Friday, May 03, 2024

التعليم العراقي العالي عند مفترق طرق :

مضت سبعة أشهر منذ التحقت بالبنك الدولي ككبير أخصائيي التعليم حيث أتولى تنسيق عمله بشأن التعليم العالي (E). والتقيت خلال هذه الفترة القصيرة بأناس من مختلف أنحاء العالم، وقرأت تقارير شتى، وشاركت في اجتماعات التقارير الفنية وفي مهام مع مسؤولين حكوميين وقيادات مؤسسية. باختصار، اطلعت بأسرع ما يمكنني على كيفية أداء هذه المؤسسة المذهلة والمعقدة ومساهمتها الفريدة (التي لا تسلم من جدل) في التنمية بالعالم. وقد أخذتني الأشهر القليلة الماضية إلى مختلف أنحاء العالم، من أمريكا اللاتينية إلى الشرق الأوسط وأفريقيا وجنوب شرق آسيا وأوروبا، في رحلة أتاحت لي فرصة ثمينة ومتميزة لتأمل التحديات والفرص التي يواجهها التعليم العالي في العالم. هذا بالضبط هو التفكير الذي قادنا في البنك الدولي إلى عقد سلسلة محاضرات وندوات على مدار العام بعنوان "التعليم العالي عند مفترق طرق"، نأمل من خلالها في التعامل بفكر جماعي مع القضايا والاتجاهات المتصلة بالتعليم العالي، ومواجهتها بأجندة طموحة لإنهاء الفقر المدقع في العالم، وللتمكين للرخاء المشترك على كوكبنا على نحو قابل للاستمرار. وعُقدت مؤخرا أولى هذه الجلسات (E). وقامت مجموعة متنوعة من خبراء التعليم من أكثر من 25 بلدا بتحليل أحد التحديات العديدة المحيرة التي نواجهها في عالم اليوم، ألا وهو: الصلة بين التعليم العالي وصلاحية التوظيف. هذا الموضوع مهم بشكل خاص إذا اعتبرنا أنه رغم ضرورة وجود صلة وثيقة نسبيا بين التعليم العالي وصلاحية التوظيف، فغالبا ما يكون هذا المسار محفوفا بالكثير من المعوقات. وتشير الشواهد الأخيرة إلى أن عددا كبيرا من خريجي التعليم العالي في مختلف أنحاء العالم لن يتسنى لهم الحصول على وظائف مناسبة – أو على أية وظائف على الإطلاق. وهذا مزعج ومثير للقلق، بل إنه واحدة من قضايا عديدة تستحق التأمل والانتباه. وينطبق الشيء نفسه على ضمان الجودة، والتمويل، وتكافؤ فرص الحصول على التعليم العالي واستكماله، وإدارة المؤسسات، والتدويل، والتنويع المؤسسي، والشد والجذب بين البحث والتعليم، إلخ. بالطبع، يمثل بناء قائمة من التحديات التي تواجه التعليم العالي مهمة سهلة نسبيا، رغم حقيقة التفرد الكامل لكل سياق على المستوى المحلي والوطني والإقليمي. لكنني وجدت أن من السهل تحديد قواسم مشتركة مثيرة في مختلف أنحاء العالم. وأرى أنه ما من اختلاف كبير بين الطلاب في المكسيك والهند والسعودية وروسيا والولايات المتحدة وأرمينيا أو بوتسوانا. فجميعهم قلقون ومحبطون مما يرونه حولهم. في الوقت نفسه، أراهم يصبون إلى مستقبل يستطيعون فيه أن يحدثوا فارقا. من ناحية أخرى، تساور واضعي السياسات مخاوف أخرى تتشابه في غالبها تماما بغض النظر عن البلد الذي يعيشون فيه. فسواء في كولومبيا أو إنجلترا أو أوغندا يتمثل القلق المشترك في مقاومة التغيير بالمؤسسات وفي التكالب في الطلب على الموارد المحدودة. ولا يشذ أرباب العمل عن هذه القاعدة، سواء في إيطاليا أو تنزانيا أو شيلي، إذ يتجلى لديهم الإحباط نتيجة الفجوة القائمة بين المهارات المطلوبة للعمل وبين ما يرونه من قدرات محدودة لدى مؤسسات التعليم العالي على الاستجابة السريعة لاحتياجاتهم. ولكن في مرات عديدة، يعاني أرباب العمل أنفسهم من محدودية قدرتهم أيضا على إطلاع قطاع التعليم العالي بطريقة متماسكة ومتسقة على احتياجاتهم المتوقعة للمستقبل. ويتبادل أعضاء التدريس في الكليات من ماليزيا وجامايكا وجنوب أفريقيا المخاوف بشأن الطلاب غير المؤهلين وغير المهتمين وبشأن تدني الرعاية التي يتلقونها من مديري المؤسسات. ويدرك قادة المؤسسات من تونس وكندا وفيتنام وبنما وأسبانيا أن قدراتهم على إحداث تغيير داخل مؤسساتهم محدودة، كما يرون أن هناك مطالب متزايدة، وأحيانا متضاربة، للتحرك. وتبدو أحيانا في هذه الأيام كما لو كانت "التعاسة تعشق الصحبة". ولا ريب في أن التحديات كبيرة وشاقة. ومع هذا، فإنني شديد التفاؤل. وإنني أرى أن ثمة قواسم مشتركة إيجابية، لاسيما في حالة الطلاب. وأيا كان موقعهم، فإنهم يشتركون في الفضول والشهية المدهشة للمعرفة والمهارات والفرص الجديدة. في غوجارات بالهند، قال لي طالب من جامعة بانديت ديندايال للبترول (E) حينما سألته عن قيمة التعليم العالي، "الأمر يتعلق بفرصة تحقيق حياة أفضل. ويتعلق بتمكين أولئك الذين من حولك من تحسين فرصتهم في حياة أفضل." يدرك الطلاب أن عالم اليوم أكثر تنوعا بكثير، وأن مثل هذا التنوع يعتبر ميزة أكثر منه عبء. وردا على السؤال نفسه، قالت طالبة من جامعة عفت (E)في جدة بالسعودية،" الأمر يتعلق بالقدرة على تطوير إمكانيات المرء بالكامل. فمستويات التعليم الأعلى تتيح لي أن أفتح عيني على العالم مع تعزيز قيمي وهويتي". إنهم يعربون عن الأمل في تغيير العالم الذي سيرثوه. وقال لي طالب من جامعتي الأم، جامعة سان لويس بوتوسي في المكسيك (E)، "يتعلق الأمر بطرح أسئلة حول الوضع الحالي الذي نحياه في العالم، ووضع حلول مبتكرة. نستطيع أن نصنع عالما أفضل". إنني أتفق على أننا جميعا نستطيع أن نجعل عالمنا أفضل، ولا ريب في أن أمام التعليم العالي دورا مهما للقيام به من أجل تحقيق ذلك. بادئ ذي بدء، التعليم العالي عامل رئيسي لتعزيز الحراك الاقتصادي والاجتماعي للبلاد. الأنباء السارة الآن هي أنه في مختلف أنحاء العالم باتت أعداد أكبر من الطلاب يستفيدون من الانتظام في نوع من مؤسسات التعليم العالي. واليوم، هناك ما يقرب من 200 مليون طالب يدرسون في التعليم العالي في جميع أنحاء العالم، بالمقارنة بحوالي 89 مليونا فقط عام 1998، بزيادة نسبتها 124 في المائة خلال 15 عاما فقط! أيضا، رغم الانتكاسات المصاحبة للأزمة المالية الأخيرة، فإن العوائد الاقتصادية لتعليم خريجي مؤسسات التعليم العالي عالية للغاية، وفقا لما تظهره دراسة حديثة أجراها البنك الدولي. وحتى البلدان التي تعاني من العبء المزدوج لأزمات مالية أكبر ونظام تعليم عالي أقل تنوعا، تبدو واعدة حيث تميل معدلات البطالة بين خريجي التعليم العالي فيها، بشكل عام، إلى مزيد من الانخفاض. وكل ما سبق يقتضي اهتماما متجددا بالسبل التي يمكن لمؤسسات التعليم العالي أن تصبح بفضلها أكثر فعالية وأفضل اتصالا بالاحتياجات الحالية والمتوقعة للاقتصاد والمجتمع. وينطبق الشيء نفسه على التعليم العالي وسياسات التوظيف، لاسيما على المستويين الإقليمي والوطني. وكما قال توني كارنيفالي، مدير مركز تطوير القوى العاملة بجامعة جورجتاون، خلال لقائنا الأخير في ندوة التعليم العالي عند مفترق طرق، "تركز المزيد من السياسات على العلاقة بين مؤسسات التعليم العالي وإعداد القوى العاملة." دعوني أختم بتذكير أنفسنا بأننا نعيش في فترات مثيرة، وإن كانت مليئة بالتحديات، وينبغي أن يكون التعليم العالي قادرا على التكيف أسرع وبمزيد من الكفاءة مع خدمة الاحتياجات الاقتصادية والمجتمعية بشكل أفضل. ليست هذه مهمة سهلة لكنها ممكنة. وكما قال بول فاليري: "المزعج في زماننا هو أن المستقبل لم يعد كما كان من قبل".

No comments:

Post a Comment