Sunday, December 17, 2023

عندما رحل القمر :

عندما رحل القمر.......] د. هاشم عبود الموسوي ولدت قبل أكثر من سبعة عقود و ترعرعت في مدينة ٍحالمة ، كنت أتذوق حلاوة أيامها الزاهية، وقطوفها الدانية، وسحر نخيلها ، التي رُسمت بريشة مبدعٍ، وكأنها جزراً تصلي لإبتهاجات الفصول .. بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ، إستبشرت البشرية بمستقبل واعد لما هو أجمل و أبهى من فرح وأمل آت.. و أنا كنت في طفولتي ، أرقب في كل ليلة من تلك الليالي عرس نجوم ، وكأنها ترقص من بهجتها على وشوشة قمرٍ حنون يدغدغ خيالاتها ، وخيالات طفولتي .. وعندما كان يهدهدني النعاس في آخر الليل ، أنام متلهفا الى شروق شمسٍ تلوح لي في الصباح بكل مسرّة الى يومي الجديد . وفي كل يومٍ ،كنت أعيد ترتيب المواقيت ، وأقايض فرحتي بإهتزاز إرجوحةٍ تمرح بين الليل و النهار منتظراً أن يأتي المساء مرةً أخرى ، كان يجتاز المدينة نهرٌ ، ليس كبقية الأنهار ،تلتصق زرقته بزرقة السماء ، يرفل بالمحبةِ ، ويصحو ويغفو كل ليلة ،على غناء سفنٍ و بحارةٍ مستبشرين وقادمين من كل أنحاء الأرض . كنت أُحس بأن عنق ذلك النهر كان مشرأبا للسماء ، وممسوسا مثلي بحبه للقمر ، يصاعد وينزّل موجاته بعد أن تطفو على الضفاف ، وهو منتظرا بكل شوق معشوقه قمر الليالي ، لكن ذلك القمر الجميل كان متبختراً و مغروراً ولا يعيره أي إهتمام . . وبمرور الأيام والسنين أضحى حب النهر للقمر ، كعشق متيم بحب إمرأة لعوب . حاول النهر مراراً ، أن يقبض على القمر ، مصعداً موجاته الى أعلى ما يستطيع ، لكنه لن يستطيع ، حتى من ملامسة أطرافه ..وظل القمر مثل طفل ٍ يافع يلعب مع النهر لعبة الأختباء ، ظاهراً مرةً ، ومختبئاً مرةً أخرى خلف أوشحة السحاب . وعنما سافرت مرة أخرى في منتصف تسعينات القرن الماضي ،الى منفاى الجديد ، وأصبحت بعيداً عن وطني ،لم أعد أدري ماذا حل بذلك النهر ، وكيف إنتهت قصة الحب الفاشلة بينه وبين القمر.. بعد عودتي سمعت بأن القمر كان مثلي ،هو الآخر مغادرا فرحه الى صحاري جدباء متربة ، لا خضرة فيها ولا ماء ولا وجهٍ حسن. تحرك بي الشوق لأزور مدينتي ، وأقف عند شاطئ نهرها ، لأسأله عما حل به وبمعشوقه قمر الليالي. . ويا لهول ما وجدت من جحود . لم أعد أسمع زقزقة العصافير التي تعودت على سماعها وهي تحط على نخيل شاطئه الجميل . وتساءلت ،أين تلك الكروم و الأعناب والقطوف الهادلات من أثداء الأشجار ؟، هل أصاب المدينة عصفٌ فصارت ألوان الأشجار والبيوت رمادية و كالحة ؟ وصلت الى النهر فوجدته صامتاً صمت القبور، لم تعد موجاته تغني للرياح . حزينا و ممتلئاً بدموع مالحة .. وقفت أمامه ، أنظر إليه من كوة الفجيعة ، أستجديه بجواب. ما الذي جرى له ؟، وكيف أصبح ماؤه لا لون ولا طعم لديه ؟ أين هي النجوم التي كانت تزوره كل ليلة وهي حالمة في بهجتها السماوية ؟ ... وجدته أخرسا بعد أن تم منعه من الغناء . وفي تلك الليلة ، عندما نامت عيون المدينة .. شاهدت ذلك القمر المريض حزينا ، وكأنه عائد من سفرٍ طويل ..كان الغبار يغطي وجهه وشعره ورداءه الفضي ، خلته يشتاق الى ذلك اللحن الشجي الذي كانت تطلقه مويجات هذا النهر منذ آلاف السنين . لكنني شعرت بأنه صار يتلظى عندما رأى النجوم المنتظرة حوله تتأوه وتشتاق الى ضياء تلك الليالي الصافية . في تلك اللحظة قرر القمر أن ينزل ويغتسل بماء النهر ، ربما ينفض عن جنبيه مآسي و آثام السنين .. ألقى أرديته وتعرى ، ، ريثما وضع أولى قدميه على حجارة ملساء عند حافة النهر، وبخطوة واحدة وجد نفسه مدفوعا الى الماء. فتطايرت رشرشات الماء عليه ، ووجد نفسه بلا مقاومة وسط الأمواج . في هذه االهنيهة نهض النهر كالمجنون ، يريد أن يقبض عليه ، فمد ذراعيه فوق سطح الماء ، ثم تحته ، وأوصلها الى الأعماق حتى لامس القاع ، وظل صاعداً ونازلاً ,, دون جدوى.. لم يستطع أن يقبض على القمر الذي غاص طول المسافة التي أوصلته الى فوهة النهر عند المياه المالحة في الخليج . آنذاك خرج ينفض الماء عن جلبابه ، ساخظا على حماقة الأقدار التي حلت بهذه المدينة ، فأسكتت حتى النهر عن الغناء ، معلنا أن لا مدٌ ولا جزرٌ سيأتي إليه بعد اليوم . ثم غادر المدينة بخطوات حزينة .. لكن هذه المرة .. .. .. ربما بدون عودة ليعم الظلام على أرض تنام ، والى يوم القيامة

No comments:

Post a Comment