاضَةً مِنْكَ لِنَفْسِكَ ورِفْقاً بِرَعِيَّتِكَ وإِعْذَاراً تَبْلُغُ بِه حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ عَلَى الْحَقِّ}. كما أَنَّ استئثارَ الحاكِم وعشيرتهِ ومُحازبيه وبِطانتهِ بكلِّ ما النَّاسُ فيهِ أُسوَةٌ مثلَ فُرص التَّعليم والعمَل والصحَّة والأَمن وخَيرات البِلاد وإِمكانيَّاتِ الدَّولة وكُلَّ ما سخَّرهُ الله تعالى لعبادهِ، لا يُساهِمُ في مدِّ جسورِ الثِّقةِ تلكَ ولا يُساهِمُ في استقرارِ الدَّولةِ، ولذلكَ حذَّرَ (ع) مالكاً من ذلكَ بقَولهِ في عهدهِ لهُ {وإِيَّاكَ والِاسْتِئْثَارَ بِمَا النَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ}. أَمَّا إِذا كانَ المسؤُولُ بمثلِ النُّموذج التَّالي الذي يصفهُ لنا أَميرُ المُؤمنينَ (ع) فبالتَّأكيدِ لا يمكنُ بهِ بناءَ جسُور الثِّقة بينَ الحاكمِ والمحكُومِ وبالتَّالي لا يُمكنُ أَن نتصوَّرَ بوجُودهِ [دَولةً] قويَّةً ومُتماسِكةً. يصفُ (ع) هذا النُّموذج السيِّء من الحُكَّامِ والمسؤُولينَ بقولهِ {عَجَباً لِابْنِ النَّابِغَةِ! يَزْعُمُ لأَهْلِ الشَّامِ أَنَّ فِيَّ دُعَابَةً وأَنِّي امْرُؤٌ تِلْعَابَةٌ أُعَافِسُ وأُمَارِسُ! لَقَدْ قَالَ بَاطِلًا ونَطَقَ آثِماً, أَمَا وشَرُّ الْقَوْلِ الْكَذِبُ، إِنَّه لَيَقُولُ فَيَكْذِبُ و يَعِدُ فَيُخْلِفُ ويُسْأَلُ فَيَبْخَلُ ويَسْأَلُ فَيُلْحِفُ ويَخُونُ الْعَهْدَ ويَقْطَعُ الإِلَّ فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْحَرْبِ فَأَيُّ زَاجِرٍ وآمِرٍ هُوَ! مَا لَمْ تَأْخُذِ السُّيُوفُ مَآخِذَهَا فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَانَ أَكْبَرُ مَكِيدَتِه أَنْ يَمْنَحَ الْقَرْمَ سَبَّتَه! أَمَا واللَّه إِنِّي لَيَمْنَعُنِي مِنَ اللَّعِبِ ذِكْرُ الْمَوْتِ وإِنَّه لَيَمْنَعُه مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ نِسْيَانُ الآخِرَةِ إِنَّه لَمْ يُبَايِعْ مُعَاوِيَةَ حَتَّى شَرَطَ أَنْ يُؤْتِيَه أَتِيَّةً ويَرْضَخَ لَه عَلَى تَرْكِ الدِّينِ رَضِيخَةً}. بِئسَ النُّموذج القَبيح.