Friday, January 05, 2024

كيف تصبح حكيماً ؟ القسم الثاني :

كيف تصبح حكيماً ؟ القسم الثاني : مقدّمة : كل عِلم يحصل عليه الأنسان .. يكون إمّا عن طريق كسبه من التعليم أو التّجربة و الملاحظة و البحث و التحقيق و السهر و المجتمع و غيرها .. و هو ما يصطلح عليه بآلعِلم (ألأكتسابي). أو يكون الحصول عليه - على العِلم - من الله تعالى, و هو ما سُميّ بالعِلم اللّدنيّ .. أيّ يكون (لَدُنّياً) من قبل الله تعالى الذي يقذفه في قلب من هو أهل له بعيدا عن التعليم والتربية .. و هو أنفع من الأولى(1) بكثير , و عادة ما يتحقّق النوع الثاني مع (أهل القلوب) و النفوس الطاهرة التّقية من الذين يتعاملون مع الوجود و الأنسان و الخلق عموماً عن طريق القلب بآلحب و بآلحلم و الأخلاق الفاضلة الحسنة اللينة, بعكس الأول الذي يختص بأهل العقول التي تتعامل مع الوجود و الخلق كآلأنسان و الطبيعة و ما يحيط بهم من البشر و الشجر و الحجر عن طريق التعامل العقليّ .. بالحساب و الكتاب و الدقة و عادة ما يكون مبدأ الربح و الخسارة هي المعيار المحدد و المعيّن لتلك العلاقات! بينما الأول (أصحاب القلوب) بآلعكس من ذلك, حيث يكون التعامل الحسابي هو آخر عمل يُحدد علاقتهم مع الآخر ألمقابل سواءا ًكان إنساناً أو نباتا أو جماداً أو حيواناً أو أيّ مخلوق, مقدّماً صاحبه المحبة و العفو و الحسنى و المحامل المختلفة على كل محمل أو حكم قاس يحاول أن يسبق رأيه و قضاؤوه, و في زمننا هذا .. و ربما في أكثر الأزمان .. قلّما تجد من أهل القلوب بين الناس, فآلجميع تقريباً باتوا لا يثقون كثيراً بآلآخرين لكثر ما بات الناس يميلون لأفعال الشيطان لأجل الكسب الماديّ عادة ما في دنيانا التي طغت عليها الجوانب المادية و الروح الشهوية و التسلطية!! و السؤآل الذي سبق أن طرحناه و نطرحه هنا أيضا هو : في عالم مليء بآلفساد و الشك و التحديات و المباغتة .. كيف تصبح حكيماً !؟ من المحتمل أن يجد المرء نفسه و هو يسعى في طريق التزكية لنيل المعرفة و من ثم الحكمة .. و كأنه يبحث عن إبرة البصيرة في كومة قش نتيجة التزاحم و السلبيات و العنف و الكراهية التي ملأت الدّنيا !؟ في عالم مليء بالتحدي والاستقطاب والجدل و الكذب و النفاق و الفساد و الخيانة؛ في مثل هذا العالم ؛ يُعَدّ التّفكير الحكيم مهارة بالغة الأهميّة, بل ربما بدونها يستحيل أن تنجو من مكائد و نفاق الآخرين. فآلحلم و آلحكمة .. يُمكن أن توفر وجهة نظر صائبة و موقف رصين و تهدئة للأعصاب خلال الأوقات الصعبة أو العنف أو أثناء المواجهات الكلامية المختلفة، كما يمكن أن يمنح إلهامًا برؤى و أحكام جيدة عندما تشتد الأمور، بحسب ما جاء في مقال لأستاذة علم الاجتماع الكندية البروفيسورة تريسي بروير، الذي نشره موقع "فوربس" Forbes الكندي. تقول البروفيسورة بروير، مؤلفة كتاب (أسرار السعادة في العمل) : إنه في خضم الكم الهائل من المعلومات و الأخبار .. من المحتمل أن يجد المرء نفسه وكأنه يبحث عن إبرة البصيرة في كومة قش المعلومات، لكن كومة القش تزداد حجمًا، مصداقًا للقول الشائع : [أن الإنسان "يغرق في المعلومات, بينما يتعطش للحكمة]. إن الخبر السار هو أنه يمكن زيادة الحكمة، و خلافًا للاعتقاد السائد، فإنه لا تقتصر(الحكمة) على كبار السن فقط. إنها سمة يمكن تعلمها وتنميتها للجميع و في كل الأزمنة. يمكن أن تساعد الحكمة في الحياة الشخصية عندما يحتاج الشخص إلى طوق نجاة. ويمكن أن تساعد على تجنب الإرهاق عندما يرغب المرء في الشعور بمزيد من التحكم والسيطرة، فضلًا عن أنها يمكن أن تساعد في اتخاذ قرارات أكثر إلهامًا. احتضن (العلم) و (الفلسفة) خمسة عناصر للحكمة، و تطويرها سيجعل الشخص حكيماً (أو أكثر حكمة و عرفانا)، بغض النظر عن عمره و شهادته العلميّة أو غناه الماديّ, لأننا نعتقد بأن الشهادة العلمية هي مجرد تأئيد لإتقانك لعمل معيّن لمعيشتك و إدامة حياتك المادية كآلمهندس والطبيب و الفلاح و العامل و الطباخ و السائق و هكذا, و هذا الأختصاص العلمي - المهني - الفنيّ لا علاقة له كثيراً بآلثقافة و الفكر و المعرفة و الحكمة. و سنُبيّن .. كيف يُمكنكم أن تثقفوا أنفسكم لتصبحوا حكماء و كما يلي: 1- معرفة الحدود و الإمكانيات : إن أحد العناصر الأولى للحكمة هو التعرف على حدود المعرفة وتذكير النفس بأن لا أحد يملك كلّ الإجابات بحكم التعريف، فإن وجهة نظر الشخص تكون محدودة بخبرته الخاصة و وجهات نظره, و ما قد يبدو حقيقة واضحة بالنسبة للشخص؛ يمكن أن يكون مختلفًا تمامًا بالنسبة للآخرين! إن القدرة على وضع التواضع الفكري موضع التنفيذ هي المقياس الحقيقي للحكمة. توجد الحكمة أيضاً في الاستعداد للإعتراف بالأخطاء و تغيير وجهات النظر وحتى العقيدة عندما تكون هناك معلومات جديدة و موثقة. يتخذ البشر تحيّزاً معرفياً للحقيقة التي يؤمن بها, و بشكل متكرّر يبقى عنيداً للدفاع عن ما يؤمن به, و هنا سيتحمل صاحبه تلك آلمغالطة و التكلفة التي ستلحقها إما روحياً أو مادياً أو أجتماعياً .. فآلتعصب ليس له ثمر إيجابي أبداً!؟ أن البعض يميل إلى أن يكونوا أكثر التزاماً بمسار عمل أو معتقد خصوصا إذا كانوا قد استثمروا الكثير من الوقت أو الطاقة فيه, و بالمِثل، يعني التحيّز التأكيدي بشكل طبيعي, لأن الأشخاص يميلون إلى ضبط المعلومات بسهولة أكبر عندما تتماشى مع ما يُؤمنون به بالفعل. و هناك حكمة كونيّة عزيزية تقول : [إذا كنت لا تقرأ إلّا ما تُحبّ و يُوافق رأيك؛ فإنّك لا و لن تتثقّف أبداً]. و هذه الحكمة إشارة إلى أننا لا بد و أن نطالع كلّ شيئ و بوعي و بلا تعصب خصوصاً الآراء المخالفة لما نعتقد به .. لمعرفة مواطن الخلل و الضعف و غيرها بعد مقايستها مع عقيدتنا .. و بآلتالي لا بد من وجود إرادة حرّة لتحديد موقف أمثل من السابق .. و ربما تغيير عقيدتنا نحو العقيدة المخالفة في حال عدم تمكننا من تبرير الأشكالات الموجّه لنا أو فشلنا في البرهنة على صحة ما نعتقد به!؟ و هنا يتجلى الوعي و قدرة تفكيرنا و سعينا نحو الحقيقة المطلقة, لأن الحكمة .. كل الحكمة .. هي سعينا في الوصول للحق لا أكثر .. و إن المعرفة الكثيرة تساعدنا لرؤية الأكثر و الأبعد .. فكلما عرفنا أكثر رأينا أكثر. وينبغي أن يكون المرء على دراية بهذه التحيّزات والبحث عن الأشياء التي تفاجئه بتحليلها و مقارنتها، ممّا يتيح له معرفة أدق و أوسع .. فربما يكون احدنا قد تعرض للإنحياز نتيجة تأثيرات كثيرة بيئية أو عائلية أو مناطقية أو مذهبية أو عادات توارثت جيل بعد جيل ..! 2- الإلمام بالسياقات المتنوعة : إن هناك طريقة أخرى لتنمية الحكمة وهي التفكير في سياقات متعددة وكيف تتطور وتتغير بمرور الوقت. إن اتخاذ القرارات من خلال النظر في الوضع الحالي ودرجة الحرارة والظروف أمر جيد. لكن توسيع وجهة النظر أفضل. يجب أن يضع المرء في اعتباره كيف سيتم النظر إلى قراره في المواقف الأخرى، وكيف سيؤثر على الناس بمرور الوقت. تُظهر الأبحاث متى يُمكن وضع القرار في سياق نافذة مدتها خمس أو عشر سنوات، بدلاً من نظرة فورية، لأنه عندئذ سيميل الشخص إلى التفكير بشكل أكثر إبداعاً لأنه لا يتعرض لضغط الوقت الذي يعرّق و يُؤأرق تسلسل أفكاره. يمكن أن يضع الشخص نفسه عبر فكره في المستقبل و أن ينظر للخلف من وجهة النظر تلك، مع تخيل المثالية والتفكير المنتج في الإجراء أو القرار الذي ربما يؤدي إلى تلك النقطة الأكثر كمالًا. تعد القدرة على التخيل (التصور) ؛ هي الخطوة الأولى في بناء مستقبل أفضل و حياة أجمل، و يمكن أن تحفّز على اتخاذ قرارات حكيمة و صائبة. من الأفضل أن يوضع في الاعتبار أيضًا الآثار المترتبة على أيّ حكم أو خيار، أي كيف يمكن أن تؤثر الأفعال في هذا المشروع على قسم آخر أو مشروع مستقبلي و هكذا دراسة تشعباتها و تأثيراتها التي ستكون كسنة متوالية و ممتدة في أعماق الوجود؟ أو كيف يمكن أن تؤثر الاختيارات بشأن سياسة أو ممارسة في المجتمع على المجتمعات الأخرى في المنطقة. إن التفكير بمنظور أوسع هو سمة أساسيّة للحكمة, لما لها من نتائج إيجابية. 3- الاعتراف بوجهات نظر الآخرين : يرتبط الاعتراف بحدود معرفة الشخص ارتباطاً وثيقاً بالاعتراف بوجهات نظر الآخرين و تقديرها و تحليلها و دراستها. اكتشفت دراسة جديدة، أجراها باحثون في جامعة كاليفورنيا بأمريكا؛ أن الاعتراف بوجهات نظر الآخرين ربما يكون صعباً، حيث أنّ منطقة معينة من الدماغ تقوم بمعالجة المعلومات الواردة، و يمكن عندما يعبر الآخرون عن آراء مختلفة، أن يفسرها الدماغ على أنها تهديد لواقع الشخص بما يثير الغضب أو الخوف. كما يتخذ الدماغ طرقاً مختصرة و ربما يتجاهل المعلومات، التي يصعب عليه استيعابها أو يرفضها حسب حجم و قدرة صاحب المخ ممّا يمكن أن يجعل من الصعب رؤية وقبول وجهات نظر الآخرين. إن المعنى الضمني هو أن (الحكمة) تتطلب القصد أو السعي لفهم الآخرين و تقدير الآراء المختلفة و ضرب بعضها ببعض لنحصل على نتائج طيبة و مفيدة. يمكن للجدل أن يكون وسيلة للتّعلم عندما يكون مصحوباً بالاستماع و رغبة حقيقية في التعلم من وجهات نظر الآخرين. و ستكون التسوية هي الوقود للمضي قدماً. إنّها إظهار الحكمة التي تأخذ وجهات نظر متعددة من أجل إيجاد أفضل مسار للعمل. 4- صيغة الغائب : يمكن أن يكون منظور المسافة مفيداً بشكل خاص في تعزيز الحكمة. حيث توصلت أبحاث المحاكاة، التي أجرتها جامعة واترلو بكندا ، إلى أنه عندما يفكر الأشخاص في أنفسهم بصيغة الغائب، فإنهم يميلون إلى اتخاذ خيارات أكثر حكمة، إذ تساعدهم صيغة الشخص الغائب على التفكير بموضوعية أكبر و التخلص من إنّيتهم و إحساسهم بالتخصيص الذي يؤدي عادة إلى حجب الحكم الحقيقيّ. وتكمن الرسالة النهائية في أنه عندما يفكر الشخص لاتخاذ قرار صعب، يجب أن يحصل على بعض المنظور وأن يفكر في نفسه بطريقة أقل عاطفية وأكثر بعداً و عقلانية، أيّ يستعرض ماذا سيفعل على المدى الطويل؟ أو ماذا سيفعل شخص آخر عندما ينظر إلى هذا القرار لاحقًا؟ و بآلتالي ماذا يمكن أن يكون رأيه فيه؟ لأن مثل هذه الأنواع من الأسئلة .. يمكن أن تساعد على اكتساب رأي أو إضافة منظور جديد و أن تكون أكثر حكمة. اعرف شخصيتك من شكل قدمك! اعرف شخصيتك من طريقة جلوسك اعرف شخصيتك من طريقة كلامك. 5- الثقة بحدسك : كما توصلت الدراسات المعنية، التي أجريت في جامعة واترلو في أونتاريو، إلى أنه عندما يقوم الأشخاص بضبط معدلات ضربات القلب عن كثب، فإنهم يميلون إلى اتخاذ قرارات أفضل, يمكن أن يعتقد البعض أن الحكمة ترتبط بالعقل فقط، و لكن يمكن أن تتداخل معه عناصر مثل الشعور و العاطفة و الحدس أي البصيرة أيضًا. ينبغي أن يتحقق الشخص من ردود أفعاله تجاه الموقف وأن يثق بحدسه (بنفسه). وأن يقوم بتقييم الأمور بعقلانية ثم يمزجها بجرعة من الحدس والعاطفة. عندما يهتم الشخص بردود أفعاله، يمكن أن يوفر الوعي رؤى أبعد حول قِيَمِهِ وشغفه و ميوله، ممّا يُمهد الطريق لاتخاذ قرارات أكثر حكمة و أبعد أثرأً. حكمة كونيّة عزيزية , يجب على الجميع أن يعرف بأنّ : [شجرة الحكمة لا تنمو سريعاً ؛ لكنها تثمر طويلاً]. ألعارف الحكيم عزيز حميد مجيد. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) فأجملْ بها من كلمةٍ قالها الإمام الزاهد الحسن البصري رحمه الله : [العلم علمان؛ علم باللسان ، و علم بالقلب, فعلم القلب : هو العلم النافع ، وعلم اللسان : هو حجة الله الظاهرة على ابن آدم]. فالعلم النافع إذاً : هو ما باشر القلوبَ فأوجب لها السكينةَ و الخشيةَ ، الإخباتَ لله؛ التواضعَ الانكسارَ له، و إذا لم يباشر القلوبَ ذلك العلمُ ، إنما كان على اللسان الظاهر : فهو حجة الله على ابن آدم ، تقوم على صاحبه وغيره كما قال ابن مسعود رضي الله عنه : [إنَّ أقواماً يقرأون القرآنَ لا يجاوز تراقيَهم ، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع صاحبه]. وإن قوله تعالى: [وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا] يفيد أن تلك العلوم حصلت عنده من الله تعالى من غير واسطة أو مدرسة، و الصوفية سمّوا العلوم الحاصلة بطريق المكاشفات (العلوم اللدنية). و للشيخ أبي حامد الغزالي رسالة في إثبات العلوم الّلدنية، و أقول تحقيق الكلام في هذا الباب أن نقول: إذا أدركنا أمراً من الأمور و تصورنا حقيقة من الحقائق فإما أن نحكم عليه بحكم و هو (التصديق) أو لا نحكم وهو (التصور)، و كل واحد من هذين القسمين إما أن يكون نظرياً حاصلاً من (غير كسب) و طلب، أو أن يكون (كسبيّاً)، و العلوم النظريّة تحصل في النفس و العقل من غير كسب و طلب، مثل تصورنا الألم واللذة, و الوجود والعدم، و مثل تصديقنا بأن النفي و الإثبات لا يجتمعان, و لا يرتفعان، و أن الواحد نصف الإثنين.

No comments:

Post a Comment