Friday, November 08, 2019

رحيل جورج جورداق

ألكاتب المسيحي والمفكر الأنساني جورج جورداق في رحاب الله:

في بلادنا العربية كُتّابٌ و كُـتّاب كُثر, يصل عددهم لعشرات الآلاف .. لكن لا كآلكاتب ألمؤرّخ و المفكر جورج جورداق المسيحي الديانة الكاثوليكي المذهب الذي ولد في لبنان عام 1931م في بلدة مرجعيون و توفى هذا اليوم وعمرهُ 83 عاماً .. هذا الكاتب ألعظيم العصاميّ .. تجرّد عن هويّاته ومعتقداته في لحظة تأريخية حاسمة غيّر عقيدته معتنقاً ألهوية ألعلوية إلتي إعتز بها حتى وفاته اليوم, حتى هداهُ فطرته النظيفة منذ بداية شبابه إلى منبع الحق و الأنسانية الأمام عليّ(ع) فعشقهُ على الفور, فمن من أهل الضمائر يقرأ علياً ولا يعشقهُ خصوصا عندما يطالع ولو صفحة في نهجه الخالد أو قصة من قصصه العملاقة و على أي صعيد في خلافته الفريدة في تأريخ البشرية من آدم و حتى الخاتم(ع) وإلى يومنا هذا؟
هذا الكاتب الأنسانيّ - الآدمي - الكبير كتب عنه مقالات و كُتب عجز عجز الإتيان بمثلها حتى كبار علماء جامعاتنا وحوزاتنا العلمية, بإستثناء الفيلسوف الكونيّ.
لقد ألّف موسوعة كاملة عن امير المؤمنين (الإمام علي بن أبي طالب) عليه السلام، سمّاها [ألإمام علي صوت العدالة الإنسانية]، وتقع في خمسة أجزاء بعنوان:
- "علي وحقوق الإنسان"،
- "بين علي والثورة الفرنسية"،
- "علي وسقراط"،
- "علي وعصره"، "علي والقومية العربية".
ثم أتبعها بملحق كبير بعنوان:
"روائع نهج البلاغة", و لم يكتب بعدها شيئا عن أي شيئ, و حين سُئل : لماذا توقفت عن الكتابة يا جورج و أنت رائد الكتاب العرب و مفكرهم!؟
أجاب: لم أرَ بعد عليّ بن أبي طالب و آلنبي محمد و عيسى شخصا آخر يستحق الكتابة عنه, فتوقفت!

ومن ماثوراته في حق الامام علي بن ابي طالب عليه السلام وكما ورد بآلكتاب أعلاه :
[علي بن أبي طالب هو في الحقيقة والتاريخ واحد، سواء عرفته أم لم تعرفه، فالتاريخ والحقيقة يُذعنان بأنّ له ضميراً حيّاً وقهّاراً ، وأبو الشهداء والأحرار، وهو صوت العدالة الإنسانية، وشخصية الشرق الخالدة], و يضيف قائلاً:
[يا أيّها العالَم، ماذا سيحدث لو جَمَعتَ كلّ قواك وقدراتك وأعطيتَ الناسَ في كلّ زمان عليّاً بعقله وقلبه ولسانه وذو الفقاره]؟!

وقال أيضاً: هل سمعت عن حاكم لم يُشبع بطنه برغيف خبز؟ لأنّ في بلاده من ينام وهو غير شبعان، وهل سمعت عن حاكم لم يلبس الملابس الناعمة؟ لأنّ في شعبه مَن يلبس الملابس الخشنة.
لم يكنز لنفسه حتّى درهماً واحداً؟!
حتى أوصىأبنائه وأصحابه أن لا يتّبعوا سوى هذه الطريقة.
فحاسب أخاه لأخذه ديناراً واحداً غير حقّه من بيت المال، وهدّد وأمر بمحاكمة حكّامه بسبب رغيف خبز أخذوه من غني وأكلوه رشوةً؟!
عاقب وعاتب الكثير من ولاته .. كعثمان بن حنيف واليه على البصرة ألذي لم يغتنم الاموال او يكنز الذهب و الفضة و لم يبني له قصراً او يمتلك بنايات سكنية, ولم تكن له اية تجارة ممّا سرق من بيت المال!
كل ما عمله (عثمان بن حنيف) انه حضر وليمة للموسرين و جلس يأكل بين المترفين فوبّخه الامام علي (ع) على حضوره هذا, قائلاً:
[أما بعد يا ابن حنيف فقد بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة (1) فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان (2) وتنقل إليك الجفان، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو (3).
وغنيهم مدعو. فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم (4)، فما اشتبه عليك علمه فالفظه (5)، وما أيقنت بطيب وجوهه (6) فنل منه ألا وإن لكل مأموم إماما يقتدى به ويستضئ بنور علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه (7)، ومن طعمه بقرصيه, أ لَا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعقة وسداد (8). فوالله ما كنزت من دنياكم تبرا، ولا ادخرت من غنائمها وفرا (9)، ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا (10). بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين. ونعم الحكم الله. وما أصنع بفدك وغير فدك والنفس مظانها في غد جدث (11) تنقطع في ظلمته آثارها، وتغيب أخبارها، وحفرة لو زيد في فسحتها وأوسعت يدا حافرها لاضغطها الحجر والمدر (12)، وسد فرجها التراب المتراكم، وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى (13) لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق (14). ولو شئت لاهتديت الطريق (15) إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي (16) إلى تخير الأطعمة. ولعل بالحجاز أو اليمامة (17) من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرى؟ أو أكون كما قال القائل - وحسبك داء أن تبيت ببطنة (18) * وحولك أكباد تحن إلى القد أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش (19). فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها، أو المرسلة شغلها تقممها (20)، تكترش من أعلافها وتلهو عما يراد بها. أو أترك سدى أو أهمل عابثا، أو أجر حبل الضلالة، أو أعتسف طريق المتاهة (21).
ألفيلسوف الكوني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المأدبة بفتح الدال وضمها: الطعام يصنع لدعوة أو عرس (2) تستطاب يطلب لك طيبها. والألوان: أصناف الطعام والجفان بكسر الجيم: جمع جفنة القصعة (3) سائلهم: محتاجهم، مجفو أي مطرود من الجفاء (4) قضم كسمع أكل بطرف أسنانه والمراد الأكل مطلقا، والمقضم كمقعد المأكل (5) اطرحه حيث اشتبه عليك حله من حرمته (6) بطيب وجوهه بالحل في طرق كسبه (7) الطمر بالكسر: الثوب الخلق (8) إن ورع الولاة وعفتهم يعين الخليفة على إصلاح شؤون الرعية.
(9) التبر بكسر فسكون: فتات الذهب والفضة قبل أن يصاغ. والوفر المال (10) أي ما كان يهئ لنفسه طمرا آخر بدلا عن الثوب الذي يبلى، بل كان ينتظر حتى يبلى ثم يعمل الطمر، والثوب هنا عبارة عن الطمرين فإن مجموع الرداء والإزار يعد ثوبا واحدا فبهما يكسو البدن لا بأحدهما (11) فدك بالتحريك: قرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان صالح أهلها على النصف من نخيلها بعد فتح خيبر، وإجماع الشيعة على أنه كان أعطاها فاطمة رضي الله عنها قبل وفاته إلا أن أبا بكر رضي الله عنه ردها لبيت المال قائلا إنها كانت مالا في يد النبي يحمل به الرجال وينفقه في سبيل الله وإنا إليه كما كان عليه. والقوم الآخرون الذين سخت نفوسهم عنها هم بنو هاشم. المظان: جمع مظنة وهو المكان الذي يظن فيه وجود الشئ. وموضع النفس الذي يظن وجودها فيه في غد جدث بالتحريك أي قبر (12) أضغطها جعلها من الضيق بحيث تضغط وتعصر الحال فيها (13) أروضها: أذللها (14) موضع ما تخشى الزلة وهو الصراط (15) كان كرم الله وجهه إماما عالي السلطان واسع الامكان فلو أراد التمتع بأي اللذائذ شاء لم يمنعه مانع، وهو قوله لو شئت لاهتديت الخ. والقز: الحرير.
(16) الجشع: شدة الحرص (17) جملة ولعل الخ حالية عمل فيها تخير الأطعمة أي هيهات أن يتخير الأطعمة لنفسه والحال أنه قد يكون بالحجاز أو اليمامة من لا يجد القرص أي الرغيف ولا طمع له في وجوده لشدة الفقر ولا يعرف الشبع، وهيهات أن يبيت مبطانا أي ممتلئ البطن والحال أن حوله بطونا غرثى أي جائعة وأكبادا حرى مؤنث حران أي عطشان (18) البطنة بكسر الباء البطر والأشر والكظة. والقد بالكسر:
سير من جلد غير مدبوغ أي أنها تطلب أكله ولا تجده (19) الجشوبة: الخشونة (20) التقاطها للقمامة أي الكناسة وتكترش أي تملأ كرشها (21) اعتسف: ركب.

ألأسفار الكونية - الحلقة السادسة


ألأسفار ألكونيّة – ألحلقةُ السّادسة
ألوادي ألما قبل الأخير – ألحيرة :

ألحيرة أحد المقامات العالية للفيلسوف الكونيّ تتحقق بعد كمٍّ هائل من المعرفة والأسفار و البلاء؛ إنّها آلمحطة ما قبل الأخيرة ألمصحوبة بالحيرة والحسرة و آلنّدم, بعد رحلة العمر التي فيها يبحث الطالب عن ذلك الذي جذبه لقبول هذا العالم!
ألنّدم على ما قضى من عمرٍ, و كأنهُ خيال مرّ للحظة وإنتهى رغم علمه بأن العمر لا يحسب بآلسّنين بل بذكريات جميلة خالدة, وآلسؤآل الأساسي الذي يدور في خلد (الحيران) الذي ليس فقط إستسلم لأمر الله؛ بل وكان توّاقاً على طول الخط لمعرفة المكتوب(القضاء والقدر) الذي يجهله عن مصيرة وكيفيّة ساعة آللقاء بمحبوبه, و لنتذكر كيف .. و لماذا قبلنا في عالم الغيب(ألذّر) أن نعيش هذه الحياة بعد ما أشهدنا الله على(أنفسنا) بعد قبول دمج (ألرّوح مع (البدن) ألذي يستقيم بقوّة العقل إما شاكراً أوكفوراً!؟
لكن السؤآل الذي حيّر العلماء حتى الحكيم العارف, هو:
ما الذي رأيناهُ حتى جذبنا وشوّقنا لهذه الحياة آلمُسمّاة بـ (آلدّنيا)؟
هل هو التعرف على جميع الخلق بكافة أصنافهم وأشكالهم الجميلة وتفاعلهم مع بعض في نسيج معقد للأستمرار بآلحياة لهدف ما؟
هل هي آلّلذات التي نشعرها بهذا الجسم من خلال حواسّنا؟
أم للتعرف على عظمة ودور أهل البيت(ع) و معهم الأنبياء؟
أم هو الشوق لدخول مدار أوسع ومرتبة وجودية أعلى في الكون بالأنتقال من عالم الذّر المحدود لعالم أرحب لنيل الجنة بعد الإمتحان؟
ولكن أيّة رحابة و سعادة ممكنة مع فوضى الحياة التي يشقى فيها الشرفاء والأخيار مع آلمآسي الكبرى التي ضمّت مظلومية ومصرع أشرف وافضل خلق الله الذين هم آلأنبياء وآل البيت(ع) والفلاسفة؟
وهل سيختزل وتنتهي كل تلك المآسي التي سبّبتها النفوس المستكبرة بدولة العدل الموعودة التي لا ندري كيف ومتى ستتحقق؟
لا يمكن للعاقل ناهيك عن العارف الحكيم أن يرضى بأن تتّحد هذه القضية الكونيّة الأكبر بمجرد شهوات آنيّة عابرة لا تطول سوى ثوانِ معدودة أو رئاسة زائلة أو لمجرد ملأ بطن بأحلى و أغلى الثمار التي سرعان ما تتحوّل لقاذورات كسيفة كنيفة يشمئزها حتى صاحبها؟
لا بُدّ من أسرار أرحب وأعمق وأجلّ من ذلك!؟
فهل هو للتعرف على أخلاق وجمال الله تعالى؟
ربما .. و لنترك كيفيّتها آلآن, لكنيّ وسط حمم هذه الأسئلة الكبيرة؛ لستُ متأكّداً و بعد إلإتيان بها من إنهاء مأساتي في البحث عن الحقيقة حتى بعد موت جسدي, رغم أنّها تعني الكثير .. الكثير!
وآلسبب هو: أنها أضفت لوجودنا الأسى و الحسرات على ما فرّطنا في جنب الله بسبب الغفلة واللهو وآلغرور وآلشهوات العابرة, خصوصا بعد ما أدركنا بأنّ هذه الحياة ألدّنية حقاً, لا تستحقّ  كل هذا الحزن وآلكآبة, على صديق تركنا مثلاً أو مال خسرناه أو حبيب لم يعرف قدرنا أو سلطان خسرناه, أو صراع آلنفس للأستمرار بآلحياة, مقابل يأس خفيّ دبّ فينا لكثرة لهوث الممسوخين ألتافهين عليها؟
أم ليس كلّ ذلك؛ بل هي المحبة والمودة التي معها يُوحّد العاشق ربهُ حدّ الذوبان في جمال المعشوق على الرغم من ثقل تلك الأمانة وتجلّيها آنيّاً في كلّ صغيرة وكبيرة و حَدَثْ ومن كلّ الجّهات, ونقضها في آلمقابل بآلأستغناء عنها وآلزهد فيها بحيث لا يبقى أمام آلمسافر العاشق خيار؛ سوى الحيرة وآلصّمت وآلتغرّب عن ألدّنيا بعد ما يجد الطالب مبغاه, بوصوله قمّة آلمعرفة حتى كشف الغطاء!
و قد يسأل بعض ألعلماء: لماذا إذن يعيش العارف راضياً بهذه الدّنيا رغم ذلك الألم والحسرة و الحيرة و كأنهُ ضيّع مسيره نتيجة آلتعمق في تجسيد ألرّبوبية و التوحيد بذكر الله فيما حرّم وحلل حتى في ذرّات ومكونات الوجود!؟ بل لماذا قَبِلَها – أيّ الحياة - منذ الازل؟
هذه الدّرجة ألمعرفيّة العاليّة العظمى آلتي تُحدّد وجوده وماهيته وكأنهُ غير موجود؛ تجعله يعيش حالة السكر مع النشوة بظاهر الوجود أو باطنه, أو آلفناء فيه, أو التجليّ بعينه بعد عبور حُجب النور وكأنه فانٍ أو باقٍ مع العدم أو الأثنان معاً؛ أو هو العدم الذي معه لا يعد يعلم؟ وذاك اللا أعلم قد جعله لا يعلم شيئاً حقّاً .. لا يعلم حتى كونه مسلمٌ أم كافرٌ .. فماذا يُمكن أن يكون إذن؟
هو العشق .. لكنه أيضاً .. لا يعلم لمن ذلك العشق, ولا حتى ماهيّته؟
سوى علمه بِداهةً بإمتلاء وجوده بآلعشق, مع عدم وعيه بكنهه, و من هنا تبدء و تنتهي الحيرة بعد تحقق اللاعلم والفناء في السّرّ.
ليدخل عالما اخر يحسّ فيه الفقر, علّه يجد جواب السؤآل الأزلي؛ لماذا لا يعلم ولا يعلم أحدٌ سرّ هذا الوجود غير (آلسّرّ) نفسه!؟
ألفيلسوف الكونيّ