Friday, February 16, 2024

ألتّدين المؤدلج سبب هزيمتنا :

الدين المؤدلج سبب هزيمتنا : الحمد لله، الذي اصطفانا لوراثة النبوة والكتاب، وأوقفنا على تجربة النبوة، بدءا من لدن آدم، عليه السلام، وانتهاء بالنبوة الخاتمة، التي جاءت مصدقة لما بين يديها من النبوة والكتاب، ومهيمنة مصوبة للرؤى الدينية السابقة، ومبينة للتحريف والعبث بالخطاب الإلهي، الذي مارسه الإنسان على مسيرة النبوة وتعاليم الكتاب، ولعل من خصائص الهيمنة أن ناط بنا أمانة تبليغ وبيان تعاليم النبوة للناس، وحذرنا من علل التدين التي لحقت بالأمم السابقة، فكانت قصص الأنبياء عبرة وبيانا وهدى وموعظة وسبيلا إلى الوقاية من الإصابة بهذه العلل القاتلة. وقد يكون في مقدمة تلك العلل تحريف النص الديني والتحايل على أحكام الله، وإخضاعها للهوى، وبذلك تحول الدين من محرك ومحرض ودافع وفاعل إلى معوق ومثبط وعائق ومانع من السمو والارتقاء، وتحول التدين (المغشوش) عند بعضهم من تزكية النفس وتهذيب السلوك إلى تعذيب النفس وانحراف السلوك، والخروج من سيرورة الحياة، والقعود عن أداء الأمانة ومسؤولية استنقاذ الناس، والانكفاء والتولي والتآكل الذاتي الذي يمهد [ ص: 5 ] للاستبدال خضوعا لسنة التداول الحضاري: ( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) (محمد:38). ذلك أن من أخص خصائص النبوة الخاتمة، وارثة النبوات، مهمة الهيمنة ( ومهيمنا عليه ) (المائدة:48)، التي تعني - فيما تعني- الشهادة على الناس وإبلاغهم تعاليم النبوة ورسالة الله سبحانه وتعالى الخالق إلى الإنسان المخلوق: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ... ) (البقرة:143)، وقيادتهم إلى الخير وإلحاق الرحمة بهم. فلقد أهلنا الله سبحانه وتعالى لهذا (الجعل)، وشرع لنا وسائله وأدواته، وقدم لنا الأنموذج الذي يجسد تلك الأدوات ويمثل محل الأسوة والاقتداء، وزودنا إلى جانب ذلك بتجربة النبوة التاريخية، بكل عطائها في مجالي السلب والإيجاب لإغناء تجربتنا وإضافة حضارات إلى حضارتنا، وعقول إلى عقلنا، وعمق تاريخي لحاضرنا ومستقبلنا، زودنا بسلامة وصحة الأساس الذي تقوم عليه الحضارات الراشدة ويحقق السعادة الإنسانية، زودنا بالخطاب الإلهي المحفوظ بحفظ الله له ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (الحجر:9)، حيث كانت الإصابة الكبرى في تاريخ النبوة تتأتى من تحريف كلام الله عن مواضعه، ونسيان بعض ما ذكروا به، وإخضاعه لأهواء الناس وشهواتهم، فكان ذلك محور علل التدين تاريخيا، لذلك حسمت هذه القضية في الأمة الوارثة بتعهد الله بحفظ الرسالة الخاتمة، وتأهيل الجيل الذي كان أداة [ ص: 6 ] الحفظ بل الأجيال المتتابعة، فجاء النص سليما صحيحا وجاء الحفظ من خلال عزمات البشر. فلا تزال الأمة الوسط المنوط بها أمانة الشهادة على الناس وقيادتهم إلى الخير تمتلك النص الإلهي السليم الخاتم والخالد، الذي يشكل الإمكان المؤهل للنهوض في كل زمان ومكان وإعادة الفاعلية وإخراج الأمة الوسط وتحقيق العدل، ذلك أن هذا الحفظ وتنزيله على واقع الناس إنما تحقق من خلال عزمات البشر وسنن الله في الأنفس وطاقات الإنسان في الحمل والنقل والتمثل في السلوك، كما أن معاودة الإخراج واسترداد مقام (الجعل) وإحياء الفاعلية منوط بعزمات البشر أيضا. وليس أقل أهمية من تعهد الله بحفظ الخطاب الإلهي الأخير للبشرية، للحيلولة دون العبث والتحريف، تعهد الله ببيان تلك التعاليم من خلال البيان النبوي، الحديث الشريف والسنة، والتنـزيل العملي لتلك التعاليم في السيرة النبوية، يقول تعالى: ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) (النحل:44)، ويقول: ( إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه ) (القيامة:17-19)، فكان ذلك حماية من الإصابة الكبيرة والعلة التاريخية المزمنة التي لحقت بتعاليم النبوة: تحريف الكلم عن مواضعه: ( فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم ) (المائـدة:13) [ ص: 7 ] ، إنها خيانة النبوة التاريخية، التي كانت عبرة للأمة الوسط لأخذ حذرها والوقاية من الإصابات. ومن هنا نقول: إن الأمة الوسط تمتلك اليوم كما تمتلك في كل زمان الإمكان والقدرة على معاودة النهوض واستئناف الرحلة الحضارية، حيث القيم الإلهية السليمة الصحيحة الخالدة كضابط وموجه للحركة، والتنـزيل النبوي كدليل وبوصلة عمل وتحديد وجهة لحماية مسيرة إرث النبوة من الإصابات والعلل بهدي النبوة وهيمنة الكتاب. والصلاة والسلام على الذي بعث شهيدا على المؤمنين، أهلهم بتعاليم النبوة للشهادة على الناس ( ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس ) (الحج:78). لذلك فقد يكون محور الاضطلاع بهذا (الجعل) وأداء هذه الأمانة وحمل هذه الرسالة في الشهادة على الناس وقيادتهم إلى الخير تصويب المنطلق، وتجسيد هذه القيم القرآنية والتعـاليم النبوية وفق البيان والتنـزيل والسيرة النبوية وغير ذلك من المؤهلات والخصائص، التي تؤهلنا لنكون شهداء على الناس، ففاقد الشيء لا يعطيه، فلابد من تصويب شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم علينا لنتأهل للشهادة على الناس. من هنا نقـول: إن الأمة مدعوة دائما لمراجعة تصـويب شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم عليها، ومحاولة اكتشاف مواطن الخلل، التي تحول دون بلوغها الشهادة على الناس، والعودة إلى استلهام القيم وبيانها النبوي وتنـزيلها في [ ص: 8 ] السيرة، وممارسة التجديد، ونفي نوابت السوء، وتجاوز أسباب الإعاقة، والتعافي من إصابات علل التدين، واستشعار المسؤولية، والانبعاث من جديد، وسبيل ذلك كله استرداد حسبة المناصحة، ذلك أن النقد والمراجعة والتصويب والتجديد ومحاصرة السلبيات وتصحيح المسيرة هو تكليف شرعي، هو دين من الدين كسائر التكاليف، وأن توقفه مؤذن بالسقوط الحضاري والوقوع في علل التدين، ومنافاة ومناقضة لخاتمية الرسالة وخلودها، الأمر الذي يتطلب الاجتهاد والتجديد والتصويب بعد أن توقف وحي السماء كما أخبر بذلك الصادق المصدوق: ( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ) (أخرجه أبو داود في الملاحم)؛ "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتحريف الغالين" (أخرجه البيهقي). فأين الحملة الفقهاء العدول، وأين المناصحة والمراجعة والأدلة التي تحول دون التدين المغشوش وتكشف الانحراف عن قيم الدين؟!

No comments:

Post a Comment